خطوة أوباما «التاريخية» 2

نعوم تشومسكي

2015 / 1 / 6


بعد توليه منصبه عقب اغتيال كينيدي، قلص الرئيس الأميركي ليندون جونسون من سياسات الإرهاب، لكنه لم يكن ليسمح لكوبا أن تعيش بسلام. وشرح جونسون للسيناتور فولبرايت أنّه «لن يدخل في أيّ صفقة تتعلّق بخليج الخنازير»، لكنه أكد حاجته إلى نصيحة بشأن «ما يتعيّن على أميركا القيام به للتضييق على كوبا أكثر».
إلا أن البعض شعر أنّ الوسائل المعتمدة لهذا الغرض لم تكن كافية. من بين هؤلاء عضو المجلس الوزاري المصغّر الكسندر هيغ، الذي طلب من الرئيس جونسون أن يسمح له بتحويل «تلك الجزيرة اللعينة (كوبا) إلى موقف للسيارات».
وقد عبر هذا الكلام عن الإحباط الذي كان يعاني منه القادة الأميركيون بشأن «الجمهورية الكوبية الشيطانية»، بحسب تعبير ثيودور روزفلت، الذي غضب بشدة بسبب عدم قبول كوبا مكرُمة الغزو الأميركي في العام 1898، وتحويلها إلى مستعمرة افتراضية.
وقد علّق المؤرخ الكوبي لويس بيريز بالقول إنّ التدخل الأميركي، الذي اعتبر بمثابة تدخّل إنساني لتحرير كوبا من الاستعمار الاسباني حينها، حقّق أهدافه الفعلية في «تحويل حرب التحرّر الكوبيّة إلى فتوحات أميركية».
كيف تغيّرت الأمور خلال قرنين من الزمن؟
كانت هناك جهود مبدئية لتحسين العلاقات الأميركية - الكوبية خلال السنوات الخمسين الماضية، وهو ما استعرضه، بالتفصيل، وليام ليوغراندي وبيتر كورنبلا في دراستهما الشاملة الأخيرة بعنوان: «قناة العودة إلى كوبا». وسواء شعرنا «بالفخر» بفضل الخطوات التي اتّخذها الرئيس باراك أوباما أم لا، إلا أن ما حصل يعدّ بالتأكيد «خطوة صحيحة»، برغم أنّ الحصار المفروض على كوبا ما زال قائماً، في تحدٍ للعالم بأسره (باستثناء إسرائيل)، فيما السياحة ما زالت ممنوعة.
وخلال خطابه الذي أعلن فيه عن السياسة الجديدة، لمّح الرئيس الأميركي إلى أنّ معاقبة كوبا ستستمر بسبب رفضها الخضوع للإرادة والعنف الأميركيين. ومع ذلك، فإن ما يلي من خطابه كان جديراً بالاهتمام:
لقد دعمت الولايات المتحدة، بكل فخر، الديموقراطية وحقوق الإنسان في كوبا خلال العقود الخمسة الأخيرة. وقد فعلنا ذلك من خلال سياسات تهدف إلى عزل الجزيرة. وبرغم أنّ النوايا خلف تلك السياسة كانت حسنة، لم تنضم إلينا أيّ دولة أخرى في فرض العقوبات التي لم يكن لها أثر يذكر، باستثناء إعطاء ذريعة للحكومة الكوبية لفرض القيود على شعبها. اليوم سأكون صادقاً معكم: لا يمكن أبداً أن نمحو التاريخ بيننا وبين كوبا.
على المرء أن يُعجب بالجرأة المذهلة لتلك التصريحات، والتي تذكّرنا مرّة أخرى بكلمات كورنِليوس تاسيتُس (مؤرخٌ ورئيس قضاة في إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية): «عندما تُكشف الجريمة، فلا ملجأ لها سوى الوقاحة». بالطبع، لا يجهل أوباما التاريخ الفعلي، والذي يتضمّن بالإضافة إلى الحرب الإرهابية القاتلة والحصار الاقتصادي الفاضح، احتلالاً عسكرياً لجنوب شرق كوبا منذ أكثر من قرنٍ مضى، برغم مطالبة الحكومة الكوبية، منذ الاستقلال، استرداد ما سُرق منها تحت تهديد السلاح. وعلى سبيل المقارنة، تبدو سيطرة بوتين، غير المشروعة، على شبه جزيرة القرم حميدة.
لقد بلغ التفاني ذروته بهدف الانتقام من الكوبيين الذين يقاومون الهيمنة الأميركية، إذ أبطلت رغبات قطاعات قوية مثل مجتمع الأعمال أو حتى المستحضرات الطبية في التطبيع، ما يعتبر تطوراً غير عادي في السياسة الخارجية الأميركية.
وترغب واشنطن ومعاونوها في التظاهر بأنهم «عزلوا» كوبا، بحسب تصريح أوباما، لكن السجل يُظهر بوضوح أن الولايات المتحدة هي التي جرى عزلها، وهو ما يمكن أن يكون السبب الرئيسي للتغيير الجزئي الذي طرأ.
لا شك أنّ الرأي العام المحلّي كان له دور أساسي في خطوة أوباما «التاريخية»، برغم أنّ الجمهور كان يعمل لمصلحة التطبيع منذ فترة طويلة. فقد أظهر استطلاع للرأي للعام 2014 نشرت نتائجه شبكة «سي ان ان»، أنّ ربع السكان الأميركيين يعتبرون أنّ كوبا تُشكّل تهديداً خطيراً على الولايات المتحدة، بالمقارنة مع أكثر من ثلثي الشعب الأميركي عندما كان ريغان في منصبه (1981 – 1989).
وتعليقاً على قرار أوباما، كانت الفكرة الرائدة تدور حول جهود واشنطن «الحميدة» التي تهدف إلى تحقيق الديموقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في كوبا. ولكن «الأهداف السامية» لم تتحقّق، لذا فإن تغيير السياسات كان مطلوباً.
هل كانت السياسات فاشلة؟ هذا يعتمد بالضرورة على الأهداف. وفي هذا السياق، يبدو الجواب واضحاً إذا ما ألقينا نظرة على السجل الوثائقي. كان التهديد الكوبي مألوفاً، إذ كان جزءاً من الحرب الباردة. لكن القلق الأساسي تركز حول احتمال ان تتحول كوبا إلى «وباء» وأن «تنشر العدوى»، في استعارة لتعبير كيسنجر عندما أشار إلى الرئيس التشيلي الراحل سلفادور أليندي.
وللتركيز على أميركا اللاتينية، أنشأ كينيدي، قبل توليه منصبه، «بعثة أميركا اللاتينية» برئاسة مستشاره آرثر شليزينغر. وقد حذّرت البعثة من إعجاب الأميركيين اللاتينيين «بفكرة قيام كاسترو بالاهتمام بالمسائل على طريقته»، وهو ما اعتبره شليزينغر خطراً حقيقياً. وكان شليزينغر يكرر رثاء وزير الخارجية جون فوستر دالاس الذي اشتكى للرئيس إيزنهاور من الأخطار التي يشكلها «الشيوعيون»، إذ إن في استطاعتهم «السيطرة على الحركات الجماهيرية»، الأمر الذي اعتبره ميزة غير عادلة «ليست لدينا القدرة على تكرارها».
وكانت الطريقة المُثلى للتعاطي مع أي وباء قابل للانتشار، تتمثل بقتل ذلك الوباء وتطعيم الضحايا المحتملين. تلك السياسة الحساسة التي سعت واشنطن إلى تحقيقها باعتبارها هدفاً رئيسياً، كانت سياسة ناجحة. وجرى «تلقيح» المنطقة بالديكتاتوريات العسكرية الشرسة لمنع انتقال العدوى، بدءاً بالانقلاب العسكري في البرازيل بعد وقت قصير من اغتيال كينيدي.
الأمر نفسه ينطبق على حرب فيتنام، التي توصف بالهزيمة أو الفشل الأميركي. لقد كانت واشنطن تخشى من انتقال العدوى إلى المحيط، ومن وصول هذه العدوى إلى اندونيسيا، أو إلى اليابان حتى، التي كان بإمكانها تطويع شرق آسيا لتتحول إلى مركزها الصناعي والتقني. هكذا، دمرت فيتنام تماماً. لم تعد نموذجاً لأحد. وتمت حماية المنطقة عبر استيلاد ديكتاتوريات دموية، تماماً كما حصل في أميركا اللاتينية في السنوات ذاتها.
لقد شكلت فيتنام نجاحاً جزئياً بهذا المعنى. لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق هدفها الأقصى المتمثل بتحويلها إلى فيليبين أخرى، لكنها تمكنت من تخطي هواجسها الكبرى، تماماً كما فعلت في كوبا، وفق المنطق الإمبريالي نفسه! اما ما تبقى من هذه السياسة فيمكن وصفه بالهزيمة، او الفشل، او القرارات شديدة السوء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن