ما لم يفعله وزير الثقافة المصري فاروق حسني.. سلطات تحتمي ببعضها

نائل الطوخي
naeleltoukhy@yahoo.com

2005 / 9 / 23

شبه البعض استقالة فاروق حسني بتنحي عبد الناصر بعد هزيمة عام سبعة و ستين, أي انها كانت استقالة شكلية, هدفت لترسيخ المكانة أكثر مما هدفت للاعتزال الفعلي, ترسيخ المكانة عبر المرور باختبار النار و عودة المرء و قد ازداد قوة. لم يكن التشبيه دقيقا بالطبع, فاختبار النار ليس متشابها في الحالتين, ظهر عبد الناصر في التليفزيون و ذكر المواطنين بمشاركتهم الحديث و التشاور, و أعلن أنه عائد إليهم, أما فاروق حسني فقد وضع استقالته تحت تصرف الرئيس. كانت النهاية هي الرفض في الحالتين, الرفض من الجماهير و الرفض من الرئيس, ثم العودة بعد اكتساب الجلد صلابة المرور من الاختبار الأسطوري, ذلك الذي سيسلبك كل شيء أو سيمنحك إياه مجددا. كانت الجماهير مستلبة في حالة عبد الناصر, مذهولة, مشدوهة, مأخوذة بالكاريزما الأبوية لناصر ولملامحه المهزومة و الجليلة, جماهير كتلك لا تصنع رؤية نقدية للتاريخ بالطبع, و بالتأكيد أن هذا الاستلاب كان نتيجة لعهد كامل تم فيه إدماج جميع مرافق الدولة في منظومة واحدة هي المنظومة الرحيمة للسلطة,غير أن هذه الجماهير تفردت عن حالة نظيرتها في حالة اللاعب البائس لأيامنا, فاروق حسني, بكونها مرسلاً إليها, متوجها إليها بالخطاب, ربما لأن شيئا ما كان يدفع قادة الحقبة الناصرية لأن يحدثوا الشعب, حتى و هم يكذبون عليه, أما في أيامنا, فالناس غائبون, لا يدرون شيئاً و يرددون شائعات عن الاستقالة, و في النهاية, هم ليسوا طرفاً في معركة الوزير. تعامل الوزير كان مع السلطة, (تقديمه الاستقالة) و ليس مع أهالي الضحايا. هكذا يتم حفظ هيبة الدولة التراتبية.
كان من المثير في تصريحات الوزير عدم اعتذاره لأهالي الضحايا, عدم تبرير الفشل أمامهم, عدم مواجهتهم, فمواجهته الأكثر أهمية كانت تسير في خطين, واحد مع المعارضة التي طالبت بإقالته و واحد مع الرئيس الذي وضع استقالته تحت يديه, و لم يكن من المهم أبداً النظر إلى أعين الضحايا, و لو للتطاول عليهم كما تم التطاول على المعترضين على بقائه في السلطة. هذه النظرة التي لم تحدث هي ما تبسط الوزير, تجعله فردا عاديا, خارجا عن النظام الأبوي للدولة و عن قواعده العسكرية التراتبية, ولذا فهي لم تحدث ولا ينبغي لها أن تحدث. يقول الوزير عن المطالبين باستقالته أنهم قلة مندسة و أنهم يحولون الموضوع إلى سياسة. يعني هذا أن الموضوع لم يكن في أصله سياسة ثم تم التلاعب به لكي يصير كذلك. ماذا كان إذن؟ قضاء و قدراً, موتا جليلاً, إرادة لا راد لها؟ تعمل فوبيا التسييس هنا لأجل إلغاء أي إمكان للفهم, للنظر إلى الأمور في سياق ما, لأجل تدمير أية محاولة لشرح ما حدث على ضوء أرضي و بشري, و ليس فقط كإمكان رهيب لصدفة دموية و غامضة, حتى هنا, و بينما يشير خوف الوزير من التسييس إلى القضاء و القدر كمتهم أساسي, فإنه يلعب بعيدا عن الضحايا الحقيقيين, و حتى هنا, يشير هو إلى سلطة أكبر منه, ليس سلطة رئيس الدولة هذه المرة و إنما سلطة القدر, أي سلطة السماء, أرادت السماء موت الضحايا و أراد الرئيس بقائي, و ليعترض من يستطيع! تحتمي السلطة هنا ببعضها البعض. فقط مع نفسها تجد نفسها في أمان ما, بعيدا عن من تحكمهم, و كلما كان المحتمى به أكثر سمواً و حصانة من النقد, كلما كان الدفء أعظم.
يتم الخطو خطوة أبعد عندما تتم الإشارة إلى المخرج باعتباره هو المتسبب الرئيسي في الحريق. لم يكن فقر مسارح قصور الثقافة أو غياب الإجراءات الأمنية هو السبب و إنما المخرج الذي استعمل موادا قابلة للاشتعال في عرضه. و أين المخرج إذن لتتم محاسبته؟ لقد مات. هكذا إذن مثلما قام القدر بقتل الضحايا فإنه قام بالانتقام من الوحيد الذي يحمل شبهة تورط في مساعدته على القتل: المخرج, و هكذا إذن يتم غلق عدة دوائر. المخرج, الضحية, هو ذاته القاتل, أي أن ما حدث هنا يشبه عملية انتحارية, لا يمكن فيها معاقبة الجناة فهم قد تكفلوا بمعاقبة أنفسهم بنفس الجزاء, لهذا, و على الناحية المقابلة, لا يتوجه الوزير بكلمة إلى الضحايا, ممثلين في أهاليهم, فهم قد انغلقوا على نفسهم, و إنما يتوجه إلى الرئيس ليقدم استقالته. الضحايا يقتلون أنفسهم, و السلطة تقدم الاستقالة إلى نفسها. يتحدث فارق حسني عن من توجهوا ببيان ضده إلى النائب العام: "هؤلاء الناس عليهم محاسبة أنفسهم أولا قبل أن يحاسبوا الآخرين." ما هي السمة المميزة لأية دائرة؟ اكتفائها بذاتها, عدم انتهاك الفضاء الذي يجمع الأشياء, هي الشيء في حد ذاته, في مقابل الشيء في علاقته بالآخر, و الذي هو أساس السياسة, من هنا كان الرعب من التسييس, من محاولة فهم السياق الذي يحكمنا. ليست هناك أية إمكانية للنظر ولا للكلام و لا للإدانة وبالطبع, و لا للفهم, لأن الحزن الجليل يغمرنا, و الحزن الجليل هو خبرة و ليس تحليلاً, فالتحليل, ذلك الكائن المبتذل الذي ينتمي للسياسة, يفسد شعورنا الرائع بالحزن, يفسد صمتنا النبيل. و كيف إذن نمنع ما يحدث من أن يحدث ثانية, لا جواب هنا, فالحزن غامر ولا يحتمل الكلام و لا النظر. و لا ننسى أنا ما حدث " لم يكن لنا دخل فيه" ففي عالم التصورات الكاريكاتورية لفاروق حسني, و لأية سلطة تراكمت سلطويتها على مر السنين مثله, لا شيء يتدخل في أي شيء. لماذا هو وزير إذن؟ ليقوم بالإنجازات. هي الشيء الوحيد الذي يستطيع القيام به وهي الشيء الوحيد الذي تسمح السياسة بفعله.
ربما هذا يكون هو واحدا من الأشياء الجيدة التي قامت بها حركة أدباء و كتاب وفنانين من أجل التغيير, استحضارها للضحايا و للشهود, في اجتماعاتها بميريت أو بنقابة الصحفيين أو أمام مكتب النائب العام, استنطاقهم إياهم, إعطاءهم صوتاً, أي الجرأة على النظر في عيونهم, و ليس فقط التحدث عنهم بضمير الغائب الشائع في لغة الوزير. هنا بالتحديد يمكن النظر بارتياح لجهود هذه الحركة, و التي و لأول مرة ينظر فيها المثقفون إلى أوجه الناس في الشوارع. هنا يمكننا كذلك مطالعة التشبيهات التي ارتبطت باحتراق الفنانين و النقاد في المسرح, حيث يلاحظ أي شخص تواتر تشبيه محرقة بني سويف بمحرقة قطار الصعيد, وليس, و لله الحمد, باحتراق جمال حمدان في شقته, و هو التشبيه الذي كان متوقعا بقوة, هنا يتم كسر الدائرة المغلقة. يتشابه المثقفون أخيراً في مصيرهم (و الذي هو مصير عادي بالطبع, أي "غير مثقف") مع غير المثقفين , و ليس مع أنفسهم. هكذا يتم كسر التراتبية التي تقسم الناس إلى مثقفين و غير مثقفين, التراتبية التي يراها الوزير صالحة لتقسيم الناس إلى سلطة و غير سلطة, و التي جعلت من حادثة كتلك ممكنة فقط في بني سويف أو فقط في قطار الصعيد, و ليس في القاهرة (تخيلوا لحظة معي إن كان ممكنا حدوث حريق كهذا في المجلس الأعلى للثقافة أو دار الأوبرا؟), هذه التراتبية التي تكرس لها السلطة بقوة, عبر إعلاءها للمركز الواحد الذي يتم الحج إليه, و ليكن اسم المركز ما يكون, حتى و إن سمي بالقضاء و القدر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن