نكوص العقل الجمعي عن مدارات الضروريات

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2014 / 10 / 11

نكوص العقل الجمعي عن مدارات الضروريات

من المبررات التي لا منطق يحتويها إتهام العقل الجمعي للمجتمع بالعجز عن إدراك طريق الإرتقاء والتطور وخاصة في مجتمع يتعرض يوميا وتفصيليا للكثير من الأزمات الجزئية التي تضع المشكلة الشخصية الوجودية في محل الصدارة من الإهتمام ,وخاصة مع عجز السلطة الناظمة للمجتمع من تدارك سلم الأوليات والعمل على تطمين العقل الفردي والجمعي إنها تمارس دورها كقوة حارسة ومسيطرة وما على العقل الجمعي والفردي إلا أن يمارس وظيفته كما هي تكوينا وتكيفيا ويتفرغان للإنتاج المعرفي والعقلي.
هذ الإشغال والإنشغال حسب سلم أوليات الوجود يطيح بمؤهلات العقل ونظمه العاملة أن يبحث عن أسباب الرقي والكمالات مع وجود مشاكل مصيرية مهددة للوجود, تبدأ من الفقر وتنتهي بتأمين الوجود الطبيعي أي السلام , ومن هنا فإن تشغيل العقل بما يهدد دفعا أو إتقاء يكون أولى حتى بأضعف منطلقات العقل والمنطق الإنساني من أن يتجه صوب ما هو خارج حالة التهديد ,وكلما كان هذا التهديد ملجئ واضطراري كلما تعمقت أزمة العقل وتشتت مجهوداته ليسجل في كل مرة مرحلة من مراحل التراجع القهقري.
في بحوث سابقة أكدنا على جملة من الحقائق التي تعني حالية التنشيط والتعجيز العقلي وعلاقة هذه العوامل بما يمكن أن نطلق عليه التكوين العمومي لحالة الإبداع في المجتمعات وإثراء الخزين المعرفي المولد للمعرفة كمنتج نهائي, من هذه العوامل أيضا هناك ما يمكن أن نفرضه كقانون وهناك أيضا ما يمكننا أن نسميه عوامل مساعدة أو جانبية ولكن جميع هذه العلوم لها صلة بالواقع والبيئة الأجتماعية ولا تنفك عن تأثيراته على العقل والمعرفة خصوصا.
ما يمكن أن نفرضه كقانون هو علاقة المعرفة بطريقة ممارسة الحياة اليومية ومصادرها ومعطياتها والبيئة التي تنتج من هذا التعاطي أو تتعاطى مع هذا القانون, مثلا هناك علاقة جدلية بين أسلوب المعيشة وبين المعرفة كمنتج, تتمثل هذه الجدلية بترابط نوعية المنتج المعرفي بصورة الواقع وكيفية ممارسة الفرد لأسلوب المعيشة العام وليس الخاص, فكلما كانت هذه الممارسة بسيطة وغير معقدة وتلقائية نجد أن المعرفة تتصف أيضا بنفس الصفات وتنعكس على تركيب المعرفة وتنوعها, وهذا واضح جلي في قراءة أساليب وأنماط المعيشة في كل المجتمعات.
قد يثار أيضا هنا سؤال مثلا أن كثيرا من الفلاسفة والمفكرين المتخصصين بالمعرفة العميقة وأهل العرفان هم أكثر الناس تبسيطا في أسلوب ونمط المعيشة مع ثراء وتعقيد وتنوع في نتاجهم المعرفي , وهذا الامر صحيح وموافق أيضا للفرض الذي جئنا به , الأختيار هنا هو الخروج من الحياة والمعيشة المعقدة بأعتبار أن هؤلاء ليسوا حالة عامة بل جزء مختار من حالة عامة وهي التي تفرض شروطها وليس هم من يفرض الشرط المنافي للقاعدة.
نعود إلى مسألة العجز العقلي في أنتاج ما هو مفترض أصلا بوجوده وخاصة في واقع فعلي مثل الواقع العراقي , والحقيقة التي لا ينكرها صاحب عقل أن المجتمع ينتج حسب كمية ما يعطى من غذاء وينتج طاقة بالقدر الذي تفرزه كمية المتناول من الغذاء هذا كنظام عام , قد تكون هناك حالات منفردة حالات من العبقرية والنبوغ لكنها تبقى حالات لا يمكن القياس عليها ولا يمكن تعميمها , العراق الذي خرج من الفترة العثمانية وهو في سبات طويل أصاب جسده بالخدر والعقل بنوع من الكس والاتكالية حتى جاء سقوط بغداد مدويا ليعلن عن صحوة جزئية صحوة وعي على أمل أن تجد أرتدادات عقلية تنشط هذا الجسد وتخرجه من حالة الخدر .
الذي حدث هو أن القوى النافذة والمسيطرة أجتماعيا وتحت عناوين مختلفة معظمها ديني وأجتماعي تقليدي إن لم نقل متحجر لم تمنح فرصة للقوى الناشئة والتي تعلمت وتنورت في أواخر الدولة العثمانية أن تساعد قوى الأحتلال بتحويل دخول الإنكليز للعراق إلى مرحلة مشابهة لدخول نابليون للقاهرة ,فأخذت تبحث في أوراقها القديمة ومن ملفات غير صالحة لتأتي بنظام وقيادة غير مؤهلة أصلا أن تتوافق مع طموحات الشعب وطموحات المحتل في بناء دولة معاصرة كما لا يمكنها قراءة العمق التأريخي للعراق .
لم يكن العراق كمجتمع ذو عقلية عاجزة أن تنتج ولا من طبيعة هذا العقل الكسل ولكن المؤديات والأسباب والواقع حرمه من أن يكون قريبا من خزين العلم والمعرفة ,كانت ميزانية التعليم والتربية والبحث العلمي والتطوير الأجتماعي والصحة والعمل والثقافة مجتمعة لا تساوي شيء مقابل ميزانية الدفاع أو ميزانية الداخلية ,وهذا خلل خطير لأن البناء الأولي أو ما يسمى بالبنى التحتية هي الأهم والأجدر في الاهتمام لمردوداتها على القطاعات الأخرى وقدرتها على توفير ما يمكن أن يساهم في الإثراء المادي والمعنوي .
العجز العقلي الحقيقي هو أن وفر كل ما يمكن أن يساهم في تنمية النشاط العقلي وبحرية تامة للوصول إلى مصادر العلم والمعرفة وفي ظل ظروف أقل ما يقال عنها إنها مناسبة ومع ذلك لا نلمس أي نتاج مهم أو يشار له , العجز العقلي هو عدم ويأس وإحباط في قدرة العقل على التفاعل الإيجابي والضروري والطبيعي مع الما حول لسبب في طبيعة هذا العقل وقدرة نظامه الإنتاجي وهذا ما لم يقله الدكتور الوردي وإنما أشار دوما إلى الحالة الأولى من خلال مجمل كتاباته , فيقول إنهم يغذون العقل بغداء تالف غير محتوي على طاقة وغير مهيأ للهضم لأن ما يقدم مستهلك تأريخيا ومعاد ,فهو لا يرى أي فائدة من ملايين الكتب والمخطوطات والأفكار المستنسخة عن بعضها عن بعض ما ترك الأولون من أفكار لم تعد قادرة أصلا على الإنتاج كمن يملك المليارات من عملة فقدت أي قيمة في السوق ويعد نفسه من الأغنياء .
ما ينقص العقل العراقي في الحقيقة ركيزتين مهمتين حتى يتحرر من هذه التركيبة المتناقضة التي تؤثر على وجوده الأجتماعي والفكري وهما :,
• الأبتعاد التام عن العيش في التاريخ بمستويات تسمح له أن يرى التاريخ من بعد ويسمح لنفسه القدرة على الفحص والنقد دون أن يكون هو جزء منه أي من التاريخ ,لأن المشكلة المستعصية التي تعطل حركة الواقع العقلي تتمحور حول قدرة هذا التاريخ لسحبنا نحو موارد ومواقع الصراع فينشغل العقل بإدارة الصراع العبثي ويستنزف كل قواه في الدفاع والدفاع المضاد عن شاخصات ونقاط فيه لم تعد تجدي أن تدافع عنها أو حتى الأهتمام بها .
• إعادة تكوين وصياغة الهدف ومن خلال رؤية متكاملة ومتناسقة ومتنوعة وقادرة على أن تتحدث وتحدث في كل وقت وهذا يفرض على العقل العراقي أن يمنح الزمن حرية في تحرير العقل من أسر مفهوم الإصالة بمعنى القدم, وأيضا تحرير العقل من وهم القداسة , فالأشياء عادة لا يمكنها أن تكون مقدسة إلا من خلال دورها في إحياء القانون الطبيعي وهو قانون الإستخلاف والأستعمار ,وحتى الكتب الدينية والأنبياء والرسل كان الهدف الأساسي ليس تعليمنا الصوم والصلاة وإنما لتقديم نموذج حي وحقيقي في كيفية الإستخلاف الصحيح والأستعمار الأمثل للوجود بقاعدة الإصلاح ومنع الفساد والإفساد .
من قراءاتنا لفكر الدكتور علي الوردي نجده يحدد إشكالية عجز العقل العراقي خصوصا هو في حدود ما ذكرته أعلاه وبالتغلب على هذه المشكلة يمكنه الإنطلاق وبعيدا في عالم التعقل والإبداع العقلي لأن ما سماه بالبداوة الفكرية منشأها السكون والأسترخاء في ظل نظام عرفي ومجموعة من الأصول الثقافية التي تربط عقل الإنسان بمنظومة يتحكم بها التقليد والاحتكام للقدوة والقيادة التي يفتخر الجميع بحسن إدارتها للواقع وفق نمط يحافظ على الموروث باسم الأصالة .
أما الميل الثاني الذي يتصارع داخليا ولا شعوريا في الذات العراقية فهي المدينة التي تجذب البدوي للبهرجة والإندهاش فهو يرى فيها متعة وفرصة للخروج من طوق الخيمة والشيخ والعرف لكنه لا يريد الانصهار بها لأنها تعني له التعري أمام قبيلته ومحيطه وهذا الطريق يؤدي به ليكون منبوذا , فهو لا يرفضها لعدم القناعة ولكنها لأنها تمس الإصالة فتراه يندمج بالمدينة والمدنية ولكن من خلف الستار من حيث لا يرى وهذا نوع من أنواع النفاق الأجتماعي سببه عدم قدرة الفرد بأن يجهر بقراره بصورة علنية دون توابع ودون تحمل عار من مجتمع يغازل المدنية من تحت العباءة ويلعنها أمام شركائه وكلهم في ذات المغنى وعلى نمط واحد .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن