مفهوم الموت في المجتمع العراقي

محمد لفته محل
free_thinker1978@yahoo.com

2015 / 5 / 13

شغل الموت الإنسان منذ بداية التاريخ فإنسان النياندرتال الأوسط، قام بدفن موتاه وفق طقوس معينة تدل على موقف أيديولوجي متماسك، فالجثث كانت تدفن في حفر كل على انفراد، وكانت تتوجه الجثث وفق محور شرق غرب، مع عناية خاصة بالرأس حيث تتم حمايته بأحجار كبيرة، وإحاطة الجسد في بعض الأحيان ببراعم وأزهار من أنواع منتقاة، وفي حالات عديدة تقديم قربان حيواني عند الدفن، مع تقديم هدايا جنائزية من أدوات أو عظام حيوانية منتقاة(1)، وهناك حالات نادرة على الاحتفاظ بجمجمة الميت وعرضها في مكان بارز في كهف السكن سماها علماء العصر الحجري هذه الشعائر الجنائزية (عبادة الأموات)(2) وتنوعت هذه المعتقدات بحسب الثقافات التي ينتمي إليها الإنسان، أما بالنسبة ألينا فيمثل الموت في المجتمع العراقي قدر رباني يحدد منذ يوم الولادة بالسماء وبعض الناس تعتقد انه مكتوب على جبين الجمجمة وكما يقال (المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين) ولذلك يسمى الموت (وفاة) و (أجل) وكلاهما يعني بمعنى الوعد الذي يجب أن يوفي به الإنسان، فالموت كما يقال (بيد الله) وهناك تسميات ذات دلالات نفسية واجتماعية مثل (أخذ أمانته، أجه يومه، أجت منيته، خلصت خبزته) وهي كلها تؤكد قدرية الموت بمعزل عن الأسباب الطبيعية التي يرها الناس مجرد مظهر خارجي لقدرية الموت، فلا عجب في هذا المنظور أن يموت الإنسان فجأة بدون مرض أو كهولة، لان الله أراد ذلك لذلك سمي الموت (حق) وعليه قيل (الموت حق علينا)، هذا هو المنظور الاجتماعي والديني، أما الموقف الاجتماعي من الموت فيعتبر الخوف منه شيء معيب ودائما يردد العراقي (والله ما خاف من الموت) لان من الشجاعة مواجهة الموت، بل هناك قيم تمجد الموت على الحياة مثل عبارة (شلك بالروح تداريها، للموت أولها وتاليها) أو (تاليتها للدود) فلا داعي لحب الدنيا، والعراقي دائما يضع الموت أمام عينه أكثر من الحياة لذلك يقول دائما حين يواعد شخصا (إذا الله خلانا طيبين، أو إذا ضلينا عدلين) (إذا ما اخذ أمانته) وكما كان يقول أبي (نفس يصعد بعد ما ينزل) وإذا ناقشته خلاف ذلك قال (أنت تضمن حياتك لباجر؟) أو (منو أبو باجر؟) لكن عمليا العراقي كأي إنسان يحب الحياة ويخشى الموت ويميل للتفاؤل والتوكل على الله كي يعينه في حياته، فنحن ندعو للشخص بطول العمر والصحة والعافية (الله يطول عمرك) أو (الله يخليك، الله يسلمك) ونسأل عن الصحة في كل تحية نوجهها للآخرين لأننا نعتبرها أثمن الأمور، حتى أن كلمة (دايم) التي تعني دوام العمر أصبحت كلمة شكر، أما جملة (طلعان الروح أو طلعت روحي) التي تلمح للموت فهي تقال في اللحظات الصعبة والمتعبة، ونحن لا نستعمل كلمة موت إلا في المواقف السلبية مثل (متت من القهر، متت من التعب)الخ وحتى عندما تستخدم بالحب فهي أما تدل على التضحية أو لوعة الحب، وهذا دليل على حب العراقي للحياة. المشكلة التي تنشأ هي بما أن الله مسؤول عن حدث الموت تصبح الأسباب الدنيوية مجرد وسيلة وليس سبب، فالذي يقتل ظلما يصبح هذا القتل بأمر من الله بواسطة القاتل! ومنطقيا يصبح الجاني ضحية مع المقتول! لان الله قد رسم لهما المشهد منذ الولادة أو قبل حتى أن يولدون، ورغم هذه الإشكالية المعرفية يتصرف العراقي مع القاتل كمسؤول عن جريمته فيأخذ ثأره بيده أو يقتص منه بالقانون تاركا فرضية القدرية خلف ظهره، وهكذا يعيش تناشز معرفي في مفهومه عن الموت. وإذا ركزنا حول مفهوم الموت في ذهن العراقي فأن كل تصوراته تتركز حول توقيت الموت وليس الموت بذاته، فالموت ظاهرة طبيعية يدركها العراقي ويسميها (حق) لكن توقيت الموت هو الذي يأخذ معنى ديني فيسمى (اجل، وفاة، منية) وهذا ما شغل العراقي أكثر من الموت نفسه حيث اخذ يربطه بأسباب ميتافيزيقية، فالموت ظاهرة طبيعية لكن توقيته ذو أسباب غير طبيعية. واعتقد أن هذه النظرة لتوقيت الموت جائت من كثرة ما تعرض له العراق خلال تاريخيه من حروب بين الدولتين الصفوية والعثمانية على ارض العراق وما تعرض له الناس من ظلم وفقر ومرض على يد الأنظمة المستبدة لذلك أعطي توقيت الموت هذه الصورة، أما كيف انتقل توقيت الموت من الأسباب الطبيعية إلى الأسباب الميتافيزيقية فهو بسبب من عجز الناس عن الحفاظ على حياتهم حيال صراع خارجي دموي وحكم قاهر متسلط لا يقيم أي وزن لحياة البشر، وظروف سلبية كالأمراض والأوبئة والفيضانات الدورية، كذلك أن ملالي السلطان قام بترويج فكرة (أن هذا هو غضب الله على الناس بسبب ذنوبهم) فما كان من الناس إلا نقله بيد الله لعلهم يسترضوه ويسترحموه على ذنوبهم حتى يرحمهم بتوقيت الموت. لهذا نرى العراقي لا يبالي بالسيارات المفخخة ويزاول عمله يوميا وحياته كالمعتاد في كل يوم وذلك لقناعته أن الله هو الذي يحميه من الموت (الله الستار، الستر من الله) وهو الذي بيده إنهاء حياته (الكاتبه إلنا الله يصير أو ياخذ أمانته).
وإذا أردنا أن نفهم طبيعة الموت في المجتمع العراقي يجب أن نسلط الضوء على الطقوس المرافقة للموت التي تجسد فلسفته تجاه الموت، من عادات مجتمعنا أن يلبس الأسود وتربى الذقن عند الوفاة ويشيع الميت بالتابوت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، ثم ينصب له مأتم لمدة ثلاث أيام تذبح القرابين وتقدم الولائم للناس وبعد سبعة أيام يقام له وليمة ليوم واحد، وبعد أربعين يوما يتوجه أقارب الميت إلى زيارة أولى لقبره يقرأ عليه القرآن وتشعل الشموع ويرش عليه العطر وماء الورد، ثم تنحصر الزيارات في الأعياد والذكرى السنوية لوفاته. وهذا كله لاعتقادهم أن الموت هو مرحلة انتقالية لحياة أخرى يمكن التواصل مع الميت بالقرابين (نذر) والزيارات للقبر أو يتواصل الميت معهم بالأحلام، إلا أن ذلك لا يخفف من صدمة الموت على أسرة الميت وعلى الجماعة أيضا التي تتولى الإشراف على تأهيل الميت للحياة الأخرى، وتتماسك وتتضامن مع أسرة الميت في وجه صدمة الموت لبث الاستمرارية الحياتية فيها، ولولا الجماعة لربما فقد الإنسان أي معنى لحياته. وهذا أمر خاض فيه علماء الأناسة والاجتماع وانتبهُ إلى أهمية طقوس الموت عند المجتمعات البدائية، يعتقد عالم الاجتماع (أميل دوركايم) إن الجنازة هي تعبير عن ديمومة الجماعة بعد رحيل الفرد وهي بالتالي تعين المفجوعين من أهل الميت على التكيف مع الظروف المتغيرة، والحداد ليس تعبيرا عفويا عن الحزن بل هو واجب تفرضه الجماعة(3) أما الانتروبولوجي (برونزلو مالينوفسكي) فيعتقد أن الطقوس المرتبطة بالموت (تعمل على تقوية الرابطة بين الأحياء بعضهم ببعض، كما تحميهم من حالة انعدام المعنى بالحياة الاجتماعية)(4) فالجماعة تتولى مواساة أهل الميت بتجديد تماسكها وتضامنها حولهم بوجه الموت، باحتضانه وعدم تركه يسيطر عليه اليأس والتشاؤم، كذلك إن الجماعة تشرف بنفسها على طقوس التشييع والغسل والدفن لتأهيله إلى الحياة الجديدة (الحياة الأخرى) بعد الموت، والتواصل معه بالقرابين، فالتشييع هو إشهار الموت للجميع وطقوس الغسل هي تطهيره للحياة المقبلة ومنع التواصل الجسدي معه لأنه أصبح نجسا مع ملابسه، أما التكفين والدفن فهي أشبه بالزي والمنزل الجديد الذي يحيا فيه ويتواصل مع الأحياء من خلاله وأخيرا فان المأتم له وظيفة مزدوجة هو قرابين تقدم للميت ولم شمل الجماعة حول أهل الميت، وهذا الطعام الذي يقدم للميت هو تواصل أيضا بين عالم الأحياء والأموات فوظيفة المأتم التواصل بين الأحياء كنوع من قهر الموت وهو تأكيد على خلود الجماعة وانتقال الفرد لحياة أخرى وعبارات التعزية تدل على ذلك فعبارة (البقية بحايتك، الخلف ما مات) أو عبارات دينية (البقاء لله، ما يدوم إلا وجه الكريم، الله يرحمه) أو توجيه التحية للجنازة، كلها تؤكد استمرار الحياة بمواجهة الموت، وفي التشييع والدفن يكون الجو النفسي للجماعة خاشعا لطقس تأهيل ألميت، والحديث عن الميت يختلف عنه أثناء حياته فيجب أن تذكر محاسنه ومواقفه الايجابية وموقف الأشخاص الجيد معه وآخر مشاهدة يتذكروها مع الميت، والأقرباء يدعون أن الميت لمح لوفاته في آخر أيام حياته، وهكذا فالجماعة لا تترك الفرد بمواجهة الموت وحده تلتف حوله وتشرف بنفسها على تأهيل الميت للانتقال للحياة الجديدة، وعادة تقديم القرابين على الأموات ظاهرة مغرقة بالقدم تاريخيا كما كشفت عنه الأبحاث الأناسية التي نتجت عنها ديانة عبادة أرواح الأسلاف(5) وما الحداد سواء باللبس الأسود عند النساء وتربية الذقن عند الرجال والامتناع عن الضحك إلا علامة دالة على أسرة الميت وهو إشهار ضروري للجماعة، أما غلق عينين الميت وتغطية وجهه والبكاء ونتف الشعر واطالته وتمزيق الثياب والتمرغ بالتراب فهي تقليد عراقي قديم مارسه جلجامش على صديقه انكيدو عند وفاته(6) وفي التكفين يبقى الوجه الشيء الوحيد المكشوف ربما للتواصل مع العالم الآخر. فالموت ظاهرة تخص الجماعة وليس الفرد وهي التي تصوغ المفهوم والمعتقدات والطقوس حوله. والجماعة تبقى مع الفرد حتى بعد موته فهي كما قلنا تؤهله للعالم الآخر بالتشييع والغسل والتكفين والصلاة عليه والدفن وإقامة العزاء ثم تقديم الأضاحي له وزيارة قبره وفعل الأعمال الخيرة لزيادة حسناته في العالم الآخر إذا لم تكفيه أعماله، فالفاتحة التي تقرأ على روحه بعد الطعام ونسب الأعمال التي تقوم بها أسرته باسمه كلها اجر للميت وتواصل روحي معه.
وإذا لاحظنا العبارات التي تكتب على اليافطات نرى فيها مضامين اجتماعية (انتقل إلى رحمة الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، إن وعد الله حق) فالجماعة تؤكد استمرار الحياة للميت بمعتقداتها الدينية، وتؤكد استمرار الحياة للجماعة بتواصلها الجمعي، وكلاهما عزاء للإنسان يقويه بمواجهة الموت.
ــــــــــــــــــــ
1_ فراس السواح، دين الإنسان، منشورات علاء الدين، دمشق 1998 ، ص127.
2_نفس المصدر،ص 212، 213.
3_أنتوني غدنر، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: الدكتور فايز الصياع، المنظمة العربية للترجمة، مؤسسة ترجمان، توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة، ص581.
4_د.مهدي محمد القصاص، علم الاجتماع الديني، دار نيبور للطباعة والنشر والتوزيع_العراق، الطبعة الأولى 2014، ص86.
5_علي سامي النشار، نشأت الدين، النظريات التطورية والمؤلهة، دار النشر الثقافة بالإسكندرية، 1949، ص38.
6_فراس السواح، جلجامش، ملحمة الرافدين الخالدة، دراسة شاملة مع النصوص الكاملة وإعداد درامي، منشورات دار علاء الدين، الطبعة الثانية 2002، ص62، 63.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن