ج3 / ف 4 : انعكاسات الانحلال الخلقى فى المجتمع المملوكى: الفُحش فى الكلام

أحمد صبحى منصور

2015 / 5 / 7

ج3 / ف 4 : انعكاسات الانحلال الخلقى فى المجتمع المملوكى:الفُحش فى الكلام
كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية
الفصل الرابع: انعكاسات الانحلال الخلقى الجسدى فى المجتمع المملوكى
ــ الفحش فى الكلام : ــ ( الأولياء ، المماليك ، فى الشعر ، العامة، وبعد العصر المملوكى .)
انعكاسات للانحلال الخلقى
لم يكن لهذا الكم الهائل من الانحلال من الزنا وأنواع الشذوذ والخمر والحشيش ــ أن تكون مجردة من التأثير فى نواح مختلفة فى السلوكيات المنحلة فى اللفظ والنطق وفى الجرائم وفى اتجاه الفن وأنواع الزى .
الفحش فى الكلام :
نقصد هنا الألفاظ الجنسية الفاحشة التى يستحى الانسان العادى من النطق بها ومن سماعها .
فإدمان الفاحشة جعلها تعايش اللسان فى العصر المملوكى نطقا وكلاما، فتعود الناس على الفحش فى الكلام ، ولم يعد عيبا يتحرج أحد منه .
الفحش لدى الأولياء الصوفية والفقهاء :
1 ــ الأولياء الصوفية ــ قدوة العصر ــ كانوا أول من جرأ الناس على الفحش فى الكلام تبعا لانهماكهم فى الفاحشة ، فالشيخ علاء الدين بن موسى شيخ التصوف الأشرفية برسباى( كانت به جرأة بلسانه على مالا يليق ، وفحش فى مخاطبته عند البحث معه) . وكان الشيخ أبو نافع كان من أعيان الصوفية فى القرن التاسع . قال عنه المؤرخ السخاوى ( شيخ مسن من صوفية البيبرسية ، كان كثير المماجنة والدعابة ،غير متحرز فى ألفاظه وحكاياته . سمعت من ذلك جملة بباب البيبرسية .
ويقول السخاوى عن البدر المناوى( لم ينفك عن ملازمة المزاح والكلمات اليابسة) . ووصف البقاعى زعيم الطريقة الفارضية فى عهده بأن ( له وقاحة زائدة، واجتراء على الجلوس فوق من هو أفضل منه ، وأنه لايستحى من شىء.
2 ــ وعلى نفس الوتيرة كان الفقهاء والقضاة وقد رأينا طرفا من ذلك . ويقول ابن حجر فى شمس الدين القبارى الحنبلى وكان من قدماء الحنابلة ومشايخهم أنه ( كان يبتذل ويتكلم بكلام العامة) وقد أنكر عليه ابن حجر أكثرة من مرة .
3 ــ وفى عصر الشعرانى كان المجاذيب طائفة كبيرة متميزة يتمتعون باعتقاد الناس فيهم مهما فعلوا ومهما قالوا، ويقول الشعرانى فى ترجمة الشيخ عبدالقادر السبكى ( كان لايصبر على معاشرته إلا أكابر الفقراء) أى أن كبار الصوفية أنفسهم لا يستطيعون تحمله( وكان يتكلم بالكلام الذى يستحى منه عرفا ) . ويمكن أن نتخيل مقدار الفحش إذا أدركنا أن عصر الشعرانى حفل بكل تطرف فى السلوك والأقوال ، ومع ذلك فإن العرف فى ذلك العصر كان يستحى من كلام عبدالقادر السبكى.
الفحش لدى المماليك والأعيان :
1 ـ والمماليك كانوا ضحية للتصوف الذى إعتنقوه دينا عمليا يُمثّل الاسلام فى نظرهم . لذا كانوا على نفس المستوى من الفحش خصوصا مايبعث منه على التندر ، فيروى أن الشاعر الدمشقى يوسف ابن لؤلؤ جاءه مملوك من مماليك الناصر فقال له ( أعندك خاتم على قدر أصبعى ؟ فقال له بل عندى أصبع على قدر خاتمك) فبلغت الواقعة للناصر فلم يغضب لهذا الفحش مع مملوكه بل استظرفه ، وكان ذلك سبب اتصال الشاعر به .
2 ــ ووصف السلطان المؤيد شيخ (ت824) بأنه(كان فاحشا سبابا) .
وفى سنة 849 سقطت منارة المدرسة الفخرية وأصابت الكثيرين فاغتاظ السلطان جقمق وطلب الناظر على المدرسة وشتمه بأقبح الألفاظ . ويقول أبو المحاسن فى نفس الموضوع أن السلطان استدعى ناظر الوقف ونائب الشافعى ورسم بتوسيطه، بعد أن سبه ولعنه ، ثم التفت السلطان إلى القاضى الشافعى ( فخاطبه بمخاطبات مُنكية يُستحى من ذكرها وعزله ) . أى كان يُستحى من ذكرها فى عصر الفُحش نفسه .!
3 ــ ويبدو أن إفحاش السلاطين فى القول كان عادة تعود الناس عليها منهم ، لذا مدح االمؤرخ أبوالمحاسن السلطان الأشرف إينال ت 865 بأنه ( كان غير سباب ولا فحاش فى لفظه) . هذا بينما وصف أبوالمحاسن طائفة من الأمراء المماليك بالأفحاش فى اللفظ مثل سيف الدين فخرى بردى
4 ــ وبعض المماليك خلط تصوفه وحبه الصوفية بعادته فى الإفحاش فى اللفظ لأنه لا تعارض بين الجانبين مثل الأمير ايمتش الخضرى 846 الذى كان قارئا للقرآن محبا فى قرائه الذين يتغنون به فى المؤسسات الصوفية ( مع شرّ فيه وبذاءة لسان) . وكان تغرى بردى بكلمش ت846 قد عمر مدرسة فيها صوفية (مع سبه وفحش لفظه) .
5 ــ ولم يتخلف كبار الدولة المملوكية عن الركب ، فكان عز الدين البكرى فحاشا ( لم يسلم الناس من لسانه) . والوزير البباوى 866( كان به قلة أدب وفحش فى ألفاظه فى مخاطبة الرؤساء والأعيان ) .
6 ــ وأتت البذاءة المفحشة ــ أحيانا ــ بمصائب سياسية ،فالأمير بردبك العجمى كان نائبا على حماة فافحش القول لأهلها فنفرت قلوبهم عنه فقاتلهم ، فغضب السلطان عليه ، فخرج عليه ، ثم انتهى به الأمر بالاستسلام للسلطان فاعتقله بالاسكندرية .
الفحش فى الشعر والأدب والفن والمؤلفات :
1 ــ وأبرز مظاهر الإفحاش اللفظى كان فى الشعر المملوكى خصوصا ماكان منه ساخرا هاجيا ، فالبوصيرى الشاعر الصوفى المشهور يقول عنه المقريزى ( كان ممقوتا لإطلاقه لسانه فى الناس بكل قبيح) . وفى مجال السخرية والهزل اشتهر الكثير من الشعراء مثل الأسعردى(ت656) وقد روى الصفدى له أبياتا خارجة مكشوفة نستحى من ذ كرها. ويقول عنه ( له ديوان شعر مشهور ، وقد أفرد هزلياته وسمى ذلك سلافة الزرجون فى الخلاعة والمجون)
2 ــ وبعض القضاة وجد مجاله فى الشعر يتنفس به فُحشا، فالسراج البلقينى 805( كان يتعانى نظم الشعر فيأتى بما يستحى منه، وقال البدر البشتكى أن الشيطان وجد طرقه عند البلقينى مسدودة فحسن له نظم الشعر ) .
3 ــ وتكاثرت هذه النوعية من الشعر والشعراء فى القرن التاسع ، فيقول أبوالمحاسن أن الشيخ الحلاوى كان يضرب بلحيته المثل فى الطول ، وفيها قال الدجوى قصيدة أنشدها لأبى المحاسن وقال عنها المؤرخ ( اضربت عن ذكرها لفحش ألفاظها ) ومع ذلك فإن أبا المحاسن أنشد شعرا فظيعا لشاعر البلاليق أبوالفياح السعدى .لانستطيع ذكره ، وكان فى الشذوذ الجنسى ، ويظهر إلى أى حد كان ذلك الوباء منتشرا وعاديا لايستوجب الإمتعاض.
وواضح أن الانحلال الخلقى الذى ادمنه العصر المملوكى جعل الناس يعتادون التعبير عنه بالألفاظ الصريحة الفاحشة ، وتكاثر ذلك فى المصادر التاريخية والصوفية وقد أرغمنا ذلك على الاستشهاد ببعضها من الذى ورد فى مصنفات أعلام المؤرخين والصوفية مثل المقريزى والشعرانى وغيرهما ، وكنا نقدم الإعتذار عنها، ولازلنا.
وأشد منه أفحاشا ما كان شعرا ماجنا فى الجنس والشذوذ ، وقد أورد الصفدى ( 696 ـ 764 ) بعضه فى شرح لامية العجم . ولانستطيع الإتيان بشىء منه . وهذا الكتاب ( شرح لامية العجم ) يعبّر عن الذوق الهابط الفاحش للعصر المملوكى ، وبعض هذا الشعر للصفدى والآخر لغيره . ويحوى الكتاب على نثر غاية فى الفُحش أيضا . وابن ايبك الصفدى كمؤرخ لم يتورع أن ينثر فى موسوعته التاريخية ( الوافى بالوفيات )( 30 جزءا ) أشعارا ونثرا فى الشذوذ الجنسى وغيره ، بعضه له وبعضه لمعاصريه ، ولا نستطيع الاستشهاد بها هنا لفرط فُحشها . وواضح أنه كان مفتونا بهذا الفٌحش ، وقد كتب موسوعته التاريخية ( الوافى بالوفيات ) عام 742 وفقا لما قاله بنفسه فى هذا الكتاب ( 2 / 336 ) . ولقد ذكر فيه بعض من تخصّص فى الأدب الفاحش مثل النور الأسعردى المتوفى عام 656 ، وقال إنه صاحب كتاب ( سلافة الزرجون ) ولقد إصطفاه السلطان الناصر ، وأن له شعرا غاية فى الفُحش. ( الوافى 1 / 188 : 189 ).
والأفظع ماأورده ابن دانيال فى مسرحياته الثلاثة (طيف الخيال ، وعجيب وغريب ، والمتيم والضائع المتيم) ، ففى الأولى تناثرت بعض الكلمات العامية مع كلمات أخرى فاحشة بذيئة وغيرها عريانة متهتكة أوصافا لخواطر جنسية شاذة وغير شاذة ، وفيها يأخذ الأمير وصال فى تذكر لياليه الجنسية الصاخبة ويصفها بدقة فى كلمات فاحشة ، وفى الثانية يأتى غريب بأبيات فاحشة تتعرض للشذوذ والدعارة الشاذة فى الفاظ صريحة سوقية جارحة للذوق والحس الخلقى ولايمكن إثبات بعضها أو التلميح إليها أوإبدال بعض حروفها ، وفى الثالثة تتطور العلاقة بين المتيم والمتيم الضائع إلىمواقف غزلية منحطة قذرة شكلا ومضمومنا مما يثير الإشمئزاز والغثيان
وقد كانت المسرحيات أو ( البابات) تلقى على مسامع الناس ويقبلون على مشاهدتها وقراءاتها وبذلك اكتسبت شهرة حتى عصرنا واكتسب صاحبها ابن دانيال نفس الشهرة.
وتسربت مؤلفات تخصصت فى الفحش يكتبها علماء مشهورون لا يجدون فى الفُحش عيبا بسبب هبوط ذوق العصر ( الخالى من الذوق ) .السيوطى مثلا لم يتورع أن يجعل هذا العنوان لكتابه ( نواضر الأيك فى معرفة النيك ) لأن هذا الكتاب متخصص فى موضوعه . والسيوطى كعادته يسرق كتب الآخرين ويلخصها . وكتابه الفاحش هذا بعنوانه الفاحش هو تلخيص لكتاب ( الوشاح فى فوائد النكاح ) . وقد ملأه السيوطى بألفاظ فاحشة للعملية الجنسية والأعضاء الجنسية ،والجديد الذى قام به السيوطى هو تغيير العنوان من ( الوشاح فى فوائد النكاح ) الى ( نواضر الأيك فى معرفة النيك ). وله كتاب جنسى آخر بدون عنوان فاحش هو ( رشف الحلال الزلال ) عن تفاصيل العملية الجنسية ليلة الزفاف، وكتابه ( رقائق الأترج فى دقائق الغنج ) عن ( غنج الحور العين ) كما لو كان عارفا به .
ومع هذا ، فإن بعض المخطوطات المكتوبة فى العصر المملوكى أفظع مما كتبه السيوطى ، وهى لا تجد من يحققها وينشرها بسبب ما فيها من كلام فاحش شديد الفُحش ، تخجل منه أفلام البورنو .
فُحش العامة :
1 ــ من أخلاق العوام عموما الفُحش فى القول بدون حاجة الى دين أرضى يعلمهم هذا . ولأنهم عوام فلم يهتم بهم المؤرخون فى العصر المملوكى الذين يدورون حول السلطان ورجال الدولة، ولا يهتمون بالعوام إلا إذا إقتربوا من بؤرة الأحداث حول السلطان . ومن المنتظر أن يتعاظم تأثر العوام بالتصوف فى العصر المملوكى ، فمارسوا الفحش فى الكلام بأعلى صوت . يقول عنهم السخاوى وقد تظاهروا وقت الغلاء ( اجتمع منهم خلق من داخل باب زويلة إلى تحت القلعة ، واكثروا الاستغاثة والصياح والشنعة مع السب واللعن والتهديد والتصريح بالعيب الذى ليس له مزيد من غير إفصاح بمراد ولا إيضاح بشىء مستقر فى الفؤاد، لكثرة غوغائهم ولغطهم ودعائهم إلى أن اجتاز بهم المحتسب .. فأخذوه بتلك الألسنة وأوسعوه من الإساءة المعلنة ولم يتحاشوا عن القذف بالتصريح والإيماء .. إلى أن طلع القلعة بعد أن ملأ من السوء سمعه) .
والتطور الذى أدخله التصوف فى العصر المملوكى هو أنه أضفى على فحش العامة سمة الشرعية فكان الأولياء الصوفية يمارسونه دون تحرج ثم كان المماليك ،وعليه فلا حرج على العامة إذا صاحوا به فى وجه الحكام .
2 ــ وورث المصريون بعد العصر المملوكى ذلك الفحش فى الكلام ضمن ما ورثوه من انحلال خلقى ، وحافظوا على ذلك التقليد بعد العصر المملوكى ، يقول كلوت بك عن المصريين العوام ( وفى أحاديثهم الماجنة قلما يحرصون على الآداب أو يتصونون عن القبائح ، إذ يعبرون بفاحش القول عن الآراء التى يجفل من الإنصات إليها السمع الكريم ، ونادرا ما تجد بين النساء حتى الفضليات منهن من يتحاشين تلويث كلامهن بالألفاظ القذرة ذات المعانى المعيبة ) .
وفى عصرنا الحديث قال أحمد أمين عن المصريين وسبابهم( وبعض أنواع السباب فاحش يخجل منها المثقف)
ولو عاش الأستاذ العميد ( أحمد أمين ) عصرنا البائس ودخل قسم البوليس فى دولة عربية لرأى أهوالا وسمع أهوالا .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن