الرحيل الأبدي / لستُ في ضلال

صبري هاشم
sabrihashim@yahoo.de

2015 / 6 / 7

***
الرحيل الأبدي
لستُ في ضلالٍ
***
السّماءُ في أَعْتى تَهوّرِها .. أطلَقتْ زرقةَ فجورِها ـ منذُ حينٍ ـ وأضحتْ كالحةَ الوجهِ ولم ندرِ أنّها ستعلنُ عن عراق آخرَ غَيْر العراق الذي عَشِقْناهُ .. جُنَّ النّظامُ .. وجُنَّ معهُ مُعظمُ البشرِ .. تعاظمتْ مِحْنتُنا وصرْنا أمامَ خياراتٍ عديدةٍ لا رغبةَ لنا في أَفضلِها.. والآن وقَدْ تَجَرّعتُ مِن كأسِ مِحْنَتي مرَّ الشّرابِ .. حسمتُ في الحَادي عَشَر مِن كانون الأَولِ مِن عَامِ اللوثةِ 1978م أمرَ تَردُدي ونَحّيتُ جانباً طوقَ حَيْرَتي وصرتُ أَنا والعراق على موعدِ افْتِراق .. وهُنا فوقَ ما يُسمّى بخطِّ الحدودِ الأحمرِ .. على بقعةٍ مِن الأرضِ يَلتَهمُها الرّملُ ، نائيّة ، وحيثُ تُقيمُ الصّحراءُ سرادقَ للضياعِ وتُرسلُ إلى الخلاءِ أشباحَ موتِها ، وَقَفْتُ بين يديهِ للمرّةِ الأولى صرْتُ أنا وإياهُ وجهاً لوجهِ .. هو يعاتبُ وأنا أنتحِبُ .. قالَ سيكونُ الرّحيلُ أبدياً ، هو أعلمُ ، هو العراقُ .. إنَّما أنا كنتُ أُداريَ حزنيَ ، أواسيه وأَنكرُ : سأعودُ ، رددتُها في غمرةِ النَّشيجِ وافتَرَقْنا. يا إلهي أيُّ فمٍ في تلكَ الليلةِ تمتلكُ هذي الصحراء!؟ .. ظلامٌ مُطلقٌ يتسيّدُ وقرٌ على الكُفرِ يصرُّ.. هل نَصِلُ ؟ سألتُ الدّليلَ وكان عنّي يبتعدُ .. وتحتَ وطأةِ الشَّجنِ تكلّمَ وهو يُرَدِدُ : ستصلُ . ضَعِ النّجماتِ الثلاثَ على خدِّكَ الأيمنِ وتابعْ المسيرَ .. وافْتَرَقنا .. قبّلتُ الأرضَ واختفى مِن ليليَ بدرٌ حلمتُ به ، كان وجهُ العراقِ .. ومَشيْنا : فرسخٌ .. فرسخانِ .. ثلاثةٌ ، وفي أجسادِنا صارَ يدبُّ الوهنُ والليلُ يطولُ والبردُ يهبطُ ثم مِن عنادِنا باتَ ينتزعُ ، وكتلةُ ضوءٍ هائلةُ الحجمِ تَخترقُ السَّماءَ وإلى شمالِنا تحطُّ .. قال رفيقُ الطَّريقِ مُرتَعِداً : إنني خائفٌ .. لم أرَ ضوءاً كهذا الذي فتقَ عباءةَ السّماءِ وعلى أرضِ " الرّوضَتينِ " يهبطُ .. جثمَ طويلاً ثمَّ غاب .. وافقتُهُ وأجبتُ : أمامنا زمنٌ مِن المِحنِ وآخرُ للعجائبِ .. فيما المسافةُ خلاءٌ أينما أَعطيتَ وجهَكَ . مضى شطرٌ مِن الليلِ ولم نرَ وجهَ اللهِ وفي أعْيُنِنا انطفأتِ النّجماتُ الثلاث .. وبعدَ منتصفِ الليلِ حلَّ الضّبابُ كثيفاً وبعدهُ تهْنا .. دارتْ بِنا الأرضُ دَوْرَتينِ وهبّتْ علينا نسائمُ الحنينِ ومازلنا بالقربِ مِن الأرضِ التي أنجبتْنا ، لم نبتعدْ كثيراً ، إنّما الأمرُ كان قد حُسمَ فالموتُ يُحاصرُنا إنْ عُدْنا وإنْ تقدّمْنا .. أُسدلتْ أستارُ الخياراتِ وعمَّ في الرّوح ظلامٌ .. أخذتْنا المسافةُ وطويْنا بعضَها في ليلةٍ تكادُ تكونُ غيرَ مُسالمةٍ ، لم نرَ في طريقِنا شيئاً يدلُّ على الحياةِ .. لا شيء .. لا شيء سوى الرّملِ وهذا المدى المُطلقِ المُخيفِ .. لا حركةَ لحشرةٍ أو دابةٍ أو صوتِ حيوانٍ يأتي مِن عمقِ المسافةِ أو طائرٍ ليليٍّ أخطأَ طريقَ المسيرِ .. لا شيءَ .. لا شيء .. يا إلهي فأيّ رعبٍ هذا يزحفُ نحوَنا ؟ كان كلٌّ مِنّا يَحملُ نصفَ زجاجةٍ من الويسكي الاسكتلندي ( جوني ويكر ) يَحْتَمي بها مِن شرِّ البردِ ويَطردُ بها خوفاً قد يُداهمُهُ ، ورغيفين مِن الخبزِ مَنَحَنا إياهما الدليلُ وزمزميةَ ماء .. وكنتُ أحملُ في جيبيَ شفراتٍ للحلاقةِ استخدمُها لقطعِ الوريدِ حين تَدْهِمُنا شرطةُ الحدودِ .. مع تباشيرِ الفجرِ أنهكَنا المسيرُ فأزحْنَا مِنِ الرّملِ مقدارَ ما يخفي أجسادَنا ورحْنا في نومٍ عميقِ .
**
أيُّها العراقُ الذي ظلَّ عنّي يبتعدُ
بين الحنايا أَحملُكَ طفلَ روحي
أحملُكَ قَدَراً
وفي سَمَائي أنتَ طائرٌ مِن نور
يَفردُ جناحيهِ على هامتي ويُرسلُ الحنين
إنْ انطفأتَ ، قبلكَ العمرُ يَنطفئُ
أيُّها العراقُ الجميل
إليكَ أرتحلُ كلّما بي غدرَ الرّحيل
**
عندما أفقْنا كانتِ السّاعةُ تُشيرُ إلى الثامنةِ صباحاً .. لا ماءَ لوجوهِنا التي عفّرها الرّملُ ولا دليلَ يُرشدُنا إلى سواءِ السبيلِ . إلى أينَ نتّجِهُ وقد تَرَكَنا الدّليلُ والقافلةُ .. ومِن شروطِ الرّحلةِ أننا نُلازمُ القافلةَ حتى الوصولِ إلى الكويت ؟ لكنَّ مهنةَ التهريبِ والمُهربين بلا قِيمٍ أو أخلاقٍ .. تَرَكونا ومَضَوا وصرنا وجهاً لوجهِ أمامَ أقدارِنا .. قلتُ لصاحبي فلنمضِ على غيرِ هدًى .. ومَضينا .. والمَدى تارةً في عيونِنا يتّسعُ ، وتارةً ينغلقُ .. لا شيءَ سوى هذا البحرِ الرّمليِّ الذي نضيعُ بين تَضاريسهِ والذي أوعزَ لكثبانِهِ أنْ تؤاخيَنا فصارتْ تُلاحِقُنا كموجٍ يُطاردُ موجاً .
يا الله نحن مخلوقاتُكَ الضعيفةُ التي فرّتْ مِن بين يديْ الجلّادِ فارحمْ بها ! .
شمسُ الثاني عشر مِن كانون الأول تَمنحُنا دفئاً لذيداً .. كانتْ معنا رحيمةً ، أرحمَ مِن المسافةِ التي راحتْ تُفْزِعُنا .. وعندما انتصفَ علينا النهارُ صرنا نسمعُ أصواتاً لمُحركاتِ آلاتٍ وأصواتَ حركةِ سياراتٍ فاتجهْنا نحو تلك الأصواتِ .. لم تمضِ ساعةٌ مِن الزّمنِ حتى كنّا ضيوفاً على مجموعةٍ مِن عمّالِ الكسّاراتِ .. علِمْنا أنّهم مِن لبنان .. مجموعةٌ مِن الشّبابِ انبثقوا في هذي الصحراءِ كعينِ ماءٍ .. شبابٌ أرسلتْهُم إلينا السّماءُ بدلاً مِن وحوشٍ ظلّت ترتعدُ منها فرائصُنا حين نذكرُها عرَضاً .. ما أجمل تلكَ السّاعةَ مِن النّهارِ! عَلِمنا منهُم أننا أقرب إلى السعوديةِ مِن الكويت . كانوا شباباً بأعمارٍ مختلفةٍ أكرمونا غايةَ الكرمِ .. زوّدونا بقليلٍ مِن الخبزِ والجبنِ والماءِ وهذا كُلُّ ما تيسّرَ لديْهم وأَشاروا علينا أنْ نركبَ الطّريقَ التي اقترحوها : مِن هُنا .. مِن هذي السّبيلِ وستُلاقون بدواً وبيوتاً مِن الشَّعرِ .. انْزِلوا عِنْدَهم إنْ وجّهوا إليكُم دعوةً .. إنّهم قومٌ كرماءُ .. يُجيدونَ إقراءَ الضّيفِ .. أهلُ باديةٍ ، ذوو فراسةٍ وخبرةٍ في شؤونِ الرّحيلِ .. ودّعناهم وانطلقْنا .
**
قبيلَ المغيبِ صرْنا على مقربةٍ مِن بيتٍ للشَّعرِ .. أمام البيتِ كانتْ تَقِفُ سيارةُ بيك آب بيضاء وأخرى تانكر ماء .. وحين اقتربْنا أكثرَ هاجتْ علينا كلابُهم وظلّتْ تستقبِلُنا في نُباحٍ طويل .. أطلقتُ صوتيَ في أَصِيلٍ جَميل : يا أهلَ البيتِ .. يا أهلَ البيتِ .
خرجتْ إلينا فتاتانِ بعمرِ الشّبابِ .. لا تتجاوزُ الكُبرى مِنهما الخامسةَ والعشرين حَسَب تقديري والأخرى أَصْغَر منها بِقَلِيل .. سألتْنا الكُبرى :
ـ مَن أَنْتُما ؟
أجبتُ :
ـ نحن " كعيبر" (1 )!*
قالتْ :
ـ تفضّلا عندنا .
تساءلتُ :
ـ أ في البيتِ رجلٌ ؟
أجابتْ :
ـ لا ، ذهبَ الرّجالُ إلى الدِّيرةِ (2)** .
قلتُ :
ـ نحن لا ندخلُ بيتاً غابَ صاحبُهُ ، ولا نُريدُ غيرَ ماءٍ وبعضِ الخبزِ زوّادة للطريقِ .
قالتْ :
ـ مَنْ أَكْرَمَنا أَكرَمْناهُ !
لم نَستوعِبْ مَغزى كلامِها في بادئِ الأمرِ فنحن لا نملكُ شيئاً في هذه الباديةِ .. بَقينا في حَيْرةٍ مِن أمرِنا .. أتطلعُ في وجهِ صاحبي وهو في وجهيَ يتطلعُ. بعدئذٍ حسمتُ الأمرَ :
ـ لا ، شكراً لكُما لا نُريدُ شَيئاً .. لدينا ما يكفيَنا .. دُمتُما في سلامٍ .
تَرَكْناهُما وواصلْنا المسيرَ .
**
إلى أين .. هل نظلُّ نَتخبّطُ في مجاهيلِ باديةٍ لا نعلمُ عنها شيئاً ؟ كنتُ أُرددُ بصوتٍ عالٍ فيما صاحبي لا ينبسُ ببنتِ شفّةٍ ، كأنَّ الكلامَ غادرَهُ أو غادرَ الكلامَ .. صاحبي ظلَّ للأقدارِ مُستسلماً .
ساقتْنا أقدامُنا بعد مسيرِ ساعتينِ إلى ضوءٍ واهنٍ في عرضِ البريّةِ .. على خشيةٍ اقتربنا مِنِ الضّوِءِ .. خرجَ علينا رجلٌ مِن وراءِ تلٍّ مِن الرّملِ وبنا هتفَ مُتسائلاً : مَن هُنا ؟
أجبتُ على الفورِ:
ـ كعيبر .
قال الرجلُ : أهلاً ، تقدّما .. وتقدّمْنا نحوَهُ .. سلّمَ علينا وأدخلَنا إلى " كرفانٍ " واسعٍ تَحتشدُ فيه مجموعةٌ مِن عُمّالِ الكسّاراتِ .. يا للمصادفةِ ! كان بعضُ عمّالِ الكسّارةِ مِن العراقيين والبعضُ الآخر مِن جنسياتٍ مُختلفةٍ .. طلبَ لنا عشاءً متكوناً مِن الكبابِ العراقيّ و" التكّة " .. أكلْنا بشراهةٍ لا مثيلَ لها كأننا قادمون مِن أرضِ مجاعةٍ .. ثم قدّمَ لنا سجائرَ الروثمانز الإنجليزية ومَنَحَنا علبةً مِنها واعتذرَ لنا عن المَبيتِ في "الكرفان" خوفاً علينا مِنِ تفتيشِ دورياتِ الباديةِ الذي ربما يأتي مُصادفةً ، فأرشدَنا إلى الحَفْرِ وهو مكانُ عملِ الحفّارةِ وقال : تَوسّدوا الرّملَ حتى الفجرِ ثم امضوا قبلَ طلوعِ الشمسِ .. ثم كررَ اعتذارَهُ .. قرأْنا على وجههِ أسفاً وحَيْرَةً لكننا تَفَهَمْنا ما هو عليه .
بين أَيْدينا تَشظّى الزّمنُ نحن أبناء اللهِ الذي أرادَ لنا ميتةً مُختلفةً عن سوانا .. أسرجْنا لفتوتِنا الخيلَ وطالبْناها بالصهيلِ بوسطِ برّيةٍ .. انْطَلِقي أيتها الطاقةُ المؤجلةُ الإنفلاتِ .. لا وقتَ لدينا للدعاءِ ولا وقتَ لنا كي نندبَ حظوظَنا أو نعاتبَ السماءَ.. بتْنا ليلتَنا فوقَ سفحٍ مِن تلٍّ رمليٍّ ومع نهاياتِ الفجرِ صَحَوْنا وأطلقْنا العنانَ لأقدامِنا المُتْعَبةِ .
في العادةِ لا يَمْشِيَ الهاربُ عبْرَ الصحراءِ نهاراً ، فالليلُ صديقٌ حميمٌ وهو آمنٌ بما فيهِ الكفاية وسترٌ لمّن أرادَ الفوزَ بضالّتِهِ أو بعبورٍ يَسيرٍ ، والإسراءُ هو الأنسبُ لمثلِ حالتِنا ، لكنَّ اليأسَ تمكّنَ مِنا وما عادَ يهمُنا إنْ قُبِضَ علينا أم لا .. صرنا نَمْشي ليلاً ونهاراً دونَ وازعٍ مِن خوفٍ .. والصحراءُ تَدعونا إلى أعماقِها : هيّا توغّلا .. ونحن نستجيبُ ونُلبي .. تتناوبُ علينا الأوقاتُ ولم نُمسكْ بناصيةِ الطّريقِ .. ماذا فعلتَ بنا أيُّها الدّليلُ .. لقد تركْتَنا بين فكوكِ التيهِ ؟ وفي هذهِ الباديةِ لا شيءَ يردُّ على أسئلةٍ تناسلتْ في صدورِنا ، وكأنَّ الخاتمةَ قدْ رُسمتْ . خمسةُ أيامٍ بلياليها مضتْ ونحن نَطويَ المسافاتِ دون أنْ نَحْظى بِمَن يُرشدُنا إلى سواءِ السبيلِ حتى لو كان دابةً اعتادتِ الطريقَ .
**
وددتُ لَو سالَ بِنا الرّملُ وصارَ لُجّةً
لو هَدَرَتْ كالبحرِ مِن حولِنا الصّحراء
لو عَصَفَ بموكبِنا الموجُ وغَمَرَنا الطّوفان
لو تحرّكَ المَدى وحلّقَ الغضا بأجنحةِ الطّيرِ
لو غادرتْ باديةٌ مجرى النّسيمِ
لو عادَ إليَّ العراقُ طريداً وكنتُ وطناً
ثم حفظتُهُ بحَدَقةِ العين
وددتُ لو غادرَني الوَعي
لو سألتُ عن سببِ الضّياعِ
لكن متى وكيف وأين ؟
إنّما بالسفينِ زمجرتْ ريحٌ
وغادرتْ الأكوانَ القوافلُ
وظلَّ القطا يُخطئُ المسيرَ
**
في الليلةِ السادسةِ ومِن قلبِ الظلامِ سمِعْنا صوتَ امرأةٍ تُقْسِمُ " بالعباس أبو فاضل " .. لم نرَ شيئاً في الظلامِ لكننا توجهْنا صوبَ مَصدرِ الصّوتِ .. اقتربنا أكثرَ مِنْ بيتٍ للشَّعرِ وناديتُ :
يا أهلَ البيتِ .. يا أهلَ البيتِ .
قالت امرأةٌ :
حيّاكَ اللهُ ، تفضّل .
تقدّمنا ، وجَدْنا امرأةً في الستينِ مِن العمرِ تقريباً وطفلةً في الثامنةِ أو التاسعةِ مِن عمرِها .. أمامهما موقدٌ مِن نارٍ على وشكِ الإنطفاءِ .. موقدٌ مِن بعرِ الحيوانِ .. سألتْنا المرأةُ :
ـ مَن أنتما ؟
أجبنا :
ـ نحن كعيبر .
لم تُصدقْ المرأةُ .. ضحكتْ وقالتْ :
ـ وجْهاكُما لا يُوحيانِ بذلك.
قال صاحبي :
ـ كيف هذا ؟
قالتْ :
ـ أنتَ بعيونٍ خضراء ونظّاراتٍ طبيّةٍ وهيئةٍ لا تنمُّ عن رجلٍ ضالٍّ ، وصاحبُكَ ـ وأشارتْ نحوي ـ بلا شاربين وبهيئةٍ تُفصحُ عن مقامٍ لا يتوفّرُ لـ " كعيبر " .. أنتما شابانِ فارّانِ مِن ظلمٍ ما .
هي فراسةُ البدويِّ إذاً .
صنعتْ لنا شاياً وقالتْ :
وَلَدي ذهبَ مع زوجَتِهِ إلى حفلةِ عُرسٍ في الناحيةِ الأخرى وسيعودانِ في آخرِ الليلِ .
سألتُ :
ـ عرسٌ في هذا الخلاء ؟
أجابتْ :
ـ نعم يا ولدي فالناسُ هُنا تجتمعُ على السرّاءِ والضرّاءِ ولو في باديةٍ .
بعدَ أن شرِبنا الشايَ .. تساءلتْ :
ـ إلى أينَ وجهتكُما ؟
أجبْنا :
ـ نُريدُ الكويتَ ؟
قالتْ : مِن هُنا ـ وأشارتْ إلى مطلعِ الشّمسِ ـ وإنْ كُنتما مُشاةً أشداءَ فالليلةَ ستجدانِ أمامَكما ألواحاً رمليةً ومِنها سوف تشرفانِ على الجهراء وسوف تُشاهدانِ أضواءَها ، ولكن احذرا مِن " ابنِ السودةِ " فمركزُه يقعُ في طريقِكُما وإنْ ظفرَ بِكُما فسوف يقتلُكُما .
تساءلتُ مُستغرباً :
ـ ومَن يكونُ ابنُ السودةِ هذا ؟
قالتْ :
ـ هو ضابطُ مركزٍ للشرطةِ يعنى بأحوالِ الباديةِ .. لكنَّ الرحمةَ منزوعةٌ مِن قلبِ هذا الضابط .. فاحذراه .
ودّعناها وارْتَحلنا .. لفّنا الظلامُ والرّهبةُ والضّبابُ الذي باتَ ينزلُ كثيفاً كلّما توغّلْنا في البريّةِ .. ما أتعسنا حينَ نشعرُ مع هذا البردِ القارسِ أننا نتخبّطُ وسطَ مزرعةٍ ونسمعُ ثغاءَ جَدْي ! .. اقتربْنا مِنِ الصّوتِ أكثر ، وجدناهُ صغيراً مربوطاً إلى جوارِ " تانكر " وأمامهُ أناءُ ماءٍ .. قال صاحبي :
ـ إنّها فرصتُنا .. دعْنا نأخذِ السّيارةَ ونفرّ بها إلى داخلِ الكويت.
قلتُ بشيءٍ مِن الحدّةِ :
ـ هذا جنونٌ ، فنحنُ لا نعلمُ بما يُحيطُ بنا .
قال :
ـ أهلَكَنا الطريقُ والبردُ والمجهولُ .
قلتُ :
ـ هذا صحيحٌ ولكن علينا أنْ نواصلَ دونَ أنْ نُثيرَ مِن حولِنا ضجيجاً .
قال :
ـ وماذا نفعلُ الآن ؟
قلتُ :
ـ نفتحُ بابَ السّيارةِ ونمكثُ بها حتى الصباحِ .
فتحَ صاحبي البابَ ودخلْنا .. كان الطقسُ دافئاً .. بحثْنا في داخلِها فوجدنا علبةً مِن البسكويت وبعضَ العصائرِ .. أكلنا البسكويتَ وشربنا العصائرَ ونمنا في السيارةِ ، دونَ أن نواصلَ طريقَنا فنحن لم نعثرْ على ألواحِ الرّملِ ، والتعبُ هدَّ قِوانا ولم نَرَ جَدوى مِن متابعةِ المسيرِ طالما باتَ كلُّ شيءٍ مجهولاً .
**
في السادسةِ صباحاً سَمِعْنا نَقْراً على زجاجِ النّافذةِ ، وعندما فَتَحْنا عُيونَنا رأينا مزرعةً وأغناماً مُنتشرةً وفتًى في السادسةِ أو السابعةِ عشرة مِن عُمرهِ . أشارَ إلينا بالخروجِ مِن السيارةِ ففعلْنا .
تساءلَ :
ـ مَنْ أنتما وماذا تفعلان هُنا ؟
أجبتُ :
ـ نحن " كعيبر" .
قال :
ـ أتعلمانِ لمَن هذهِ السيارةِ والمزرعةِ وهذه الأغنام ؟
قلنا :
ـ لا ، لا نعلم .
قال ضاحكاً :
ـ هي مُمتلكاتُ ابنِ السّودة .
ثم أشار بيدهِ إلى الشرقِ وأضافَ :
ـ وذاكَ هو مركزُ الشرطةِ .
في الواقعِ صُعِقْنا وارتعدتْ فرائصُنا هلعاً ، وحينَ لاحظَ الفتى ذلك هَوّن علينا وخففَ مِن مخاوفِنا قائلاً :
ـ الآن افطرا معي وبعدئذٍ اذهبا إلى هنالك ـ وأشارَ إلى مجموعةٍ مِن البراميل على مسافةِ بضعِ مئاتٍ مِن الأمتارِ ـ واجعلا البراميلَ تُحيطُ بكما وامكثا حتى غيابِ الشّمسِ بعدئذٍ توجّها نحوي لكي أُرشدَكما إلى الطريقِ الصحيح ، أما أنا فسوف ابتعدُ بالأغنامِ عنكُما لكي لا يقتربَ منكما ابنُ السودة حين يتفقدُ حلالَهُ .
انتشلَنا كلامُ الفتى مِن خوفِنا .. أكلْنا معه ما تيسّر مِن فطورِهِ القليلِ وشربنا شاياً ساخناً مِن إبريقِهِ الصغيرِ وتوجهْنا صوبَ البراميل .. جعلناها على شكلِ دائرةٍ ومكثنا داخلها .
**
لم أَعُدْ أَحلمُ بأكثرِ مِن الوصولِ .. كنتُ أنا والموتُ في سباقٍ طويلٍ ، فأنا جنديٌّ شيوعيٌّ هاربٌ مِن الخدمةِ الإلزاميةِ التي لم يبقَ مِنها سوى ثلاثة عشر يوماً .. إنما استدعائي إلى استخباراتِ الفرقةِ الرابعة في معسكرِ الغزلاني بالموصل ، جعلني أُفكِّر ألفَ مرّة بالإعدام .. فكان التحاقي بمقرِ اللواء 111 ـ بعد إجازةٍ اعتياديةٍ ـ يومَ 5 ـ 12 ـ 1978 طبيعياً جداً ولم أعلَمْ أنَّ أمراً مُدبراً مِن استخباراتِ الجيش كان بانتظاري .. قال المأمورُ بمحضِ المصادفةِ : ماذا فعلتَ ؟ قلتُ : لا شيء . قال : سآخذكَ مخفوراً غداً إلى معسكرِ الغزلاني ولكن أرجوكَ لا تُخبرْ أحداً . في الساعةِ الثامنةِ مساءً ومع حلولِ الظلامِ ، أخذتُ حقيبةَ ثيابي الصغيرةَ وتوجهتُ إلى الشيخان بمحاذاةِ الجدولِ . في المسجدِ استبدلتُ ثيابي المدنيةَ بالعسكريةِ وأخذتُ سيارةَ تاكسي إلى الموصل ومِن هنالك إلى البصرة. في البصرةِ كان البعثيون على علمٍ بهروبي فطلبوني في صباحِ اليومِ التالي على وصولي إلى أحدِ مقارِّهم ولكن هيهات فأنا لا أمنحُكم فرصةً للنيلِ مني أيُّها البعثيون .
**
أتحلمُ بعمرٍ لا تجد فيه سوى الندى ؟
أتحلمُ وقد مرَّ الكثيرون ،
على أطيافِ طفولةٍ
لم يجدوا فيها غيرَ
خرابٍ
وثيابٍ
لمّا تزل عبِقةً
بلا عطر
دفعتك بأكفِّها العشر الدافعاتُ
صرتَ للهواء الثقيل أقرب
جسدُكَ مِن ريشٍ
أو مِن قبسٍ ...
أو نسيمٍ
ختمتَ بأقلامِ الشمعِ مسافةَ العمرِ
هل تدفنُ أسرارَكَ
أم تفتحُ صناديقَ أزمانِك القاحلة
وتهوي إلى طقسِ الرحيلِ ؟
في لوحةِ الذاهبين .....
انتظرتَ
فاتتك بعضُ الطقوسِ
لم تكترث للوسيلة
هنا بَرقتْ في عينيك
صحوةُ العمرِ
رَعدتْ في صدرِك
الهتافاتُ النادمةُ :
فاتِ الدليلُ
ماتِ النرجسُ الهيمانُ
حسرةً
وانطلقَ العويلُ
يا هذا المحرابُ الأصمُّ
أنطقْ
هل عاد في الوهمِ أبناؤك البؤساء ؟
هل تكدّرَ النجمُ لتعثر الماء
أم تكدّر الماءُ
لغفلةِ الشعاعِ ؟
حيناً
تناهبَنا الوصلُ
حادَ بنا عن سكةِ الوصولِ
ولتشعبِ الطرقِ
انبهرتْ قوافلُنا التي
داهمها العطشُ
سنصلُ ...
قال الدليلُ ...
يوم .. يومان .. ثلاثة .. عشرة
زمنٌ يتهرّب كجبان
في ميدان
وما بين الباديةِ والبحرِ
فقّسَ بين أصابعِنا الرملُ
وكفَّ عن البللِ مطرُ الخريف
لن تصلوا
هتفَ هودجٌ سماويٌّ
مرَّ مصادفةً فوقَ رؤوسِنا
بعدهُ
ناحتِ السماءُ
وتهنا في ظلمةٍ مسحورةٍ
أو في لُجّةٍ عنيدةٍ
غَمَرَتْنا
يا هذا الموصلُ بيننا وبين الوصلِ
هلكنا
ودرست رسومُنا
تحت جُنونِ رياحٍ عاتيةٍ
لن تصلوا
ابتعدَ رغمَ الموجِ عنّا الماء
لن تصلوا
انشقتْ رغمَ الدليلِ بنا الصحراء
أتحلمُ بعمرٍ يأخذُك إلى حافةِ
فردوسٍ زائل ؟
سنة ... سنتان ... عشر
طيف يزول
هو العمر حبيبي
برق يمرُّ
هو العمر حبيبي
لن نصلَ إذن ..
قلنا للدليل
**
لم يَقتربْ مِن البراميلِ أحدٌ حتى المساء .. عندئذٍ نَهَضْنا لنرى أين صارَ الفَتى راعي الغنمِ لكي نتوجّهَ نحوَهُ ويُرشدَنا إلى الطريقِ .. في تلكَ الأثناء توقّفتْ بالقربِ منهُ سيارةٌ للشرطةِ .. فقررنا أنْ نسيرَ مع حلولِ الظلامِ بدونِ مساعدةٍ مِن أحدٍ ، وبعدَ ساعةٍ انطلقْنا على غيرِ هدًى ، فَلَم يَعُدْ أمامنا شيءٌ واضحٌ .. كنّا نعومُ في بحرٍ مِنِ الظلامِ .. لا ندري في أيِّ موقعٍ نحن على جسدِ الخرائطِ : ساعةٌ .. ساعتان .. ثلاث .. أربعَ حتى انبثقتْ أمامَنا ألواحُ الرّملِ وحين اعتليناها رأينا الأضواءَ الباهرةَ التي تُسوِّرُ المدينةَ .
تساءلَ صاحبي مُتعجباً :
ـ يا الله ! هل هي الجهراءُ ومتى نصلُها ؟
ـ أَجِبتُ : لا أدري ، ولكننا سنواصلُ .
في تلك الأثناءِ اشتكى مِن ألمٍ في القلبِ . سألتُهُ : إنْ كان مريضاً بالقلبِ .. أجابَ بالنفي . قلتُ ربما كان شيئاً عارضاً .. ومضينا نُغذُّ السيرَ حتى أشرقَتْ فوق رؤوسِنا الشّمسُ .. رأينا بيتاً للشَّعر بالقربِ مِن الطّريقِ الدولي الذي يربطُ السعوديةَ بالكويت فسعينا نحوَهُ .. نَدَهنا على أهلِ البيتِ فخرجتْ إلينا امرأةٌ شابةٌ يتبعُها طفلانِ .. رحّبتْ بِنا بحرارةٍ ودَعَتْنا إلى الدخولِ بينما الزوجُ كان حذراً يَرمقُنا نظرةَ ازدراءٍ ، ثم تشاغلَ عنّا خارج بيتِ الشَّعرِ.. شربْنا الشايَ وأكلْنا معه خبزَ الصّاجِ وأرشدتنا إلى الطّريق :
ـ قِفا على الطّريق وأومئا للسياراتِ القادمةِ مِن السعودية حتماً ستقفُ واحدةٌ .
ودّعْنا المرأةَ وشكرناها .. كانتْ كريمةً معنا .
توقفتْ سيارةُ بيك آب بيضاء .. قُلنا للسائقِ نحن نُريدُ الكويتَ .. قال : بمئةٍ وخمسين دينار كويتي . قال صَاحبي نحن لا نملكُ غيرَ مئةٍ وخمسين دينار عراقي .. وافقَ الرجُلُ . همستُ لصاحبي : أنا لا أملكُ مالاً . قال : أنا أملكُهُ .
أعطيتُ السائقَ عنوانَ عمل والدي الذي كان يومئذٍ يعملُ في الكويت وانطلقتْ بنا الحافلةُ .
كُنّا في اليومِ السابعِ مِن الرّحلةِ وكان أبي في حالةٍ مِن الحِداد حين علمَ بضياعي في الصّحراء .
***

نص لم يُنشر منذ ديسمبر 1978 الكويت
أُجري عليه بعض التعديل
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن