حتى نتجنب الكارثة ( 2 2 )

سعد محمد رحيم

2015 / 4 / 9

في توصيفنا لجانب مهم من الصراع الدائر اليوم، عراقياً، نستطيع القول أنه صراع سرديات وثقافات، أي صراع خطابات، في مقابل صراع المصالح بين القوى المتنفذة والضاغطة من أجل الثروة والسلطة والنفوذ. وعلى الرغم من إدراكنا أن النمط الثاني من الصراع غالباً ما يتقدم على النمط الأول ويوظِّفه، فلابد، في هذا الإطار، من أن نشير إلى مسؤولية النخب الثقافية في بناء ذاكرة تاريخية للأمة، وسردية تأسيسية للدولة، ووعي اجتماعي وسياسي تنويري، وخطاب مدني حضاري..
يمكننا الحديث عن إخفاق المثقفين، ويمكننا الإشارة إلى حالات إقصائهم وتهميشهم طوال العقود السابقة من قبل السلطات الحاكمة. ويمكن التأكيد أن المشهد العام الذي يغيب عنه المثقف العضوي يضطرب، تعم فيه الفوضى وقد يفسد ويتعفن. ولكن علينا أن نعرف أيضاً بأنه في موازاة إقصاء المثقفين في العراق جرى تدمير منظّم وغير منظّم للطبقة الوسطى المدينية ( المنبع الاجتماعي الأغزر للنخب السياسية والثقافية الوطنية ) منذ ثمانينيات القرن الماضي.. تلك الطبقة التي كانت هي القائدة للتحوّلات الاجتماعية في معظم بلدان العالم.. فعلامة من علامات الأزمة، وأحد عوامل ديمومتها، هي ضعف الطبقة الوسطى المدينية المتعلمة والمتنورة، وضمور دورها ووظيفتها.
لا أرغب في أن أكون متشائماً على الرغم من أن مؤشرات كثيرة تجعلنا كذلك.. فأحلامنا الكبرى في تأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة تخلِّف المرحلة الديكتاتورية تبدو وكأنها آخذة بالانهيار.. هناك من يتحدث عن حرب أهلية واسعة النطاق لا تبقي ولا تذر.. وهناك من يتحدث عن تقسيم طائفي وعرقي يكون معه العراق نسياً منسيا.. وهناك من يتحدث عن استنزاف مؤلم وطويل للسكان والموارد والفرص ينتهي برجوع العراق إلى العصور المظلمة.. وكل طرف يستند في ادعائه على دلائل من الواقع، ويقرأها عبر منظار معتم ليوصل مسارها إلى ما يظن أنه النهاية الكارثية الحتمية. لكني أعتقد أن ما يغيب عن أذهان هؤلاء هو أن تلك العوامل الكارثية ومن يخطط لإدامتها ومن ينفذ استراتيجياتها لا يعملون من غير مقاومة تواجههم وظروف غير مؤاتية تعرقل عملهم. والتعويل هو على هذه الأخيرة.. وإلا لماذا على مثقفي التنوير ونشطاء المجتمع المدني والسياسيين الديمقراطيين ودعاة البناء والتنمية والسلم أن يعلنوا عجزهم في مواجهة استراتيجيات الطامعين، أو لماذا عليهم أن يستسلموا أمام شراذم من المتطرفين القادمين من ظلمات التاريخ وصفحاته السود.
وطالما كنا نتحدث عن العوامل المنتجة والمديمة للكارثة أود النظر إلى الأمر من زاوية أخرى تتعلق بالإرهاب. وحقيقةً أن علينا البحث عن أسباب لجوء كثر من الشباب إلى العنف والانضمام إلى العصابات والميليشيات والمجموعات الإرهابية في الفقر والبطالة والإحساس بالظلم، وعدم القدرة على التكيف مع الواقع غير العادل، وانعدام الفرص ونقص التعليم ونوعية الثقافة التي يجري الترويج لها.. ولكن هناك، أيضاً، عوامل أخرى مساعدة. مثل انتشار الأسلحة على نطاق واسع وسهولة الحصول عليها، وتطور وسائل الاتصال، التي تيسر التواصل بين الأفراد والمجموعات، وإمكانية الحصول على قنوات للدعاية والإعلام المؤثر، ناهيك عن جهات ومؤسسات داخلية وخارجية تتولى الدعم اللوجستي والمالي غير المحدود للمجموعات الإرهابية لأهداف خاصة. وهذا ما ساهم في تغلغل منظمة إرهابية كالقاعدة وتفرعاتها اللاحقة ( داعش مثالاً ) في مختلف مناطق العالم.
كانت الدولة الوطنية، في فترة الحرب الباردة وما قبلها، لاسيما في بلدان العالم الثالث، تفرض سيطرتها شبه المطلقة، على وسائل الاتصال والعنف والإعلام. واليوم فقدت الدولة المعاصرة هذه المزايا فبات من السهل تشكيل المافيات والعصابات والميليشيات المسلحة والمنظمات المتطرفة العابرة للحدود والتي تمتلك استراتيجيات قابلة للتطبيق، ومرونة تكتيكية في الحركة، وقدرة على الإفلات من القانون. وتستطيع ان تجند في صفوفها أعداداً هائلة، من الشباب بخاصة، من أولئك الذين يعانون الإحباط والإذلال والفقر واليأس، ولا يجدون متنفساً حقيقياً منتجاً لتصريف واستثمار طاقاتهم الفائرة.
نحن نتحدث عن عوامل منتجة لأزمات وكوارث، وأخرى مديمة لها، وإذن يكون من المنطقي الحديث عن حتمية حصول نتائج كارثية، غير أن للواقع أحياناً مساراته المفاجئة وغير المتوقعة، لاسيما أننا لسنا بصدد مسألة في الرياضيات أو الهندسة الفراغية حيث الافتراضات المجردة مهما تعددت وتعقدت تبقى ثابتة والنتائج محكومة بقواعد المنطق العلمي التي تؤول إليها بحكم الضرورة المحتمة.. إن للواقع السياسي منطقاً آخر ولغة مغايرة وآلية اشتغال مختلفة تماماً.. نرى علامات تشير إلى حتمية وقوع كارثة ونرى بالمقابل علامات أخرى تقول العكس.. الأمم تُبنى عبر مخاض تاريخي صعب وطويل، وبتضحيات قاسية، وأمتنا العراقية ليست استثناءً لاسيما أننا نخوض معركة البقاء في مواجهة قوى عاتية بعضها شبحية ومتلونة، وبعضها معلومة وواضحة الاتجاه، وكلها شرسة وتعمل بلا وازع أخلاقي.
تترك الأحداث الجسام تصدعات نفسية واجتماعية عميقة تبقى آثارها لسنوات طويلة قادمة. غير أنها تصبح، عند المجتمعات الحية، بمثابة دروس تاريخية كبرى وجزءاً من الذاكرة التاريخية للأمة.. في حالتنا العراقية أكثر ما نخشاه هو الضرر الذي يصيب الشعور الوطني، ويُحدث ثلمة في الهوية الوطنية.. نعرف أن الثقافة السياسية للزمر الحاكمة في العالم الثالث، ومنه العراق، قد كرّست عبر تجارب مرّة، فكرة تماهي الهوية الوطنية مع هوية الدولة وهوية الطبقة الحاكمة، ليصبح الوطن عندئذ هو الدولة القائمة، هو النظام الحاكم، هو الحلقة القيادية الضيقة في أعلى سلّم السلطة، وأخيراً هو الحاكم الأوحد.. وإذا كنا نفهم، بالمنظور السياسي الحديث، أن ترتبط الهوية الوطنية بهوية الدولة السيادية، فإن احتكار هوية الدولة ومن ثم الوطن وتمثيلهما في صورة السلطة الأوليغارشية الحاكمة ورجلها الديكتاتور لابد من أن يفضي إلى وهن الهوية الوطنية لدى الأفراد والجماعات. وهذا يفسر إلى حد بعيد تعرض مؤسسات الدولة والمصالح العامة للسلب والنهب والتخريب بعد سقوط تلك الأنظمة، ويصدق هذا أكثر على الدول الحديثة التشكيل، أو التي فيها تنوع أثني ومذهبي وثقافي، ناهيك عن تاريخ طويل من القمع والاستبداد والظلم الاجتماعي، كما في العراق الحديث.
إن الهوية الوطنية أبعد غوراً من الناحية الوجدانية والشعورية من هوية الدولة القائمة إلاّ أنها تتجسد فيها من الناحية الواقعية الجيو سياسية. وهذه الدولة إذا ما اكتست بلون طائفي فستكون قد قررت مصيرها مقدماً.. إن الطائفية هي الورم الشنيع الذي بات يتغلغل في نسيجنا الاجتماعي ومنظومتنا السياسية ومؤسساتنا.. وما لم يجرِ استئصال هذا الورم ومعالجته فإن مسلسل الانهيار لن يتوقف.. المشكلة أن الطائفية ليست مسألة دفاع عن قناعات وأفكار مذهبية ضد ما يناقضها، عبر حوار عقلاني، وإنما أضحت أداة استثمار سياسي يلجأ إليها أولئك الذين لا يمتلكون موهبة التعاطي العادل والصحيح مع الحياة السياسية، وليست لهم برامج عمل، أو حتى خطاباً وطنياً متوازناً ومقنعاً.
حين نقول الحلول فلا نعني وجود وصفة سحرية جاهزة يمكن باتباعها والأخذ بها تجاوز مشكلاتنا بين ليلة وضحاها.. وشخصياً أعتقد أن إيجاد تقاليد سياسية جديدة واستنبات أخلاقيات جديدة في حقلنا السياسي عبر بناء جسور للثقة بين الشركاء، وإشاعة تقاليد للحوار الخلاق؛ حين نفكر بروحية التسامح والتفهم، لا بروحية التخوين والانتقام.. حين تكون الأولوية في تفكيرنا للوطن لا للشخص والحلقة الضيقة والحزب والفئة نكون قد حققنا الخطوة الأولى باتجاه الخلاص.. ومع غياب التقاليد والأخلاقيات في العمل السياسي فإن جميع الحلول الأخرى ستتعثر. ومن البديهي القول أن المجتمعات التي تخفق في تأسيس تقاليد حوار وتكريس قيم تسامح ومحبة بين مكوناتها لن تنعم بالسلام والاستقرار.
الخطوة التالية هي بناء الدولة على أسس حديثة بالتوصيف الرائج لها؛ دولة مدنية تعزز قيم المواطنة والحريات العامة والعمل المنتج والعدالة الاجتماعية. وتحقق الديمقراطية.
ولكن لماذا التعويل على الديمقراطية؟.. قد لا تقدّم الديمقراطية، على المدى القريب، حلولاً ناجعة. وقد تبدو بسبب تخلف البنى التعليمية والقانونية وانتشار الأمية سبيلاً لتسلق بعض الطارئين والمغامرين إلى مفاصل مهمة في سدة الحكم. لكنها، أي الديمقراطية ستبقى هي الضمانة الوحيدة، على المديين المتوسط والبعيد، لتصحيح المسار السياسي في النهاية.. وحين تغدو الديمقراطية، لا حقلاً لمنافسة العشائر والمذاهب والإثنيات والجماعات للاستحواذ على مفاصل السلطة ومن ثم على مصادر الثروة ووسائل العنف المشروع وغير المشروع للتحكم بالآخرين بل عملية منافسة بين برامج بناء دولتي لقوى سياسية مدنية فإن تباشير الخلاص ستكون قد لاحت في الأفق.
يقتضي إيجاد الحلول طرح الأسئلة الصحيحة، والتي هي كناية عن المشكلات الحقيقية التي يواجهها مجتمعنا في الحاضر، ومنها: كيف يمكن إعادة بناء المجتمع السياسي العراقي على أسس عقلانية وعادلة؟. كيف ننمّي المجتمع المدني ونجعله الرافد الأعظم للمجتمع السياسي إلى الحد الذي يمكن أن يتماهيا وينصهرا معاً؟. كيف نحد من هيمنة وسلطة المجتمع الأهلي بمؤسساته التقليدية وأعرافه المعوقة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة؟. كيف نخرج من الدائرة المغلقة للاقتصاد الريعي، ذلك الذي لا يبقي لنا سوى موقع جد هامشي في عالم معولم صاخب وعصر يتسارع في تطوره العلمي والتقني والمعلوماتي والثقافي والإعلامي؛ أقول كيف نخرج من تلك الدائرة المغلقة لنبني أسس اقتصاد متنوع بموارده، ومنتج في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات والسياحة والمعلوماتية؟.
وأيضاً؛ كيف يمكن تجفيف منابع الإرهاب وقطع التمويل عنه؟. كيف يمكن تسخير وسائل الإعلام والثقافة والتواصل الاجتماعي لتفكيك الإيديولوجيات التكفيرية والطائفية المتطرفة؟.
في رأيي أن الوسيلة الأكثر جدوى لذلك هي تطوير التعليم وإشاعة ثقافة التسامح والحوار، وتغيير نمط معيشة السكان، أي تحسين ظروفهم المادية. أما من الناحية السياسية فالمطلوب بناء دولة المواطنة والقانون والحريات المدنية، والمباشرة بتحقيق تنمية مركّبة مستدامة على وفق رؤية وطنية شاملة وخطط تعتمد المعايير العلمية، وتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وبناء القوات المسلحة اعتماداً على أسس وطنية، وإنشاء منظومة استخبارية يمكنها رصد وملاحقة المجموعات الإرهابية والمفسدين وسرّاق المال العام، ويضع حداً لمن يهدد السلم الأهلي وأمن البلاد..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن