ميرتنز ليس مارتنز - من حزب شيوعي ذي تاريخ مجيد إلى حزب تحريفي

مشعل يسار
tchahine@rambler.ru

2015 / 8 / 22

يرقب الشيوعيون في مختلف البلدان بقلق، في السنوات الأخيرة، التطورات في حزب العمل البلجيكي. والاهتمام الخاص بمصير هذا الحزب يرجع إلى حقيقة أنه كان واحدا من تلك الأحزاب التي وقفت عند منابع إحياء الاتجاه الثوري في الحركة الشيوعية العالمية بعد الانقلاب الرجعي المناهض للثورة في أعوام 1988-1991 في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، حين لم يعد العديد من الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية موجوداً أو انتقل إلى المواقف الإصلاحية علناً.

في ظل هذه الظروف، عندما راحت الدعاية البرجوازية تتحدث عن وفاة الشيوعية، بادر حزب العمل البلجيكي برئاسة زعيمه آنذاك، المنظر الماركسي البارز، والداعية الثوري الفذ لودو مارتينز، إلى عقد الندوات الشيوعية الدولية في بروكسل. هذه الندوات، التي بدأت تلتئم منذ عام 1992، لعبت دورا كبيرا في رص صفوف الشيوعيين من مختلف البلدان، وكذلك في الفهم النظري لأسباب تلك الأحداث ورسم استراتيجية وتكتيكات الشيوعيين في الظروف الجديدة على أساس المذهب الماركسي اللينيني.
وكان حزب العمل البلجيكي، جنبا إلى جنب مع الحزب الشيوعي اليوناني، واحدا من أقوى الأحزاب الشيوعية وأكثرها تمسكاً بالأصول النظرية الماركسية اللينينية، تلك التي احتفظت في ظل الردة والهجمة المضادة، بناء على نصيحة لينين، ليس فقط بالمواقف الأيديولوجية الماركسية الثورية، ولكن بنفوذها في أوساط الطبقة العاملة.
في تلك الفترة، قاد حزب العمل البلجيكي صراعاً فعالاً ضد التحريفية والانتهازية، اللتين كانتا بمثابة السبب الرئيسي لهزيمة الاشتراكية المؤقتة في أواخر القرن العشرين. هذا الصراع خيض كذلك في المجال التاريخي. فلودو مارتينز ألف كتاب "نظرة أخرى إلى ستالين" الذي نشر في عام 1994. وقد أصبح هذا الكتاب واحداً من الأعمال الأولى للشيوعيين في الغرب، تلك التي فندت الافتراءات الانتهازية والبرجوازية وحملات التشهير بستالين.
وقدم لودو مارتينز مساعدة كبرى لنضال شعب الكونغو - المستعمرة البلجيكية سابقاً - ضد الاستعمار الجديد. وعمل بضع سنوات مستشارا شخصيا لرئيس هذا البلد الأفريقي. كما تأسس بمشاركته المباشرة في الكونغو حزب شيوعي ملتزم الموقف الماركسي اللينيني. وقدم حزب العمل البلجيكي أيضا مساعدة كبيرة لنضال جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، وكان واحدا من أوائل الموقعين على إعلان بيونغ يانغ. وبمشاركة نشطة من جانب نشطاء الحزب في بلجيكا أنشئت منظمة "كوريا الموحدة"، التي كانت تروي الحقيقة عن الاشتراكية الكورية، وناضلت من أجل الصداقة مع شعب كوريا الشمالية، ودعمت جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية ضد الضغط الإمبريالي وحملة الأكاذيب ضدها. ومن الجدير بالذكر حادثة جرت حين جاء رفاق من حزب العمل البلجيكي إلى كوريا الشمالية لتصوير فيلم عن حياة هذه الجمهورية. فاستقبلوا استقبالا جيدا، لكن تم تسييرهم عبر الطرق السياحية المعتادة والأماكن التذكارية، ولم يسمح لهم الذهاب إلى حيث أرادوا. فخاطب لودو مارتينز شخصيا الرئيس كيم ايل سونغ، وقال له إن من الضروري أن يثقوا بالكفاءة المهنية للرفاق البلجيكيين. فهم أصدقاء حقيقيون لحزب العمل الكوري، ويعرفون أفضل كيف يجب تقديم المعلومات للجمهور الأوروبي. فأدرك كيم ايل سونغ ما المقصود، وأعطى الأمر بمساعدة المجموعة على تصوير ما تراه مناسبا. فجاء الفيلم رائعاً ...
تجدر الإشارة إلى أن الدفاع عن ستالين ودعم جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في بداية التسعينيات كان عملا يتطلب شجاعة كبيرة سواء في الغرب أو في روسيا.
وبحلول الذكرى السنوية الثمانين لثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا قدم لودو مارتينز تقريرا في المؤتمر الدولي للأحزاب الشيوعية والعمالية في لينينغراد نشر في عدد خاص من مجلة "الماركسية والحداثة" وخلص فيه إلى القول إن تطور الانتهازية والتحريفية في الحركة الشيوعية والخروج على مبادئ ماركس ولينين، تلك التي كان ستالين في حينه قادرا على الدفاع عنها وتحقيقها ببراعة، كانا بالذات السبب الرئيسي للثورة المضادة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وللتراجع المؤقت للثورة العالمية.
ومن المؤسف أن نرى في السنوات الأخيرة، عندما ابتعد لودو مارتينز المريض عن قيادة الحزب، وخاصة بعد وفاته في عام 2011، تغييرا في موقف حزب العمل البلجيكي. فالعديد من الشيوعيين فوجئوا في البداية، ثم صدموا من تصريحات زعيم الحزب الجديد بيتر ميرتنز التي ارتدت طابعاً تحريفيا بشكل واضح.
على سبيل المثال، قال ميرتنز في مقابلة مع برنامج "مساعدة الناس وليس البنوك"، نشرت في "صحيفة أنتويرب"، ثم أعيد نشرها في الموقع الرسمي لحزب العمل البلجيكي في مايو/أيار 2009 الآتي:
"سؤال: إلى أي درجة هو ماركسي حزب العمل البلجيكي في العام 2009؟
ميرتنز: الماركسية في ضوء الأزمة ذات راهنية للغاية. ولكن بعد سنوات من المناقشات، وبمشاركة حقيقية من أعضائنا، تقرر أن نغير الطابع العقائدي الماضي، ونسير على خط جديد، سلس. نحن مستمرون في معارضة النظام الرأسمالي الذي يهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح. ولكن سنبحث عن تطبيق عصري لأحكام ماركس ... "
ثم أورد كمثال على "التطبيق العصري" مقترحات ذات طابع إصلاحي تهدف إلى "تحسين" الرأسمالية. وتجدر الإشارة إلى أن التحريفيين في كل العصور كانوا في أغلب الأحيان يرفعون راية تحديث الماركسية.
أما الاتحاد السوفياتي، فيقيمه على النحو التالي:
سؤال: "والاتحاد السوفياتي؟ في التسعينيات كان حزبكم يدافع عن لينين وستالين ....
ميرتنز: لا أزال أقف موقفا مغايرا من هذه المسألة. أنا أعلم أني هنا بدأت أسير عكس التيار، وأعلم أن رأيي هذا ليس مستحباً، لكنني أرفض لا كل ما كان يحصل في ظل الشيوعية". (من مقابلة مع بيتر ميرتنز لصحيفة "دي ستاندرد"، 2013(.
وهذا يعني: إذا كان مارتنز قد ندد بحرارة بأساطير الدعاية البرجوازية المعادية للسوفييت والمناهضة للشيوعية، فإن ميرتنز "يرفض لا كل ما كان يحصل في ظل الشيوعية". فهو إذن يبقي على شيء ما يعتبره جيداً. كما يقال، وله على هذا جلّ امتناننا!
القيادة الجديدة للحزب قطعت عمليا العلاقات مع جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية وخلقت جواً من التشدد والضغط على أعضاء الحزب المؤيدين لمواصلة دعم كوريا الشمالية. قال ميرتنز في نفس المقابلة إياها حول هذا الموضوع:
سؤال: في العام الماضي، أشاد عضو في حزبكم بكوريا الشمالية في" برنامج "ترزاكه" Terzake.
- ميرتنز: هذا الشخص كان آنذاك لا يزال عضوا في حزبي. الآن الأمر لم يعد كذلك.
- وهل تم طرده؟
- ميرتنز: هو طرد نفسه. لقد دهشت لدى استماعي إلى تلك المقابلة. هو يعلم جيداً أن وجهة نظره ليست هي موقف الحزب، وأنه إذا أعرب عن وجهة نظره، فإنه يضع نفسه خارج الحزب. ليست لي أية علاقة بالديكتاتوريات والسلالات. أية علاقة".
ويمكننا أن نضيف: لا بد أن نفترض أن لا علاقة له بديكتاتورية البروليتاريا أيضا.
إن حزب العمال بات يركز بشكل متزايد على انتخاب نواب له في البرلمان والهيئات النيابية المحلية. المشاركة في الانتخابات البرجوازية في حد ذاتها وسيلة مباحة لنضال الشيوعيين السياسي، فهي واحدة من الأدوات المفترضة لتعزيز الدعاية لأفكارهم. ولكن عندما يضحي الحزب بالمبادئ الشيوعية لأجل المقاعد البرلمانية، فهذا يعني أن الوسيلة تصبح هدفا، وأن هذا الحزب لم يعد شيوعيا، وينتقل إلى مواقف الانتهازية، وإذا تكلمنا بلغة لينين، نقول إنه يمتهن الحقارة السياسية. ويبدو أن هذه المصيبة بالذات حلت بحزب العمل البلجيكي. فترويج أفكار الشيوعية والصراع الطبقي بما يوصل إلى الحل النهائي أي الثورة، والدفاع عن القيادات التاريخية للبروليتاريا، أولئك الذين "تشيطنهم" الدعاية البرجوازية، بطبيعة الحال، وتصورهم مثابة الشيطان الرجيم عينه - كل هذا يعني في كثير من الأحيان تعارضاً كليا مع "الرأي السائد" الذي، كما هو معروف، هو رأي الطبقة الحاكمة اقتصاديا، ويمكن أن ينفّر حقا بعض الناخبين. لكن الأهم بالنسبة إلى الشيوعيين ليس عدد المقاعد في البرلمان، بل نشر الإيديولوجية الشيوعية بين الجماهير وتنظيم نضال العمال أنفسهم. وبما أن الإيديولوجية الشيوعية هي في صراع لا هوادة فيه مع الفكر البرجوازي، فالدعاية لها تسبب حتما نزاعاً مع الأفكار المسبقة البرجوازية، وهي حتى قد تخيف وتنفّر مؤقتا جزءاً من المؤيدين المحتملين. لكن ليس أمام الشيوعيين بديل آخر.
بالطبع، لا أحد يطالب بأن يعرض الشيوعيون دائما، وفي أي حديث أو مقابلة ولا في أي منشور، في المقام الأول، تلك العناصر الجذرية في وجهة نظرهم على وجه التحديد، والتي يمكن أن تسبب الخوف الأكبر والاستياء الأشد بين الناس العاديين. ولكن تخلي الشيوعيين عن أفكارهم ووجهة نظرهم، وتبني موقف البرجوازية، والسير في ركاب الأفكار المسبقة للجمهور العادي هي السبيل إلى تفكك الحزب الشيوعي وانحلاله وتحوله إلى حزب تحريفي. وهذا هو، للأسف، المسار الذي، على ما يبدو، بات يسير عليه حزب العمل البلجيكي الذي كان بالأمس القريب حزبا مجيداً وثورياً.
ويتجلى الانحراف إلى خط الانتهازية لدى حزب العمل البلجيكي ليس فقط في التقييمات التاريخية لزعيمه الجديد وفي تصريحاته.
(...) وما هو مثير للاهتمام وذو دلالة ايضا انحراف القيادة الحالية لحزب العمل البلجيكي نحو اليمين الذي ظهر في شأن تنظيم الندوات الشيوعية الدولية في بروكسل. فمنظموها من قبل حزب العمل البلجيكي بدأوا فجأة يطالبون المشاركين بألا يوجهوا انتقادات غير محددة وغير ذات عنوان للانتهازية المميزة لعدد من الأحزاب المشاركة في عمل الندوة الدولية. بمعنى أنكم تنتقدون الانتهازية كظاهرة عامة، من دون التدليل على الأحزاب والأفراد المعنية بذلك. في حين أن من المعروف أن انتقاد ظواهر الانتهازية الإلزامي داخل الحركة الشيوعية والصراع الأيديولوجي ضد الأحزاب الانتهازية هو واحدة من الركائز الأساسية للماركسية اللينينية.
فقد حذر لينين في عمله الشهير "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" قائلا: "إن الأشخاص الأخطر في هذا الصدد هم أولئك الذين لا يرغبون في فهم أن النضال ضد الإمبريالية، إذا لم يتم ربطه بالنضال ضد الانتهازية، هو خدعة وهراء".
ونتيجة لذلك، رفض حزب العمل البلجيكي في الآونة الأخيرة المشاركة في إصدار مجلة "استعراض أنشطة الحركة الشيوعية الدولية" (جنبا إلى جنب مع عشرة أحزاب أخرى) مشيرا، بين جملة أمور، إلى ما يلي: "نحن أيضا لا يعجبنا كثيرا أن تسمى مجموعة الأحزاب المشاركة في إصدار المجلة بـ"الأحزاب الماركسية اللينينية الحقيقية". وهذا موقف نموذجي للانتهازيين الذين يهيجهم أن يقال صراحة أيها الأحزاب الماركسية-اللينينية الحقيقية وأيها التي ليست كذلك. ذلك أنهم يفهمون أن الإجابة عن هذا السؤال في ما يتعلق بحزب العمل البلجيكي ستكون قريبا جدا، للأسف، واضحة للجميع ...
في هذا الصدد، يبدو القلق على الحزب فعلا ظاهراً في ما قاله وبدقة ومرارة أحد قدامى هذا الحزب: نعم، ميرتنز ليس مارتنز.
وهنا من الضروري أن نضيف أن علينا بالطبع ألا نقلل من دور الفرد، خصوصا إذا كان هذا زعيم الحزب، في صياغة موقف الحزب. ولكن سيكون من الخطأ بمكان قصر انزلاق حزب العمل البلجيكي نحو الانتهازية بشخص ميرتنز دون غيره. نعم، لقد غضب كثير من الرفاق في الحزب وصدموا من جراء تصريحاته. ولكن البعض الآخر – وهم الأكثرية كما تبين – لم يعارض ذلك (الشيوعيون السوفيت الذين خاضوا نضالاً داخل الحزب الشيوعي ضد غورباتشوف وسياسة البريسترويكا بوصفها تغييراً في النظام السياسي يدركون هذا الوضع المألوف جدا لديهم). فكيف يمكن تفسير ذلك؟ ربما كانت المعرفة الماركسية وصمود أعضاء الحزب غير كافيين لمواجهة ومقاومة هذا الانزلاق المريح. وبناء على ذلك، تم منح هذه القضايا اهتماما غير كافٍ حتى في ظل القيادة السابقة. فكانت النتيجة أن بات حزب العمل البلجيكي مريضاً مرضاً خطيراً. والشيوعيون الباقون ثابتين في مواقع الماركسية الثورية التي دأب عليها ودافع عنها دفاعاً مبدئياً لودو مارتينز، تتعرض الآن للقمع والإقصاء. ولكي تطلق يدا قيادة الحزب الحالية لجأت إلى تعديل النظام الداخلي للحزب، ما يسمح لها من دون أي إجراءات ديمقراطية باستبعاد الرفاق من الحزب. فبوسع قيادة الحزب الآن ببساطة أن "لا تمدد العضوية في الحزب" للشيوعيين غير المرضي عنهم. ونحن نعتقد أن انحطاط الحزب هذا درس مهم ومفيد لجميع الأحزاب الماركسية الثورية.
في الختام، نرى أن من الضروري القول إننا نذكر جيدا التقاليد النضالية المجيدة للشيوعيين البلجيكيين، واعتمادهم القوي على دعم الطبقة العاملة. ولذلك، كلنا أمل أن يستطيع الرفاق التغلب على الاتجاهات التحريفية ويعودوا إلى حظيرة الفصيل المتماسك من الأحزاب الشيوعية الثورية الملتزمة الأصول الماركسية.

من تقرير المجموعة التحليلية ضمن اللجنة الأيديولوجية التابعة للجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي الروسي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن