قراءة في رواية ( جحيم الراهب ) لشاكر نوري

سعد محمد رحيم

2015 / 6 / 28

يدخل شاكر نوري بروايته ( جحيم الراهب/شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـ بيروت 2014 ) حقلاً دلالياً شائكاً يتصل بالنزعة الإنسانية في محتواها النقي.. إنه يقدم على تلك الخطوة التي تكاد تكون مستحيلة في الواقع التاريخي؛ خطوة عبور الأسيجة المكهربة والخطرة بين الأديان والمذاهب، لتحقيق معادل موضوعي ( سردياً ) لذلك الحلم الذي هو من امتياز النخبة الشجاعة من التنويريين العالقين على السفح المقدّس للإنسانية.. هناك حيث تتطهر النفوس من أدران التاريخ، وأحابيل السياسة، ومصالح المنتفعين الأوغاد، وتعيد طرح أسئلة البشر بتكوينهم البدئي الواحد، وفطرتهم غير الملوثة ومصيرهم المشترك على كوكب الأرض.
قد يبدو الحدث الرئيس للرواية غير مقنع، لكن للتاريخ إزاحاته ومفاجآته اللامعقولة أيضاً، تلك التي تصدم أفق توقعاتنا المخدّرة بثقافة الموروث المتكلس، والمنخور بآفة التعصب وسوء الفهم.
الشخصية الرئيسة في الرواية هو الأب إسحق/ وهو الراوي، بضمير المتكلم، أيضاً.. وكما اسمه ( إسحق ) الذي يمكن أن يوحي، من جهة الانتماء الديني، باحتمالات متعددة، فإنه، في الوقت عينه، يقف على تخوم ثقافات متجاورة، باحثاً بينها عن الأرضية المشتركة المزروعة بالمحبة والتسامح والسلام. ففي ذهن إسحق ووجدانه يمتزج التصوف الإسلامي بالمسيحية، وحتى ببعض من الوثنية القديمة.. يغادر الموصل هو المسلم ليلتحق بدير مسيحي في لبنان، "دخلت حالة التقشف القصوى، وتذكرت حلقة الصوفيين المجانين الذين بثوا قوة خفية في أعماقي، هل هو الصنم الذي تحطّم في أعماقي أم شرارة الرهبنة التي اشتعلت في روحي، أم الله الذي اكتشفته في سماء الدير؟".
في عزلة دير الإيقونات على قمة جبل شاهق في مكان ما من لبنان أمضى الأب إسحق شطراً ملتبساً من حياته، هو القادم من بيئة إسلامية، والحامل لقيم ذات بعد كوني شامل ليجد له ملاذاً في ذلك الدير المشرع على آفاق المحبة والنور.. دير الإيقونات أقامه الآباء الآشوريون القادمون من بلاد الرافدين قبل عقود طويلة. كانوا هاربين من الاضطهاد، وقد كابدوا من أجل حريتهم في مكان لم يستوعبهم بسهولة في أول الأمر، وقبل ان يُسمح لهم بتشييد ديرهم "بين جبال وتلال تغزوها الأشجار والعصافير، مشرعة على الهواء العليل والشمس، صلاة وتأمل وارتقاء إلى السماء وحديث شائق مع الرب، يستردون حكايتهم كلما استرخوا على المصاطب الحجرية، أو رحل واحد منهم إلى السماء".
يعيش الأب إسحق قلقه الوجودي الخاص، تأرجحه "بين الشك واليقين، بين الجحيم والفردوس". متسائلاً؛ "هل كنت انتهازياً يا ترى في لجوئي إلى دير مسيحي؟". وقلقه ذاك لا يتصل فقط بهويته، في بعدها السطحي الظاهر، بل بماهية تفكيره، وعلاقته بالجنس البشري، وقيمه وعلاقات أفراده بعضهم ببعض، ومستقبله.. والراوي، الذي هو صوت الروائي نفسه، يسهب في طرح القضايا ذات الطابع الإشكالي، ومنها ما يتعلق بعلاقة الأديان بعضها ببعض، والعلاقة بين عقيدة يسوع والعقيدة الشيوعية، وما يتصل بمسائل الإيمان والإلحاد، وموقع الإنسان في الوجود.. أما حياة التبتل والزهد التي عاشها الأب إسحق في الدير سبع سنوات كاملة فستتعرض لأول هزّة مع ملمس يد المضيفة الروسية الناعم في الطائرة وهي تطلب منه ربط حزام الأمان. والذي سيقول لها: "ليبارك الرحمن جمالكِ".
هذه الرواية تدور في عقل الأب إسحق، أو بالأحرى في ذاكرته المترعة بتفاصيل موجعة ومثيرة عن حياته وحياة رفاقه في الدير، يسترجع بعضاً مما جرى وهو يغادر أرض لبنان بطائرة بوينغ ليكمل دراسته في الفاتيكان، بعد أن حصل منه على جواز سفر، لم تمنحه إياه أية دولة بما فيها بلده.. يحكي عن الخفايا والمؤامرات والصراعات، وساعات التأمل والمرح والحزن في الدير، مقدِّماً الشخصيات المتباينة بأمزجتها ووعيها ورؤاها وسلوكها عبر حواراتهم وأفعالهم.. فهناك الأب جوزيف المنزوي بقلايته، غارقاً بالعبادة، يقرأ ويبحث ويصلي، وفي الوقت عينه يخفي جانباً من أسرار حياته وألغازها، قبل أن يختفي بطريقة غامضة، ليلحق بعائلته كما أسرّ للأب إسحق الذي يقول عنه؛ "كان رجلاً نادراً، وورعاً ونزيها، لأنه أغرقني بكرمه وإنسانيته، وفتح لي باب الدير على مصراعيه أيام كنت مشرداً وضائعاً، وبائساً بلا مأوى أو أي مورد للعيش". وهناك الأب إيلي المعتوه الذي تسمح له الراهبات بدخول أمكنتهن، والذي يعتقد أن كل الكتب تقول عبارة واحدة؛ كن عادلاً.. وهناك الأب سامر الذي سيخلّف الأب جوزيف في قيادة الدير، هو المملوء بالتقوى والمرح والحكمة، والشعر.. حين يقيمون حفلة توديع للأب إسحق يتفحص الأب سامر النبيذ في ضوء القمر.. يسأله الأب إسحق: "ـ هل يغيّر القمر طعم النبيذ؟". فيجيب ضاحكاً: "روحك هي التي تغيّر طعم النبيذ، لا القمر ولا الشمس. عندما تكون الشمس فوق رؤوسنا، تغوص في الكأس المليئة بعصير العنب المعتّق، لأنه المشروب الإلهي الوحيد الذي لا يفسد، ويأخذ نكهة الجنة والنار، كما نتخيلها". وسيطلب من الأب إسحق أن يغيّر مادة أطروحته من "الرهبنة والتصوف" إلى "معجزة الآباء الآشوريين في دير الإيقونات" لإثارة قضية الدير، والذي يعيش جحيم الحاضر، أمام الفاتيكان والعالم.. وهناك الأب شربل عاشق الكتب الذي أمضى معظم سني حياته في الدير الذي وضعه فيه زوج أمه. وقد كان يشكو من تشرذم الكنيسة نفسها بعد الغزو الأمريكي للعراق، رائياً الحل في "عدم هجرة الآشوريين من بلاد الرافدين، وتركها للمتطرفين". وكأن الرواية على لسان الأب شربل تتنبأ بما سيجري بعد ذلك من تمدد لأولئك المتطرفين في مساحات واسعة من المنطقة، وهم يشيعون الكراهية والرعب والدمار.
إنه الفن السردي الذي يعيد صياغة العالم بالضد مما شابه من زيف وقسوة وأوهام وآلام.. يفتق الحدود المصنعة بين الإنسان والإنسان ليقول أن حق الحياة ليس حكراً على ملةٍ دون أخرى، وأن الله رب الأخيار في كل مكان، مهما اختلفت طرائق عبادتهم وأشكال طقوسهم، وأننا في سفينة واحدة إن غرقتْ، لاسمح الله، غرقنا جميعاً.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن