القدس كما هي في الشهادات2

محمود شقير
shukair@hotmail.com

2015 / 8 / 1

شتات العائلة

تبدو عائلتي من بعض الوجوه، نموذجاً ملائماً لعائلات فلسطينية أخرى كثيرة، حيث تتعدّد المصائر وأماكن الإقامة، وحيث تحتمل الهوية الواحدة عدداً غير قليل من الروافد ومن احتمالات التشظّي والانقسامات والتداخلات.
فها هي ذي قبور جدّي وأبي وثلاثة من أعمامي تجثم في مقبرة أحمد الساحوري التي تقع جنوبي المسجد الأقصى في القدس. عمّي الرابع، سافر منذ ستينيات القرن الماضي إلى الكويت سعياً وراء الرزق، ثم عاش بقيّة عمره في مدينة الزرقاء في الأردن ومات فيها ودفن هناك.
زوجتي ولدت في السواحرة الشرقية المتاخمة للقدس، وعاشت مع أهلها سنة في حيفا، ثم هاجرت معهم إلى الأردن إثر النكبة، وعاشت معهم إلى أن تزوجتها في العام 1961. أبنائي الثلاثة وابنتاي ولدوا هنا، ثم عاشوا معي في المنفى، وعادوا أخيراً لمواصلة حياتهم في القدس. اثنتان من أخواتي الأربع نزحتا إلى الأردن إثر هزيمة حزيران في العام 1967، وهما تقيمان هناك مع زوجيهما، وتجيئان لزيارتنا مرّة كل سنتين. ولهما عشرة أولاد تربّوا كلهم في الأردن، ولم يزر أحد منهم هذه البلاد.
أختاي الأخريان تقيمان هنا في القدس. الكبيرة لها ابن طبيب، سافر إلى هيوستن للتخصّص في الطب، ولم يتمكّن من الاستمرار في دراسته الجامعية، ولم تعد لديه إقامة في الولايات المتّحدة الأمريكية وهو عالق هناك في انتظار الحصول على إقامة، بعد زواجه بطبيبة أمريكيّة من أصل فيلبّيني كانت تدرس معه في الجامعة. وهو لم يتمكّن من العودة إلى القدس، لأنه فقد حقّ العودة إليها، بسبب غيابه عنها أكثر من سبع سنوات (هذا النصّ في القانون الإسرائيلي لا يسري على اليهود المقيمين في القدس، في حالة السفر والإقامة في الخارج. يسري فقط على الفلسطينيين المقدسيين).
وكانت أختي الصغرى تعيش هي وزوجها وأولادها في ضائقة سكنية، ولم تتمكّن من الحصول على ترخيص لبناء جديد، فأضافت غرفتين إلى بيتها الصغير الواقع في حي الصلعة جنوبي القدس، ثم جاءت جرّافات الاحتلال في صيف العام 1995 تحميها قوّة من الجيش الإسرائيلي، وشرعت في هدم الغرفتين. استنجدت أختي بي على أمل أن أفعل شيئاً بحكم اشتغالي في الصحافة. استنفرت عدداً من الصحافيّين والمصوّرين وذهبنا إلى موقع البيت، ولم نستطع أن نفعل شيئاً.
ولأختي الصغرى ولد دخل السجون غير مرّة لأسباب لا علاقة لها بمقاومة الاحتلال. ضبطته السلطات الإسرائيلية ذات يوم، وهو ينقل عمّالاً من الضفّة الغربية في سيارته، للعمل داخل إسرائيل، ولم تكن معهم تصاريح تجيز لهم الدخول إلى هناك. حجزت السلطات سيّارته ورخصة القيادة الخاصّة به، وسجنته ثلاثة أشهر مع غرامة ماليّة، ثم أفرجت عنه وعن سيارته بعد انتهاء مدة محكوميّته. ثم عاد إلى السجن مرّة أخرى، لأنه لم يوقف سيّارته حينما أمره الجنود الإسرائيليون بالتوقّف. وهو لم يتوقّف لأنّ رخصة القيادة الخاصّة به ما زالت محجوزة لدى الإسرائيليين، فأطلقوا النار على عجلات السيارة، وأخضعوه للتحقيق المصحوب بالضرب والإهانات، ثم حكمت المحكمة عليه بالسجن ثلاث سنوات.
ولي خال كاتب ورسّام، اسمه محمود شاهين، مقيم في دمشق. كان واحداً من فدائيي حركة فتح وهو في سنّ الشباب. الآن هو متفرّغ لكتابة القصص والروايات وللرسم، ولنشر مقالات ونصوص في موقع الملحدين العرب على الإنترنت. وهو يرسل لي رسائل على بريدي الإلكتروني بين الحين والآخر، ويسألني باستمرار: هل مات أحد من الأقارب؟ قل لي ولا تخفِ عني شيئاً. ثم يمعن في السؤال عن أخته التي هي أمي.
لي خال آخر مقيم خلف جدار الفصل، استشهد واحد من أبنائه، اسمه عزيز، في الانتفاضة الأولى. خالي هذا متديّن حتى الثمالة، غير أنه لا يتعاطف مع الحركات الإسلامية في فلسطين، لأنه يراها غير واقعيّة في السياسة كما ينبغي لها أن تكون. وهو حاصل على شهادة التوجيهية، ولم تمكّنه ظروفه من الدراسة في الجامعة. عمل سنوات طويلة في تنظيف أدراج البنايات لدى الأسر اليهودية في القدس الغربية، ما تسبّب في إصابته بآلام في ركبتيه وساقيه، بسبب القرفصة الدائمة. وهو الآن عاطل من العمل، ولم يأخذ مكافأة عن خدماته الطويلة، ولم ينل راتباً تقاعدياً، لأنّه كان يعمل بالمياومة التي لا تترتّب عليها حقوق أو مكافآت.
وهو مضطرّ بين الحين والآخر إلى دفع مئات الشواقل للحصول على تصريح من السلطات الإسرائيلية، لكي يتمكّن من الدخول إلى القدس، للصلاة في المسجد الأقصى، ولزيارة أمّي وأقاربه الآخرين.
أحد أبناء عمومتي تزوّج أثناء دراسته للطب في الاتحاد السوفيتي، فتاة روسية، وأنجبا طفلة اسمها ريما، كبرت وتعلّمت في الجامعة وتخرّجت طبيبة، ولما انفصل أبوها عن أمّها، بقيت تعيش مع أمّها. وهي تحمل الجنسية الروسيّة وتعمل في أحد المستشفيات هناك، ولم تزر بيت أبيها خلف الجدار سوى مرّة واحدة.
واحد آخر من أبناء عمومتي تزوّج فتاة يهودية مقيمة في القدس الغربية، ثم أنجبا طفلاً، اسمه غابي. كنت أراه وهو يأتي إلى حيّنا قبل سنوات. الآن أصبح غابي شاباً، ولم يعد يأتي إلى الحيّ بعد انفصال أبيه عن أمّه. وهو يهوديّ بحسب ديانة أمّه، وربما هو الآن جندي في الجيش الإسرائيلي، وأنا لا أعرفه بعد أن أصبح شاباً لأنني لم أعد أراه، وهو لا يعرفني. وقد ألتقيه عند أحد الحواجز العسكرية ذات يوم، فأنظر إليه باعتباره عدوّاً وينظر هو إليّ باعتباري عدوّاً، ونحن في واقع الأمر قريبان!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن