شَمْلَلَةُ الدُّستور!

كمال الجزولي
kgizouli@gmail.com

2015 / 1 / 11

(1)
التَّصرُّف الوحيد المتوقَّع مِمَّن يكتشف أن الطريق الذي يسير فيه مسدودٌ، هو أن يتوقَّف، ويستدير، ليقفل عائداً إلى نقطة تقوده بالاتِّجاه الصَّحيح، إلا حزب المؤتمر "الوطني" الحاكم في السُّودان، ما ينفكُّ يختار، المرَّة تلو المرَّة، الطريق الخطأ، فما يبلغ، في كلِّ مرَّة، سوى الهدف الخطأ. ثمَّ، وبدلاً من أن يتعلم من هذا الخطأ، ما يلبث أن يعيد الكرَّة نفسها، بإصرار وعناد غريبين، تماماً على ذات خطى آل بوربون في فرنسا الذين لم يتعلموا شيئاً أو ينسوا شيئاً، على مدى قرون منذ السادس عشر. هكذا، أيضاً، لم يرعو أهل النظام في السُّودان، طوال ربع القرن الماضي، أو ينتبهوا لأعطاب سياساتهم المتفاقمة، حتَّى بعد أن أفضت، ليس، فقط، إلى تأجيج الحرب الدَّاخليَّة، وتهديد السَّيادة الوطنيَّة، وتدويل قضايا البلاد، بل وأفضت إلى أمِّ الآثام .. فصل الجَّنوب، مثلما أفضت، من قبل ومن بعد، إلى بناء مؤسَّسة أمنيَّة متورِّمة، مكَّنتهم، بمناهج الدَّولة البوليسيَّة، من إهدار الموارد، ونهب الخزينة، وتدمير الاقتصاد، وطرد الكفاءات، ونشر الفساد، وإضعاف الصحَّة، وتخريب التعليم، وتمزيق النَّسيج الاجتماعي بإشاعة ثقافة العنف، والمخدِّرات، والجِّنس البخس، والتَّهتك الأخلاقي، وكلِّ ما يشهد الشَّارع من فوضى، ومن انهيارات، وانكسارات، واحتضارات، في قيم كانت، من قبل، مرعيَّة، وما كلُّ ذلك سوى غيض من فيض!
في هذا السِّياق مضى النظام يتعثَّر في طمي عجزه اللبيك عن استثمار الفرص التي هيَّأها له مجلس الأمن الدَّولي، والاتحاد الأفريقي، لتسوية نزاعاته الحربيَّة مع مفردات الجَّبهة الثَّوريَّة، والسِّياسيَّة مع أحزاب المعارضة السِّلميَّة. وعلى هذا الحال بقي يتخبَّط، من سيئ إلى أسوأ، في رمال أخطائه المتحرِّكة، بين تسبُّبه في جمود المفاوضات مع مفردات "الجَّبهة الثَّوريَّة" بالعاصمة الإثيوبيَّة، حيث ظلَّ يفتقر للإرادة الكافية، ويفتقر وفده للديناميكيَّة المطلوبة، وبين تسبُّبه في ضمور مبادرة "الحوار" التي كان اجترحها هو نفسه، بالخرطوم، قبل عام كامل، وفي خلخلة آليَّة تنسيقها المعروفة باسم "7 + 7"، حيث أثبت عجزه عن النهوض باستحقاقاتها التي بحَّت حنجرة المعارضة من طلبها، وعضَّدتها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي.

(2)
ولكأنَّه استمرأ السَّير في الطريق المسدود، والانغماس في الواقع المزري، أقدم النِّظام، ما بين فشله في رسم السِّياسات، وفشله في إدارة المفاوضات، على المضي، بذات العناد، في اتِّجاه فشل جديد، برأسين يتداخلان وثيقاً، وإنْ تباعدا، بآلاف الفراسخ، عن أيِّ احتمال للتوصُّل إلى أيَّة تسوية تفاوضيَّة مع المعارضة، سلميَّة كانت أو مسلحة، أو لقطف ثمرة واحدة من أيَّة عمليَّة حواريَّة، بدا، لبعض الوقت، كما لو كان راغباً فيها: الرَّأس الأوَّل إقامة انتخابات رئاسيَّة ونيابيَّة في أبريل 2015م، والرَّأس الآخر إنفاذ تعديلات دستوريَّة بإجراءات معيبة. ولا يعني كلاهما، في ظلِّ نظام ما يزال على شموليَّته، سوى "شَمْلَلَة الدستور"، صراحة، تصحيفاً لكلمة بعض اللماحين الفطنين في وصف هذه العمليَّة بـ "دسترة الشُّموليَّة"!
بذينك الاجرائين استكمل النظام إقامة الدَّليل، بنفسه، على صحَّة رميه، منذ البداية، من جانب المعارضة، بعدم الجِّديَّة، سواءً في اجتراح "الحوار"، أو في التَّظاهر بقبول "التَّفاوض"، وليس شيء من كلِّ ذلك إلا محض تدبير من جانبه لادِّعاء مرونة منتحلة، ريثما يُجري انتخابات يضمن نتيجتها بضربة خاطفة، ظنَّاً من عند نفسه بأن من شأن ذلك أن يكفل له أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه، وغافلاً عن أن جدليَّات الصِّراع يمكن أن تنفخ، بفعل ذلك التَّدبير نفسه، رياحاً جديدة في أشرعة المعارضة، من سنخ دفعها إلى التَّضامِّ، بالغاً ما بلغ تفرُّقها، وتوحيد كلمتها مهما بدا بينها من خلاف!

(3)
هكذا، وبعد أن حزم النِّظام أمره بإقامة الانتخابات القادمة، مطلقاً رصاصة الرَّحمة على "حوار الوثبة"، وكذلك بترشيح البشير لدورة رئاسيَّة جديدة، حتف أنف ما أثير، حتَّى داخل الحزب نفسه، من عدم دستوريَّة ذلك الإجراء، عاد ليدفع إلى المجلس الوطني، عن طريق رئيس الجُّمهوريَّة نفسه، بطلب إجراء ثلاث تعديلات يستصلح بها تربة مناسبة للرِّئاسة القادمة، في ما يتعلق بتعيين الولاة بدلاً من انتخابهم، وتحصين بعض قرارات الرَّئيس من أيِّ طعن، وتحديد أراضٍ اتحاديَّة خارج إشراف الولايات لتسهيل الاستثمارات الأجنبيَّة.
غير أن اللجنة البرلمانيَّة الطارئة، برئاسة بدريَّة سليمان، والتي عُهِد إليها بدراسة وتقديم تعديلات الرِّئاسة الثلاثة، دفعت إلى المجلس بثمانية عشر تعديلاً إضافيَّاً، مِمَّا حدا بعواطف الجَّعلي، عضوة اللجنة، إلى الانسحاب منها احتجاجاً (صحف؛ 4 يناير 2015م).
وتتراوح أبرز التَّعديلات التي أجازها البرلمان، وصادق عليها الرَّئيس، رغم كلِّ ما طالها، وما زال يطالها، من نقد، بين سلب الولايات حقوقها في انتخاب ولاتها، مِمَّا يشكل تناقضاً صارخاً مع النَّصِّ على "الحكم اللامركزي" ضمن المادة/1/1 من الفصل الأوَّل من الباب الأوَّل؛ وتضمين اتِّفاقـي الشَّرق والدَّوحة في الدُّستور، مِمَّا يقطع الطريق، مباشرة، أمام أيِّ حوار، ويضع المعارضة المسلحة لاتِّفاق الدَّوحة، بالذَّات، أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، فإمَّا الرُّضوخ أو الحرب؛ وإلى ذلك وضع جهاز الأمن والمخابرات الوطني على قدم المساواة مع القوَّات المسلحة، والإقرار له بما كان انتزعه من سلطات في الممارسة العمليَّة تفوق سلطاته الدُّستوريَّة المحدَّدة، أصلاً، في نصِّ المادَّة/ 151، "بجمع المعلومات، وتحليلها، وتقديم المشورة للسُّلطات المعنيَّة". وعلى حين كان الجِّسم السِّياسي والمدني الدِّيموقراطي ما يزال ينافح عن نصِّ تلك المادَّة من الدُّستور، في مواجهة "قانون الأمن الوطني لسنة 2010م" المتجاوز لها، صدر التَّعديل الدُّستوري الحالي ليجعل "القانون" متَّسقاً، في الحقيقة، مع أوضاع لطالما استقرَّت في "الممارسة"، وليجعل من ذلك أخطر التَّعديلات طرَّاً! ولعلَّ المفارقة تبدو، هنا، أكثر جلاءً، حين نذكر لجنة المرحوم أنطونيو كاسيوسي الدَّوليَّة التي حققت في جرائم دارفور بتكليف من مجلس الأمن، أواخر 2004م ومطالع 2005م. فالمآخذ التي رصدتها تلك اللجنة على سلطات الجِّهاز، بموجب قانون قوَّات الأمن لسنة 1999م، شكلت بعض أهمِّ الحيثيَّات التي استندت إليها توصية لجنة كاسيوسي بإحالة الملف إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، علماً بأن تلك المآخذ كانت، وقتئذٍ، أقلَّ بكثير مِن المآخذ التي ظهرت، لاحقاً، في قانون 2010م، ناهيك عن التَّعديل الدُّستوري الحالي الذي يدعم تلك المآخذ بالمطلق، كما قد رأينا. وإلى ذلك حصَّنت التَّعديلات قرارات الرَّئيس من المراجعة والمقاضاة.
أما الطريقة التي اتُبعـت في إجـازة هذه التَّعـديلات فما من أحد يستطيع، إلا بالكثير من المغالطة والمكابرة، أن يزعم أنها تتسق ونصَّ الفقرة/1 من المادَّة/224 التي تحتِّم، لإجراء أيِّ تعديل في أيِّ نصِّ من الدُّستور، أن يقدَّم مشروعه قبل شهرين على الأقل من المداولات، ثمَّ يقدَّم لكلٍّ من مجلسي الهيئة التَّشريعيَّة لأخذ موافقة ثلاثة أرباع جميع أعضائه في اجتماع منفصل. ولم تكن تُستثنى من هذا الإجراء، حسب الفقرة/2، سوى التعديلات التي كان من شأنها، قبل الانفصال، أن تؤثر على نصوص اتفاقيَّة السَّلام الشامل، فلا تُطرح أمام الهيئة التَّشريعيَّة إلا بموافقة طرفيها. لكن نصَّ الفقرة/1 المذكور لم تتم مراعاته بطرح التَّعديلات الرَّاهنة على كلٍّ من المجلسين على حدة. وحتَّى إذا افترضنا، جدلاً، صحَّة أخذ الأصوات في اجتماع مشترك، فإن التَّحقق من حضور جميع أعضاء المجلسين لم يتم، كما وأن الأصوات نفسها جرى أخذها، عشوائيَّاً، بقول "نعم"، مِمَّا لا يسمح بالتَّحقُّق من نسبة الثلاثة أرباع، وتلك كلها خروقات دستوريَّة فظة.


(4)
كان من رأي الكثيرين، وربَّما حتَّى الآن، أن لجنة بدريَّة تجاوزت اختصاصاتها وصلاحيَّاتها، فأتت بذلك شيئاً إدَّاً! ثمَّ لمَّا فجَّرت استقالة عواطف شبهة كون اللجنة لم تكن على علم بتلك التعديلات الإضافيَّة، وإنَّما جرى تحشيرها من خلف ظهرها، اتَّجهت الأنظار، ببساطة، إلى رئيستها بدريَّة، فليس غيرها مَن يمكن توجيه الاتِّهام إليه في مثل تلك الملابسات! لكنها ظُلمت، في رأينا، عندما حُمِّلت مسؤوليَّة "ابتدار" التَّعديلات الإضافيَّة بتقديرات ذاتيَّة خاطئة، دون تدخُّل من الرِّئاسة، حيث أن ذلك لا يستقيم، لا مع المنطق السَّوي، ولا مع تاريخ بدريَّة نفسها!
فمن جهة أولى يستحيل، في ظلِّ تركيز السُّلطة، أجمعها، في شخص الرَّئيس، فعليَّاً، حتى قبل تشريع ذلك بالتَّعديلات دستوريَّاً، أن يجرؤ كائن من كان في النِّظام، بدريَّة أو سواها، على خطوة كهذه بدون تعليمات الرِّئاسة، دَعْ أن يتمَّ ذلك بدون موافقتها!
أما من جهة ثانية، فإن سابقة استخدام النميري لبدريَّة، مع آخرَيْن، في قلب مجمل النِّظام القانوني السُّوداني، عام 1983م، إلى ما أشاعوا أنه "الشَّريعة الإسلاميَّة" المعرَّفة بالألِف واللام، تنفي عنها موهبة "الابتدار"، لتؤكِّد، فقط، استعدادها لـ "التنفيذ"، مع كلِّ ما يستلزم ذلك من قدرة على صون الأسرار، ودقَّة في تنفيذ التعليمات، وتفانٍ في حفظ ما أئتمنت عليه، والتزام بالاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان .. وكلٌّ ميسَّر لما خلق له!
نتوقَّف هنا لمعالجة السُّؤال المشروع عمَّا، تراه، حال دون طرح الرَّئيس لهذه الجَّمهرة من التَّعديلات الإضافيَّة على البرلمان بنفسه، طالما أن بيده، فعليَّاً، كلَّ هذه السُّلطة، ولِمَ احتاج إلى بدريَّة في أمر كهذا! للإجابة، لا بُدَّ من الأخذ في الاعتبار، قبل كلِّ شيء آخر، بحقيقة أن تركيز السُّلطة في يد الرَّئيس ما تزال تمضي قدماً، لكن عبر صعوبات جمَّة، ولعلَّ من بين دواعي هذه التَّعديلات حَسْمُ "الصِّراعات" التي ظهرت، جليَّة، خلال مؤتمر الحزب الحاكم، مِمَّا اضطر الرئيس نفسه لتهديد "مراكز القوى" التي برزت آنذاك.
…..........................
…..........................
الشَّاهد أنه، في إثر تكاثر النقد الذي وُجِّه لإجراءات اللجنة، حاولت بدريَّة سوق الحُجج للإقناع بشرعيَّة عملها، من شاكلة أن "تعديلاتها (تتماشى!) مع تعديلات الرِّئاسة!" (شبكة الشروق؛ 6 يناير 2015م)، وذاك قول مردود، بطبيعة الحال، كون مهمَّتها تنحصر في دراسة وتقديم "تعديلات الرِّئاسة" إلى البرلمان؛ وفي ما عدا ذلك ليست لديها سلطة تقديم أيِّ تعديل آخر، حتى لو كان من رأيها أنه "يتماشى" مع "تعديلات الرِّئاسة"، فالرِّئاسة أولى، إن شاءت، بأن تقدِّم إلى البرلمان، بنفسها، ما تراه "متماشياً" مع تعديلاتها. لذا فإن بدريَّة كانت، في الحقيقة، تناطح صخرة المادة/1/58/ح من الدُّستور نفسه، والتي تنصُّ على أن رئيس الجُّمهوريَّة هو من "يبتدر التعديلات الدُّستوريَّة، والتَّشريعات، ويصادق على القوانين"!

(5)
تتبقى ملاحظتان جديرتان بإيرادهما هنا، أولاهما قصيرة جداً، وتتعلق بموقف الحزب الاتِّحادي الدِّيموقراطي "الأصل" من هذه التَّعديلات، حيث لا نحتاج إلى أيِّ إطناب في شأنها، إذ يكفي أن نشير إلى أن "حزب الحركة الوطنيَّة" رحَّب بالتَّعديلات، بل وحاول تبريرها، على لسان أحمد سعد عمر، بأكثر العبارات غموضأ وإبهاماً، بقوله إن سببها هو "المتغيرات السِّياسـية!"، و"الآثار السَّالبة لانتخاب الولاة!" (شبكة الشُّروق؛ 5 يناير 2015م) .. فتأمَّل!
أمَّا الملاحظة الثانية فتحتاج إلى ذاكـرة قـويَّة نسأل الله أن تسعف الجَّميع، وتتعلق بانسحاب كتلة "المؤتمر الشَّعبي" من جلسة إجازة التَّعديلات في مرحلة القراءة الثانية، مساء 3 يناير، واصفين إيَّاها بأنها "جريمة!" (صحف ـ حريَّات؛ 4 يناير 2015م).
ولعلَّ أوَّل ما يطرق الذاكرة، هنا، وجه الشَّبه بين ملابسات إجازة هذه التَّعديلات، وملابسات إصدار دستور 1998م. ففي ذلك العام البعيد لم تكن الحركة الإسلاميَّة قد انقسمت بعد، وكان التُّرابي زعيمها الأوحد بلا منازع. وعندما اعتزم النظام إصدار ذلك الدستور، عَهَدَ به إلى لجنة "قوميَّة" ضمَّت ستمائة من زبدة الكوادر القانونيَّة والأكاديميَّة، وفـي رأسـهم العالمـان الجَّـليـلان خـلف الله الرَّشـيد ودفـع الله الرَّضـي، عليهمـا رحمـة الله ورضوانه، وقد مارسوا عملهم لأشهر طوال في "قاعة الصداقة" بالخرطوم، إلى أن أعدُّوا المسودة المطلوبة، ودفعوا بها، عن طريق رئاسة الجُّمهوريَّة، إلى البرلمان لإجازتها. لكن ما كادت تلك المسودة تخرج للعلن، خلال بضعة أيام، حتَّى أنكرها واضعوها أنفسهم، حيث اتضح أن ثمَّة تعديلات أساسيَّة طالتها، سِرِّاً، في الطريق من القصر إلى البرلمان، مروراً بالحزب الحاكم، شاملة مادتها/41 التي تقرأ الفقرة/1 منها: "للمواطنين الحقُّ في التَّجمُّع، وإنشاء التَّنظيمات السِّياسيَّة، والنِّقابيَّة، والثَّقافيَّة، والعلميَّة، وتكفل الدَّولة حماية ممارسة هذا الحق"؛ كما تقرأ الفقرة/2 منها: "يمارَس هذا الحقُّ وفق التَّدابير القانونيَّة السَّليمة". فالذي حدث هو أن "مسودة القاعة" تبدَّلت، وحلت محلها "مسودة القصر" التي تنصُّ مادتها/27 على "حقِّ تنظيم (التَّوالي) السِّياسي" تحت عنوان "حريَّة (التَّوالي) والتنظيم"، لتصبح، في ما بعد، هي المادة/26 المعتمدة بفقـرتيها/1 ، 2 من دستور 1998م، علماً بأن ذلك ليس بالتَّعديل الوحيد الذي لحق بـ "مسودَّة القاعة"، إذ طال التَّعديل، أيضاً، زهاء ربع موادها، بما في ذلك، مثلاً، رفع القيود التي أحاطت بها الاعتقال الإداري، والحظر المطلق الذي فرضته على التعذيب، وما إلى ذلك.
رجَّحنا، وقتها، نسبة لفظ "التوالي" الغريب على الأدب الدُّستوري إلى الترابي، كونه أوَّل، وربَّما آخر من استخدمه. وقد أوردنا هذه المسألة في مناسبات سابقة، فأشرنا، مثلاً، إلى محاضرته بالدَّوحة عام 1981م، بعنوان (خواطر في الفقه السِّياسي لدولة إسلاميَّة معاصرة)، والتي صدرت في كتاب بذات العنوان عن (عالم العلانية) بالخرطوم، عام 2000م، كما أشرنا، كذلك، إلى (برنامج الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة)، عقب انتفاضـة 1985م، حيث لا تخطيء العين أثر التُّرابي المميَّز فيه من جهتي الفكر والأسلوب. وإلى ذلك، أيضاً، ورقته أمام ندوة (الحركة الإسلامية: أوراق في النقد الذاتي، مكتبة مدبولي، القاهرة 1989م، ص 77).
في كلِّ تلك النَّماذج انفرد التُّرابي، وحده، باستخدام لفظ "التَّوالي"، بحيث كان من الطبيعي أن ينسب إليه يوم ظهر في دستور 1998م، حتَّى لقد رماه الطيِّب زين العابدين، وقتها، بأنه قصد إلى الإبهام والغموض كي يمكنه تفسير هذه المادَّة كما يشاء في الوقت الذي يريد (الرأي العام؛ 21 مارس 1998م).
وإذن، عندما يقول إسماعيل حسين، رئيس كتلة حزب (المؤتمر الشَّعبي) بالبرلمان، لدى انسحابهم من جلسة إجازة التعديلات الحاليَّة: "إن اللجنة تعاملت مع التَّعديلات بسرِّيَّة، ولم تشرك السُّودانيين، عبر أحزابهم وتنظيماتهم، في مناقشتها، رغم أن الدُّستور ملك لكلِّ السُّودانيين" (صحف ـ حريَّات؛ 4 يناير 2015م)، فإن الاستقامة الفكريَّة اللازمة تقتضي تذكيرهم بأن التُّرابي سبق أن فعل الشيء نفسه دون أن يعتذر عنه حتى يوم النَّاس هذا، كما تقتضي مضاهاة التناقض الواضح بين احتجاجهم الآن، وبين عمل التُّرابي يوم تدخَّل بمفرده، قاطعاً الطريق، بين القصر والبرلمان، على مسودة دستور 1998م، ليُقحم عليها لفظاً ما كان يسعه أن يُقحمه لولا أن الدَّولة كانت دائلة له أوان ذاك! ومن ثمَّ وجب على (المؤتمر الشَّعبي)، حتى لا يترك مطعناً في موقفه الرَّاهن من التَّعديلات الدُّستوريَّة، أن يتقدَّم، علناً أمام الشَّعب، بنقد ذاتي جهير لفعل التُّرابي ذاك.
…..........................
…..........................
مهما يكن من أمـر، حين نذكر أن نظام (المؤتمر الوطني) نفسه لم يكفَّ، يوماً، عن انتهاك الدُّستور، وأن كثيراً من هذه التعديلات التي أدخلت مؤخَّراً كانت، في الواقع، موضوع ممارسة فعليَّة، رغم أنف النصوص الدُّستوريَّة، كما في حـالة تجـاوز انتخـاب الولاة، وحـالة تجـاوز جـهاز الأمـن والمخـابرات لصلاحيَّاته بموجب المادَّة/151، وأن الأوضاع الدُّستوريَّة، عموماً، لم تكن، في أيِّ وقت، على ما يرام، فإن هذه التَّعديلات تضحى مجرَّد تحصيل حاصل، مجرَّد إضفاء مسحة "دستوريَّة" على "الشموليَّة"، أو "دسترة الشُّموليَّة"، أو "شَمْلَلَة الدُّستور" .. سِيَّان، لكنها ليست، بأيَّة حال، مدعاة للدَّهشة أو الاستغراب، لا هي في حدِّ ذاتها، ولا الإجراءات التي اتُّبعت في إجازتها، وإن كانت تستوجب النقد والرَّفض الصَّارمين!

***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن