قراءة في رواية ( سانتا إيفيتا )

سعد محمد رحيم

2015 / 5 / 24

لا أحد مثل روائيي أميركا اللاتينية من أهتم بتاريخ الديكتاتوريات العسكرية.. فهؤلاء شغلتهم قضية السلطة ومغزاها.. وحين نريد أن نستعيد من الذاكرة روايات تحدثت عن الدراما المؤسية المثقلة بالظلم والدم والعذاب لممارسات السلطات الديكتاتورية، مجسّدةً بحيوات قادةٍ أشخاص فاعلين، فلابد من أن نذكر في البدء روايات (السيد الرئيس) لأستورياس، و (خريف البطريك) لماركيز، و (حفلة التيس) لماريو بارغاس يوسا، وهي جميعاً من نتاج الفضاء الثقافي الأمريكي اللاتيني.. والروائيون الثلاثة يُعدّون من أشهر أدباء تلك القارة المترامية الأطراف، المبرقشة بأنواع السلالات البشرية كلها، والمعقدة بنسيجها الاجتماعي العرقي، ونظمها السياسية، والتي تمتلك تاريخاً من الأحداث الشرسة العنيفة والصعبة.
ثمة رواية أخرى تزاحم هذه الروايات الكبيرة، وتقف إلى جانبها من حيث القيمة الإبداعية، وعمق تناولها لموضوعتها، وفيض المتعة التي تمنحها لقارئها. وأقصد رواية (سانتا إيفيتا/ ترجمة صالح علماني.. دار الحوار.. سوريا.. ط1/ 2010) لتوماس إيلوي مارتينث. وشخصياً لا أمتلك معلومات عن هذا الكاتب العظيم بموهبته وسعة ثقافته، وجمال لغته، وتمكنه من لعبة السرد الروائي. ولا أدري إن كانت هناك روايات أخرى له مترجمة إلى العربية. غير أنه يكفي أن تقرأ له (سانتا إيفيتا) حتى تتأكد مما قلناه. وماركيز نفسه يقول عنها، أي الرواية؛"ها هي، ذي، أخيراً، الرواية التي لطالما رغبت في قراءتها".
تأخذنا رواية مارتينيث إلى الأرجنتين، خلال السنوات التي حكم فيها الجنرال بيرون في نهاية أربعينيات القرن الماضي وبداية الخمسينات. غير أن بطل هذه الرواية ليس الجنرال، الذي يحضر مثل ظل، وإنما زوجته إيفيتا التي التقطها من عالم السينما، وهي الممثلة الثانوية، والمتحدرة من وسط اجتماعي وضيع، وتزوجها، لتتحول، بمجهودها الشخصي وإرادتها الحديدية المجنونة، إلى أسطورة في نظر الناس. وتساهم في صناعة فصل مثير وملتبس من تاريخ ذلك البلد القصي، المسكون بالسحر والخرافات، والمبتلى بالجوع والعنف والاستبداد.
هذه المرأة كانت من أكثر نساء القرن العشرين إثارة للجدل، بعدما انقسم حول تقويمها الآخرون بين عابد لها ومحب يراها أسطورة فذة، وبين كاره لها وحاقد عليها يراها أميّة ممسوسة استغلت جهل جزء كبير من المجتمع فتسلطت عليهم وخدعتهم.
تستيقظ إيفيتا من غيبوبة استمرت ثلاثة أيام لتوقن أنها ستموت.. هذه هي لحظة الحقيقة المرعبة التي تدركها إيفيتا، ومنها يبدأ الروائي سرد أحداث روايته.. لا شيء يدوم إلى الأبد، وحتى العظمة الناشئة في شكل أسطورة تتفتت بعد حين لتستحيل إلى ذكريات بطعم الرماد. وهذه الذكريات هي التي يبحث عنها الراوي ليكتب، في ضوئها، نصه، في عملية إبداعية تأخذها اللغة السردية على عاتقها بمساعدة المخيلة لتمزج الواقعي التاريخي بالفنطازي الخرافي.. وهي لغة تنطلق بطاقة الشعر، وبتقنيات السرد وما ورائه.
يناقش الراوي/ الباحث والمنقِّب الطريقة التي بها يكتب.. إنه يكسر بأذهاننا نحن معشر القراء الإيهام ليخبرنا أنه إنما يكتب رواية، وهي عمل تخييل حتى وإن كانت تعتمد الوثيقة والواقعة الحية، وما تحتفظ به ذاكرة الشهود الذين ما زالوا أحياء.
"كل قصة هي، من حيث التعريف، خيانة. فالواقع، كما قلت من قبل، لا يمكن أن يُروى أو يتكرر. الشيء الوحيد الذي يمكن عمله بالواقع هو اختراعه من جديد"ص98.
إيفيتا التي جعلت من نفسها أسطورة، وجعلت منها المخيلة الشعبية قديسة كان حضورها في حياة من عرفوها ومن رافقوا جثتها المحنطة بعد موتها مشؤوماً.. كانت اللعنة تلاحق أولئك الذين يجعلونها محور اهتمامهم سواءً بدافع الفضول أو الحب أو كانوا مرغمين على ذلك. وحتى الراوي الذي يسعى بحثاً عن معلومات تفيده في كتابة نصه ستقول له زوجة الكولونيل الميت الذي كُلِّف من قبل الانقلابيين (على بيرون) بالتخلص من الجثة:"فليحمك الرب. توخ الحذر حين تبدأ برواية هذه القصة. ففور بدئك بها لن تجد أنت أيضاً الخلاص"ص58. وكان هو يعرف أن الأمر ليس بالسهولة التي تُكتب فيها رواية عن أية شخصية أخرى غير إيفيتا.. يقول:"منذ حاولت أن أروي إيفيتا أدركت أنني، إذا ما اقتربت منها، سأبتعد عن نفسي. كنت أعرف ما أرغب في روايته وما هو البناء الذي ستتخذه روايتي. ولكنني لا أكاد أقلب الصفحة، حتى تضيع إيفيتا عن نظري وتتركني في الفراغ"ص61.
كان بيرون مغرماً بالتقاليد الفاشية.. باستعراضات الفاشيين وخطبهم، وكان مثله الأعلى موسوليني؛ ديكتاتور إيطاليا، وحين انتشل إيفيتا من محيطها وتزوجها وجدت هذه أيضاً في المشهد الفاشي مناسبة لتظهر شخصيتها القوية الساحرة، على الرغم من أن فكرها كان يستحضر السينما، وليس الاحتفال الفاشي:"كانت تريد لمبايعتها أن تبدو مثل حفل افتتاح هوليودي بكشافات ضوئية وموسيقى أبواق وسيول جمهور"ص95.. ورواية (سانتا إيفيتا) تحاول أن تقول لنا ما هي الميكانزمات الخفية التي يعمل على وفقها النظام الفاشي وهو يستدرج مئات الألوف طائعين إلى الضياع أو المحرقة.
يلتقي الراوي بالشخصيات المهمة في حياة إيفيتا ويتعرف عليهم عن كثب، لكنه لم يلتق إيفيتا نفسها، أو الكولونيل الذي سيُعطى مهمة التصرف بجثتها المحنطة، وهما الشخصيتان المحوريتان في الرواية.. الرواية التي تتحدث عن إيفيتا الميتة المحنطة وبدائلها الشمعية أكثر مما تتحدث عن حياتها.. رواية ولا أمتع



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن