مقدمة كتاب التعاونيات أداة للتقدم والتحرر

سامح سعيد عبود
samehaboud@gmail.com

2015 / 5 / 17



من غرس الفكرة التعاونية لدى كبديل عن كل من اشتراكية (رأسمالية) الدولة، والرأسمالية التقليدية، كان استاذ مادة تشريعات التعاون فى سنة أولى حقوق بجامعة القاهرة، فمازلت أذكر عباراته حول تزايد استبدادية الدولة كلما ازداد تدخلها فى الإنتاج والخدمات كما تتطلب اشتراكية الدولة، أو تزايد استبدادية الرأسماليين على المجتمع كلما ازدادت حريتهم فى العمل كما تتطلب الرأسمالية التقليدية، والحل الذى يضمن التحرر الفردى من كل من الاستبداد الحكومى والتسلط الرأسمالى، هو أن تحل التعاونيات محل كل من الدولة والشركات الرأسمالية، فى الإنتاج والخدمات، فضلا عن اطلاعى على كتاب د. جابر جاد عبد الرحمن، "تشريعات التعاون"، حيث فهمت منه أن التعاونيات هى الأداة التى تحرر الأجراء من العمل المأجور، فجوهر الرأسمالية الإنتاجية هو استخدام العمل المأجور على نطاق واسع لإنتاج السلع وتوفير الخدمات، من أجل التبادل فى السوق، لتوليد الربح، وهو ما يجعلنى أقول إن اشتركية الدولة ما هى إلا رأسمالية الدولة، لحفاظها على العمال مأجورين لديها، بل والانتكاس بهم من وضعهم الأكثر حرية فى ظل الرأسمالية التقليدية، لوضع الأقنان الذى عرفته النظم الاقطاعية كعبيد عموميين للدولة.
كما علمت أن هناك نظام يسمى "الريجى التعاونى"، وهو تعاونية بين التعاونيات تقوم بالأنشطة الكبيرة والعملاقة التى يظن البعض إنه لا يمكن أن تقوم بها سوى الدولة والشركات الرأسمالية، ومن ثم فقد استنتجت إنه إن كانت التعاونيات قائمة بالفعل عبر العالم كله، وإن كانت هامشية ،أو مشوهة أو مزيفة أحيانا، فليس المطلوب أن نخترع نظام اجتماعى على سبيل الهندسة الاجتماعية، أو ننتظر ثورة شاملة تحقق هذا النظام، بل المطلوب دعم التعاونيات وتطويرها وإزالة العقبات التى تحول دون سيادتها اجتماعيا، وإزالة تشوهاتها الحكومية والبيروقراطية والرأسمالية، هذه هى الحدود العملية الممكنة التى نستطيع ممارستها لتغيير العالم بدلا من الانتظار ليوم يتم فيه الخلاص من كل أشكال العبودية.
إن أهم ما يعوق التعاونيات فى هذا الطريق، هو طبيعة علاقة الحكومة أو الدولة بالتعاونيات، وصعوبات التمويل، وطبيعة التكنولوجيا المستخدمة فى الإنتاج والخدمات، والقوانين المنظمة للتعاونيات، وكون التعاونيات تعمل وفق مبادىء على النقيض تماما من مبادىء السوق الرأسمالى المهيمنة، وعدم تكامل التعاونيات فيما بينها وعدم استقلالها عن كل من السوق الرأسمالى والدولة، فضلا عن الثقافة السائدة التى إما أن تشكل تربة خصبة أو أرض بور لنمو التعاونيات وتطورها.. أما كيف نزيل كل تلك العقبات؟ فذلك هو السؤال الأهم الذى يحتاج إجابة. وكانت تلك مهمة الفصول الأخيرة من هذا الكتاب بدءا من الفصل الخامس عشر.
ولما كنت أرى أن الحركة التعاونية العالمية هى الحركة الوحيدة المعادية للرأسمالية، التى حققت نجاحا عمليا مستقرا باهرا فى العديد من مناطق العالم منذ ما يقرب من قرنين، بدون مآسى وضحايا وارتدادات وانحرافات وحروب وديكتاتوريات دموية، عرفتها ثورات القرون الثلاث الماضية، حتى وإن كان هذا النجاح محدودا أو معدوما حتى الآن فى بلادنا نظرا لتفشى العوائق سابقة الذكر، وهى الحركة الوحيدة التى حققت انجازات عملية فى تحرير العمال من العمل المأجور لدى الغير ليصبحوا ملاك ومنظمون وعمال فى نفس الوقت، وبأن وفرت للمستهلكين السلع والخدمات بأسعار تقترب من أسعار المنتج الأصلى دون تحميلهم ما يحصل عليه الوسطاء والتجار من أرباح، وحمت المؤتمنين والمقترضين مما تحصل عليه البنوك من الفوائد، وأعفت المستأجرين مما يحصل عليه ملاك العقارات من ريع.
ربما تكون التعاونيات طريق تدريجى واقعى طويل الأمد لإحداث تغيير وتطور اجتماعى جذرى فى النهاية، يخلوا من أى لمسات رومانسية وبطولية وملحمية، ولذلك فهو غير جذاب لمن يتقمصون دور المحررين والثوار، ولكن يمكن أن يتم اختصار طوله لو تم التركيز عليه من قبل مناهضى الرأسمالية، بدلا من النضال السياسى سواء الثورى أو الإصلاحى المتمركز حول السلطة السياسية، والفوز بها، والضغط عليها، وانتزاع المطالب منها، فحتى الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى تثبت أزمات السوق الرأسمالى هشاشتها، تتطلب دولة غنية وقوية، تتدخل فى حياة وحرية المواطنين، وتنتزع منهم استقلالهم الذاتى، وتعنى من الناحية الأخرى، تضخم الجهاز البيروقراطى للدولة، وازدياد احتمالات فساده، وزيادة اعتمادية المواطنين على الدولة، مما يقيد من حريتهم واستقلاليتهم، ويزيد من سلبيتهم وضعفهم، ومن تبعيتهم الذليلة، ومن عبوديتهم المعممة للدولة، فى نهاية الأمر.
هل هناك تعاونيات زائفة؟، بالطبع هناك مشاريع ومنشئات ترفع لافته التعاون، ولكنها ليست تعاونية على الإطلاق، أولها تعاونيات مترسملة منتشرة فى الولايات المتحدة، وموجود منها فى مصر هى فى الحقيقة تعاونيات بين رأسماليين أو منشئات رأسمالية صغيرة تعتمد على العمل المأجور، وتستهدف الربح، والتراكم الرأسمالى وفق الآليات الرأسمالية.. وثانيها تعاونيات تابعة للدولة، وجزء من امتدادتها وأذرعتها مثل التعاونيات الزراعية فى مصر، والمجمعات الاستهلاكية، والتى ربطت التعاونيات فى أذهان المصريين بطوابير الجمعيات الاستهلاكية الشهيرة من أجل الفراخ واللحوم أو الجمعيات الزراعية من أجل البذور والأسمدة، أما التعاونيات الحقيقية فتقوم على مبادىء وقيم وأهداف محددة تميزها عن كل من الرأسمالية واشتراكية الدولة، ومخالفة أحد هذه المبادىء والقيم والأهداف يفقد التعاونية تعاونيتها.
وكانت مهمة التعريف بالتعاونيات ومبادئها وأنواعها وتجاربها وتاريخها وتطورها ومدى كفائتها، وكيف لها أن تحل مشاكل المجتمع، وحجم اقتصادها عالميا، ودورها فى التنمية عبر العالم، والتفرقة بينها وبين المؤسسات الأخرى، والتفرقة بين الملكية التعاونية والملكيات الخاصة والعامة، بهدف إزالة الصورة المشوهة والمزيفه عنها لدى القارىء العربى، هى مهمة الفصول الأولى من الكتاب، بدءا من تعريف الجمعية التعاونية، وحتى تعونة المنشئات المستعادة.
الفصل الثانى عن التعاون والتنافس بين الكائنات الحية، والذى قد يبدو مختلفا إلى حد كبير عن باقى فصول الكتاب، إلا انه فى الحقيقة وثيق الصلة بموضوعه، حيث تستند السياسات الاقتصادية التى تحكم معظم بلاد العالم الآن والتى دشنتها مرجريت تاتشر فى انجلترا، ودشنها رونالد ريجان فى الولايات المتحدة، ثم تبعتهم معظم حكومات العالم، المعروفة بالنيو ليبرالية أو الرأسمالية المتوحشة، على نظرية سياسية واجتماعية واقتصادية اسمها "الداروينية الاجتماعية"، يستخدم فيها منظروها التفسير الداروينى لتطور الكائنات الحية فى تبرير عدائهم الحاد لكل العناصر الضعيفة اجتماعيا، العمال والمهمشين والمهاجرين واللاجئين والفقراء والعجزة والمرضى الخ، وتبرير انتهاك حقوقهم وحرياتهم الإنسانية عموما، والمطالبة بابادتهم أحيانا، بحجة أن التنافس والصراع الوحشى هو القانون الحاكم للحياة الذى يجب علينا احترامه، وعدم مخالفته، إن لم يكن تشجيعه، وأن البقاء للأصلح دون تحديد من هو ذلك الأصلح من بين أفراد الناس كى يستحق البقاء؟، ثرى من أباطرة المضاربات كسورس مثلا باعتباره ناجحا وفق معاييرهم، حتى وإن كان لصا، أم عالم ومخترع أفنى عمره لإفادة البشرية بعدد كبير من الاكتشافات والاختراعات، ومات فقيرا معدما وحيدا كنيقولا تسيللا، باعتباره فاشلا من وجهة نظرهم، حتى وإن كان عبقريا.
هذا الهزل المسمى بالداروينية الاجتماعية، قبل أن يكون التفسير الداروينى للتطور بريئا منه فى الأصل، تفنده الأبحاث العلمية الجديدة فى علم البيولوجيا، التى تقر بأن التعاون كالتنافس عامل من عوامل التطور، بل وهو الأكثر أهمية فى تلك العملية، وربما كان هذا الفصل هو أصعب الفصول نظرا لتناوله قضية علمية فى واقع ثقافى لا يعير العلوم الطبيعية الاهتمام الواجب إلا انه بالغ الأهمية فى نفس الوقت.

هناك اتجاهات مختلفة لفهم وممارسات الحركة التعاونية وأهدافها، فهناك من ينظرون لها من زاوية تنموية فقط، أو من زاوية إصلاحية لعيوب الرأسمالية، وآثارها الضارة فحسب، ولكن هناك من ينظرون لها من زاوية تحررية بالدرجة الأولى، تسعى لتجاوز الرأسمالية والسلطوية، وهناك من يجمعون بين الفكرتين على أساس إنه لا انفصال بين التقدم والتحرر، فكل منهما يؤدى إلى الآخر، فكلما تقدم البشر زادت فرص تحررهم، وكلما تحرر البشر زادت فرص تقدمهم، فمقارنة إنتاجية العبد، بإنتاجية القن (عبد الأرض التابع للاقطاعى)، بإنتاجية العامل المأجور سواء لدى الدولة أو رأسالمال، بإنتاجية المنتج الحر، تؤكد على أن هناك تناسب طردى بين التقدم والتحرر لاشك فيه، ومن هنا جاء عنوان الكتاب الذى يسعى لفهم وعرض التعاون باعتباره أداة لكل من التقدم والتحرر على السواء، دون التركيز على جانب دون الجانب الآخر، وأرجوا أن أكون قد استطعت تحقيق ذلك دون اخلال بالتوازن المطلوب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن