السخرية الصامتة في فيلم شاشاتنا

عدنان حسين أحمد
adnanahmed9@hotmail.com

2015 / 2 / 18

تعتمد الأفلام الروائية القصيرة على تقنية الضربة أو الالتماعة الفنية التي تتوهج بشكلٍ خاطف ثم سرعان ما تختفي لتترك للمُشاهِد حرية التعاطي مع الثيمة التي تتمحور عليها القصة السينمائية التي اجترحها كاتب السيناريو أو المخرج ذاته. تُرى، ما الرسالة التي يريد إيصالها المخرج محمد توفيق من خلال فيلمه الجديد "شاشاتُنا"؟ أهي فكرة الابتزاز الرائجة في غالبية المطارات العربية، باستثناء الخليجية منها طبعاً؟ أم فكرة إذلال المواطن العربي ومصادرته في رابعة النهار من دون خجل أو وجل؟ هل يلامس هذا الفيلم ثيمة الحريات الخاصة والعامة أم يذهب أبعد منها إلى إهانة المواطن العربي وطعنه في الصميم من خلال نهب مقتنياته الخاصة التي اشتراها بكدّ اليمين وعرق الجبين، تماماً كما حصل مع المخرج السينمائي جمال الذي زار بلده لبضعة أسابيع وصوّر فيها بعض اللقطات والمَشاهد اليومية اللافتة للانتباه؟
أراد المخرج محمد توفيق أن يمنح فكرة الفيلم بُعداً عربياً ولا يجعلها مقتصرة على العراق حصراً وكأنّ لسان حاله يقول إن الفساد يضرب أطنابه في العديد من الدول العربية لذلك رأينا المحقق "كاظم السلّوم" يتحدث بلهجة شامية لم يُتقنها تماماً بينما ظل المخرج السينمائي الزائر لبلده "جمال أمين" يتحدث بلهجة عراقية واضحة الأمر الذي أوقع الفيلم في "مطبّ" التناقض الذي كان بالإمكان حلّه لو أن المحقق تحدث باللهجة العراقية الدارجة خصوصاً وأن الأحداث تجري في مطار بغداد الدولي الذي يعرفه المُشاهد من ديكوراته الداخلية التي لم تتغير منذ عقود!

لعبة الابتزاز
ما إن يضع جمال حقائبه على الحزام النقّال الذي يفضي بها إلى جهاز التفتيش الإليكتروني حتى يستدعيه أحد الموظفين الأمنيين بالقول: "ممكن تتفضل معي؟" وهذه جملة مبطّنة ومستقرة في الذاكرة الجمعية العربية التي تضع المواطن العربي دائماً في موضع الشك والاتهام، ولا تجد حرجاً في وصفه بالعدوّ أو المتآمر حتى قبل أن تُثبَت إدانته! ثم تتواصل اشتراطات اللعبة مع المحقق الذي سأله عن هويته التي تثبت أنه مخرج سينمائي، وعن جواز سفره الأنيق الذي يكشف عن جانب من حياته المنظمّة واسترخائه المادي بغية ابتزازه مادياً ومعنوياً بطرق وآليات غير مشروعة. إن مجرد إطالة أمد التحقيق يضع الضحية في موضع الخشية من موعد الرحلة واحتمال إقلاع الطائرة من دونه لذلك طلب منه المحقق أن يبقى في صلب الموضوع كيلا يفوته موعد الطائرة وسأله عن فحوى الكاسيتات العشرة وكان ردّ جمال بأنها "لقطات عائلية وأفلام عن الحياة اليومية" وإمعاناً في الإيضاح قال بأنه يصوّر الشوارع والمقاهي وحياة الناس، وبينما كان المحقق يثني على موهبته التصويرية سأله إن كان لديه إجازة تصوير فردّ جمال بأنه لا يحتاج إلى مثل هذه الإجازة لأنه لم يصوّر فيلماً وإنما هي مجرد لقطات ومشاهد يحتفظ بها لأرشيفه الخاص، أو لبعض السيناريوهات التي يكتبها، أو للذكرى. ثم طلب منه أن يضع كاسيتاً آخر كجزء من اشتراطات اللعبة التي تنتهي بوضعه في فخ الاتهام حيث يخبره بأن هذا الشريط يتوفر على أشياء مهمة لكن جمالاً ينبري مدافعاً عن نفسه ويقول بأن مواد هذا الشريط عادية وهي لا تختلف عما تشاهده في المحطات الفضائية كل يوم. ولكي يضعه في زاوية ميتة لا يُحسد عليها يخبره المحقق بأنه سيد العارفين بأهمية الصورة وخطورتها وأن صور هذا الشريط ممكن أن تفضي بصاحبها إلى الجحيم. لا يتوقف اتهام المحقق عند هذا الحدّ بل يتجاوزه إلى النوايا حينما يخبره بأنّ نيته لم تكن حسنة هذه المرة، فقد جاء للتخريب واتهمه بأن قناة تلفزيونية أو جهة أجنبية معادية هي التي دفعت له الأموال بغية صناعة هذا الفيلم، وهدده بضرورة الكشف عن هذه الجهة الأجنبية وإلاّ فلن يكون بإمكانه أن يرى بلده ثانية. ولكي يفاقم من أوضاع جمال النفسية طلب منه أن يعطيه هاتفه النقال كي يرى الصور التي التقطها خلال الأسابيع الثلاثة. ثم قدّم له جرعة من المخاوف الجديدة حينما أخبره بأنه قد صوّر كل الفنانين والمثقفين الذين يعادون البلد فكان رد جمال أنه غير مسؤول عن آرائهم الشخصية فهم مجرد أصدقاء يزورهم بين أوانٍ وآخر.
يقع الضحية في خانق اليأس فيتوسل بالمحقق أن يكفّ عنه لأنه سوف يتأخر على موعد إقلاع الطائرة فيهدده الأخير بأنه يمكن أن يزجّ به في السجن بسبب هذه الكاسيتات الممنوعة والصور التي يحملها في هاتفه النقال. وحينما يحاصره من الجهات الأربع ولم يترك له منفذاً يتملص منه طلب منه أن يفتح الحقيبة الأخرى ليرى ما فيها من مصائب فيخرج جمال سجائره وزجاجة ويسكي لنكتشف في خاتمة المطاف أن المحقق يدخن نفس النوعية من السجائر كما يفضل ذات الويسكي الذي يحمله جمال في حقيبته، ولكي لا يُزَّج جمال في السجن فقد ترك ما اقتناه على طاولة المحقق الذي وعده بأنه سوف يدخن هذه السجائر الثمينة، وسوف يشرب أول نخب من الويسكي بصحته لتتكشف خيوط لعبة النصب والاحتيال وابتزاز المواطنين في وضح النهار.

السخرية الصامتة
لقد جسّد المخرج محمد توفيق خلال عشر دقائق العديد من المشكلات التي تبدأ من الإذلال والإهانة، مروراً بالترهيب والترغيب، وأنتهاءً بالسلب والنهب العلنيين في مكان حساس يُفترض أن يكون واجهة البلد الحضارية. وعلى الرغم من قِصر مدة الفيلم إلاّ أنه يُحيط المُشاهد علماً بأن البلدان العربية سواء في العراق أو سوريا أو مصر وبعض بلدان المغرب العربي تتململ من أنظمتها الرجعية المتخلفة التي أشاعت الفساد في أروقة الدولة والمجتمع ويمكن ملاحظة العديد من التظاهرات والاحتجاجات التي صورتها كاميرا المخرج السينمائي جمال باعتبارها صوراً من الحياة اليومية أو جزءاً من أرشيفه الشخصي. كما نكتشف أنّ الشخصين اللذين يتناصفان البطولة "جمال أمين" و "كاظم السلّوم" هما رفاق سلاح ومعركة، فحينما كان جمال يصوّر فيلماً في بيروت عام 1982 أحس بألمٍ وطنينٍ في أذنيه بسبب الصوت المدوي للطائرة، بينما كان المحقق كاظم طيّاراً وربما كانت طائرته هي السبب في إحداث هذا الطنين في أُذنيّ جمال!
ينطوي هذا الفيلم على سخرية سوداء يمكن تلمّسها في طنين أذني جمال وفي كل المواقف التي مرّ بها من الشك إلى الاستجواب المتواصل وانتهاءً بالسلب القهري والابتزاز المُعلن اللذين يكشفان دونما لبس أو غموض أن الإنسان العربي هو "شبه مواطن" بحسب توصيف وارد بدر السالم، وأن البلدان العربية هي "أشباه دول" فلا غرابة إذا ما سرقوه في رابعة النهار!
لا تكمن قوة الفيلم في رصانة الثيمة أو في طريقة معالجتها على الرغم من قوة هذه الأخيرة لأنها تكشف عن الرؤية الفنية للمخرج. فالتصوير كان مهنياً ودقيقاً بحيث استوفى شروط النجاح وضاعف نجاحه البُعد التعبيري للقطات المقرّبة التي أظهرت تنمّر المحقق وتذمر الضحية وكبتها للغيظ الذي يغلي في أعماقها وقد تلمسنا ذلك من خلال اللقطات المقرّبة التي اصطادها المصوِّران عمار جمال وزاهر كريم. أما سلاسة الفيلم فهي تعود إلى المونتير سامر حكمت الذي استأصل كل ما من شأنه أن يعوق عفوية السرد، ويعرقل تلقائية الانسياب الذي اكتمل مع بلوغ الحدث إلى النهاية غير المرتقبة التي مالت فيها كفة الابتزاز على كفة الخشية على أمن الوطن، وسلامة المواطن. لابد من الإشارة إلى أهمية الموسيقى التي وضعها أحمد حدّاد وأعاد بواسطتها صياغة الفيلم من جديد فقد كانت مقتطفاته الموسيقية دقيقة جداً وكأنها جزء من نسيج الصور والأحداث والشخصيات. وفي الختام لا يمكننا إلاّ أن نشيد بجهود المخرج المبدع محمد توفيق وبشاشاته التي تحمل توقيعه وبصمة الإبداعية الخاصة به، فقد عرفناه في أفلام كثيرة نذكر منها "شاعر القصبة"، "صائد الأضواء"، "أنا والفصول الأربعة" وغيرها من الأفلام التي نالت اهتمام النقاد والمشاهدين على حد سواء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن