سعيدعقل هل كان متنبي عصره؟

إبراهيم اليوسف

2014 / 11 / 29

سعيدعقل

هل كان متنبي عصره؟
إبراهيم اليوسف
يجد دارس تجربة الشاعراللبناني الكبيرسعيد عقل"1912-2014" صعوبة في الإمساك بمعالمها، حياتياً، أوأدبيا|ً، أو إعلامياً، أوحتى شعرياً. وذلك ليس بسبب طول الشريط الزمني الذي عاشه، ويكون بذلك أكبر شاعر معمر معاصر، بل نتيجة كثرة هاتيك المداخل والتعرجات إلى عوالمه، حيث يمكن الكتابة عن علاقته بالصحافة مجلدات كاملة، وأن تتم كتابة مجلدات مماثلة-في المقابل- عن طفولته، أو شبابه، أو كهولته، أو شيخوخته المديدة، الملتبسة بعنفوان الشباب والنزق، وهكذا لعلاقته بالمسرح الشعري، أو الكتابة باللغات الأخرى الفرنسية، أو الإنكليزية، ناهيك عن إلمامه بالروسية وغيرها، وفي هذا ما ينم عن طبيعة شخصية هذا المبدع اللبناني الذي ارتبط اسمه بالعبقرية، منذ طفولته الأولى، حيث نبغ في مادة الرياضيات التي يرى فيها مفتاحاً للشعر الحقيقي، ناهيك عن أنه ناقش معلمته، وهو في الصف الرابع الابتدائي، عن قضايا تتعلق باللغة العربية، بل راح يدرس اللغة الفرنسية، ويتباهى بأن ما يكتبه بهذه اللغة يبز ما يكتب به الفرنسيون بلغتهم الأم.
لايمكن لكل من يتناول الشعر اللبناني، أو المسرح اللبناني على وجه خاص إلا وأن يعترف بالدور الكبير الذي قام به الشاعر عقل على صعيد إرساء أسس الشعرية المعاصرة، لبنانياً، بل وعربياً، ناهيك عن أنه ينسب إليه كتابة أول مسرحية شعرية لبنانية، لتكون له بصماته على الحياة الأدبية اللبنانية، منذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الأخيرة من عمره الإبداعي، إذ ظل يغالب انطفاء البصر، وعجزه عن التلقي عبر القراءة، معتمداً بذلك على الآخرين من حوله، بعد أن ظلت أحاسيسه الأخرى تتفاعل مع القصيدة، وتحديداً مع منجزه الشعري.


عبقرية كبرى:

لا نستطيع خلال مثل هذه المتابعة، ونحن في مقام الصدمة برحيل أحد عباقرة العصر الحقيقيين، أن نحدد دواعي نشأة عبقريته، بيدأننا نستطيع تقديم مقاربات معينة، ونحن ننظر إلى الحصيد الذي تركه الشاعر وراءه، وهو في الحقيقة مكتبة كاملة، في أكثر من مجال إبداعي، ومعرفي, وقد يكون لعدم مقدرته في إكمال دراسته، بسبب تعرض والده للإفلاس، بسبب بذخه، وكرمه وتبذيره المفرط، لاسيما أنه كان يحلم بدراسة الهندسة، ما اضطره إلى أن يتوجه إلى عالم الاعتماد على نفسه، وهوابن الخامسة عشر من عمره، وكان لاختياره العمل في الصحافة بوابة لصناعة مجده الإبداعي.

بعيداً عن رصد وتقويم آراء المبدع الكبير عقل، لاسيما أن من بينها ما يقع-وفق تصوري هنا- ضمن دائرة ردود الفعل، ردود الفعل هذه التي لم ينج من فخاخها، وهو يصرح، بل يبدي مواقف قد لا تتفق مع روح الجمال، والسمو، ومناوأة الشر، بيدأن الظروف التي مرت بها لبنان في سبعينيات، ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، لاسيما ماتصدرت به جريدته"لبنان عدد كانون ثاني1982 " من مقال كتبه بالعامية عن مجزرة صبرا و شاتيلا بما يؤيد القاتل، ضد الضحية، وهو ما كان ينبغي عليه إعادة النظر فيه، بعد انتهاء أسباب هاتيك المواقف الآنية التي لا تناسب روح الشاعر.
لبنان أولاً:
كتب الشاعر عقل الكثير للبنانه، ومن بين ذلك ما وصل إلى حدود الملحمة الشعرية، ناهيك عما أنتجه من سرد مواز لقصيدته، وهوكان ينطلق بذلك من خصوصية فردوسه الأرضي الذي يصلح-برأيه- ليكون قوميته البديلته، ومبعث أيديولوجيته، بل كانت وراء تحزبه، رغم الموقف السلبي المضمر تجاه السياسي. ومقابل مثل هذا الحب للبنان، فقد غنى لدمشق، وللأردن، ولمكة-وهو المسيحي- بلو للقدس التي غناها في زهرة المدائن التي أبدعت في أدائها فيروز . ولعله لم يبرح خلال العقود الثلاثة الأخيرة لبنان، إلا قليلاً ومن بين ذلك، زيارته لدولة الإمارات، وإقامته لأمسيته الشعرية التاريخية، كما وصفت آنذاك، في أبو ظبي في العام 1992، يقول:

شآم، ما المجد؟ أنت المجد لم يغب قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب
أحسنت أعلامك اختالت على الشهب إذ على بردى حورتأهل بي


الذات مدخلاً إلى العالم:

ثمة حضور نرجسي في روح الشاعر-عادة- وهو يتدرج، ويتباين، ويختلف من حيث سطوته بين شاعروآخر، إذ هناك من يستطيع أن يوظفه في الإطار الصحيح، وهناك من لا يستطيع التخلص من سطوته. ولعل الشاعر عقل كان أحد هؤلاء الذين تحتل الذات مساحة جد كبيرة،من رؤاه، ووعيه، بحيث يتعامل مع العالم كله، من خلالها، ويشفع له في ذلك ما قدمه من إبداع زاخر على امتداد بضعة عقود متواصلة، بحيث أن خطابه صار معروفاً من لدن المتابع، ليس بلغته العربية الأم وحدها، وإنما عبر أكثر من لغات العالم الحية التي كتب بها، وكانت جسراَ له تجاه القارىء خارج جغرافياه المكانية، بل وخارج خريطة لغته. إذ نحن هنا، أمام-أنا الشاعر- الأنا المتضخمة، الأنا الإبداعية، وإن كانت ستحول، في بعض المحطات، لقطع أفق التواصل مع الآخر، وعدم الاعتراف به، وإلغاء جزء كبير من المنجز الإبداعي.

معجم الشاعر:
يعترف الشاعر الكبير عقل أن معجمه اللغوي في ما يكتبه من شعرلا يزيد عن ستمئة مفردة، وهو يرى أن مثل هذا العدد من المفردات كاف، إذا تضافر مع الموهبة الخلاقة، والحس العميق، أن يكتب به الشاعر ما هو إبداعي، بل يرى أن كانت اقتصد في اللغة، وأن كل ماتركه من أثر، إنما كتب بأقل من خمسمئة كلمة فحسب. ولعلنا نستطيع أن ننتفع من توصيفه هنا للغته، ولغة كانت، للتأكيد أنه وعبر معجم لغوي ضئيل يمكن صناعة إبداع زاخر، في حال حضور الموهبة والحس الشعريين الأصيليين.



متنبي العصر الحديث:


صحيح، أن الشاعر يعترف-ولو عابراً- بشعرية أبي الطيب المتنبي، بيد أنه لا يفتأ وفي الوقت نفسه يسجل، أنى سئل ملاحظاته النقدية على شعرية هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، ومن ملاحظاته عليه أنه كان عليه أن يشعر أكثر، وأن يكتب أكثر، بل وأن يتعمق أكثرمما تعمق، وأن يستعمل اللغة أكثرمما استعملها، بل لايترددفي أن يصرح، في حوار أجرته معه مجلة" زهرة الخليج" معه قبل خمس سنوات على رحيله، أن يقول: "أنا هذا السعيد عقل، كتبت وشعرت واستعملت اللغة أكثر من المتنبي. وشعري يتفوق على شعر المتنبي وهو أعمق منه بكثير".

أعظم شعراء العصر:


يكاد لا يخلو حوار واحد من الحوارات الصحفية التي أجريت مع الشاعر عقل، من ذلك الاعتداد المفرط، بل بما يعد ما بعد الاعتداد بالنفس، والذات، وهو-في الحقيقة- أحد العوامل الإبداعية، لأنه يولد الثقة ب"الذات"، إن لم يشرنق في داخله المبدع، ويقصيه عن التفاعل الخلاق مع عصره، ومعاصريه، وأنداده، ومن يمكن وسمهم ب"تلامذته" الواقعيين أو الافتراضيين. ولعل الحوارالمذكور الذي أجراه إسماعيل فقيه مع الشاعر عقل، يعج بالكثير من مثل هذا النوع من الاعتداد الذي يؤدي إلى التعالي على الآخر، ومن بين ذلك، أنه لايدفي مايكتبه أدونيس سوى حرتقات، وأنه ليس سوى حرتقجي، بل أنه-وهو الشاعر الأكبر-لم يقرأ لمحمود درويش حتى لحظة إعداد الحوا ر في أيلول 2009..!، بل لايرى إلا في ميشيل طراد شاعراً يستحق الذكركغيره ممن يعدون-لبنانياً على أقل من نصف أصابع اليد، كما يكاد لايذكراسم أحد إلا عندما يذكره به محاوره. وعندما يسأل من أعظم الشعراء؟، يقول: كثيرون اعترفوا بهذه العظمة، وعندما يسأل من قال إنك أعظم الشعراء؟ يجيب قالها أكبرشعراء سوريا وهوسليمان العيسى-هكذا يراه كبيراً ولكن في سوريا- ومن دون أن يكون نزارقباني أوعمرأبوريشة-على سبيل المثال- كبيرين. كما أنه عندما يسأل عن الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، وفي ما إذا كان يعترف به، فيكون رده أنه"شاعر كبير" و"الكثير من شعره يتقاطع مع شعري".


فيروز:
ولعل ثيمة القصيدة العقلية التي غنتها فيروز، وعلاقته بالرحابنة، وتأثير هذه القصيدة-على الملايين ممن استمعوا إليها، من خلال عمارتها، وصورها، ومفرداتها، وخصوصيتها، تستحق التوقف عندها على نحوخاص من قبل الدارس، إذ أن صوت هذه الفنانة قد جعل قصيدته تخترق كل بيت، وكأن فيروز كان ساعي بريد رؤاه، ونظرته للجمال، والإبداع، بل لعل فيروز قد أسقطت الكثيرمن الجدران التي وضعت في وجه خطابه، نتيجة بعض تصريحاته، بل مواقفه غيراللائقة به. وقد يكون الإحساس برحيله أكثر فجائعية، ضمن لبنان، الذي افتقد خلال ثلاثة أيام متتالية، أكبر معمرين مبدعين هما: صباح، وعقل، بعد أن فقد بفنانته نهاوند أيضاً، في اليوم التالي لرحيل صباح، وعشية رحيل عقل، ضمن عام2014، عام خسارات لبنان الكبرى برحيل مبدعيه..
ملاحظة: المقال نشر بتوقيع الجريدة التي أعمل فيها الخليج بسبب نشرموادأخرى لي في عدد اليوم



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن