الخاصّ والمشترك في الحدث اللغوي والتحوّل في دلالات الألفاظ

محمّد نجيب قاسمي
mohamednejibguesmi@yahoo.fr

2015 / 6 / 22

الخاصّ والمشترك في الحدث اللغوي والتحوّل في دلالات الألفاظ
ملاحظة:
هذا المقال هو نصّ امتحان شهادة "علوم اللغة" في الجامعة التونسية ( كلية الآداب والعلوم الإنسانية 9 أفريل تونس ) دورة جوان 1986 وقد أجريناه في 8 سبتمبر 1986 بسبب تأجيل الدورتين إلى سبتمبر وأكتوبر لما عرفته الجامعة من اضطرابات كبيرة وننقله اليوم دون زيادة أو نقصان عن المسوّدة التي دوّنت فيها آنذاك التحرير كاملا اثر انجازه في ورقة الامتحان وقد كان ذلك دأبنا ومازلت أحتفظ بها سليمة ..
في البداية نثبت موضوع الامتحان كما قدمه لنا أستاذنا الفاضل الدكتور حمادي صمود ثمّ مقالنا .
الموضوع :
" ...لا يمتنع أن يسبق الأوّل إلى تشبيه لطيف يحسن تأمّله ويدلّ على ذكائه وحدّة خاطره ثمّ يشيع ويتّسع ويذكر ويشتهر حتّى يخرج إلى حدّ المبتذل وإلى المشترك في أصله وحتّى يجري مع دقّة تفصيل فيه مجرى المجمل الذي تقوله الوليدة الصغيرة والعجوز الورهاء .فإنّك تعلم أنّ قولنا " لا يشقّ غباره " الآن في الابتذال كقولنا لا يلحق ولا يدرك وهو كالبرق ونحو ذلك .إلاّ أنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا علمنا أنّه لم يكن كذلك في أصله وأنّ هذا الابتذال أتاه بعد أن قضى زمانا ... وهكذا الحكم في الطّرق التي ابتدأها الأوّلون والعبارات التي لخّصها المتقدّمون والقوانين التي وضعوها حتّى صارت في الاشتراك كالشيء المشترك من أوّله " .
بيّن مستعينا بكلام عبد القاهر الجرجاني السابق علاقة الخاصّ بالمشترك في الحدث اللغوي وما ينجرّ عنها من تحوّل في دلالات اللغة .
المقال :
إنّ الأصل في اللغة أنّها موضوعة للتواصل والتّخاطب .فوظيفتها الأساسيّة هي الإبلاغ .وهنا يكون " قدر الألفاظ على قدر المعاني" .إلاّ أنّ هذه وضعية نظرية فحسب. فاللغة لا يرمي مستعملها إلى مجرّد التواصل مع بقيّة أفراد المجموعة وإنّما ينجزها ويكيّفها حسب مقتضيات الحياة المتنوّعة والمتشعّبة أي حسب حاجاته وحسب الطّرف المقابل الذي يخاطبه فردا كان أو مجموعة . وهنا تكون الرّغبة في التّأثير في السّامع أو تهديده أو إفهامه أو غيرها من مظاهر الحياة اليوميّة .
وبما أنّ هذه المظاهر متعدّدة بل لامتناهية فإنّ اللغة لا تستجيب للتعبير عنها حسب الوضعيّة النظرية " قدر اللفظ على قدر المعنى " . لأنّه من غير الممكن أن نضع لكلّ معنى لفظا . وإنّما تستجيب اللغة لذلك بالتّصرّف الخاصّ فيها حسب ضمانات وشروط معيّنة . وهنا تظهر أهمّ خاصّيّة في اللغة وهي قدرتها على التولّد الذّاتي بالتعبير عن المعاني اللامتناهية بالألفاظ المحدودة . وعندها تكون لنا قلّة في اللفظ وكثرة في المعنى .وبقدر هذا التّناسب الطّردي بين اللّفظ والمعنى يكون الإبداع أو ضدّه.فعنوان الأدبيّة وشعارها " خير الكلام قليله يغنيك عن كثيره "
وهذا التّصرّف الخاصّ في اللغة هو ما يسمّى بالمجاز .وهو لا ينشأ عن طريق عمليّة تواضعية اصطلاحيّة فتكون العلاقة بين الدّال والمدلول اعتباطية لا منطقية وإنّما يحدث بتواضع وقصد.فهو عمليّة عقليّة واعية .إذ أنّ مُحْدِثَه لا يقوم به إلا إذا كان شاعرا به وعارفا بشروطه والدليل على ذلك أنّه يستجيب لشرطه الأساسي وهو ضرورة وجود ملاحظة وسبب بين المعنى الأوّل أصل الوضع والمعنى الثاني الناتج عن العدول باللفظ عن معناه الأصلي إلى معنى ثان لا يفيده الأوّل . ومن هنا يحدث التحوّل في دلالة الألفاظ . فبإنتاجنا لمعنى ثان للفظ عن طريق تصرفنا في الكلام نكون قد أضفنا إلى معجم اللغة .إلا أنّ هذه الإضافة تكون نوعية لا كمّيّة . فنحن لم نضف لفظا جديدا وإنّما ولّدنا معنى آخر للّفظ فأصبح للدّالّ الواحد مدلولان .وهذان المدلولان قد يتغلّب المنتج منهما عن طريق "التجوّز في العبارة" على الأوّل الموضوع عن طريق الاصطلاح .وسبب ذلك طرافته وجدّته .
وعلى هذا النّحو تكون العلاقة بين مستويي الحدث الّغوي . الأوّل شائع مشترك بين جميع مستعملي اللّغة .فليس في استعمال الألفاظ والكلمات في وضعها الأصلي – وهو ما يعرف بالحقيقة – طرافة ولا ابتكار . أما الثاني فهو خاصّ إذ أنّه في الأساس إنجاز فردي وتصرّف خاصّ في اللّغة . وفي خصوصيّته تلك ، تكمن طرافته وجدّته.
والمجاز ، نظرا لفرادته، فهو ميدان واسع إذ هو يخلق لمستعمل اللغة وسيلة فريدة وطريفة ليعبّر عن اللاّمحدود بالمحدود .وبالتّالي فإنّه يثري مقدرته اللغويّة بل انّه يمكّن المتكلّم أيضا من" خرجة " لطيفة ليثبت مهارته وقدرته على الابتكار والخلق والإبداع . فالمجاز لا قيد عليه ينطلق من قاعدة عريضة هي المشترك ويحلّق إلى آفاق بعيدة واسعة رحبة إلاّ أن تكون هناك ملامسة بين المعنى الأصلي والمعنى المنتج الثاني .
وبقدر ما يكون ذلك الانطلاق نحو الآفاق البعيدة ، نحو الغرابة ، يكون المجاز أكثر إثارة لاسيما عندما يشدّ السّامع أو القارئ إليه أكثر وأطول .فالقارئ لا يجلب انتباهه كثيرا ماذا يقول الكلام بل كيف يقال . وهو لا يهمّه من " كيف يقال" الأساليب المشتركة الشّائعة بل الطّريقة الخاصّة المستجدّة .
إلاّ أنّ المجاز في جوهره عمليّة مؤقتة تنشأ بالتأليف في الكلام فيزيد في طرافته من ناحية ولكنه ينتهي به إلى المشترك من ناحية ثانية .فمصبّ المجاز المشترك ونقطة انطلاقه المشترك أيضا. فهو مجاز إلى حين وتأليف خاصّ في الكلام إلى وقت معلوم . وسبب ذلك تفاعله المستمرّ مع الزمان والاستعمال .
صحيح أنّ المجاز انجاز فردي ولكن فرادته هذه تنحصر في لحظة انجازه فحسب. فبعد الانجاز يكون الاستعمال .والاستعمال معناه التّردّد على الألسنة .وهكذا من لسان إلى آخر يشيع المجاز " ويتّسع ويذكر ويشتهر " على قول الجرجاني.وشيئا فشيئا يفقد قيمته وتتضاءل طرافته إلى أن ينهك ." حتّى يخرج إلى حدّ المبتذل وإلى المشترك في أصله" . ويعود المجاز إلى نقطة الانطلاق وهي المشترك ويفقد شحنة الابتكار والطرافة ولذاذتهما .وبدل أن تكون العلاقة بين الدّالّ والمدلول علاقة عقلية واعية تصبح علاقة عرفية غير منطقية . فالمشترك رحم تنمو فيه المجازات وتولد ولكن سرعان ما تعود إليه ولكن ميّتة هذه المرّة .فيكون المشترك حينئذ مقبرة تدفن فيها المجازات والاستعارات.
ونحن إذا نظرنا في اللغة وجدنا فيها العديد من الاستعارات والمجازات الميتة نستعملها دون أن نشعر أنّها كانت مجازات وإنّما نشعر بأنّها من المشترك وليست طريقة خاصة في الكلام بل لا يتسنّى إلاّ بالبحث والدّرس .وكما يقول الجرجاني : " إلاّ ..إذا رجعنا إلى أنفسنا " .
وتتزامن مع هذه العلاقة الطّريفة والمثيرة بين الخاص والمشترك في الحدث اللغوي بل تنجر عنها تحوّلات في دلالات اللغة ذات أهمّيّة حيويّة لأنها إثراء للغة وتوسيع نوعي في مجالاتها.ذلك أنّ المجاز أساسه إنتاج المعاني وتوليدها والتفنّن فيها .وتلك الإضافة النّوعيّة للّغة ورصيدها تكون بتفجير الطّاقات الكامنة والنّبش المتواصل في مخزونها والسبر العميق لأغوارها .وبقدر ما يكون التّفاعل مثيرا بين الخاصّ والمشترك في الحدث اللغويّ يكون التّحوّل في دلالات اللغة أعمق .فكلّ مجاز ينشأ يرافقه تحوّل نوعيّ في دلالة اللفظ .وكلّ مجاز ينهك ويتحوّل إلى المشترك يترك مكانه لمجاز جديد يولّد بدوره تحوّلا جديدا .وهكذا في عمليّة جدليّة متواصلة ومستمرّة فينشأ معنى جديد ويموت آخر ويطغى معنى على آخر ولا ضابط لكلّ ذلك سوى السّياق وما يتطلّبه من مقتضيات والمقام وما يتطلّبه من أحوال .
وكذلك اللغة أحوال ومقامات وحركة وتحوّل وتبدّل وابتذال وخاصّ ومشترك كالحياة تماما بل إنها المرآة التي تنعكس عليها الحياة بكلّ أسرارها ومظاهرها..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن