عملاق السياسة الروسية – 85 عاما

حبيب فوعاني
habibfouani@gmail.com

2014 / 10 / 29

يلتقي الصحافي، أثناء ممارسته مهنة المتاعب، الكثيرين من الساسة ورجال المجتمع الشهيرين، ومنذ اللحظات الأولى يدرك الصحافي كلا منهم على حقيقته. وفي كثير من الأحيان تسقط على الفور الهالة الإعلامية الفاقعة، التي يحاط بها هؤلاء بعناية لغاية في نفس يعقوب، أمام العين الصحافية الثاقبة، التي لا تضاهيها إلا عيون سائق سيارة الأجرة وبائعة المتجر وبائعة الهوى.
أذكر أنني عندما حضرت لأول مرة مؤتمرا صحفيا للرئيس السوفياتي الأول والأخير ميخائيل غورباتشوف، شعرت بالنعاس خلال حديثه غير المترابط، والخواء المطبق في عينيه الباردتين ووجهه الخالي من أي تعبير إنساني، الذي اعتبره الغرب وجه الاشتراكية الإنساني، وأحسست بتخبطه التام، الذي اعتبره الغرب ذكاء وحبا للديمقراطية. آنذاك توقعت انهيارا وشيكا للاتحاد السوفياتي، الدولة العظمى، التي لم يبكها غورباتشوف، كما بكى مملكته آخر ملوك غرناطة، ولم تمس شغاف قلبه مصاير مواطنيه، الذين غدوا جيشا من الفقراء، لكنه بكى كالنساء زوجته – مغزى حياته الوحيد.
بيد أن الصحافي يلتقي في بعض الأحيان شخصيات تحاط بها فقاعات سوداء ظالمة مثل رئيس الوزراء الروسي السابق يفغيني بريماكوف، الذي أحب المصورون تجسيد تجهمه. لكنني ومنذ اللحظة الأولى أبهرتني عيناه المتقدتان بالذكاء، وتواضعه، الذي ينبئ عن عظمة شخصية، لن يمحوها من ذاكرتي تعاقب الأيام.

و لد يفغيني مكسيموفيتش بريماكوف في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر عام 1929، في العاصمة الأوكرانية كييف. ومنذ الصغر غمره الفضول للتعرف على الشرق، ولعله لذلك، اختار عند مجيئه لإكمال دراسته في موسكو اللغة العربية بالذات لدراستها في معهد الاستشراق الموسكوبي.
وقد احتاج بريماكوف إلى معارفه الشرقية، عندما عمل بين عامي 1966 1970– مراسلا لصحيفة "البرافدا" في القاهرة ودمشق وبغداد، ومديرا لمكتب وكالة "تاس" في بيروت، وسهلت عليه التعارف مع كبار رجال السياسة العرب، ولم يعد مجرد صحافي في المنطقة الساخنة، بل أصبح رجل المهمات الصعبة، التي كانت أبرزها الوساطة بين القيادة العراقية وأكراد الشمال، والتي تطلبت منه ركوب البغال في جبال كردستان عام 1966، وأسفرت عن توقيع اتفاقية الحكم الذاتي الشهيرة، في شهر آذار/مارس من عام 1970.
وقد بدا له بعد عودته إلى موسكو عام 1970، وترؤسه عام 1977 المعهد الذي تخرج منه، وبعد ترؤسه رابطة المستشرقين السوفييت بين عامي 1981 – 1985، أنه سيكرس ما تبقى من حياته للبحث العلمي، لو لم يصبح غورباتشوف، أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفياتي في عام 1985.
وقد انتدب غورباتشوف بريماكوف أول مرة، للحيلولة دون إطلاق الأميركيين "زوبعة الصحراء" في الخليج العربي بعد احتلال القوات العراقية الكويت عام 1990. لكن الفشل كان مكتوبا على هذه المحاولة منذ البداية، لأن غورباتشوف في تقلبه المعهود، أرسل إلى الولايات المتحدة في الوقت نفسه، وزير خارجيته آنذاك، وصديق الأميركيين الجديد إدوارد شيفاردنادزه، للتنسيق معهم.. وضاعت فرصة ذهبية لمنع حرب الخليج الأولى، التي أثقلت كاهل العالم العربي، وكلفت الشعبين العراقي والكويتي آلاف الشهداء الأبرياء، ومئات المليارات من الدولارات. وقد دفع غورباتشوف ثمن تخبطه غاليا، عندما أجبر على التنحي عن السلطة عام 1991، ليبدأ عصر بوريس يلتسين..
كان الشرر يتطاير من عيني "القيصر الديمقراطي" عندما رأيته لأول مرة في البرلمان الروسي، ولما يصبح سيدا للكرملين بعد، وكانت نظراته الحديدية نذيرة شؤم بالشر الآتي. وبالفعل فقد دق المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية السوفياتية، فقط للوصول إلى سدة العرش، وأمر بعد ثلاث سنوات من ذلك عام 1993 بقصف البرلمان الروسي بالدبابات للحفاظ على كرسيه المقلقَل.
بيد أن بريماكوف – رجل معسكر غورباتشوف – كان من بين القلائل، الذين أبقاهم يلتسين في السلطة بعد رحيل غورباتشوف. وأوكلت إليه مهمات صعبة في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة: كان من بينها رئاسة مصلحة الاستخبارات الخارجية، التي لم يقها من التشرذم وحسب، بل وقام بإصلاحات جذرية فيها، وبذل جهودا جبارة خلال رحلاته السرية والعلنية إلى مختلف بقاع العالم لسد الثغرات، التي أحدثتها سياسة وزير الخارجية أندريه كوزيريف آنذاك، واسترداد ما أمكن من مواقع النفوذ الروسية الضائعة.
وبعد تنامي الاستياء الشعبي من كوزيريف، ومع اشتداد المعارضة البرلمانية لسياسته الموالية للغرب، اضطر يلتسين، رغم الضغوط الأميركية، إلى إقالته عام 1966، وتعيين بريماكوف وزيرا للخارجية.
وخلافا لسلفه، الذي كان يبدو إلى جانب زملائه الغربيين مثل طالب لم يستعد للامتحان كما يجب، كان بريماكوف يبدو بينهم مصارعا رومانيًا من الوزن الثقيل. وتصلح هنا للمقارنة بين الشخصيتين شهادة المستعرب الروسي الشهير أليكسي فاسيلييف:
" في أعقاب حرب القرم (التي جرت بين روسيا من جهة وتركيا وحليفتيها فرنسا وبريطانيا من جهة أخرى) بين عامي 1853 – 1856، وخلال لقاء الأمير ألكسندر غورتشاكوف - وزير خارجية روسيا المغلوبة على أمرها - نظيره وزير خارجية بريطانيا المنتصرة في الحرب سقط منديل جيب الوزير البريطاني على الأرض، فما كان من الوزير الروسي إلا أن داسه بحذائه. وقد وقعت حادثة مشابهة بعد مائة وأربعين عاما ونيّف، عندما سقط منديل وزير الخارجية الأميركي آنذاك وورين كريستوفر من جيبه في أحد لقاءاته مع الوزير الروسي كوزيريف ، الذي انحنى دون إبطاء، لكي يرفعه عن الأرض ويعطيه لزميله الأميركي". ويتابع فاسيلييف: "ومع أن وزير الخارجية الأكاديمي يفغيني بريماكوف يترفع عن دوس منديل نظيره الأميركي، فإنه يأبى أن ينحني لالتقاطه.. إنه يحافظ على ماء وجه روسيا الشاحب".
وقد استهل الوزير الجديد نشاطه بزيارة بدأت في 20 نيسان/أبريل إلى دمشق وبيروت وتل أبيب، إبان عملية "عناقيد الغضب"، التي شنتها إسرائيل على جنوب لبنان، وحاز على الفور إعجاب محادثيه لإحاطته التامة بالوضع هنا، وأصبحت السفارة الروسية في دمشق غرفة عمليات للمفاوضات. وقد وافق الجانب الروسي على خطة تسوية اقترحها الخبراء الفرنسيون كنقطة انطلاق للتباحث، واعتبرها أكثر واقعية. ولكن وورين كريستوفر نظر بضيق وحذر إلى تفعيل السياسة الروسية في الشرق الأوسط، وبسبب "اكتظاظ جدول أعماله" لم يستطع لقاء بريماكوف، ولم يتق شوقا إلى تنسيق خطواته مع أي كان. من ناحيته، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريس بأنه "يوجد لدينا وسيط واحد هو الولايات المتحدة وحسب..". وأرجع المحللون سبب فشل مهمة بريماكوف إلى غياب الدبلوماسية الروسية الطويل عن المنطقة، واعتياد دول الشرق الأوسط على اعتبار الولايات المتحدة حكما رئيسيا في العلاقات بين بعضهم بعضا.
ومع أن السياسة في نهاية الأمر هي فن الممكن، ومع أنه كان صعبا على عصا أي ساحر دبلوماسي روسي، بعد سنوات طويلة من تقزيم روسيا لنفسها، صنع العجائب، فقد حصلت المعجزة في بداية عام 1998.
في الأسبوع الأخير من شباط/فبراير من عام 1998 أعلنت قناة "سي إن إن" عن بدء بثها المباشر من أرض العمليات الحربية في العراق.. كانت تلك غلطة تقنية فادحة لصانعي الأخبار الأميركيين، ولكنها ذات مغزى. إذ إن الصحافيين التلفزيونيين الأميركيين أصبحوا يعملون في السنوات الأخيرة يدا بيد مع البنتاغون، وصاروا قوتها الضاربة الأساسية في الحرب الإعلامية ومن أهل الاطلاع الجديرين بالثقة التامة. وإذا وجدت بحوزتهم مادة حول بدء القصف، فذلك يعني أن القوات الأميركية على وشك تسديد الضربة الأولى إلى العراق، وتنتظر فقط الأوامر السياسية من البيت الأبيض. لكن "رعد الصحراء" لم يجلجل، وكانت هذه أجمل بشرى يتلقاها بريماكوف.
لقد أوقفت الضربة الموجهة إلى العراق في آخر لحظة، بفضل جهود فرنسا والصين وروسيا، وأيدتها في ذلك دول آسيوية وأوروبية أخرى والدول العربية والإسلامية. وقد تطلب تنسيق نشاط "تحالف السلام" الضخم هذا مهارات كبرى من الدبلوماسية الروسية. وانضمت الأمم المتحدة أخيرا إلى المساعي السلمية، وقام كوفي عنان بدوره المطلوب كرئيس للأمم المتحدة وتوج بأكاليل الغار لمنع وقوع الحرب من جديد، ورأت الدبلوماسية الروسية أن تتراجع إلى المقاعد الخلفية، كي لا تثير هستيريا العداء لروسيا في واشنطن.
وعلى الرغم من أن بريماكوف نأى بنفسه بعد ذلك عن السياسة اليومية، وأصبح منذ نهاية عام 2001 رئيسا لغرفة التجارة والصناعة الروسية، فإن الرئيس فلاديمير بوتين انتدبه في 24 شباط 2003 للسفر إلى بغداد وإقناع صدام حسين بالتنحي عن منصبه. غير أن تصلب الرئيس العراقي أفسد مهمة الأكاديمي الروسي، وكذلك معارضة نائب رئيس وزرائه الأسبق طارق عزيز، الذي أكد لبريماكوف أنه سيذكره بمن هو على حق بعد عشر سنوات أثنا لقائهما المقبل في بغداد. لكن واشنطن بعد أقل من شهر أطلقت "عاصفة الصحراء"، وغزت العراق، وقضي الأمر.

أما فضل ومآثر بريماكوف على الصعيد الداخلي الروسي، عندما أصبح رئيسا للحكومة، فعصية على النسيان:
في نهاية عام 1998، كان مصير الدولة الروسية على كف عفريت، بعدما ضيق الإخطبوط الأوليغارشي الخناق على السلطة، وسرحت القطط السمان في قدس أقداس الدولة الروسية، متسببة بأزمة 17 آب/أغسطس المالية الخانقة، وانخفض نفوذ الرئيس الواهن، واشتدت المعارضة البرلمانية ضده في مجلس النواب "الدوما". ولم يكن مصادفة إجماع النخبة السياسية من أهل اليمين واليسار على اختيار بريماكوف – وزير الخارجية آنذاك – لترؤس الحكومة، التي نالت فيما بعد أصوات غالبية النواب.
وقد نال الأكاديمي العصامي ثقة المواطنين أيضا، ونجح بسرعة في إشاعة الطمأنينة في قلوبهم، وأُلفت لأول مرة في عهد يلتسين، حكومة ائتلافية حقيقية تعتمد على الأغلبية البرلمانية، وكان بريماكوف رئيس حكومة حقيقيا وليس ألعوبة بيد موظفي ديوان الرئاسة، وأسرة الرئيس والمقربين منها من أثرياء الخصخصة الجدد.
ولجم بريماكوف على الفور سعر صرف الدولار، وحاول وضع العوائق أمام تدفق مليارات الدولارات إلى الخارج، وصب اهتمامه على رفع مستوى الإنتاج، ولوحظ لأول مرة نمو ملموس في إجمالي الناتج القومي، وأصبح المسنون والمتقاعدون والعسكريون ومستخدمو الدولة، الذين أهملتهم إدارة يلتسين، يتسلمون رواتبهم ومعاشاتهم في أوقاتها المحددة.
وبدا أحيانا في ظل ترهل يلتسين وسكره الدائم أن رئيس الحكومة هو حاكم روسيا الفعلي، وذلك بفضل صلاته الواسعة بأجهزة الاستخبارات ودعم الجيش والمساندة الشعبية له. ولذا، وبعد شفاء يلتسين من وعكة دورية، ورؤيته للشعبية التي يتمتع بها بريماكوف، وبإيحاء من بطانته الفاسدة، حاول إجباره على الاستقالة، كما فعل مع أسلافه، لكن رفض بريماكوف القاطع حمل يلتسين على توقيع مرسوم بإقالته، وهكذا، انتصرت المافيا على هذا الرجل الفذ، الذي أفلح على أي حال بوضع مقدمات عودة هيبة روسيا الدولية في عهد الرئيس بوتين.
غير أن الرئيس السابق الشاب دميتري مدفيديف، وحسب شهادة صحيفة "كوميرسانت" الروسية، لم يعجبه أثناء زيارته، في تشرين الثاني/نوفمبر 2010، إلى كوريا الجنوبية تغيُّب رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية بريماكوف عن الزيارة بسبب المرض، فما كان من عملاق السياسة الروسية المخضرم إلا أن أعلن في 21 شباط فبراير 2011 عن استقالته، ليتفرغ بشكل نهائي للكتابة والعمل الاجتماعي..

سألت ذات مرة كاتب خطابات الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشّوف الأكاديمي فيودور بورلاتسكي عن سر تجهم بريماكوف الملغز، فقال لي إنه فضلا عن شعوره الدائم بالمسؤولية كرجل دولة، فهو يعاني كثيرا لفقدانه في وقت مبكر ابنه البكر وزوجته الأولى، وقد اعترف له ذات مرة بأن الله قد يكون قد امتحنه بذلك لنجاحه الكبير في السياسة.
عيد ميلاد سعيدًا، وعمرا طويلا، دولة الرئيس!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن