من ذكريات حرب الثمان سنوات (2)

عادل حسن الملا
molaadil@yahoo.com

2015 / 1 / 10

كانت شخصية آمر السريه تمتاز بالتناقض العجيب وكان يحاول ان يقلد ( ذاك الرجال) الذي ملأ قلوب الناس رعبا" وفزعا"ففي الوقت الذي كان قاسيا" جدا" كان يحاول ان يظهر بمظهر الاب الحنون الذي يتفقد طعام ابناءه ويزورهم ليلا بشكل مفاجيء لمعرفة احوالهم ويغدق على بعضهم ( بالمكارم) وهي طبعا" الاجازات.
كان يحاول ان يتصف بصفة القائد الذي لا يكترث للسياقات العامه الآنيه في الجيش فكان يطلق الاجازات عندما يكون هناك تقليل في الاجازات في عموم الجيش ويمنع الاجازات عندما يكون الظرف طبيعي في بقية الوحدات.
الا ان أسوأ مافعله هذا الآمر هوالاتي:
عندما حل اذار عام 1982 اعلنت الجامعات عن موعد امتحان التنافس للدراسات العليا في يوم محدد فذهب اليه احد الجنود ( ربما الدكتور باسل عبيد )لطلب اجازه يوم واحد على ان يتبعه بقية الجنود وعددهم عشره تقريبا"لغرض حضور الامتحان........جن جنون الامر عندما سمع عبارة دراسات عليا وامر بمنع الاجازات لذلك اليوم وتشديد العقوبات للذين سوف يغيبون . وهنا كان لمحمد علي الانباري موقف شجاع جدا حيث حرض الجنود العشره على الذهاب الى الامتحان مهما بلغ الثمن واقنعهم ان لاقيمه للسجن اسبوع او اسبوعان مقابل الحصول على فرصة اكمال الدراسه في ذلك الوقت العصيب
وفعلا ذهب الجنود الى الامتحان وقد تم قبولهم لاحقا" في الدراسات العليا حيث انهم من الاوائل على اقسام المدني والمساحه والجيولوجي............. هذا طبعا" بعد ان امر آمر السريه بحبسهم عشرة ايام مع حلاقة رؤوسهم ( نمره صفر)!!!!!
مع الاسف هكذا يتعامل العراق مع المبدعين من ابناءه

حدثان جعلا بقائي في هذا المكان (الذي يحسدني عليها كل الجنود في العراق لانه بعيد عن جبهات القتال وقريب جدا من بغداد) شبه مستحيل:
الاول :
في ظهيرة احد الايام من اذار 1982 استدعائي ضابظ التوجيه السياسي فقلت في نفسي ( اجاك الموت يا تارك الصلاة) وفعلا صدقت توقعاتي فقد طلب مني الانتماء للحزب فتعذرت بشتى الاعذار لكنه اصر على انتمائي او التوقيع على ورقه اقول فيها ( اني فلان الفلاني لا ارغب الانتماء الى حزب .............)
وقعت الورقه وامري الى الله وانا اعلم ان ابواب جهنم قد فتحت علي
الحدث الثاني:
في يوم خميس في اواخر حزيران من العام نفسه امر آمر السريه رعيل الخريجين الذي كان يسمى ( رعيل الانابيب) ان يقوموا بصب ارضيات مخازن السريه على ان يكتمل العمل في نفس اليوم
باشرنا بالعمل من الصباح وحتى الساعه الواحده لم يكنمل صب ربع الارضيه وكان يوم خميس وقد هلكنا من التعب فقررنا التوقف عن العمل والنزول الى بغداد وليحصل مايحصل
جاء الامر في اليوم الثاني ورأى ان عملية الصب غير مكتمله فاستشاظ غضبا ونزل الى ساحة العرضات وامر كل الرعائل بالانصراف الا رعيلنا وقال لنا : من يريد منكم ان ننقله الى الجبهه؟
وكان يتوقع منا ان نتوسل اليه لكن المفاجئه ان الغالبيه العظمى رفعت ايديها بالموافقه
ازداد الامر غضبا" وقال بعد قليل تستلمون كتب نقلكم وتركنا وهو متعكر المزاج
بعد ساعتين استلمت امر نقلي مع محمد علي الانباري وحسن عبيد الى كتيبة هندسة الميدان الاولى في الفكه في الخطوط الاماميه من الجبهه.................. فيما تم نقل الاخرين الى كتائب الهندسه الاخرى
وبدأت مرحله جديده من العذاب
كانت الحياة في بغداد في السنوات الاولى للحرب طبيعيه جدا" وكانت بغداد تستهلك ما اختزنته من ملامح مدنيه وثقافيه طيلة العقود السابقه عندما كانت افضل من افضل العواصم العربيه لكن التدهور والخراب بدأ يدب في كيانها المادي والروحي شيئا" فشيئا."
لم تستمر الغارات الجويه على بغداد التي بدأت يوم 23 ايلول عام 1980 اكثر من شهر توقفت خلالها الدراسه في الجامعات وكنت حينها في السنه المنتهيه في كلية الهندسه ولم تكن الغارات مؤثره بسبب ضعف سلاح الجو الايراني بعد تعرضه الى ضربات عنيفه ومباغته صبيحة يوم 22 ايلول.
كنت طيلة الفترة التي قضيتها في معسكر خان بني سعد ( من اب 1981 وحتى حزيران 1982) اقيم في ايام النزول ( بين ليله وليله) مع اخي في القسم الداخلي في العيواضيه قرب جسر الصرافيه وكان هذا القسم مخصص لطلاب المجموعه الطبيه ورغم وجود استعلامات في بوابة القسم لمنع دخول الغرباء الى القسم الا انهم لم يعترضوني في يوم ما وربما كانوا يظنوا اني احد جنود رعيل المدفعيه المضاده للطائات التي كانت في سطح القسم الداخلي !! وبعد دخولي القسم انزع ملابسي العسكريه واستحم وارتدي الملابس المدنيه الانيقه فاظهر بمظهر مغاير تماما وابدوا طالب جامعه فعلا
في المساء كنت التقي اصدقائي سمير وعلاء وكريم وعصام واخرون في نقابة المهندسين في المنصور وكانت وقتها تعج بالحاضرين وكان هناك عرض سينمائي يومين في الاسبوع اضافة الى لعبة البنكو مع وجبات العشاء الجيده والتي لم تكن تكلف اكثر من دينار واحد. وكنت اذهب بعض الايام الى نادي الهنديه في المسبح مع محمد علي الانباري حيث كان والد زميلنا عامر بسمارك رئيسا" للناديه لكننا اقلعنا عن الذهاب للنادي بعد ان لاحظنا حضور (صباح مرزا) المرافق الاقدم لرئيس الجمهوريه والرجل القوي في تلك الفتره وكان لنا معه موقف محرج لامجال لذكره هنا.
كنت انهض في ايام النزول في الساعه الخامسه والنصف وبعد ان ارتدي ملابسي العسكريه واخرج مشيا" على الاقدام الى باب المعظم حيث كانت تنتظرنا سيارة ( ابوعرب) الرجل الطيب الذي كنا ينقلنا من والى المعسكر مقابل 20 دينار شهريا في رحلة تستغرق ساعه يحكي لنا خلالها حكاياته الجميله رغم ان معظم من في السياره نيام!!!
لم يحصل ان تأخرت يوما" واحدا" عن الدوام رغم عدم استخدامي ساعة توقيت فقد كنت استيقظ كل نصف ساعة خوفا" من التأخر على سيارة ابو عرب فقد كان حساب النتأخر عسيرا" ( سجن 3 ايام او اكثر مع حلاقة الرأس نمره صفر)

شهد عام 1982 تغير في خارطة المعركه على الارض فقد شن الايرانيون عدد عن الهجومات المقابله استعادوا فيها
منطقة الشوش ديزفول وقبلها منطقة الخفاجيه ( سوسنكرد) ثم حاصروا المحمره ( خرمشهر) واستعادوها واسروا عشرات الالاف من الجنود العراقيين.
مما دفع بالعراق الى الانسحاب من كافة الاراضي الايرانيه وتقديم مبادره جديده لانهاء القتال والجلوس الى مائدة المفاوضات دون شروط مسبقه الا ان الجانب الايراني رفض المبادره واصر على مبدأ التعويضات و التحقيق في من بدأ الحرب ومحاسبته.
في هذه الاجواء توجهنا انا ومحمد علي الانباري وحسن فليح الى المقر الخلفي لكتيبة هندسة الميدان الاولى في معسكر الحله للاستفسار عن مكانها الحالي في الجبهه فأخبرونا انها في منطقة البرزكان في العماره مقابل منطقة الفكه الايرانيه .
توجهنا في فجر اليوم الثاني من الحله الى العماره مرورا" بالشوملي ثم الكوت وهناك في كراج العماره اخبرونا ان علينا التوجه الى منطقة ( الدبيسات) ثم الذهاب الى جسر غزيله بواسطة اللوريات العسكريه ( الايفات) الروسيه او الالمانيه الشرقيه الصنع . ومن جسر غزيله علينا انتظار سيارات عسكريه تنقلنا الى مقر الكتيبه.
عندما نزلنا في جسر غزيله كان الساعه منتصف النهار في اليوم الاول من تموز وكان الجو حار جدا" مع عواصف ترابيه تجعل مدى الرؤيه ينعدم احيانا" ممزوجا" برائحة الطعام غير المحببه المنبعثه من مطابخ بعض الوحدات العسكريه هناك
شعرنا لاول مره بالمصير المجهول الذي ينتظرنا فنظر احدنا في وجه الاخر وكان امامنا خياران لاثالث لهما الاستمرار الى الامام او الهرب . كانت العقوبه التي تنتظر الهارب من العسكريه لانقاش فيها : الاعدام رميا" بالرصاص وقد كان الاعدام ينفذ احيانا" في ساحات المدن الصغيره او في الوحدات العسكريه امام اعين الجنود وقد شهدت انا شخصيا" احد عمليات تنفيذ حكم الاعدام في عدد من الجنود في اللواء المشاة (90) في منطقة قره تو عام 1983 وكان يوم لا ينسى امتنعت بعدها عن الطعام عدة ايام.
اتفقنا على العوده الى العماره والمبيت في احد فنادقها والتفكير في حل ما وكانت محاوله يائسه وساذجه لكسب الوقت
وفي المساء استمعنا في الفندق من شاشة التلفزيون الى مقررات المؤتمر القطري التاسع للحزب والتي لاتختلف في مضامينها عن الخطاب التقليدي للسلطه انذاك ولم يكن هناك في الافق اي بارقة امل
لامني بعض الاصدقاء لانني اقلب المواجع
او لاني استذكر ايام الضيم
وهم على حق فتذكر هذه الايام يسبب الما" نفسيا" رغم ان معاناتي لاتساوي واحد بالمئه من معاناة الغالبيه العظمى من الجنود انذاك من اصناف المشاة والدروع وحتى زملائي في هندسة الميدان الذين كانوا يزروع الالغام وينصبون الاشلاك الشائكه في الحجابات على مقربة بضع عشرات الامتار من ( العدو) .
لكني ربما اعود لاحقا" لاكتب عن الشهرين العجاف اللذين قضيتهما في منطقة البزركان في ذلك الحر الشديد والعواصف الترابيه ونحن نسكن في تلك الحفر المغطاة بالسقف المعدني ( الجينكو) وبدون اية وسيلة تبريد وعن الاشغال الشاقه في تفريغ صناديق الالغام والاسلاك الشائكه وعن الواجبات في ارض الحجابات التي لم يسلم منها زميلاي الاخران فيما شفع لي خطي الممتاز ان اعمل في مقر السريه في قلم المعدات اضافه عن مسؤوليتي عن تشغيل المولده الكهربائيه في السريه وادامتها.
سأكتب عن اصدقائي الجدد الرائع لمهندس سعد لطفي اسكندر و المهندس المرحوم صالح محمد السطاي والدكتور جعفر علي كاظم الانباري واخرون
وعن تحركنا الى جلولاء ذات المناخ الجميل بعد الحاقنا بالفرقه (17) التي تشكلت على انقاض الفرقه التاسعه ( قوات اسامه بن زيد) وقائدها خضير عباس غضبان بعد الغاءها من الوجود بعد معارك نهر جاسم في البصره في تموز 1982
سأكتب عن السنتين اللتان قضيتهما في واجبات (نقاط الماء) في مقر اللواء (90) في قره تو واللواء(106) في ناحية ميدان وفي منتجع قائد الفرقه!! في جلولاء
واخيرا" عن نقلي الى صولة اللواء المدرع الثمانين و استدعائي الى الشعبه (16) في الاستخبارات العسكريه في الكاظميه وماتلاها من ايام صعبه انتهت بصدور قرار تسريح المهندسين في نيسان 1985 . وتسرحي من الجيش بعد قضاء اربع سنوات تقريبا" فيما مكث اقراني من مواليد 1958 من غير الخريجين في الخدمه العسكريه قرابة 14 عاما
وسأكتب عن اليوم الاخير والمحاوله التي قام بها المسؤول الحزبي للواء (80) وهو نائب ضابط من مدينة الناصريه لاعتقالي بتهمة اخفاء معلومات !!!!
ففي اليوم الاخير في العسكريه حصلت لي احداث دراماتيكيه فقد جاءني الى السريه المسؤول الحزبي للواء 80 المدرع ( هكذا قدم نفسه لي ) وقال لي ( سألقي القبض عليك مكتوف اليدين لانك اخفيت علينا معلومات خطيره) وكانت المعلومات الخطيره هي انهم هم اعدموا اثنان من اولاد خالي بتهمة الانتماء الى احزاب سياسيه معارضه وطلب مني صور شخصيه ( لا علم ماذا يفعل بها) والحضور في اليوم الثاني الى مقر اللواء كان كتاب تسريحي على وشك ان يوقعه امر السريه لكني لم اخبر هذا الرجل بالامر وقلت له ( حاضر ساجلب لك الصور غدا")
وبعد ساعتين قد استلمت كتاب التسريح ووزعت كل اشيائي على الجنود( بطانيات وراديو واشياء اخرى) وطلبت من احد زملائي ربما هو ( عبد حامد بجاي) استلام راتبي وشراء ذبيحه بثمنها قربانا لتسريحي وانطلقت مسرعا الى نقطة السيطره للتوجه الى بغداد بعد ان انقذني الله من هذا الرجل المشؤوم

الى اللقاء ولكن بعد حين



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن