رحلات الصد ما رد...

عماد حياوي المبارك
emadhayawi@yahoo.co.uk

2015 / 5 / 7

فاسكو دي جاما
ورحلات (الصد ما رد)

تُلفتُ نظري عملية تقوم بها منظمات حماية البيئة والحفاظ على الحياة البرية بإطلاق حيوان أسير نحو بيئته الأصلية، غابةٍ أو أحراش وما شابه...
أول ما يقوم به الحيوان وبسرعة هو استكشاف المحيط من حوله وكأنه تائه لا يعرف كيف والى أين يتجه، لكنه بعد حين يبدأ بالتعوّد ويبحث عن مأوى وعن مصدر طعام أي يتأقلم مع محيطه.
والان لنتخيل أنفسنا يوماً ـ نحن البشر ـ نُطلق في بريّة فنجلس بمكان غريب لا نعرف ما يحيط بنا، ولا ندري من والى أين تتجه الطرق أمامنا.
أول ما سنفعله، نترقب ونستطلع ماا حولنا لغاية ما تصبح لدينا فكرة، ثم وبدافع الفضول وحب المعرفة نستمر باستبيان الأماكن الأبعد، وكلما نتعرف أكثر كلما نشعر بأمان وطُمأنينة أكثر.

من هذه المقدمة، أتخيل لو نضع أنفسنا في زمان ومكان محددين، انه القرن الخامس عشر وفي أوربا بالتحديد، الشغل الشاغل للناس، ملوك وأمراء، مستكشفين ومجازفين وعامّة، أستبيان أطراف العالم من حولهم، فلا كروية الأرض قد أثبتت بعد، ولا هم يعلموا ما خلف المحيطات...
كل ما يعلموه ان الشرق يمتد إلى الهند والصين وكأنهما حافات العالم، ويعلمون أيضاً بأن الشمال يغوص ببحر من الجليد مترامي الأطراف يصعب عليهم الغور فيه، والمحيط الاطلنطي يمتد جهة الغرب لما لا نهاية، وليس هناك الى الجنوب حيث الصحراء الأفريقية ولا شيء بعدها سوى رمال تغرق فيها القوافل فتصدها ولا تردها...
وأنقسم العالم حينذاك، بين من يرضى بآراء الكنيسة بأن الأرض مستوية وما نعرفه هو حدود العالم وعلينا التسليم بذلك، وبين رافض لها ومقتنع بوجود سر لم تصله يد المستكشفين الشجعان بعد، وهو بحاجة لإثباتات عملية غير تلك النظريات التي جاء بها الإيطالي (غاليلو غاليلي) مكتوبة على ورق، سرعان ما أحرقته الكنيسة لطمس أي اجتهاد يصل بالعالم لنتيجة قد تكون مخالفة لكلامها.

... الكل يتساءل، الكل يلح في البحث عن جواب، جواب واحد محدد:
(إلى أين تمتد الأرض من حولنا، وهل لها حافة أو هاوية أو جدار، أم أنها تذهبُ بنا إلى ما لا نهاية، وهل يا تُرى يسكنها أقوام أخرى من بشر لم نتعرف عليهم بعد؟)
أسئلة كثيرة لم يستطِع أحد من الإتيان بإجابة قاطعة لها، فمن ذهب في عمق الصحراء الأفريقية، ابتلعته رمالها، ومن تحدى ثلوج الشمال قتلته متجمداً، ومن ركب المحيط، انقطعت أخباره واختفت آثاره...
لم يعُد لنا أحداً من مغامرته ليحكي لنا تفاصيل ما حصل في البحث عن جواب، ومن عاد إدراجه، كان قد خانته جرأته في الاستمرار للأمام.

كان الملوك يتلهفون لكشف الحقيقة، وصارت حدود العالم المترامية الأطراف تُشعرهم بأنهم في سجن كبير لو لم يتعرفوا على حدوده مهما كانت بعيدة، فمولوا أية وسائل ممكنة للظفر بإجابة... كانت الأيام تمر والتاريخ لا يسجل أي تقدم يذكر.
الجميع منقسمون حول القناعة بكروية الأرض، ولا احد يعلم مدى حجم الأرض وكيف هي والى أين تمتد، وما الذي ممكن أن يحدث لو مخر الإنسان بعباب بحارها ودخل في مجاهلها دون أن تلفه المنية، وهل من عاقل يقتنع بأن من يتجه للشرق، يمكن أن يعود لدياره من جهة الغرب أو بالعكس؟
أي هراء هذا الذي يتبادله العقلاء!
كانت خارطة العالم ترسم على أرض مستوية، ومتكونة من ثلاث قارات مجهولة الأطراف، ومحيطين أطلسي مغلق للشمال وهندي مغلق من الجنوب، وهو ما كان معتمد حتى القرن الثالث عشر، لا وجود للأمريكتين وإستراليا، ولا حتى لشرق آسيا أو جنوب أفريقيا.
كان المحيط الأطلنطي هائجاً كئيباً مليء بمكامن الرُّعُب والمجهول، وكان على الربابنة أن يحسبوا حساب تموين العودة فيما لو جازفوا وأبحروا فيه، أي يحسبون حساب كميات طعام تكفي رحلة العودة فيما لو ساروا أياماً وشهوراً بلا هدى وقرروا العودة أدراجهم، كانت الغالبية على ادراك بأن سفنهم ـ ان هم جازفوا ـ ستصل حافة الأرض لتهوى في هوةٍ ليس لها قرار!
× × ×

التوابل، هي كما يقولون لو فُقدت من على المائدة فقد الطعام نكهته، وهو أمر حقيقي في أيامنا هذه، لكن في السابق كان لها فائدة أهم واكبر، بحفظ اللحوم فترات أطول، فبغياب وسائل حفظها التي نعرفها اليوم كالتبريد والتعليب والتفريغ الهوائي وغيرها، ما كان يمكننا أن نأكل لحم الجمال في أسكننافيا، ولا لحم الدببة في الجزيرة العربية...
فتتبيل قطعة لحم الضّان تحفظها لفترة اطول وتمنحها النكهة لتـُثير الشهية فينا أكثر، وهو أمر بالنسبة للمائدة الأوربية هام جداً.

كل انتاج التوابل (الفلفل الأسود والقرفة وجوزة الطيب الزنجبيل وغيرها) وخبرة زراعتها وجَنيها وتجفيفها وتهيئتها وتصنيفها يتم في الهند، والأنسجة الحريرية الفاخرة الناعمة الملمس تُنسج في الصين وبأسعار رخيصة، كل ذلك كان يتم مقايضته مع التجار الأوربيين عن طريق التجار العرب أو يصلهم (بطريق الحرير)، وهما وَسيلتي إيصالهما لأوربا في ذلك الزمان لا ثالث لهما، فطريق البحر الذي يبدأ من موانيء غرب الهند (كلكتا وكراجي ومومباي وغيرها) يحتكره العرب*، حيث ينقلوا بسفنهم التوابل والشاي الى شواطيء الجزيرة العربية او من خلال البحر الأحمر لمصر، ثم عن طريق البحر المتوسط تُوَزّع لأوربا وللجزر البريطانية.
ولما كان طريق الحرير ابطأ وباهظ الثمن ـ لانه برّي ـ ولا يتسع للطلب المتزايد على ثروات الهند والصين، كما لخضوع قوافله إما لمزاج حكام المناطق أو لغزوات قطاع الطرق، مهد الفرصة للتجار العرب باحتكار* السوق أمام الأفراد والشركات الأوربية المستوردة...
هؤلاء المستوردين هم من كانوا ـ في واقع الأمر ـ يدفعون بالمغامرين لإيجاد طُرق بديلة، بينما يستمرون باستخدام التعاطف الديني للحصول على مواطئ قدم لهم في تلك المحطات والمدن المنتشرة ببلاد العرب وبلاد فارس، فتبنوا حملات تبشيرية خططوا لها، ظاهرها ضد المد (الإسلامي) الذي يقوم به التجار العرب.
إذاً كان التمويل لرحلات الاستكشاف، ظاهره حب المعرفة، لكن كان في باطنه حُب بشكل آخر... للتوابل!
× × ×


اولى محاولات البحث عن طريق بديل للهند، هي من قبل تجار (جنوا) بإيطاليا في عام 1455، باءت بالفشل وكانت بالفعل ( رحلات الصد ما رد).
ومع ذلك، فإن مغامران وصلا في إبحارهما بالمحيط الأطلسي جنوباً باتجاه خط الاستواء ليصلا لجزر (فيرد ـ هي اليوم جمهورية الرأس الأخضر) ليعودا ويصفا كيف وصلا المجهول في رحلة رُعب.
وفي 1488 استطاع بحار برتغالي يدعى (دياز) من الإبحار بجنوب بحر العرب بموازاة الجروف الشرقية لأفريقيا، ووصف بعض التجمعات البشرية عند مصاب الأنهار، ولما استقبلته عواصف هوجاء وهيجان البحر، عاد إدراجه ليقول بأن ثمة دلائل تُشير الى نهايةٍ ما للبر الأفريقي، لكنه أضاف بأن ثمة سنون جبلية أسماها (صخرة الشيطان) قد بدت له بين الضباب من بعيد وكأنها تنبهه بضرورة التقهقر والعودة، فسمّى نقطة الأفق تلك بـ (رأس العواصف).
لكن ملك البرتغال امتنع عن هذه التسمية، كونها ستُخيف البحارة وام يتسنَ إيجاد متطوعون للرحلات التالية، كما أنه سيخسر دعم الشركات وتمويلها لتلك (المغامرات)، وعليه فقد سمى النهاية المفترضة لليابسة من قارة أفريقيا بـ (رأس الرجاء الصالح) للتشجيع على الاستمرار باستكشاف ما يمكن استكشافه، وقال بأنه يبدوا بأن الأبواب باتت مشرعة بطريق البحر للهند وهي بانتظار من يفتحها.
ولم يكتفِ بذلك، بل أسدى شرف رحلة بانت بوادرها بأن تكون تاريخية للملاح المخضرم (فاسكو دي جاما) واخوه (باولو دي جاما) ممولة من شركة (فلورنتين) مكونة من أربع سفن اثنتين بقيادتهما واخريتين للتموين، وذلك في عام 1497 من لشبونة بأتجاه خليج (غينيا) فجزر (ماديرا) فرأس (ناو) ثم رأس (بوجادرو)، وهذا الرأس يوصف سابقاٌ بأنه نهاية العالم، وان ما بعده ارض شياطين مشئومة على من يقترب منها.
استمرا الرجلين وطاقمهما بالأبحار غير مكترثين بما جابههم من عواصف وأعاصير، بلا خوف أو تردد، كانت سفنهم الأربع تتقدم من سن صخري خلال طقس قاسي وكان يلفُّ بهم الضباب ولم يرَوا شمساً...

حتى أشرقت عليهم حين دارت سفنهم على شبه الجزيرة التي سعتها 75 كلم مربع، ليتبين لهم بأنه فعلاً... رأس الرجاء الصالح، وليجدوا امتداد لا منتهي لمياه المحيط و لقاء حميمي بين مياه الأطلسي والهندي.
كان المحيط الهندي بهذه اللحظة يبدو كمن فتح لهم ذراعيه ليدعوهما لتكملة المسيرة حيث الفردوس المنشود، الهند والصين، ها قد بدا لهما طريق الشرق سالك، ليشمّوا من بعيد عبير روائح توابله ويلمسوا نعومة حريره الذي ستنقله سفنهم دون اللجوء لاحتكار التجار العرب.
وبعد أن تنفسا الأخوين (دي جاما) الصعداء، راحا يتبخترا بسفنهما بمحاذاة شواطئ أفريقيا الشرقية ليرسماها على الورق، فهي فرصتهما لان يخلدهما التاريخ، بأن يُكملون رسم خارطة أفريقيا التي عصيت على الرحالة وعلى الجغرافيين منذ الأزل، ووصلا لمصب نهر (الزامبيزي) من جهة الجنوب ولأول مرة بالتاريخ، ونجحا بعرض تجارتهما على السكان المحليين هناك.

وانعكس المَثـَل العربي القائل (مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ)، ليصيح... (فوائدُ قومٍ عند قومٍ مصائبُ)، فوجود رأس الرجاء الصالح أصبح حقيقة بدل رأس الشيطان الذي باركه التجار العرب في السابق للحفاظ على تجارتهم، ولينقلب عليهم الدهر حيث أهملت تجارتهم وهُجرت موانئهم ومدنهم.
أسدل الستار عن مغامرة خاضها العالم لاستكشاف طريق بحري بربط أوربا بالهند، وظل التساؤل واللغط حول كروية الأرض إلى بعد حين...

... كان الأخوين قد أحضرا معهما بطريق العودة للديار، أول (حفنة فلفل أسود) تصل عن طريق البحر لأوربا وبدون أية لمسة عربية، وهو ما يعني، نجاح وصول التاجر الأوربي عن طريق رأس الرجاء الصالح للهند والصين وعودته سالماً ليثبت للعالم بأنه لا وجود (لدرب الصد ما رد).

عماد حياوي المبارك

فوبيا الاستكشاف في وقتها:
في العام 1486 حصل الايطالي كريستوفر كولمبس الاذن من ملك اسبانيا بالابحار غرباً لشق المحيط الاطلنطي، ونجح بمغامرة فريدة ان يصل كوبا (احد جزر الكاريبي) ظناً منه بأنه وصل شرق آسيا، ولم يتوقع حينها أن أمامه قارة عظيمة، فسماها جزر الهند الغربية واقفل عائداً يحمل البشرى وبعض الذهب مما وجده على مصاب الانهار هناك، وهذا الذهب هو ما دفع الاسبان لغزوها لاحقاً.

× لاتعني كلمة (الاحتكار) ـ هنا ـ حالة جشع التاجر العربي، وإنما الاحتكار هو وسيلة مشروعة للمحافظة على مصادر رزقه والدفاع عنها في مقابل اية منافسة شريفة اخرى.

× الفلفل الاسود (ليس له علاقة بالفلفل المتعارف) هو ثمرة على شكل عناقيد ناعمة حُمر اللون لأشجار تزرع بكثرة في الهند، تُجفف فتصبح سوداء ثم تطحن، وتشكل تجارتها 22% من تجارة التوابل الهندية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن