جمال ( أبو منقار)

محسن حنيص
shoka57@yahoo.com

2015 / 1 / 10

جمال ( ابو منقار)

.....
....

في مدينة ( الثورة) يندر ان يظل احد دون لقب ( تعلوگ-;-ة) . هنالك جهاز تقييس و سيطرة نوعية دقيق وصارم للغاية ولا يتسامح أبدا . يقيس طولك ومشيتك وعلاماتك الفارقة واي زلة في لسانك او مظهرك . فاذا كان طولك يزيد بمقدار ( 5 ) سينتمر عن الارقام المسجلة لديه تمنح لقب ( طنطويل) اما اذا جمعت الطول والنحافة فسوف تستحق لقب ( سليت) أو ( عوكي ) . واياك حين تتكلم ان تخرج قطرة واحدة من اللعاب لأن لقب ( ابو السلاچ-;- ) ينتظرك ولن يغادرك حتى لو صمت بقية عمرك .
...
...
وعندما قرفص ( شاكر رحيم ) ليسدد ضد خصمه في لعبة ( الدعبل ) فلتت منه ( ضرطة) سمعت بوضوح من قبل جميع اللاعبين . منح على الفور لقب ( شاكر أبو مدفع ) . كان عمره آنذاك سبع سنين فلم يحس بوطأته . لكن ما أن بدأ يكبر حتى بات يشعر تدريجيا بثقله . وقد رافقه هذا اللقب حتى دخوله كلية الضباط الاحتياط حيث رفض تنسيبه الى ( صنف المدفعية) وطلب مقابلة خاصة مع آمر الكلية لينقله الى صنف آخر .
...
...
لابد من القول ان (سوادي رهيف ) لم يكن مسؤولا اطلاقا عن الاصبع السادس في كفه اليمنى عند خروجه الى الدنيا , لكن الحي لم يغفرها له و خلع عليه لقب ( سوادي ابو العنكبوش ) وهي المفردة التي تقابل العنكبوت بلغة المدينة . تحت ضغط هذا اللقب راجع المستشفى الجمهوري في باب المعظم لأجراء عملية بتر للأصبع الزائد رغم أنه لا يسبب اي أذى له بل على العكس كان يجني منه فوائد جمة خصوصا في المداعبات الجنسية ( البعابيص ) حيث كانت لذته ضعف الشخص السوي بسبب وجود اصبعين وسطيين بدل الواحدة . لكن الضغط النفسي كان اكبر من هذا الأمتياز . قام الطبيب الجراح بقطع الاصبع الزائد دون محو أثره تماما اذ ترك فراغا بين الأصابع . توقف اللقب القديم وحل محله لقب
( سوادي الأگ-;-طم )
...
....
وحين ظهر داء الثعلب في رأس الاستاذ (جبار ابراهيم الحريشاوي ) منح على الفور لقب ( ابو الجرسا ت ) وهو جمع تانيث لمفردة جرس والتي ربما تشير الى شكل الازرار التي تستخدم في دق الجرس , وظل يحمله حتى بعد شفائه .
...
....
وحين يضحك ( خضير حسن) يظهر في الفك العلوي سنين بارزين قليلا استحق عليهما لقب ( ابو الأنياب ) وبقي طول حياته لايضحك حتى لو دغدغته في أبطه .
.....
.....

وشئ طبيعي ان يسمى حامد ( ابوشحيمة ) لبياض بشرته , و جواد الحلاق ( جواد قردة ) لقصر قامته . و رحيم الذي يضع حلوى في غطاء قدر ويدور في الحي ليبيعها ( رحيم ابو غ-;-ل-;-گ-;- ) . وبسبب ضخامة جمجمة (صاحب الياسري) منح لقب ( ابو عقلين ) .
وليغطي صلعته لبس (سالم جبر ) باروكة لأسبوع واحد لكنه كان كافيا لنيله لقب ( سالم باروكة ) وشمل اللقب اخويه ( علي باروكة ) و (عدنان باركة ) وأخته (راجحة باروكة ) . واصبحنا نعرفهم ببيت باروكة .
...
....

وقبل ان تشتري أية حاجة من سوق مريدي كانت ( رضية ام عودة ) تأخذ السوق ذهابا وأيابا سبعة مرات للتأكد من أفضل سعر وأفضل جودة . لذلك اطلق عليها ( ام سبع أشواط ) وهو مأخوذ من مراسم الحج وهي اشواط السعي بين الصفا والمروة .

.....
.....
وبسبب كثرة اسم ( كريم) في المدينة توجب التمييز بينهم . لنأخذ ( كريم داغر) فهو شاب تتوفر فيه جميع المقاييس المطلوبة ولا يشكو من اي عيب . لكن الحي انتبه لاحقا أن ضمير الجمع المخاطب الذي يستخدمه كريم ليس قياسيا , فبدل ان يقول ( انتو ) بنون وتاء مثل بقية الناس فأنه يقول ( اتتو) اي بتائين , وهو جائز لغويا اذا نظرنا اليه من باب الأدغام لكن المدينة لا تعترف بالادغام فاصبح الاسم ( كريم ابو الأتتو)

....
.....

أنهى الاستاذ ( بندر الحيدري ) مدرس الطبيعيات دروسه في ثانوية ابو عبيدة الجراح في الثورة . وقبل ان يواصل طريقه الى بيته أنعطف على بائع الخضار وسأله :

(( هل لك أن تزن لي كيلو غرام واحد من البنجر السكري ؟ ))

فلم يفهم البائع طلبه :
(( لا يوجد عندي ))

عندئذ اشار الأستاذ بأصبعه الى حاجته . فقال له البائع :
((ولماذا لا تقول ( شوندر ) مثل باقي الناس ؟ ))

اجاب الاستاذ بندر بنبرة فيها قدر من الكبرياء العلمي :
( (ان باقي الناس تستخدم أسماءا مخطوءة للنباتات )) .

لم يكن الجواب مقنعا للبائع , فوزن له الشوندر او البنجر السكري وسلمه اليه . أعتقد انكم على وشك ان تخمنون ماذا سيحصل بعد ذلك ؟ . البنجر السكري غير معتمد كأسم في المدينة . الألقاب مثل النكات والأمثال تخرج من تلقاء نفسها . لم يمض سوى ايام معدودة حتى تحول أسم الاستاذ ( بندر الحيدري ) الى ( بنجر السكري ) وبقي معه حتى مماته . ونسي الكثيرون اسمه الحقيقي وحين توفي وضع اللقب بين قوسين في اللافتة التي أعلنت موته كي لايتوهم الناس فيه .

...
...

تكررت الحكاية مع (علي كاشف الغطاء ) مدرس اللغة العربية في ثانوية ابو عبيدة الجراح . فعند شرائه الخيار ( الطعروزي ) يعمد الأستاذ (كاشف الغطاء ) على كسر كل خيارة وتذوقها للتأكد أن كانت مرة ام حلوة قبل أن يضعها في الكيس . وهي طريقة غير معتمدة في (الثورة ) وتسبب خسارة للبائع . علاوة على ذلك انها توقف عمل المصادفة ( القسمة والنصيب ) التي تشكل واحدة من القيم الجمالية الراسخة في المدينة . والأدهى من ذلك كله ان الأستاذ كاشف الغطاء كان مصرا على استخدام مفردة غير متداولة هي (خيار قثاء ) بدلا عن ( خيار طعروزي ) . يبدو ان بائع الخضار كان وكيلا سريا لجهاز التقييس والسيطرة النوعية أذ تحركت المجسات الخفية بسرعة حتى توقفت عند لقب جديد وهذا ما تحتاج اليه المدينة بالضبط . تم شطب أسم (علي كاشف الغطاء ) من سجل المدينة ليمنح الأسم الجديد ( علي كاسر القثاء ) .
... ....
.....

وكانت شفيقة وبناتها الثلاث تستخدم تقنيات غامضة في رمي الحجارة الثقيلة على الخصوم أثناء العراك . يتميز عراك شفيقة بانه يجري عن بعد ( ريموت ) وهي لا تشتبك بالأيدي أطلاقا . وغالبا ما يكون عراكها قصيرا ولا يترك اي أثر للعداوة ومن السهل تلافيه , وربما يلبي حاجة نفسية بعيدة كليا عن فكرة الشر . كانت شفيقة طيبة ولا تريد ان تلحق الضرر بالأرواح . حيث تقوم قبل الهجوم بالصياح واطلاق انذارات تحذيرية كثيرة قبل ان تبدأ القصف الطابوقي . تظل شفيقة متمترسة في سطح دارها الملئ بالحجارة ( الطابوق) تقذفه على البيوت المعادية . وكان طابوقها يصل الى سابع جار . لا احد يعرف كيف تتمكن من الوصول الى هذه المديات وشكوا انها تستخدم نفس الوسيلة التي استخدمها الحجاج في ضرب مكة . فسموها ( شفيقة المنجنيقة ) وهي اشارة واضحة للمنجنيق .

......
.....
وكان (عليوي الطليباوي) يقوم بعملية الانذار المبكر للمقامرين ( اللكو) الممنوع رسميا . حيث يقف في الشارع العام مراقبا , وحالما يلمح مفرزة الشرطة ينادي ثلاث مرات ( سري ... سري ,, سري ) فيتفرق المقامرون ويتم اخفاء عدة المقامرة واخراج كرة القدم . بقي عليوي لسنوات يمثل خط الصد الأول ونقطة الرصد التي لابد منها . منح لقب ( عليوي السري ) . لكن هذه الوقاية لم تعمر طويلا اذ سرعان ما التفت مفارز الشرطة من الخلف وانقضوا على المقامرين قبل ان يصلهم نداء عليوي والقوا القبض عليهم . وكان جهاز الشرطة مصمما على قطع دابر هذه العادة فتواصلت الغارات حتى اختفت المقامرة كليا , فترك عليوي موقع الرصد والتفت كليا الى دراسته , لكن اللقب ( عليوي السري ) بقي ملازما له . حتى بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في التاريخ من الجامعة المستنصرية .

.....
.....

بحثت في الأمر فلم أجده مرتبطا بالهمز واللمز والحط من القيمة . وجدته بعيدا كليا عن هذه المسميات . بل هو جزء هام جدا من حيوية هذه المدينة ورغبة اهلها المطلقة في المرح وتحطيم الخصائص الاستعلائية للشخصية . ذلك اننا جميعا نحمل القابا بما فيهم كاتب السطور وننتظر من يبلغنا بها . هذا الأصرار لايمت بأية صلة للأهانة والبغض . انه طريقة مثلى لتفعيل الحياة وتحريكها . لايمكن للعالم ان يكون جميلا بدون المنابزة بشرط قبولها وعدم احتكارها . بشرط ان تنطبق على الجميع .. فانا اقبل ان تجعل مني موضوعا للضحك بشرط ان تقبل ذلك على نفسك . هذه هي قاعدة مدينة الثورة التي جعلت هذه المدينة مستودعا هائلا للمرح . ولكن هذه القاعدة لها حد لا تتجاوزه ابدا هو حد الجرح . لا مرح مع الجرح . الكل في المدينة يعرف غريزيا مواضع الجرح . التجريح يقتل اية رغبة في الضحك لذلك يهربون منه .
......
.....

وفي آخر زيارة للعراق كان لابد ان أمر بمدينة (الثورة) وأبيت هناك ليلتين . وقد تذكرت صديقا من أيام الطفولة ربطتني به علاقة قوية وسجلنا معا ذكريات كثيرة . كان أسمه (جمال كامل) . كان يعمل في مكوى في قطاع 20 . وهو لطيف جدا ولا يسبب اي أذى لكن عيبه الوحيد ان انفه اطول ب ( 5) مليمتر عن أنف المدينة . ولهذا السبب حذف أسم أبيه وتركته وهو يحمل لقب ( جمال ابو منقار ) وكنت أظن انه لن يفلت منه حتى بعد مماته . بعد كم من السنين سألت عنه فلم يعرفه أحد ورحت اصف لهم عمله واعدد أسماء أخوته وذكرت لهم لقبه . عندئذ تنبه السامعون وراحوا يصححون لي المعلومات . حيث زودوني بمعلومات جديدة عنه . قالو انه لم يعد اسمه (ابو منقار ) . دلوني عليه فوجدته مخلوقا آخر يصعب التعرف عليه فقد تبدل وجهه كليا , اجرى عملية تجميل لأنفه في بيروت مسح فيها منقاره تماما ولم يبق منه سوى فتحتين واسعتين (منخرين) يمكن ان يدخل منهما جرذ . بعد العملية (الفاشلة الى حد ما ) اصبح لقبه (جمال ابو خنارتين ) مفردها (خنارة ) بتشديد النون وهي فتحة التهوية السفلى لتنور الخبز .

.....
.....

محسن حنيص
هولندا



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن