تونس: شهادة حول الخميس الأسود من سنة 1978

محمد الحمّار
mohamedhammar1@gmail.com

2015 / 1 / 26

كانت الساعة تشير إلى حوالي الحادية عشر في يوم 26 جانفي 1978...كان تفاعل الناس مع خبر الإضراب العام الذي أعلنه "الاتحاد العام التونسي للشغل" (كان أمينه العام آنذاك الحبيب عاشور- عضو أيضا بالديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، الشق الاشتراكي)... كان تفاعلهم، خاصة الشباب منهم... سريعا وعنيفا.

وجدت نفسي مع نفرٍ من الفضوليين في رأس "نهج سيدي الرصّاص" المشرف مباشرة على نهج باب سعدون... كان اتجاه "الباب" يمينا واتجاه بطحاء باب سويقة شمالا، على بُعد ثلاثين مترا تقريبا.

عدا حركة الفضوليين والغاضبين الذين اعتلى بعضهم سطوح الديار والدكاكين بِنيّة الفرجة على مشهدٍ ضخم ...وكأنهم كانوا يتوقعون حدوثه بين الفينة والأخرى...وعدا حركة المقاهي... كانت الحياة ميّتة... الدكاكين محكمة الغلق... حركة مرور السيارات منعدمة تماما... عدا بضعة عجلات مطاطية لا أدري من أين جُلبت وبدأت تشتعل الواحدة تلو الأخرى... على يميني وعلى شمالي... و عدا بعض البراميل كبيرة الحجم التي كانت منتصبة في قلب البطحاء (في شكلها القديم...قبل أن يتمّ هدم الحيّ في سنة 1983 ليلبس "حُلته" الحالية)...عدا ذلك، لم أكن أتوقع ما الذي سيحدث.

لكني بدأت أفهم وظيفة البراميل حين رأيت الشباب يرجمُون أعوان فرقة النظام العام بوابل من الحجارة من عدة اتجاهات...والأعوان يتوقّون وراء البراميل ...ويردّون بنفس الحجارة تارة...بنفس الحجارة المستعملة من طرف جمهور الشباب...و بالقنابل المسيلة للدموع تارة أخرى.

لم يسل دمعي بعدُ... لكن فجأة بدأت فرق من الجيش تنزل إلى الميدان ....ميدان البطحاء... لتعوّض فرَق النظام العام ...وبدأت تكتسح البطحاء شيئا فشيئا...كان بجانبي جمعٌ من الفتيان ممن انضموا إلى كتائب الرجم...كنت أسبّق رأسي وعنقي خارج رأس النهج...لكي أكون قادرا على التراجع إلى الداخل...بين حائطَي النهج الضيق... حتى لا يمسني الرجم العكسي بسوء...حتى لا أستنشق جرعات ثقيلة من الغاز.

كنا نكتفي برصد ما يجري في "ساحة الوغَى" عبر حركاتِ وسكناتِ نظرائنا من الشباب المتمركزين على الجبهة المقابلة لجبهتنا ...بـ"نهج سيدي البهلول"، الجار المنافس...شعرت لأول مرة منذ أكثر من عشرين سنة أنّ شباب الحومة المقابلة وشباب حومتنا قد أبرموا اتفاق هدنة "حومانية" غير مسبوقة... لينضمّوا إلى قضيةٍ واحدة في هذا اليوم.

تمادت حركة المدّ والجزر...بين شباب ثائر لكنه غير فاهم، وقوةٍ عسكرية ظننّا في الأوّل أنها أُنزلت (كان وزير الدفاع آنذاك عبد الله فرحات في حكومة الهادي نويرة الليبرالية) لتطويق المشهد بقوةِ ردعٍ حضوري دون سواها...لكن هيهات...أخرجنا رؤوسنا من مخبئنا الطبيعي...ثم أخرجنا أجسامنا بأكملها... ثمّ عدنا على أعقابنا بسرعة مذهلة... بنفس السرعة... سرعة هُيّأ إليّ أنها سرعة العيارات...التي ما لبث أن أطلقها أصحاب البذلة الخضراء باتجاهنا...يمنة ويسرة...لكن بتصويب دقيق...لقد احمرّ المشهد في رمشة عين: رأيت شبابا يتقدمون بضعة أمتار نحو "ساحة الوغَي"...ليلتقطوا طفلا أو فتى ...جسمه يقطر دما... لم تكن العيارات مسيلة للدموع...كانت مسيلة للدم... يعود الشباب بالجسم في لمح البصر إلى قواعدهم... سالمين...لكن الضحية لم تسلم ...بما يكفي لتبقى على قيد الحياة.

من الناحية الأخرى لـ"نهج سيدي الرصّاص"...من جهة حي الحلفاوين... كانت الرصاصات تنطلق من ساحة باب سويقة ...عبر سوق الجزارين...ترسي فوق حائط حمام الوضوء المجانب لجامع "الباي محمد"...وكانت الضحايا تسقط...واحد هنا...وواحد هناك...واحد من فوق السطوح...وآخر من وراء الأنهج والأزقة.

أصيب "الغول" برصاصة في رقبته ... فقط اخترقت جلدة عنقه ...نجا من الموت وهو اليوم يعمل نجارا بالحيّ...تلقى ح."الشنوة" عيارا أرسى في أحد فخذية...رأيته محمولا نحو منزله لتلقي إسعافات أهلية...بلغنا خبر وفاة سي نورالدين ف. صاحب مقهى مشهور بحي الحلفاوين... لقد أصيب بحجر بينما كان يقود سيارته في مكان آخر من العاصمة... توفي "ولد النحايسي" بعد أسابيع من الإعاقة جرّاء إصابة خطيرة...أصيب "ولد حومة" في إحدى عينيه ففقدها وكلما أراه اليوم يمرّ شريط الأحداث في مخيلتي وكأنها حصلت بالأمس.

كانت الأرقام الرسمية تتحدث عن أربعين حالة وفاة في كامل البلاد... وحسب البلاغات المستقاة من مجموع المستشفيات....بينما سأشاهد بعد الظهر... بأمّ عيني...من أعلى الربوة داخل مستشفى شارل نيكول لوحده...من فوق الربوة المقابلة لبيت الموتى ....عبر النوافذ البلورية ...أكداسا من الجثث... وسأعلم بعد يومين، عن طريق والدتي، التي كانت آنذاك طريحة الفراش بالمستشفى والتي كنت في زيارة لها صحبة أحد شقيقيّ...للاطمئنان عليها...ولطَمأنتها على صغارها السبعة...بعد "فسحة" مخترِقة لسحابات الغاز المسيل للدموع... من باب سويقة إلى شارع 9 أفريل... عبر الأنهج الخلفية... سأعلم أنّ عدد الجرحى بلغ حدّا لا يطاق...إلى درجة أنّ إدارة المستشفى تلقت أوامر بترحيل المرضى "المعافين" ليتركوا فراشهم لغيرهم ممن سقطوا أثناء الأحداث...ولو كانوا من المرضى-مثل والدتي – الذين كانت ستجرى عليهم عمليات جراحية... ولو كانوا سيناضلون من أجل الحفاظ على مبررات الشفاء...والبقاء... من بين الأحياء، بينما هم قيد انتظار دورهم من جديد للحصول على فراش استشفائي.

ربما كانت زيارتي الخاطفة للمستشفى هروبا من الموت الغادر... تبرّكا برؤية عالم من الأحياء ولو كانوا من غير الأصحّاء... لكن سيثبت أنّ "الخميس الأسود" كان أعتى من أن يجنّب بعض هؤلاء المرضى من أن يَلقَوا حتفهم... هم بدورهم....في غضون الأشهر القليلة الموالية...لكن بلا رصاص.

واليوم ونحن نحيي الذكرى السابعة والثلاثين لخميس الدموع... والدم... وسواد الأفق... بماذا عسى أن نكافئ من سقطوا شهداء الصراعات الاشتراكية/الليبرالية لكي نحيى و تحيى تونس؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن