عنجهية فرنسية فارغة

وليد الحلبي
halabi.walid@gmail.com

2015 / 1 / 14

لئن أنت نظرت اليوم في مرآتك الخلفية وأنت تقود سيارة الزمن، فلسوف ترى أن حادث صحيفة "شارل إيبدو" الذي وقع الأسبوع الماضي في باريس، قد ضاع وتلاشى في غبار صيحات الحرب التي نضح بها خطاب الرئيس الفرنسي "أولاند" هذا اليوم – الأربعاء – من على متن حاملة الطائرات "شارل ديغول" في ميناء تولوز، ولم يكن ينقص الرئيس الفرنسي سوى ارتداء ملابس رئيس أركان القوات المسلحة، وأن يتأبط مدفعاً رشاشاً، بينما كان يكيل التهديدات يميناً وشمالاً، من موريتانيا إلى الخليج العربي، مروراً بباقي دول الساحل (النيجر ومالي وتشاد وبوركينا فاسو)، فما قاله أولاند بكل هذه العنجهية يصب في صالح أصحاب نظرية - وفي رأيي قانون - المؤامرة. فحين تردد بعد الحادث الإرهابي في باريس أن الأمر قد حيك بليل، وبفعل استخباراتي محض، كما قيل سابقاً عن أحداث 11 سبتمبر 2001، كان الكثيرون – وأنا منهم – يرفضون تلك الترهات، ويعزونها إلى ضعف في التفكير وقصور في الفهم، لكن خطاب الحرب الناري الذي ألقاه الرئيس الفرنسي هذا اليوم يؤكد الكثير من الشكوك التي ثارت حول ما يجري هذه الأيام في فرنسا، بل والعالم الغربي بأسره، من تحريض ضد المسلمين، وتجييش الجيوش للقضاء على "الإرهاب" المزعوم، ذاك الذي تبدو أصابع المستفيدين من نتائجه غيرَ بعيدة عن حياكته.
من المؤكد أن فرنسا تجدد رغبتها هذه الأيام في العودة بقوة إلى الساحة الدولية، فلو عدنا إلى التاريخ البعيد، لوجدنا أن دعوات الحروب الصليبية قد انطلقت أول ما انطلقت من فرنسا، لكنها مع باقي الدول الصليبية أُرغمت على الجلاء عن بلاد الشام بعد حوالي المئتي سنة، بعد أن خلفت فيها الدمار والبؤس، ولو قفزنا إلى التاريخ القريب، لرأينا فرنسا وقد جُدع أنفها في حرب فييتنام الأولى على يد الجنرال "جياب" عام 1954، لكي يقطع ذيلها، هي وبريطانيا، بعد عامين فقط في حرب السويس 1956 على يد عبد الناصر، فتخرج من الشرق الأوسط لكي تحل مكانها الولايات المتحدة، ثم ليُقصم وسطها بعد ست سنوات في الجزائر بدماء ثوار جبهة التحرير، عندما أرغمت على الجلاء عن بلاد استعمرتها باستيطان وقح، ودعاوٍ غبية، لمدة 132 عاماً. هذه الهزائم، مضافاً إليها احتلال باريس مرتين على يد الألمان في الحربين العالميتين الأولى والثانية (قيل على سبيل التهكم بأن قوس النصر في باريس بناه الألمان لكي يدخلوا باريس من تحته كلما عنً لهم ذلك)، جميع ما ذكر ولَّد في لا وعي الفرنسيين مركب نقص لم يكن لينفك إلا بالعودة إلى الساحة الدولية. وربما وجدت فرنسا سبيلها إلى ذلك في مسارعتها إلى تلبية دعوات رأس محور الشر – الإدارة الأمريكية – في طلباتها المتكررة لتشكيل تحالفات عسكرية وسياسية واقتصادية للتصدي لأنظمة الحكم الوطنية، كما في غزو العراق 2003، أو لمحاربة ما تطلق عليه "الإرهاب"، وهو العنف الذي ولدته الولايات والمتحدة في سجنها في غوانتانامو، والذي نما وترعرع في سجون الأنظمة العربية التي رعتها أمريكا في العراق وسوريا وليبيا والسعودية، والتي كانت ترسل إليها المشتبه بهم للتعذيب على أيدي جلادي أجهزة مخابرات تلك الدول، ثم من خلال اختراق استخباراتي خبيث لصفوف الناقمين على سياسات الغرب، وهم كثر، للقيام بعمليات مثل تلك التي وقعت الأسبوع الماضي في باريس، لكي تؤخذ ذريعة لارتداء الخوذات، وتأبط الرشاشات، وإرسال حاملات الطائرات وآلاف الجنود. هي دائرة الإرهاب المفرغة التي لا يمكن الخروج منها، ببساطة: لأنها البوابة الوحيدة التي تسمح للدول الاستعمارية بالعودة إلى منطقة غادرتها منذ أكثر من نصف قرن رغم أنفها، كما أنها العذر الوحيد لها لدعم أنظمة شرق أوسطية دكتاتورية بحجة أنها تحارب الإرهاب، كما في سوريا ومصر، حيث انشرح صدر نظامي ذينك البلدين بعد حادث باريس، واطمأنا إلى أنهما قد أصبحا حليفين قويين في صف الدول الغربية التي تحارب "الإرهاب"، وربما فات النظامين في سوريا ومصر أن الموقف الأوربي الحالي بمتابعة واعتقال من يشتبه فيهم بالعمل داخل الجماعات التي تقاتل في مصر وسوريا، ينفي تهمة تآمر الغرب على تلك الدكتاتوريات، بل ويثبت بشكل قاطع أن الجميع يقفون في صف واحد ضد تطلعات شعوب الربيع العربي، الطامحة إلى الخروج من تحت نعال الدكتاتورية. فبدل الجنوح إلى معالجة جذور الإرهاب، والتقرب من أماني الشعوب، نرى الغرب يسير في اتجاه معاكس، ولن نكون بعيدين عن الحقيقية إن قلنا بأن تتبع خيوط التاريخ العربي المعاصر، تقود حتماً إلى حقيقة أن القضية الفلسطينية وزرع إسرائيل في هذه المنطقة ودعمها المطلق، هي الجذور الحقيقية لما يسمونه "الإرهاب"، فهل يستطيع العربي أن ينسى اسم المدفع الرشاش الفرنسي (هوشكيز) في حرب 1948،وطائرتي (الميستير) و (الميراج) الفرنسيتين، واللتين كانتا ذراع إسرائيل وعنوان تفوقها وانتصارها في حروبها ضد العرب في حربي 1956 و 1967 على التوالي، وهل بلغ بنا الشرود لكي ننسى أن المفاعل النووي الإسرائيلي في "ديمونا" هو صناعة فرنسية.
في الثاني من مايو، أيار، عام 2003، ألقى الرئيس الأمريكي المجرم "جورج بوش" ، بعنجية الكاوبوي، خطاباً من على متن حاملة الطائرات "ابراهام لينكولن" أعلن فيه انتهاء العمليات العسكرية في العراق، والتي لم تنته حتى الآن، وبعنجهية الفارس الصليبي ألقى الرئيس الفرنسي "أولاند" خطابه الناري اليوم من على متن حاملة الطائرات "شارل ديغول"، ولو أضفنا إلى هذه العنجهية الفرنسية الفارغة التي عبر عنها خطاب "أولاند" وجرائمَها في جميع مستعمراتها عبر البحار، وأَنَفَتُها التي منعتها حتى من الاعتذار عن قتل ملايين الضحايا الذين أبادتهم، كل هذا يوحي بأن فرنسا مقبلة على كارثة هائلة، ربما تبدو معها هجمات الحادي عشر من سبتمبر نزهة ربيعية ممتعة في حديقة "سنترال بارك" في نيويورك.
وليد الحلبي
يناير 14- 2015



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن