نيتشه أبيقور* والأبيقورية وزينون والرواقية:

لحسن لحمادي
lahmadilahcen@gmail.com

2015 / 7 / 3

أـ نيتشه مناصرا للأبيقورية:
يبدأ نيتشه في سرد قصة أبيقور والأبيقورية قائلا: " كان أبيقور، الذي منح طمأنينة النفس للقدم الآيل للنهاية، يملك تلك المعرفة الرائعة، النادرة الوجود في وقتنا الحاضر، بأن حل المشاكل العويصة والنظرية ليس ضروريا لطمأنينة القلب وهكذا كان يكفيه أن يقول وهكذا كان يكفيه أن يقول للذين يعذبهم " الخوف من الآلهة"، "إن كانت هناك آلهة فهي لا تهتم بنا". عوض أن يدخل معهم في جدال عقيم حل معرفة ما إذا كانت هناك آلهة أم لا" . إن "نيتشه باعتباره مؤرخا للفلسفة اليونانية، إن جاز هذا الاعتبار أي وصفه بهذه الصفة العلمية الأكاديمية المتخصصة، إذ جعل الفلسفة اليونانية تنقسم إلى مرحلتين فقط، مثلما تطرقنا إلى ذلك سابقا؛ مرحلة العبقرية والعظمة مجسدة في العصر الذي سماه "التراجيدي" والذي يمتد إلى غاية القرن الخامس قبل الميلاد، القرن الذي انطفأت فيه فجأة شعلة الفكر التراجيدي كمنتجات أدبية شعرية مسرحية... وتلت هذه المرحلة الأولى والقصيرة، المرحلة الثانية والأخيرة، التي تمثل مرحلة الانحطاط والتدهور متحققة في شعراء أمثال يوربيديس وفلاسفة اليونان الكبار: سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، وحتى فيتاغورس كفيلسوف متصوف ورياضي منظر... يتحدث نيتشه ودون توقف عن الفلاسفة الذين عاشوا (في ما بعد المرحلتين)، مثل الفلسفة الأبيقورية أو أبيقور كشخص، والرواقية والكلبية، ومدرسة الشكاك**... ولئن كانت هذه المرحلة الثالثة، حسب مؤرخي الفلسفة تتميز عموما بالانكماش والقلة والانحصار والتكرار والانطواء" .
تكمن خطورة الفكر الأبيقوري أنه يحرر معتنقيه من الخوف من الموت، فأبيقور كان يرى أنه بما أن الإنسان سيموت حتما فلا داعي للقلق، لأننا لن نكون موجودين حين نموت. إذن فليستمتع المرء بحياته. إننيتشهمتأثر بعمق بالإرث الإغريقي، بل أن ميوله وتوجهه الفلسفي محدد تماما برؤى هيراقليطس والفلاسفة الآخرين ما قبل السقراطيين فنيتشه لا ينتقد الأبيقورية فحسب، إنما كذلك يرفض الإرث الأخلاقي الذي تمت كثلته لكل من (أرسطو - أفلاطون – أفلوطين*)، ويعود إلى فلاسفة جسدوا الفردية أو المجد الإغريقي الهومري أمثال: فيثاغوراس، إمبيدوقليس، هيراقليطس؛ فالآثارالهومريةواضحة في نيتشه، حين يرفض فكرة ميل الإنسان إلى (غريزة البقاء)، أو أن غريزة البقاء والحفاظ على الحياة ولو في أدنى صورها هي الهدف الأول للإنسان، بل يرى أن الإنسان، يبحث عن القوة متكئا في هذا على الصورة الهومرية للأبطال الإغريق، ويقول أن أحيانا، يضحي هؤلاء بحياتهم، لأجل أن يموتوا بمجد.
يرفض نيتشهكذلك التصور المعتاد أن البشر يميلون إلى البحث عن السعادة والرضا. يمجد نيتشه الفردية، ويمجد التصور العام للخير بمقاييس فردية، أو الأفراد الاستثنائيين، الرائعون، المثاليون، الأقوياء، الحسان، المفترض أن يتبعوا منهجا أخلاقيا يحقق مصلحتهم، الخير هو مصلحة القوي أو هو القوة والمجد، يقولنيتشه: "أجل أنا فخور بأن أكون موصوما بطابع أبيقور أكثر من أي كان، وفي كل ما أتيح لي أن أسمع أو أن أقرأ عنه، أن أنعم بالسعادة المسائية للعصور القديمة: أرى عينيه تشاهدان مليا بحرا واسعا وفضيا، من الجانب الآخر لأجراف الساحل حيث تستريح الشمس، بينما كبير الحيوانات وصغيرها يتلهى باللعب في النور، أمنا وهادئا مثل هذا النور وهذه النظرة، سعادة مماثلة، وحده الذي يكاد باستمرار يمكنه أن يكتشفها، سعادة عين من في نظرته سكن بحر الوجود، والذي لم يتمل بالمشهد من سطحه ومن هذه البشرة الأوقانيةالمبرقشة، الخطرة والمرتعشة بما في الكفاية، لم يشهد أبدا بتواضع لذة مماثل من قبل" .لقد جعل نيتشه من أبيقور معلما كبيرا للحكمة الوجودية. فقد كان، مثله، يتفلسف بجسد مريض. إن قراءة رسائل الفيلسوف الألماني تصعقالقارئ لما تحتويه من الآلام العديدة، إلا أنه كان يحب مشاهدة المناظر المتوسطية، إعداد أطعمة بسيطة إلى أقصى درجة، المشي في الريف لساعات طويلة، تأمل، تفكير، قراءة كتب ذات جودة عالية، أقل، لكن بعمق. يعيش متوحدا، لا يتطلع سوى إلى شيء واحد: إعادة بناء بستان أبيقور الذي سيكون مثل دير للعقول الحرة. قام بزيارة أمكنة تستطيع استضافة تلك الطائفة من الأصدقاء والتي ستشكل أيضا مدرسة لمربين،مكانا ستبتكر فيه وتعاش إمكانات جديدة للوجود.
الأبيقورية من المذاهب الفلسفية القديمة التي يمكننا الاستعانة بها لنحيا في انسجام مع دواتنا فلا نشعر بالغربة عن زمننا الحاضر. تعرضت هذه الفلسفة لتفسيرات تشويهية ومغالطات تاريخية من معارضين متزمتين دينيا وأخلاقيا لأنها تغوص في ابعد من إشباع غريزة الأكل والشرب والتمتع بلحظات الحياة الحسية،إلى فلسفة حكيمة ينسجم فيها الآني مع الأبدي، والسعادة مع الأخلاق وحب الذات مع حب الآخر في اعتدال موزون.عام 306 ق.م،أنشأ أبيقور اليوناني في أثينا مدرسة تدعى "الحديقة" يرافقه فيها تلاميذه وأصدقاءه لسنين طويلة، ذاع صيت "حديقة أبيقور" والتي دامت نحوا ثلاثة قرون إلى جانب أكاديمية أفلاطون ومدرسة أرسطو وفلسفة الرواقيين القائلة " أن كل شيء في الطبيعة يقع في العقل الكلي ويقبل مفاعيل القدر طوعا". تميزت "الحديقة" عن سواها بكونها كانت أكثر من مركز اختبارات وتبادل للمعارف وكانت تجمعا أخويا حياتيا لا يفرض تكاليف التسجيل والتعليم على المنتسبين بل يتكفل الأثرياء من أنصار الآداب والعلم بمساعدة المحتاجين وكان الرجل يختلط بالمرأة والصغار بالراشدين والعبيد بالأحرار.
يقول نيتشه: "النظرية الأبيقورية: يظهر الألم عندما يتم منع وإيقاف لذة ما، أو أمنية من الأماني. واللذة هي التي تبعد هذا المنع بصورة سلبية... ومنه فعدم المعاناة وعدم الانزعاج هو الهدف... عندما تتوفر اللذة وتكون، فيجب افتراض ألم داخلي" . ويقول نيتشه"إلى أي مدى يمكن أن يبلغ قبح الفلاسفة، لا أعرف شيئا أسم من السخرية التي وجهها أبيقور إلى أفلاطون والأفلاطونيين: لقد سماهم خدام ديونيزوس، والكلمة تعني حرفيا "مداحيديونيزيوس"، أي حاشية المستبد والمتملقين النيئين؛ وتعني بالإضافة إلى هذا، أنهم لم يكونوا سوى ممثلين، عديمي الأصالة. وهنا يكمن القبح الذي وجهه أبيقور لأفلاطون. لأنه كان مستاء من مظاهر المهابة ومن الأضواء التي برع أفلاطون وتلامذته في تسليطها على أنفسهم، وهو ما لم يكن أبيقور قادرا عليه تماما، هو معلم مدارس ساموس، الذي كتب متلبدا في بستانه الصغير بأثينا ثلاثمائة جزء، ملهما بغيظه وبشغف التفوق على أفلاطون، كان يلزم مائة عام لكي يكتشف اليونان أخيرا من هو أبيقور في الواقع، إله البساتين هذا" ، الهدف الأخير الذي تصب فيه حكمة الأبيقورية الثالثة يتمحور حول عدم الخوف من الموت. هذا الخوف الناتج من فكرتي الجحيم والعدم النابعتين من التأثر بالأساطير عامة وهوميروس خاصة. يقول أبيقور في بساطة:طالما أنا حي فالموت ليس موجودا، وعندما يأتي الموت أصبح غير موجود. كما أن الموت في العمق لا يخيف انطلاقا من المد الأبدي للذرات غير الفانية حيث لاشيء يخلق ولا شيء يضيع وكل شيء يتحول، لو استطاع الحكيم أن يكفر بذاته ويذوب في هذه الرؤية للخلود فيتساوى معها، ليصل حتما إلى الغبطة الإلهية محققا هدفه الأقصى.وبعد أن يتخلص الإنسان من أوهامه ومخاوفه يدعوه المذهب الأبيقوريإلى تحويل حياته بنزع السطحي عنها والولوج إلى العمق متخذا اللذة الذاتية حافزا للسعادة باحثا عن تحديد اللذة ومكامن وجودها.
ما هي اللذة الحقيقية إذن؟يلتقي ابيقور مع مذهب المتعة في تحديد اللذة عبر إشباع الشهوة ويتعارض معها في وضع اللذة في حالة "الراحة" أي فقدان الألم لأن هذه الرؤية للذة هي الوحيدة التي تسمح لنا بالخروج من الدوامة العبثية التي تسجننا غالبا، إذ نتعذب لنفرح بلذة عابرة تذوي في كبت جديد يجر معه رغبة أخرى ثم ألما أخرإلى ما لا نهاية. قطف اللذة من اللحظة الآنية ليس هدف الأبيقورية ولا سبيل للخلاص من خلال توالي لحظات السعادة القصيرة،بل في تأمين الحد الأقصى من اللذة والأدنى من الألم بغية الوصول إلى أمان النفس الشبيه بسكون موج البحر بعد هدوء الريح.
يعبر في فقرات عديدة نيتشهعن إعجابه بأبيقور ويبدي كذلك فخره ويؤكد هذا قائلا: " أنا فخور لأني أشعر بطبع أبيقور كما لم يشعر به أي امرئ من قبل، وأن أتمتع بكل ما قدر لي أن أقرأه وأن أسمعه عنه بسعادة الغروب عند الأقدمين: أرى عينيه تتأملان بحرا فضيا مترامي الأطراف، تتكئ الشمس على صخور شواطئه، بينما تلهو الحيوانات كبيرها وصغيرها، في نورها هادئة مطمئنة، بهدوء واطمئنان هذا النور وهذا النظر، سعادة كهذه يعرف أن يبتكرها فقط من عاين دون توقف، سعادة عين سكن بنظرها بحر الوجود ولا تتواصل إلى أن ترتوي من مرأى بشرته المدغدغة، هذا الجلد المحيطي الرقيق والمرتعش: لم يكن هناك من قبل على الإطلاق تواضع للذة شبيه بمثل هذا التواضع" . وبناء على ما تقدم يمكن القول إن رغم أن المدرك للذائذ كلها هي روح الإنسان ولذا فإن كلا اللذائذ تعتبر روحانية، إلا أناللذائذ الحاصلة مباشرة عن طريق الجسم وحاجاته تسمى عادة باللذائذ الجسمانية أو المادية، وفي المقابل فإن اللذائذ الراجعة إلى الروح وحاجاتها بشكل مباشر كسكون النفس وهدوء البال تسمى اللذائذ الروحانية مع أن تأمين بعض حاجات الجسم يؤثر بشكل غير مباشر في تحصيل اللذة الروحية أيضا، يمكن اعتبار اللذةوالتي اعتبرت إدراك كمال القوة المدركة كمالاأو ملازمة للكمال، لكن وحيث إنه اعتبر أن كل لذة كقوة خاصة عند الإنسان يمكنها لوحدها أن تكون كمالاأو ملازمة له، وأن كللذة دائما ومن حيث المجموع لا تزيد في فائدة وجود الإنسان، لذا لا يمكن اعتبار كل لذة كمالا حقيقياله ونتيجة ذلك أن اللذة لا قيمة ذاتية لها.ومثالاعلى ذلك، فإن المعايير المستفادة من مجموع كلمات أبيقور إذا أريد القول إنها لمقايسة مقدار اللذة فلن تكون معايير صحيحة لذلك، إذ لا يمكن القبول بأناللذائذ الطبيعية أو الضرورية أو الروحانية هي أطول أو أكبر دائمابالمقايسة باللذائذ غير الطبيعية أو غير الضرورية أو غير الروحانية.
بالإضافة لذلك قارب نيتشه أبيقور من خلا إنكاره للموت ومن تم للديانات التوحيدية، وفي هذا الشأن يقول نيتشه: " أبيقور صارع العبادات السردابية، وكل المسيحية الكامنة. فإنكار الخلود كان في هذه الحقبة تحريرا وخلاصة حقيقيا. لقد انتصر أبيقور وكان كل روح محترم في الإمبراطورية الرومانية أبيقوريا، حينها ظهر بولس*، عبقري داهية ضد روما وضد العالم" . على الأقل فنيتشه لا يصب جام نقمته على الأبيقورية كما حدث في نقد المطرقة الذي صبه على كل من سقراط وأفلاطون وفي بعض الجوانب أرسطو، فمجمل دعوى نيتشه تستكمل مع أبيقور ف"الكفاح ضد الإيمان التقليدي كما أسسه أبيقور، كان بمعنى مستقيم كفاحا ضد المسيحية قبل وجودها، وكفاحا ضد العالم المسن والمريض، الذي أظلم وأفسد الأخلاق، القائمة على التصرف بأحاسيس الذنب" .
ب ـ نيتشه ناقدا ومهدما للأبيقورية:
رغم كل ما أبداه نيتشه من احترام وإعجاب بأبيقور ومذهبه الفلسفي، سينتقل للقول: " تعتبر مذاهب اللذة، التشاؤم، النفعية والسعادة ـ كل تلك الأنساق التي تقيس قيمة الأشياء بناء على اللذة، أو الألم اللذين يصاحبانها، أي بناء على حالات ووقائع رديفة رؤى سطحية وساذجة؛ ذلك أن الإنسان الذي يشعر فيه بملكات خلاقة وبإحساس فنان، لا يمكن له إلا أن ينظر إليها من أعلى بسخرية وشفقة. إن شفقتنا عليكم ليست في الحقيقة تلك التي تعتقدون، فهي لا تقصد شرائح العبيد، غير الراضين، المقموعين والمتمردين، الذين يتطلعون إلى السيطرة، إلى ما يسمونه بالحرية" ، لاشكأناطلاعنيتشهالعميقعلىالفلسفةاليونانيةهوالذيجعلهيعتمدعلىابيقور فيمشروعهلنقدالأخلاق،فقدكانيرىفيهفيلسوفاآخرغيرالذيشوهتهالرواقيةوالمسيحية،بلكانيمثلعندهأهممفكرمنالقدامىتصدىلنقدالأخلاقوتبيينأسسهاالنظرية،ومثلماوجهابيقورنقدهلفلسفةعصرهالتيسيطرعليهاالفكرالأرسطيوالديانةالوثنيةاليونانية،رأىنيتشهفيأخلاقعصرهعنصرينأساسينهما: المعقولية،والزهدالديني،فالمعقوليةمعناهاالأسسالمنطقيةالتيتسيرسلوكاتناوالزهدالدينيمعناهتعليقالقيمالأخلاقيةعلىالآلهة،ومنهناكانانطلاقمشروعنيتشهالنقديفقدأرادتأسيسالأخلاقعلىنظاممخالفللأنظمةالسائدة،فهوعلىغرارسقراطيعزفعنكلعلملايهدفإلىخدمةالأخلاق.فالمنطقوالطبيعةومابعدالطبيعةيجبأنتخدمالهدفالأخلاقيللإنسان،وإذااستطاعالإنسانتأسيسالأخلاقعلىهذاالمنظورامتلكالقوةوالحياةوإذالميستطعذلكوخضعللأخلاقالسائدة –أخلاقالقطيع- فإنمصيرهالشقاءالمحتوم،ومنثمفقدوجدنيتشهفيابيقورأحسنمنيمثلهذاالموقففيالقدامى.
" ابيقور هذا العقل الصافي والمتزن، مثل أي عقل إغريقي، ولكنه عقل يعاني، والذين يعانون ويشعرون بضيق كبير يعتبرون الإحساس المنوم الذي يثيره العدم والهدوء أثناء السبات العميق، باختصار يعتبرون انعدام الألم هو الخير الأسمى، هو أم القيم، هو حتما أكثر الأشياء التي يمكن بلوغها إيجابية، هو الإيجابي نفسه" ، وانطلاقامنهذهالمعطياتيمكنناأننستنتجأنابيقورونيتشهكلاهما يهدف إلى تأسيسالأخلاقعلىمعاييرجديدةتستبعدالتقسيماتالتقليديةللفضيلةوالرذيلةوالخيروالشروالجزاءوالعقاب،بليجباستحداثمعاييرجديدةمثلالقوة،الحيوية،المتعة،ويلخصنيتشهطريقتطورالقيمالأخلاقية،وكيفتبتعدعنحقيقتهاحينتتخذأشكالاتاريخيةمزيفة،يقولنيتشه: " كلماارتفعالنوعازدادالقناع،لكلإنسانتألمبعمق،كبرياء،وقرفروحي،وعمقالألمودرجتهيعنيالتراتبيةبينالبشروتعرفكبرياءالمتألمالروحيةالصامتةهذه،ويعرفالافتخارلمصطفيالمعرفة،لأليفها "المطلععلىالسر" لمنكاديذهبضحيتها،إنهبحاجةإلىشتىأشكالالتقنعلكييتقيلمسالأيديالمسعفةوالملحاحةوكلمنليسمثلهفيالألم،فالأصلالعميقيجعلالمرءنبيلاإنضربامنأرفعضروبالتنكرهوالأبيقوريةثمةأناسمرحونيتذرعونبالمرحلأنهيثيرسوءفهم،فهميريدونأنيساءفهمهمنستنتجمنهذاالنصأنالمذاهبالأخلاقيةفيعصرنيتشهوفيعصرأبيقورإنهيإلاأقنعةمناسبةللعصر،فهيلاتمثلحقيقةالإنسان،وأقنعةالتنكرهذهيتماستخدامهافيكلعصرلتسويغالحياةالعامة،ومنهناحسبنيتشهتأتيالأبيقوريةكأرفعضروبالتنكرأيأنالأخلاقالعمليةالأبيقوريةتخفيوراءهاعمقاأخلاقياكبيرا،إنالخلاصةالتييمكنناأننصإليهاهيأنالعلاقةبيننيتشهوأبيقورمتناقضةودقيقة،فهومنجهةيرفضالطابعالزهديوالهادئللأخلاقالأبيقوريةومنجهةأخرىيتعلقبمعلمالحديقةبلكانيتساءلدائما. لذلكيرىبعضالباحثينأنأبيقوركانبالنسبةلنيتشهالقريبالبعيد.وكاننيتشهيبحثعنأبيقوريةفوقإنسانيةلاتفترعنالبحثعنمجاوزةالذات.
قد تكون الفلسفة الأبيقورية تجسيدا حقيقيا للنزعة المادية في فلسفة نيتشه، وكاستمرار في سياق الحديث عن إعادة الاعتبار إلى الحياة من جديدفنيتشهيسعى إلى تقييم جديد تكون بؤرته الحقيقية هي اللذة الجسدية، إيذانا منه بمعيارية جديدة تسعى إلى قلب الفكر الأفلاطوني وتحويله، لكي يضحد فكرة المفارقة الأفلاطونية، التي لا ثني في أخذنا إلى عالم المثال والمعقول. إن اللذة هي منطلق الحياة السعيدة ونهايتها، فهي تعمل على تحرير النفس من المفارق الذي ينشأ عن خشية الموت الذي هو علامة على تلاشي كل إحساس بالحياة، ذلك أن اللذة هي أن نريد لا في أن يراد لنا، وهذا ما نجدزرادشتيعلن عنه بقوله: "إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير على هذه الصورة، لا أريد هذه الأشياء تبعا لإرادة إله ولا عملا بوصية وضرورة بشرية، فأنا أريد أن يكون لي دليل يهديني على عوالم عليا وجنات خلود..." . لقد كان سعي ابيقور كبيرا في أن يعيش سعادة تامة على الأرض، من خلال الضحك الفلسفي، وكذا من خلال الابتهاج والحضور، مواليا حرصه البليغ للذات الحسية كأصل ونموذج لكل اللذات، إذ لا وجود إلا للطبيعة وما نتلقاه عنها من انطباعات وإحساسات.
في نهاية هذا المحور يتجلى لنا كيف نظر نيتشه للأبيقورية من خلال كلا الوجهين، الوجه الذي لم يكف فيه على تمجيد الأبيقورية والوجه الذي يذمه فيها، "الأبيقورية هي عقيدة الخلاص الوثنية وأبيقور كان منحطا نمطيا: لقد كنت الأول في معرفة كيف كان. إنه الخوف من الألم، حتى من أضأل قدر من الألم. وعلى هذا المذهب ينتهي بأية طريقة إلى ديانة المحبة" ، هذا في إشارة لتحول معين قد جرى لتتحول الأبيقورية للديانة المسيحية فيما بعد، " هكذا تعلمت شيئا فشيئا، أن أفهم أبيقور، نقيض المتشائم الديونيزيسي، كما المسيحي الذي ليس في الواقع سوى نوعا من الأبيقورية، شبيها له ورومانطيقي في الأساس" .
" مرة أخرى: ماذا يعني ذلك الذي منه تموت التراجيديا، سقراطية الأخلاقيات، الاحتفاء بالجدل والإعلاء من قيمة المنظر؟ ألا يمكن أن تكون هذه السقراطية نفسها علامة على الانهيار والتعب والمرض والغرائز المنحلة الفوضوية؟ والاحتفاء اليوناني بالهلينية* المتأخرة ألا يمكن أن يكون هذا مجرد غروب متوهج؟ هل الإرادة الأبيقورية المضادة للتشاؤم مجرد تحذير لمن يعاني" ، وبهذا" ينتهي نيتشه إلى الإعلان صراحة أن أبيقور إلى جانب فلاسفة الرواقية والكلبية، هم أشكال الانحطاط اليوناني، وهكذا، ورغم كل ما قام به أبيقور من كفاح مستبق ضد الديانات التي تؤمن بالعناية الإلهية والخلود بعد الموت، إلا أن كفاحه ناقص، ناقص جدا، إلى درجة أنه لم يستطع الخروج من حيز الانحطاط الذي دشنه سقراط" .

3ـ نيتشه ـ الرواقية*:
يبدأ نيتشه في الحديث عن الرواقية وهو يقول: "عندما ننظر إلى الأشياء من أعلى، ونلاحظ أجيالا وعصورا بكاملها مصابة بنوع معين من التعصب الأخلاقي، تبدو أنها من تلك الأزمنة، أزمنة الإكراه والصوم الكبيسة، التي تتعلم فيها الغريزة الانحناء والرضوخ، وكذلك التطهر والشحذ، وتسمح بعض الطوائف الفلسفية كالرواقية مثلا، في حضن الأجواء المنحلة للحضارة الهيلينية، المتخمة بالعطور المهيجة للشهوة، بتأويل مماثل أيضا. سيصبح من السهل بعد الآن تأويل مفارقة تسامي الغريزة الجنسية خلال العصر المسيحي لأوربا وتحت ضغط أحكام القيمة المسيحية، إلى حب شغوف" . إن الحديث عن الرواقية فنحن نتحدث عن ما يعتبره نيتشه التركة السقراطيةـ الأفلاطونية واستمرار الانحطاط أو السعي الدنيء وراء السعادة.
شعار الرواقية كما قدمنا هو العيش في وفاق مع الطبيعة، فإذا كان الحكيم لا يستطيع أن يغير من سنن الكون شيئا فبوسعه أن يتقبل بكل الرضا جميع ما يحمله قدره إليه فلا يجزع أو يحزن على أحد مهما كانت صلته به، وبوسعه أن يستأصل من نفسه كل ما يخالف منطق العقل من ألم وخوف وأوهام. لكن ما هو حيز الحرية المتروكة للإنسان أمام هذه الجبرية المطلقة؟ ألم يسخر الأبيقوريون مما يراه البعض قدرا وأن الإنسان نفسه هو سيد هذا العالم ولا سيد له؟
في الوقت الذي يعتبر فيه نيتشه أن أحد جوانب الرواقية استعادة للهيراقليطية فإنه يسمها كذلك بأنها استشراف للمسيحية أو المسيحية قبل الأوان على الأقل الرواقيون استخدموا كل أفكارهم الرئيسية من هيراقليطسويظهر عندهم أثره" ، "تريدون أن تحيو طبقا للطبيعة؟ أه، أيها الرواقيون الأفاضل، يا للتضليل بالكلمات! تخيلوا كائنا مطابقا للطبيعة، متلفا بلا حد، غير مكترث إلى الأقصى، بلا نوايا ولا اعتبارات، بلا شفقة ولا عدل، مخصبا وعقيما وحائرا في الآن ذاته، تخيلوا عدم الاكتراث نفسه سلطانا، كيف يمكنكم أن تحيوا طبقا لعدم الاكتراث هذا؟ أليس معنى أن نحيا بالضبط، هو إرادة أن نكون شيئا آخر غير هذه الطبيعة؟ أن نحيا، أليس معناه أن نقوم، أن نفضل، أن نكون ظالمين، محدودين وأن نريد كينونة مغايرة؟ " .يقول الرواقيون أن الحياة يجب أن تعاش وفق الطبيعة، لكنهم لم يفسروا ما يقصدون بالطبيعة أما المعرفة عند الرواقيين معرفة حسية، فالمعرفة آتية من الحواس والإنسان يولد ورقة بيضاء بلا عقل. وهذه نظرة مادية متناقضة مع فلسفة الزهد ومتناقضة مع الأخلاق، لأن اعتبار الحواس هي المصدر للمعرفة والأخلاق عندهم مبنية على معرفة؛ إذن الأخلاق مادية ونتيجة مصالححسب هذه الفلسفة، وعلى هذا الأساس المادي: من أين جاء رفض المتعة واللذة ما دامت المعلومات كلها مادية؟ هذه النظرة المادية تناسب الأبيقوريين، وتناسب الأبيقوريون الجدد من الملاحدة في هذا العصر، الذين ينظرون أن كل شيء مادة، وأن المتعة هي التي تحدد علاقتنا بالمادة، وما الأخلاق إلا نتيجة للمتعة والمصلحة. أما ما يقال أن مصدرهم الثاني للمعرفة وهو التصورات الكلية المأخوذة من عدة تصورات حسية، فهم اعتبروه مصدرا ثاني بينما هو نتيجة للمصدر الأول، فلو انعدمت الحواس لانعدمت المعرفة، وهذا غير صحيح، هذا الكلام ينطبق على المعرفة المادية فقط لكن لا ينطبق على المعرفة المعنوية،لأن المولود الصغير يعرف معنى الابتسام والعبوس ومعنى الوحشة والألفة وغير ذلك، وهذا من أين حصل عليه؟ هناك شيء اسمه شعور فطري في الإنسان هو أساس المعرفة وهو أساس العقل، وما الحواس إلا رابط له بالعالم الخارجي، وهو أساس الحواس أيضا وليست الحواس أساسه، فالحواس تنقل إليه، وهو الذي يقيم ما تنقله الحواس، وإذا كان الشعور منشغلا بشيء آخر فإن الإنسان لا يستفيد من الحواس في تلك اللحظة. ويرىنيتشه أن "أفلاطون هذا المضاد للهلينية، هذا السامي بالفطرة، الذي ينطبق عليه ما ينطبق كذلك على الرواقية، فكل فعل قام به الرواقيون له خصائص سامية أي الشرف المعروف كضرب من التقشف، القانون، فضيلة التعالي وحس المسؤولية، السلطة والملكية المتزمتة القصوى للشخص المفرد، كل هذه من خصائص السامية) فالرواقي هو شيخ عربي، لكنه ملتف بقماط أو ثوب من التصورات اليونانية" .
"إن الإنسانية المفكرة إنما عاشت على المذهب الرواقي حتى أدركت المسيحية ولبثت تتغذى منه بعدها حقبة من الزمان" .ليس كل ما تقدمه الحواس، نعرفه فالمسألة ليست كاميرات أو آلات تسجيل، هذا غير أننا نعرف ما لم تقدمه الحواس، بدليل أننا ندفع الحواس للمعرفة من دون أن نأخذ إشارة من الحواس فأكثر ما نفعله من قراءة أو اطلاع أو تفرج على التلفاز هي عملية حث للحواس، لا أن هذه الأشياء وقعت على حواسنا ثم بحثنا عن معرفتها، فالبداية كانت منابدليل أن الطفل يحرك عينيه ويبحث هو عن شيء ليراهفهو يبحث عن أشياء يريد أن يراها، لا لكي يرى أي شيء. المعرفة غاية عند الإنسان في فطرته وليس أنها سقطت عليه بالصدفة من خلال الحواسبدليل أن من يفتقر إلى بعض الحواس تجده يعوض.لو كانت الحواس هي مصدر المعرفة لعرف المجنون ذو الحواس الكاملة مثلما يعرف السليم عقليا، كذلك الحيوان الذي عنده حواس أدق من حواس الإنسان!يقول زينون الرواقي أن مراحل المعرفة هي:
أفكار حقيقية – تصديق – فهم – علم.
يبدو أن الفلسفة الرواقية تقبل الأشياء كما هي، لهذا تبنتها الدولة الرومانية؛ لأنها تساعد على إخضاع الناس وقبول الواقع، والفكرة تسربت أيضا إلى الفكر الديني لاحقا، فشعار الرواقية كما قدمنا هو العيش في وفاق مع الطبيعة، فإذا كان الحكيم لا يستطيع أن يغير من سنن الكون شيئافبوسعه أن يتقبل بكل الرضا جميع ما يحمله قدره إليه فلا يجزع أو يحزن على أحد مهما كانت صلته به، وبوسعه أن يستأصل من نفسه كل ما يخالف منطق العقل من ألم وخوف وأوهام، فكرة عدم الفرح وعدم الحزن لأي حدث فكرة تخالف الطبيعة البشرية، في حين أنهم ينادون بالالتزام بنظام الطبيعة.
كل الفلسفة اليونانية والغربية هي محاولات للتأقلم مع عدم فهم الإنسان، هم لم يفهموا الإنسان بل يدورون حول الإنسان، كل الحكمة القديمة والحديثة والفلسفة تدور حول الإنسان وليس داخله. حتى فلسفة أرسطو في المنطق الصوري هو وصف، لكنه لا يذكر لماذا ولا من أين جاء. هؤلاء فلاسفة ظواهر الإنسان وكيف نتعامل معها، أحدهم يقول: اكبتها، وآخر يقول: أطلقها، فالرغبات مثلا أحد يقول اكبتها وأحد يقول أطلقها، وتستطيع أن تقسم هذا على كل الفلاسفة. و المعرفة نفسها بعضهم يقول أنها موجودة على شكل ذاكرة في ملفات الإنسان، مثل سقراط، وأن التعليم عبارة عن تذكير، وبعضهم يقول: كلا بل يولد ورقة بيضاء والحواس تطبع فيه. وهذا كله وصف من الخارج ولا أحد منهم يؤصل من داخل الإنسان. لهذا اقتضت الحاجة لدراسة الشعور الإنساني، وهو مصدر معرفة الإنسان هم يدورون حول سلوكات الإنسان وحركاته، لكن السؤال: أين مرجعها؟ وهنا يبدأ الاختلاف.
"كل شيء يلائمني إذا لاءمك أيها العالم. وما جاء في الوقت الملائم بالنسبة إليك، فليس متقدما ولا متأخرا بالنسبة إلي، وكل ما جاءتني به فصولك أيتها الطبيعة فهو تارة عندي، كل شيء يأتي منك، وكل شيء فيك، وكل شيء يعود إليك" ، الرواقية تنظر للمشاعر الإنسانية على أنها أفكار مستقاة من الآخرين، وهذا وهم كبير، لأن المشاعر من الشعور الفطري الموجود عند الجميع هو لا يريدك أن تحزن إذا مات صديقك على اعتبار أن الفكرة السائدة تقول عليك أن تحزن! هذا يدل على أنهم يتصورون الإنسان كعقل فقط فيه معلومات، وليس له شعور خاص ومشترك بين الجميع كل ما عليك أن تزيل هذه الفكرة حينها سترتاح من الحزن على صديقك. "فظاهرة التأثر بالنزعات الشرقية أوضح ما تكون لدى مذهب الرواقية، خصوصا إذا لاحظنا أيضا أن رؤساء هذا المذهب قد صدروا عن بلدان تقع في آسيا الصغرى أو من الجزر الشرقية من الأرخبيل أو في بلاد موجودة على الحدود مباشرة بين بلاد فارس وبلاد اليونان... فمن الناحية الجغرافية أيضا نجد إذا أن انحطاط الفلسفة قد اقترن بانتقال مركزها الرئيسي من أثينا نحو الشرق" .
في ختام العرض الرواقي يصرح نيتشه قائلا وقوله هذا يتناسب جدا مع عنوان الكتاب الذي وضع خلاله، وهو "إرادة القوة": " "يجب عليك"، هذا هو مبدأ الخضوع المطلق عند الرواقية، وكذلك في النظام المسيحي والعربي، وفي فلسفةكانطكذلك. وفوق هذا المبدأ يوجد مبدأ أعلى منه وهو: "أنا أريد"، وهو الخاص بالأبطال، وفوق هذا المبدأ يوجد مبدأ آخر هو: " أنا كائن" " . ومما يدل على انحطاط الرواقية بالنسبة لنيتشهأن الرواقية لم تنفك تجمع من كل الأفكار لتبني نسقها الهجين " ففلسفتها حشد لمجموعة من المبادئ المنفصلة الأصل والمنبع، تم تذويبها في نسق جديد، وهذا الأمر يذكرنا بما قام به أفلاطون سابقا بخصوص نظرية المثل. لذا يمكن لنا القول أن الهجانة الأفلاطونية انتقلت إلى الفلسفة الرواقية" .
4ـ نتائج الفصل الثالث:
في استعراضنا لنتائج الفصل الثالث والذي مر على أرسطو وأبيقور والأبيقورية وزينون والرواقية، نشير لأهمية الكلبية* التي لم يتوانى نيتشه في التهكم خلالها حيث يقول: " يحتج الناس باسم الكرامة الإنسانية: والحالة أنه هنا يكمن بالتلميح، ذلك الغرور العزيز الذي يجعل الناس يكتشفون أن أقسى مصير قد يؤولون إليه هو ألا يعاملوا على قدم المساواة وأن ينتقص من قيمتهم أمام الملأ، ويفكر الكلبي بشكل مخالف بشأن هذا الموضوع، لأنه يزدري الشرف: ولذلك كان ديوجين، لبعض الوقت، عبدا ومربيا منزليا" .
لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية الأساسية في علم الأخلاق وهي ما هي الحياة الطيبة؟ لم يتوصل إلى حلها، بل كل ما في الأمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي: كيف يوفق بين أبيقوريةالفرد الفطرية وبين الرواقية التي لا بد منها للجماعة والجنس البشري؟وكيف يستطاع أن يوحي إلى أعضاء المجتمع أو أن يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أو يضحوا بها لأن هذه التضحية وتلك السيطرة لا غنى عنهما لبقاء المجتمع. لقد كانت الرواقية آخر ما بذله الأقدمون الأمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري، ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى الهدف الذي عجزأفلاطونعن الوصول إليه وهذا هو وجه المقارنة بين الأبيقورية والرواقية.
في تعامل نيتشه مع أرسطو يربطه بشكل مباشر، الفلسفة الأرسطية في الحقيقة حسب نيتشهليست مناقضة للأفلاطونية، بل هي تكميل وتتويج لها. وما المنطق كما صاغه أرسطو إلا تسقيف وتتمة لمنهج الجدل، والهجين كمرض فلسفي لم يتوقف عند أفلاطون فقط، بل امتد بعدواه إلى أرسطو، لكن في ميدان نظرية المثل.
إن عنوان الانحطاط الأكبر عند نيتشههو الميتافيزيقا، كما أسسها كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، القائمة على الوحدانية والتمركز، النابذةللتكوثر والتعدد. فسقراط كان يسعى إلى جمع كل شيء في تعريف عام وواحد، رافضا ومحتقرا الفردي والجزئي، وأفلاطون بأسئلته الماهوية كان يهدف إلى طمس المتعدد، وإرجاعه إلى مثال واحد، ليس كائنا أصلا في عالمنا. وأرسطو توج كل هذا الموروث، بعملية اختزال الواقع والوجود الذي يزخر بالاختلاف والتعدد والصيرورة والتفرد إلى الماهية والوحدة والتطابق، لذا لا يمكن اعتبار منطقة في نهاية المطاف إلا ميتافيزيقا.
بالإضافة لنقده للميتافيزيقا من خلال أرسطو انتقد المنطق الأرسطي والذي اعتبره كما أوردنا في البحث أنه اعتبره شبكة عنكبوت في إشارة واضحة، وانتقد كذلك نظرة أرسطو للتراجيديا والفن بأكمله بالإضافة لاختلافهما في قضية السياسة وكيف نظر كل واحد منهما لها، غير أن الملحوظ هو تشابه كبير بين نظرة كل من أرسطو ونيتشه للمرأة، فنزلا عليها بالذم والاحتقار والحد من حريتها، غير أن نظرة أرسطو نابعة من تصور كلاسيكي ونظرة نيتشه نابعة من رؤية معاصرة، فهذه الهوة الزمنية بينما لم يعرها نيتشه اهتماما وانطلق بكل هواه الفكري والفلسفي وهذا معروف.
نظرة نيتشه للأبيقورية تراوحت بين مدحها تارة وذمها تارة أخرى، فأول المسائل التي انتقد فيها الأبيقورية هي مسألة الأخلاق والقيم، فالسطحية والسذاجة التي لاحظها نيتشه في أخلاق السعادة واللذة تتعمق أكثر لتتحول إلى الجمود مثل الجماد تماما. أما الرواقية فلم تسلم من نقد نيتشه خصوصا وأنه استبعدها من الثقافة الإغريقية التراجيدية، وجعلها وأقرب إلى الديانات التوحيدية.


المراجع المعتمدة:
ـ نيتشه (فريدريك)، إنسان مفرط في إنسانيته، مصدر سابق، الفقرة 7، ص 117.
ـ عنيات (عبدالكريم)، نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص 190.
*أبيقور: ولد بعد وفاة أفلاطون بست سنوات ومات في سن الثانية والسبعين (341ـ 269 ق م)، في جزيرة ساموس القريبة من سواحل آسيا الوسطى (ليديا، كلازومن، كولفون، أفارزيا، وأيونيا...)، رحل إلى أثينا حيث اشترى له أهل كولفون بيتا في الضواحي بعد أن ألقى لهم محاضرات. واستقبل في بستانه كل المريدين دون تمييز والذين كانوا يحترمونه مطلقا، فقد كان شعارهم بعد موته " عش وكأن عين أبيقور ترقبك"، ويقال أن الشاب كولوتيز قد خر راكعا عندما سمع أول مرة أبيقور، وحياة كأنه إله. يقول ديوجيناللائرتي أنه ألف حوالي ثلاثمائة كتاب، منها رسالة لهيرودوت وكتاب آخر عثر على بعض أجزائه في مخلفات مكتبة "هيركولانيوم" المحترقة، وهو كتاب في الطبيعة. عرف مذهبه بالهيدونية أو مذهب اللذة، إذ يقول أحد كبار تلاميذه: "كل الطيبات ذات صلة بالبطن" رغم أن هذا المبدأ موضوع جدل كبير، لأن أبيقور يهتم كثيرا بالذات الروحية، إذ يقول في رسالته الأخيرة: "نكتب لكم هذا في يوم من حياتي هو سعيد والأخير معا، أشعر بالآلام في مبولتي وأحشائي... إنما كل ذلك يعوض بجميع أفراح النفس التي أشعر بها عندما أتذكر مبادئي واكتشافاتي. (مأخوذ من كتاب: بيار بويانسي، أبيقور، ترجمة بشارة صارجي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1980، ص 10).
**الشكاك: هي المدرسة المعاصرة لكل من الرواقية والأبيقورية، مرت بثلاثة مراحل كبرى: مرحلة بيرون المؤسس الأول، ثم مرحلة الأكاديمية الجديدة مع شخصية أنسيداموس في القرن الثاني للميلاد وسكستوسأمبريكوس الروماني. والمبدأ الذي يجمع كل هذه المراحل رغم الاختلافات الجزئية، ويجمع كل الفلاسفة الشكاك هو: الثورة ضد الوتوقية أو الدوغمائية، التي سادت الفكر الفلسفي اليوناني، خاصة في مراحل المدارس الأثينية الكبرى.
ـ نيتشه (فريدريك)، العلم المرح، مصدر سابق، الفقرة 45، ص 80.
* أفلوطين: ولدحوالي (205 ـ270)فيلسوف مثالي يوناني، مؤسس مدرسة الأفلاطونية المحدثة، طوّر الجوانب الصوفية في مذهب أفلاطون، جمعت رسائله بعنوان "التساعيا".
ـ عنيات (عبدالكريم)، نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص 196.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 7، ص 20.
ـ نيتشه (فريدريك)، العلم الجذل، مصدر سابق، الفقرة 45، ص 64ـ65.
ـ نيتشه (فريدريك)، عود المسيح، مصدر سابق، فقرة 58، ص 174.
ـ ياسبرز (كارل)، عظمة الفلسفة، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت ـ باريس، الطبعة الرابعة، 1988، ص 91.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 224، ص 137.
*بولس: (5ـ 65 م)، أحد حواريي المسيح عليه السلام وحامل الرسالة المسيحية إلى الرومان الوثنيين، ينحدر من عائلة يهودية شديدة التدين، وكان اسمه شاول.
ـ نيتشه (فريدريك)، جينيالوجيا الأخلاق، مصدر سابق، الفقرة 17، ص 119.
- نيتشه (فريدريك)، هكذا تكلمزرادشت، ، مصدر سابق، ص54.
ـ نيتشه (فريدريك)، عدو المسيح، مصدر سابق، فقرة 30، ص 89.
ـ نيتشه (فريدريك)، العلم الجذل، مصدر سابق، الفقرة 370، ص 231ـ 232.
ـ نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، مصدر سابق، الفقرة 1 "محاولة للنقد الذاتي"، ص 161.
*الهلينية المتأخرة أو الهلينستية تربط عادة بفتوحات الإسكندر المقدوني، حيث امتزجت الحضارة الإغريقية الغربية بالحضارة الشرقية (فارس، الهند، مصر...)، فبعدما استولى الإسكندر على حكم الملك "دار بن دار" أتلف كل المعالم المادية للحضارة الفارسية وخرب كل مكتوبها، لكنه أخد ألواح العلوم الطبية والفلكية الفارسية إلى بلاد اليونان، وبعدما كانت الثقافة اليونانية محلية، أصبحت بعد الفتح ثقافة مشتركة بين كل دول البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت الإغريقية لغة الفكر الضرورية لكل مثقف. (لطفي عبدالوهاب يحيى: اليونان مقدمة في التاريخ الحضاري، ص 186).
ـ عنيات (عبدالكريم)، نيتشه والإغريق، مرجع سابق، ص 207.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 188، ص 96.
*الرواقية: هي المدرسة اليونانية المعارضة للأبيقورية، أسسها زينون من كيتيوم التابعة لقبرص. عاش بين (336 ـ 264)، قبل الميلاد، يقال أنه تحصل على كتب أكزانوفان وأفلاطون، وبعدما قرأهما قرر الرحيل إلى أثينا لمقابلتهما. وهناك رواية أخرى رواها ديوجيناللائرتي تقول إن سفينة زينون غرقت في البحر، ووصل إلى أثينا مفلسا، فجلس جوار مكتبة يقرأ "ذكريات" أكزانوفان، فأعجب بشخصية سقراط، فنصح بأقراطليس الكلبي، وأصبح من أتباعه. بعد ذلك أنشأ مدرسته المستقلة تحت أعمدة الاستواء بوسيل. ومن هنا سميت الرواقية، من أهم مؤلفات زينون نجد كتاب "الجمهورية". وتقسم الرواقية من حيث تطورها التاريخي عادة إلى ثلاثة مراحل هي: الرواقية القديمة وفيها زينون وتلامذته المباشرين، والرواقية الوسطى رئاسة دوجين البابلي وخلفاؤه، وأخيرا الرواقية الرومانية وفيها سنيكا و إبيكتيتوس و الإمبراطور ماركوس أوريليوس.
ـ نيتشه (فريدريك)، هذا الإنسان، مصدر سابق، الفقرة 3، ص 91.
ـ نيتشه (فريدريك)، ما وراء الخير والشر، مصدر سابق، الفقرة 9، ص 21.
ـ نيتشه (فريدريك)، إرادة القوة، مصدر سابق، الفقرة 393، ص 189.
ـ أمين (عثمان)، الفلسفة الرواقية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1959، ص 34 ـ 35.
ـ أمين (عثمان)، الفلسفة الرواقية، نفس المرجع، ص 74.
ـ بدوي (عبدالرحمن)، خريف الفكر اليوناني، مكتبة النهضة العربية، بيروت ، الطبعة الخامسة، 1979، ص 10.
ـ نيتشه (فريدريك)، إرادة القوة، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق ـ المغرب، الطبعة الأولى 2011، الفقرة 439، ص 335.
ـ الشيخ (محمد)، نقد الحداثة في فكر نيتشه، مرجع سابق، ص 248.
ـ نيتشه (فريدريك)، إنسان مفرط في إنسانيته، مصدر سابق، الفقرة 457، ص 200 ـ 201.
*الكلبية: هو اسم لمدرسة يونانية، تم تأسيسها على يد الفيلسوف أنتستينس (440ـ 336 م ق)، الذي تتلمذ لجورجياسالسفسطائي ثم سقراط، وأشهر أعضائها هو ديوجينالسينوبي، المعاصر لأفلاطون، الذي كان ينعته بسقراط الهاذي، أي الذي يهذي. اختلفت الروايات بشأن التسمية، فهناك من يقول أن المدرسة سميت كلبية، لأنهم كانوا ينبحون كالكلاب ضد الآراء العامية، كما أنهم يعيشون عيشة الكلاب متجاهلين كل ضروب الحشمة والمحافظة، وهناك من يقول أن المؤسس اختار ساحة "كلب البحر" للتدريب الرياضي، التي كانت مخصصة للطبقات الدنيا من المجتمع والأجانب، كمكان لإلقاء محاضراته، وهناك من يقول أن التسمية من وضع أعداء هذه المدرسة .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن