مدام ميرابيل القسم الأول14

أفنان القاسم
ramus105@yahoo.fr

2015 / 5 / 1

تبعتني مارغريت، واعتذرت، فواصلتُ صعود شارع موفتار بقدم مصممة. كانت القوة العمياء فيّ التي تربطني بها، هذه القوة ذاتها كانت تفعل كل شيء لتبعدني عنها، بعيدًا عن هذا الحب المربك، هذا الحب المكتسح، هذا الحب-العبء. بالنسبة إليّ، على الحب أن يولد، ثم يكبر. نحن لا نحب طفلنا تمامًا منذ الولادة، نحبه قليلاً كل يوم حتى لا نستطيع إعطاء قطرة حب أكثر. بالنسبة إليها، يمكن للحب أن يبدأ كبيرًا مع أول رجل نقع في غرامه. كانت إذن تحبني قبل أن تعرفني، وربما كانت تحبني منذ أن بدأ قلبها بالدق في معبد الحب. لم تكن تفهم موقفي، وبالمقابل كانت تريد الاحتفاظ بي بأي ثمن. الاحتفاظ بي. فقط الاحتفاظ بي. اعترفت "بأخطائها"، ولم تعد تبالي الآن إذا ما كنت أحبها أم لا، المهم أن أبقى معها.
- إذا تركتني انتحرت!
لم أجب، كنت أحمل معي آلام كتفي والسحر الذي يسببه لي جمالها وغضبها وتوسلاتها. كالمطرود من الجنة، تركتُ كل شيء من ورائي، جزيرتي، روحي، امرأتي. أحسست أني لا أحبها، أني لا أكرهها، فما العمل؟ واصلتِ التوسل إليَّ، جذبي من ذراعي، من كتفي الممزق. كان الألم حادًا، ومع ذلك لم أكن أصرخ.
في شارع سوفلو، هددتني: إذا لم أعد أريدها، ألقت بنفسها تحت سيارة. لم تتوصل إلى إثارة شفقتي، فأخذتْ في شارع سان-ميشيل تركض وتصرخ. ألقت بنفسها أمام سيارة نجحت في تفاديها في الثانية الأخيرة، فالتفتُّ على صرير العجلات عند احتكاكها بالإسفلت، وركضت أوقف كل السيارات لأحملها.
- أنت تحبني، قالت لي ضاحكة. أعرف، أنا حبيبتك.
أرادت تقبيلي، فوضعتها على الرصيف، حدقتُ في عينيها بضع لحظات، وأنا أحاول أن أميز في نظرة المرأة التي لها علاوة على لعنات حبها دوافع مثل هذا الحب الجنوني، ثم ذهبتُ، مدفوعًا بتلك القوة العمياء التي كانت فيّ، تلك القوة التي لا شفقة لها.
- دافيد!
سارعتْ إلى اللحاق بي، وأمسكتني.
- أنت لا يهمك أمري! أنت تريد التخلص مني! أنا لن أعطيك الفرصة على تحقيق ذلك، سأبقى حية كي أجبرك على حبي!
ونحن نمضي بساحة السوربون، قهقهت:
- ها هي طاولتك، موسيو هازار (سيد صدفة)! هل نسيت؟ لديك شكل من نسي كل شيء بسرعة كبيرة!
عتم وجهها:
- أنا نسيت العالم أجمع من أجلك! نسيت العالم ولا أرغب إلا فيك! أنا بحاجة إليك، يا حبيبي!
أمسكتني من كتفي الجريحة، فصرخت، هذه المرة، من الألم، وصفعتها بعنف تاركًا إياها. في الواقع، كنت أترك جزءًا مني. هذه المرة، الوداع يا جزيرتي، الوداع يا جنتي، الوداع يا وطني. كان صفعي لها يعذبني، كيف جرؤت أصابعي اللعينة؟ كان صفعي لها يدكني، ووجودي يترنح. لم تبكِ، تبعتني من بعيد، كما فعلتُ في الماضي. استدرتُ عدة مرات، ولم أرها. كان وجودي يترنح، وضميري يعذبني. توقفتُ في أعلى رصيف سانت-أوغسطين، ونهر السين كان هادئَا، تنطفئ النجوم على صفحته. كانت الأدراج التي تصل إليه خاوية: لا عشاق، لا قبلات، لا شحاذون مع قناني خمرهم. أحسستُ بتعاستي العميقة وبفراغي، وانتفضتُ فجأة على سماعي لصرخات مارغريت الآتية من تحت:
- دافيد، هل تسمعني؟ أنا لا أعرف العوم! لكن إذا ما لم تأت، ألقيت بنفسي في السين!
هذه المرأة، هل كانت مجنونة أم أنها تمثل قدر كل كائن مجنون، قدري؟ صححتُ خطأي، وصرختُ بدوري:
- لا تكوني مجنونة، اصعدي!
- سألقي بنفسي في السين!
- قلت لك اصعدي! إذا ألقيت بنفسك في السين، تركتك، وذهبت.
- أنت لن تذهب! أعرف أنني غالية عليك، أنت لن تتركني هكذا! دافيد!
- أقسم لك أنني سأذهب، إذا فعلت هذا! ولعلمك أنا ذاهب.
ألقت بنفسها في نهر السين، فلم أعد. كانت واحدًا من أولئك الرجال الملعونين الذين يدمر لهم البصر هوى امرأة تهب نفسها، والذين يجعلهم الحب أعمياء كالكره. ألقت بنفسها تحت عجلات سيارة من أجلي لكني صفعتها، غرقت في نهر السين من أجل تليين جانبي لكني غدوت أكثر قسوة من الصخر! طفت على السطح، وعامت حتى الرصيف. كانت تعرف العوم جيدًا. صعدتِ الدرج بأقصى سرعة تستطيع عليها، وعادت تطاردني.
- دافيد!
كنت قد قطعت ساحة شاتليه، وأنا أتقدم باتجاه شارع سان-دُني. عندما حاذتني، ألقيتُ عليها نظرة مواربة.
- ها أنا أرى أنك لا تعرفين العوم! قلت واجدًا الذريعة لقسوتي والعذر لعماي.
- وأنت، ما أنت سوى واحد قذر! كنت ستتركني أموت!
الآن، هي أيضًا تقسو، هي أيضًا تَمَّحِي أمام نفسها متحولة إلى ضحية هذه القوة العمياء، ويدلف كلانا في فعل تحدي نفسنا لنفسنا.
رفعتُ صوتي:
- ربما كان من الأفضل أن تموتي! ستريحينني وستريحين نفسك!
- اطمئن، أنا لن أموت في وقت مبكر! أجابت، وهي ترفع صوتها، هي كذلك. وها أنا أنذرك، ستتعذب، وستبتهل إليّ لأخفف عذابك، لكني سأواصل تعذيبك، ولن أسمع لك!
أمسكتني بعنف من كتفي الجريحة، فصرخت من الألم. تعلقت بعنقي، وغطتني بالقبلات (كان تحديها يتوقف هنا: كانت مغرمة بالفعل). تركتُني لها، وفي الوقت نفسه، دفعتها.
- أحبك، يا دافيد! هل تفهم ما يعني هذا بالنسبة إليّ؟
- ألن تهدأي، ألن تتوقفي أبدًا؟!
- أنت لا تفهم... أنت لا تفهم!
أخذت تصرخ كالممسوسة في عقلها:
- سأجعلك تفهم رغم أنفك!
سبقتني إلى الفندق، والمومسات يحيينها، فتجاهلتهن. كانت الهاوية، العدم، كانت الخسارة، الدمار. أوقفت أحد العابرين، وطلبت إليه إذا ما أراد أن تفعل الحب معه مجانًا. ابتسم الشاب، بغباء، لم يكن يصدق كثيرًا ما تقول، فركضت لين نحوي:
- أسرع، يا موسيو دافيد، افعل شيئًا! ستصعد مارغريت مع واحد!
- لقد فقدت عقلها تمامًا، قلت ضاغطًا أسناني.
كانت تجر العابر من ذراعه، فلحقت بها:
- هل ستتوقفين عن هذه اللعبة؟! هل فقدت عقلك؟!
ومع ذلك لم تكن لعبة، أو بلى، لعبة مع قدرنا المنتقم، لعبة خاسرة مسبقًا. وأيضًا تلك الهاوية المعتمة، ذلك الغياب لكل شيء.
- هل تعتقد بأني لست قادرة على ذلك؟ وأنت ما يهمك هذا؟ أنا حرة، أليسني حرة؟ أفعل ما أشاء بجسدي! لين والأخريات يفعلن ما يشأن بأجسادهن، أليسهن حرات؟ هن غير خاضعات لأحد! أنا لم أعد خاضعة لك، أليس هذا ما كنت تريده؟ اقتلني إذن، إذا كنت تحبني، أيها الجبان!
ذهبت مع الرجل، فأعطته لين كيسًا واقيًا، وانتقام القدر ذاك الذي يقهقه.
- لن تفعلي شيئًا! صرختُ.
- سنرى!
- إذا ما جرؤت تركتك إلى الأبد.
أخذت تطلق ضحكة ساخرة واسعة وشفافة، وصعدت إلى حجرتي. في الواقع، كنت قد تركتها منذ اللحظة التي غادرت فيها شقتها، كانت لم تزل تلتصق بشفتيّ، ببطني، بقدميّ، وكان على أحد العابرين أن ينتزعها من جسدي. بقيت ساكنًا على الرصيف، فاشتعل الضوء. كانت لين وإسمرالدا وأوديت مشلولات مثلي، وهن في صمت داعر طيب وبريء. كن ينتظرن ما سيتبع، غير مصدقات. انفتحت النافذة فجأة، وظهرت مارغريت. رمت لي المفاتيح، وعما قليل، انطفأ الضوء.
مضت بعض الدقائق، فنزلت مارغريت تسأل عني، أنا الذي ذهب للسقوط في هاويته. كان كل هذا من الجنون والعته، كان كل هذا من الضياع والشيزوفرينية. قالت لها لين إنني ذهبت دون أن أقول إلى أين أنا ذاهب، ومع ذلك كنت أذهب إلى جحيمي. بدت حزينة، وبقيت أوديت وإسمرالدا محتارتين، مذهولتين. نزلت مارغريت شارع سان-دُني، وهي تسأل العاهرات اللواتي تعرفهن والأخريات. سخرت بعضهن منها، حتى أنهن اندهشن للسؤال. بحثت عني في كل الشوارع المجاورة لساحة شاتليه، وعادت من الطريق نفسها لتطلب عنوان الجريدة، ولا أحد لديه العنوان. أخذت تتلفن لكل الجرائد، لكن جهدها كان جهدًا ضائعًا. نادت تاكسي لساحة السوربون، وهناك ظنت أنها تراني جالسًا على طاولتي المعتادة، فركضت نحو الرجل الذي يعطيها ظهره، وأدركت في اللحظة التي ضمته فيها أنه لم يكني. غالت في الاعتذار، وغادرت تعيسة، تعبة، يائسة. أعادها التاكسي إلى الفندق، لتنتظرني في غرفتي، ولم تتأخر عن النوم.
في الصباح، استيقظت مذعورة. لم أعد إلى الفندق، فاندفعت إلى قسم الاستقبال لتسأل عن أخباري. لا أخبار عني، وكل أخبار العالم لا شيء. خرجت إلى الشارع الخالي من العابرين في تلك الساعة، بينما بعض الدكاكين كانت مفتوحة، ورائحة كريهة تتصاعد من الشارع مع أنه كان نظيفًا. أغلقت أنفها، وركضت إلى ساحة شاتليه، حتى القنطرة. انحنت على نهر السين، وهي تتنفس بقوة كبيرة. كانت الرائحة تطاردها، رائحة مقززة، سميكة، خانقة، راحت تطاردها، وهي في التاكسي، حتى ساحة المنحدر، كغيمة فوق كل باريس,
كان الوجود يتفسخ.
وهي تركض في شارع موفتار، لمحت زوجها. نادته، وسألته إذا ما رآني، إذا ما رأى دافيد.
- دافيد؟ دافيد من؟
صعدت الدرج ثلاثًا ثلاثُا، وهي تفكر أن مفاتيح الشقة ليست معي، ولكن ربما كنت أنتظرها هناك...؟ لحق بها زوجها، مجروفًا بفيض من التساؤلات، كالمجداف الخاضع كان مجروفًا، غير فاهم ما يجري. تركته مع تساؤلاته، ونزلت من جديد إلى شارع موفتار، ثم من جديد إلى الفندق... فمن يدري ربما عدت؟ في الطريق، من داخل التاكسي، كانت تتفرس في العابرين، ونسيت حتى الرائحة. لم تكن السيارات تتقدم في شارع سان-دُني، فدفعت للسائق، لتركض نحو الفندق. ومن جديد، قال لها قسم الاستقبال إني لم أعد بعد، وإن لا رسالة هناك... لا شيء. طبعًا، لم تذهب إلى عملها: أقامت في غرفتي، وانتظرت، إلى أن قطفت فاكهة الانتظار: فهمت أنني لن أعود. لم تكن تعرف ما تفعل أو إلى أين تذهب. لقد تركتُها. ذهبتُ على ألا أعود. ضاع العالم، ولم تشأ التصديق: ربما أضاعتها عيني. نعم، كنا معًا، و، فجأة، أضاعتها عيني! أخذت تناديني... كانت تضيع. دقت لين على الباب، وحاولت تهدئتها. ضمتها بين ذراعيها، ووعدتها بفعل كل شيء كي يعود دافيد إليها. لموسيو دافيد قلب طيب، كل البنات يعرفن هذا.
لم يكنَّ يعرفنني على حقيقتي.
نزلت بنات الهوى على الرصيف، فذهبت مارغريت إلى دكان الملابس التي اشتريت لها منها الفستان الأزرق المخضر، وابتاعت أربعًا أو خمسًا قدمتها للمومسات. سأراها عليهن، وسأفكر أنها هي، وهكذا سأجدها، وأعود إليها. شهقت منتحبة على كتف لين، التي قادتها إلى غرفتها، وأعدت لها فنجان مرامية، راجية إياها أن تهدأ وأن تنام. نادتني مارغريت دون انقطاع، وظنتني أناديها بدوري، فغادرت الفندق بعجلة، وهي تركض باتجاه هذا الصوت... وما لبثت أن أدركت أنها كانت تهذي. كان العالم يضيع، وكانت تضيع، والجزيرة التي لي كانت تغرق في المحيط، والمحيط شجرة البندق التي كنت أصعد عليها وأنا طفل.
عادت إلى بيتها، وذراعاها يمتلئان بأمواج اليأس. هل تعرفون أن اليأس يحرض الكائنات التعسة؟ لم تتوقف عن طلب الفندق كل ساعة، وفي كل مرة كانت تستلم نفس الجواب السلبي... في الأخير، عرفت أنني لن أعود، أنني لن أعود، فوصلتها صرخات الحيتان من بعيد، من شواطئ الوهم الحقيقي. عند منتصف الليل، استيقظت ثائرة الأعصاب: كان تنفسها متقطعًا، وكانت ترتعش، وعاصفة من البرد كانت تهز جسدها. لم يتوقف الحيتان عن الصراخ، كانت تتعذب أشد عذاب، وفي نفس الوقت، كانت تشعر بحب كثير لي. أن تحب واحدًا مثلي، كان ذلك كمن تحب موتها، إلا إذا ما زين لها الشيطان. نادتني مرة أخرى، ومرة أخرى ابتهلت إليّ، بلا جدوى. تحاملت على نفسها، وطلبت طبيب العيادة الليلية الذي لم يتأخر عن الحضور، وضربها إبرة مهدئة. سألها عن أخبار زوجها، فأجابت دون أن تستطيع احتواء حزنها أنه مسافر. الحيتان، قالت، لم تشأ السفر معه، وكانت تصرخ! قال لها الطبيب إنها بحاجة إلى الراحة، إن قلبها تعب، وإذا لم يُعْنَ بها أحد، سيخور عاجلاً أم آجلاً. اقترح عليها الذهاب إلى المستشفى، فرفضت، وقالت إن لها صديقة ستهتم بأمرها. وبالفعل، أخذت تاكسي في الصباح الباكر لليوم التالي، وذهبت عند جوزيان الصغيرة.
الحيتان... كانت تهرب من الحيتان...


يتبع القسم الأول15



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن