كرونشتاد والثورة الروسية

أشرف عمر
ashraf.omar86@gmail.com

2017 / 10 / 24

ترجمة أشرف عمر الناشر الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية


منذ انتصار الثورة الروسية في أكتوبر 1917، تعود تلك اللحظة التاريخية إلى الصدارة مجدداً كمرجعية في كل فترة يتصاعد فيها النضال. أعدادٌ متنامية من النشطاء اليوم ينخرطون في نقاشات تمتد لساعات حول تاريخ وطبيعة الثورة الاشتراكية.

تضرب لنا الثورة الروسية مثلاً رائعاً للسلطة الخلّاقة التي يمكن تأسيسها على أيدي جماهير العمال العاديين وحلفائهم لتحدي المجتمع الرأسمالي المنحط الذي لا يهدف سوى للربح. والأمر لا ينحصر فقط في كونه تحدياً للرأسمالية، بل أيضاً بناءاً لبديل واقعي وهو الاشتراكية. والاشتراكية هي شكل مجتمعي تكون فيه القوة الدافعة للنظام هي إشباع احتياجات البشر، وليس جشع الشركات الكبرى.

تقدم الثورة الروسية للنشطاء دروساً وخبرات ثرية بالفعل. فانتصار ثورة عمالية جماهيرية، واعية بتراث الأفكار الاشتراكية الثورية لكارل ماركس وفريدريك إنجلز، في بلد كبير مثل روسيا، يفضح أكذوبة أن الجماهير الفقيرة الكادحة والمضطهَدة تعجز عن إدارة المجتمع لصالحها.

لقد أحيت الثورة الروسية مبادئ الاشتراكية من أسفل كما لم يفعل أي حدث من قبل أو بعد. وعلى صعيديّ النظرية والممارسة، طبقت الحركة جماهير الطبقة العاملة الروسية، وحلفائها من القطاعات الاجتماعية المضطهَدة في روسيا وأوروبا الشرقية، تراث الماركسية، بشكل أكثر عمقاً من أي لحظة تاريخية أخرى.

لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن؛ فبحلول نهاية العشرينات كفت الثورة الروسية عن أن تكون نموذجاً ملهماً للتحرر كما كانت من قبل. تحطمت مكاسب العمال الروس، في ظل القبضة الحديدية القاتلة للستالينية، بثورة مضادة ارتدت كذباً عباءة الاشتراكية في تخلٍ تام عن كل سماتها التحررية.

ما حدث للثورة الروسية، والدور الذي اضطلع به الحزب البلشفي في قيادة العمال الروس إلى السلطة، يشكلان معاً محوراً واحداً لنقاشات مكثفة بين أولئك القابضين على جمر الثورة وتراثها اليوم. وفي هذا السياق لابد أن تتردد على الأسماع قضية أحداث “كرنشتاد” التي ربما لا تضاهيهها أي أحداث أخرى في إثارة الجدل والخلافات.

كثيراً ما يُشار إلى انتفاضة كرنشتاد في مارس 1921، وقمعها بأمر من الحزب البلشفي الحاكم لجمهورية روسيا العمالية، باعتبارها دليلاً على أن الثورة الاشتراكية على الخطى التي ناضل بها فلاديمير لينين وليون تروتسكي إنما تؤسس للقمع والبيروقراطية متخفيان وراء الشعارات. أولئك الذين يتوصلون إلى هكذا استنتاج ينتمون في الأغلب إلى معسكرات مختلفة؛ بعض الأكاديميين الماركسيين، ومعظم الفوضويين، والمؤرخون اليمينيون بشكل عام يتشاركون معاً هذه الحجة.

وبهذا القدر أو ذاك، تذهب هذه الحجة إلى القول بأن ذلك المصير الذي آلت إليه الثورة الروسية كان مُقدَّراً لها منذ البداية، وأن اللينينية تؤدي إلى الستالينية، وبالتالي إذا أردنا أن نستقي من التاريخ دروساً ثورية عن الحرية والتحرر فمن الأفضل أن ننظر في مكان آخر، وربما يكمن نموذجٌ أفضل في الديمقراطية الليبرالية أو نسخة أكثر راديكالية منها، أو بدلاً من ذلك كله ربما يجدر بنا أن نغيّر من أنفسنا لا أن نحاول تغيير النظام برمته. وبغض النظر عن أيٍ من هذه البدائل، فإن تراث الثورة العمالية في روسيا 1917 وتراث لينين والحزب البلشفي لن يكون محل اهتمام بادئ ذي بدء.

في النقاش التالي، نرى أن جوهر هذا التفسير خاطئ تماماً؛ فأحداث كرنشتاد لم تجرِ في وقتٍ من صعود الثورة الروسية، بل انحدارها؛ في لحظات من العزلة والضعف. وبرغم ذلك، تعد هذه الأحداث جزءاً من تراث الاشتراكية من أسفل. هذه الأحداث، برغم مأساويتها وإرباكها، يمكن تفسيرها وفهمها من دون التخلي عن مبادئ الاشتراكية من أسفل.

امتلئ عقد العشرينات من القرن الماضي بالكثير من التطورات التي أربكت الاشتراكيين في روسيا، وأحداث كرنشتاد كانت فقط واحدة منها. أما الستالينية، وهي النظام الذي يرتكز على مراكمة رأس المال والذي لا يُعد على الإطلاق بناءاً على الاشتراكية أو التراث الماركسي الثوري، فقد قوبلت بنضالات ضارية خاضها ثوريون أمثال لينين وتروتسكي في السنين الأولى من العشرينات. في الحقيقة كانت الستالينية ثورة مضادة في مواجهة دولة العمال التي كافح من أجلها البلاشفة ودافعوا عنها. الستالينية ثورة مضادة في مواجهة الاشتراكية، وليست وريثاً شرعياً لها كما يسير الادعاء كذباً.

بدأ القرن الحادي والعشرون مفعماً بروح الثورة. إن آفاق موجة ثورية من المقاومة، ربما أكبر حجماً من تلك التي شهدتها روسيا مطلع القرن المنصرم، يراها اليسار ويعمل من أجلها اليوم. هذه النقطة تطرح ضرورة الاهتمام بهذه الزاوية من التاريخ البلشفي.

ضرورة مأساوية
كان قمع البلاشفة لانتفاضة كرنشتاد في 1921، كما وصفه تروتسكي “ضرورة مأساوية”. ومن أجل التعاطي مع أحداث كرنشتاد، لابد من فهم العناصر الأساسية والحاسمة فيها؛ أولاً مأساوية الظروف التي لم تكن من اختيار الحزب البلشفي. ثانياً ضرورة ما اتُخذ من إجراءات.

كان الأمر مأساوياً بلا شك. وفقاً لأكثر الروايات دقة، تلك التي وثّقها الأكاديمي الأمريكي الكاتب المتعاطف مع الفوضوية ومع متمردي كورنشتادت، بول أفريتش، قُتل حوالي 600 من بحارة كرنشتاد المناهضين للحكم البلشفي، فيما سُجِنَ ما يقرب من 2500 آخرين. وبالتأكيد بعضٌ ممن قُتلوا قد لقوا حتفهم خلال المراحل النهائية من الصراع المسلح.

هذا العدد يتضاءل أمام قائمة الضحايا من البلاشفة المخلصين الذين دافعوا عن الدولة العمالية الشابة الذين قُتلوا على يد قوات متمردي كرنشتاد. يقدّر أفريتش أعداد القتلى والجرحى والمفقودين بـ 10 آلاف شخص على أقل تقدير، وهذا العدد يشمل 15 من المندوبين البلاشفة للمؤتمر العاشر للحزب. كل هذه الأرقام، الخاصة بكلا الجانبين، مبنية على تقارير المراقبين والسجلات الرسمية الصادرة عن المستشفيات آنذاك.

كانت تلك بلا أدنى شك معركة دامية. لكنها لم تكن الوحيدة، ولا حتى الأسوأ من ضمن معارك الحرب الأهلية وما بعدها في روسيا. بل أن معركة كرنشتاد كانت هي الصدى الأخير للحرب الأهلية وآخر توابع زلزالها. لكن مأساوية ظروف المعركة أكبر بكثير من ضحايا الصراع نفسه، فقد كمنت الصعوبات الأكبر في الأوضاع الدولية العامة المحيطة بدولة العمال الوليدة الناشئة في أوائل العشرينات.

روسيا الثورية في أوائل العشرينات
نجح البلاشفة في الدفاع عن الثورة وإنقاذها من صعوبات جمة. حوالي 14 جيش إمبريالي قدموا مؤازرين الثورة المضادة بقيادة الجيش الأبيض في الحرب التي شنها ضد الثورة داخل روسيا، قاصدين غزو دولة العمال حديثة النشأة. وبحلول ربيع 1921، وضعت الحرب الأهلية أوزارها، على الأقل من زاوية الصراعات العسكرية الكبيرة. هُزِم الجيش الأبيض، لكن لم يكن واضحاً ما إذا كانت هذه الهزيمة دائمة ونهائية أم مؤقتة، فجيوش الثورة المضادة لم تكن قد سحبت قواتها بشكل كامل.

في تركيا، على سواحل البحر الأسود بالقرب من جورجيا، وفي سيبيريا، استمر الجيش الأبيض في حشد قواته استعداداً لحرب جديدة ضد دولة المجالس العمالية. كان قائد الجيش الأبيض، الجنرال رانجل، لايزال حينذاك يسيطر على وحدات عسكرية تتراوح قوتها بين 70 و80 ألف جندي في تركيا. كان ذلك جيشاً خليطاً من الروس المعادين للثورة، في تحالف وثيق مع الحكومة الفرنسية على الأخص، يتلقى منها دعماً بالإمدادات.

ترقب البلاشفة وتطلعوا إلى امتداد الثورة الاشتراكية إلى ألمانيا وغيرها من البلدان المتقدمة في أوائل العشرينات، لكن ذلك ما لم يتحقق، ليس بسبب أن الأمر غير ممكن – فلا يمكن استيضاح فشل الثورات في بلدان أخرى غير روسيا بالاختلافات في الظروف الموضوعية، بل في الظروف الذاتية. كان الانفصال المتأخر عن الأممية الثانية يعني أن اليسار الثوري لم يكن منظماً بما يكفي في أحزاب جماهيرية منغرسة في أوساط الطبقة العاملة قادرة على إنجاز المهام التي بادر العمال الروس بها.

روسيا في ذلك الوقت كانت أشبه ببلد من العالم الثالث تجتاحه المجاعة، بعدما أنهت دولة العمال الجبهة الشرقية للحرب العالمية الأولى من خلال معاهدة السلام التي تفاوضت بشأنها ووقعتها مع ألمانيا في بريست – ليتوفسك. انتهت الحرب الأكثر دموية في التاريخ البشري بالثورة العمالية في روسيا. جلبت الثورة الاشتراكية السلام، لكن بعد أن تكبدت ثمن غال وخسائر فادحة.

خسرت روسيا 32% من الأراضي الصالحة للزراعة، و85% من محصول البنجر اللازم لإنتاج السكر، و89% من حقول الفحم، و54% من طاقاتها الصناعية. كل ذلك كان قد تم التنازل عنه في الاتفاقية النهائية – 3 مارس 1918. أما الحصار الاقتصادي بين عامي 18 – 1920، فقد أدى إلى مصرع ما يفوق 7.5 مليون روسي إثر ما تسبب فيه من مجاعات وانتشار للأوبئة، ناهيكم عن ضحايا الحرب. كانت جريدة “برافدا” البلشفية قد رصدت أن 25 مليون روسي يعانون الجوع عام 1921 وحده. وقد كتب أحد الخبراء الاقتصاديين الروس ذات مرة أن “مثل هذا التدهور الحاد في قوى الإنتاج… في مجتمع كبير يشمل مائة مليون مواطن، غير مسبوق في تاريخ البشر”.

الطبقة العاملة والفلاحون
الضريبة الباهظة التي تكبدتها دولة العمال الفقيرة لم تكن اقتصادية فقط، بل اجتماعية أيضاً، حيث مزّقت الحرب روسيا الثورية التي فُرضت عليها أيضاً عقوبات دولية من قبل الرأسمالية العالمية. مع نهاية الحرب الأهلية، انحدر متوسط الدخل القومي في روسيا ليصل إلى ثُلث قيمته في 1913 (المتواضعة أصلاً) – علماً بأن الدخل القومي في روسيا 1913 كان أقل بـ 20% منه في بريطانيا 1688. أما الإنتاج الصناعي فقد هبط إلى خُمس ما كان عليه قبل الحرب. إنتاج الفحم وصل إلى عُشر معدلات ما قبل الحرب، والحديد إلى 1 / 40. نظام السكك الحديدية كان قد دُمر تقريباً.

مع انهيار الصناعة، صارت المدن (العمود الفقري للإطاحة الثورية بالنظام القديم)، والمجالس العمالية التي شكلت الحكومة الجديدة، في أزمة كبيرة. تقلصت الطبقة العاملة المدينية، والتي كانت في الأصل أقلية بين السكان في روسيا، كما انكمشت الكثافة السكانية في المدن بشكل كبير، حيث عادت أعداد هائلة من العمال العاطلين إلى عائلاتهم الفلاحية في الريف. هذه الطبقة العاملة، الأقلية في المجتمع حتى قبيل سنوات الحرب، فقدت نصف عددها تقريباً بحلول 1929، وكذا تدهورت إنتاجية العمل إلى ثُلث مستواها قبل الحرب. وفي ظل هذه الظروف القاسية، لم تكن السوفييتات (المجالس العمالية) فاعلة كما كانت في السابق.

يرى الماركسيون المجتمع والسياسة ككُل واحد في سياق النضال الطبقي والظروف التاريخية. كرنشتاد 1921 هي بالتأكيد جزء من روسيا التي هي بطبيعة الحال جزء من نظام عالمي في أزمة عميقة. والرأسماليون في كل بلد من العالم كانوا يتوقون إلى عزل وعرقلة الدولة العمالية الناشئة التي تهدد ببث الثورة العمالية في قلب أوروبا الرأسمالية وما بعدها.

في ظل هذه الظروف القاسية، حتى الطبقة العاملة الروسية، عماد روسيا الاشتراكية، خاضت إضرابات عن العمل من أجل الخبز. انتشرت الإضرابات في بتروجراد، وصار مشروع انتشار الثورة الاشتراكية مهدداً بشدة. وصف لينين، مراراً وتكراراً، الظروف الضرورية لانتصار الاشتراكية في بلد متأخر مثل روسيا، متبعاً نفس المبادئ التي وضعها تروتسكي لنظريته “الثورة الدائمة”. حينما تكون الطبقة العاملة الظافرة بالسلطة في بلد متأخر أقلية عددية بين السكان، يعتمد انتصار الثورة الاشتراكية في نهاية المطاف على انتشار ثورة الطبقة العاملة إلى بلد أو أكثر من البلدان المتقدمة اقتصادياً.

لم يتحقق ذلك في روسيا 1921، لكن الأمر كان لايزال ممكناً. هذه الضرورة كانت لتقلل من مأساوية عزلة دولة العمال التي بدت كجزيرة مُحاصرة ببحر من القوى الرأسمالية المعادية. وفي نفس السياق، كان ضمان بقاء الطبقة العاملة الروسية على قمة سلطة الدولة كان جوهرياً في الأمر بما لا يُقاس. والهدف كان تحفيز الظروف التي كانت تحمل في طيّاتها إمكانية تاريخية للثورة الاشتراكية العالمية لأول مرة في تاريخ البشرية، وبالفعل كان من الممكن إدراك ذلك الهدف.

انعقدت آمال كبرى على انتصار الثورة في ألمانيا، ومن ثم في أكبر القوى وأكثرها تقدماً في أوروبا. وبرغم القمع الشرس الذي تعرضت له مجالس العمال في 18 – 1919 في ألمانيا، على أيدي الثورة المضادة بقيادة الاشتراكيين الديمقراطيين، بما شمل اغتيال الاشتراكية الثورية روزا لكسمبورج، لم تكن الطبقة العاملة الألمانية في 1921 قد تلقت بعد هزيمة نهائية أو حاسمة.

كانت المفاوضات تجري لعقد اتفاقية تجارية بين دولة العمال البلشفية وإنجلترا، وفي نفس الوقت اتفاقية أخرى للسلام مع بولندا. استهدف البلاشفة من خلال ذلك الإبقاء على سلطة العمال لأقصى أمد ممكن، والنضال أثناء ذلك لنصرة النضالات العمالية ضد الرأسمالية في بلد أو أكثر من بلدان العالم المتقدم.

هذا هو السياق الذي اندلعت فيه انتفاضة كرنشتاد. وفي هذا السياق أيضاً تطورت الأزمة الروسية بمضمونها الطبقي الأساسي؛ حيث الصراع بين طبقة الفلاحين الكبيرة، التي تعمل في حيازات عائلين خاصة، والطبقة العاملة البروليتارية الصغيرة، التي تعمل بطبيعتها جماعياً. وبالرغم من أن البروليتاريا، التي عبّرت عن ثقتها بنفسها وتنظيمها سياسياً وتماسكها الاستراتيجي في الحزب البلشفي، كانت منتصرة وفي السلطة، إلا أن المعركة قد أنهكتها كثيراً. أما الفلاحون فقد عانوا الجوع والسأم، منتظرين ثمار النصر التي وعدهم بها البلاشفة. هذه هي الأرضية التي نشبت عليها موجة من الصراع الداخلي الذي نهش المجتمع الثوري الفتيّ.

تَمرَد الفلاحون على البلاشفة نتيجة للظروف المأساوية. وقد عكست انتفاضة كرنشتاد، في صورة مصغرة، اللحظة التاريخية التي تبذل فيها الطبقة العاملة الروسية الثورية المنتصرة الحفاظ على السلطة في ظل أزمة داخلية عنيفة وعزلة دولية خانقة.

كان النضال من أجل الخبز هو جوهر هذا الصراع كله. خاض كلٌ من الفلاحين المنتجين والعمال المستهلكين كفاحاً مريراً من أجل الخبز. لم يكن ممكناً أن تحافظ الديمقراطية العمالية على نفسها وتتقدم إذا لم تؤمَّن البنية المادية اللازمة لإنقاذها. الفلاحون، على الجانب الآخر، انتزعوا أراضيهم من براثن الأرستقراطية البغيضة التي طالما عذّبتهم بتحالفهم الثوري مع البلاشفة المستندين إلى المدن. وخلال الحرب الأهلية، انضم الفلاحون إلى الجيش الأحمر وإلى الحزب البلشفي بأعداد غفيرة من أجل قضية واحدة؛ مجابهة جيش طبقة ملاك الأراضي الإقطاعيين. اشترك الفلاحون مع العمال في روسيا في نضال موحد حقيقي ضد وحشية النظام القيصري القديم. لكنهم بعد ذلك حاربوا للحفاظ على ما ينتجونه من أجل البيع في السوق الخاص. فبعد هزيمة الجيش الأبيض، حتى برغم عدم إجلائه تماماً، انسحب الفلاحون من الجيش (حوالي 2.5 مليون فلاح في 1921، أي حوالي نصف قوة الجيش الأحمر في ذلك الوقت) وعادوا لأراضيهم.

في يناير 1921، أعلن البلاشفة تخفيض الحد الأدنى من الحصص التموينية المُخصصة لمناطق موسكو وبتروجراد بمقدار الثُلث. فعل البلاشفة ذلك على مضض، فلم يكن أمامهم خياراً آخر. عطلت الثلوج الكثيفة، والنقص الحاد في الوقود، قطارات نقل الحبوب، أضف إلى ذلك الأزمات الناجمة عن إحجام الفلاحين عن التعاون مع الحكومة.

في النصف الأول من شهر فبراير، لم تصل أي شحنة حبوب إلى المخازن، الفارغة أصلاً، في موسكو. وقد اضطر 46 من كبرى مصانع المدينة الصناعية بتروجراد، بما يشمل مصنع بوتيلوف العملاق، معقل القيادة العمالية البلشفية، نتيجة نقص الوقود. وكما شرح لينين في المؤتمر العاشر للحزب، فقد كان البلاشفة:

“متورطين في نوع جديد من الحرب، شكل جديد للحرب، يمكن تلخيصه في كلمة “اللصوصية”، حيث عشرات ومئات الآلاف من الجنود المنسحبين والمُسرَّحين، اعتادوا على عناء الحرب التي يعتبرونها حرفتهم الوحيدة، يعودون مُفقَرين مُحطَّمين لا يجدون عملاً”.

المزيد من التنازلات لأغلبية الفلاحين كان يعني المزيد من العناء والضنى، وتقليص سلطة الطبقة العاملة وتماسكها وثقتها. كان مستقبل الاشتراكية في روسيا والعالم رهن يديّ الطبقة العاملة في روسيا. استجاب البلاشفة لذلك بـ”شيوعية الحرب”، التي كانت سياسة مؤقتة لإنعاش الوضع الاقتصادي نسبياً، بينما كانت الثورة تعبئ أجواء العالم، لكنها لم تكن مضمونة الانتصار. وفي القلب من شيوعية الحرب، طبّقت الدولة العمالية سياسة المصادرة القسرية لمحاصيل الفلاحين لتوزيعها على الطبقة العاملة في المدن.

وكرد فعل على تنفيذ سياسة شيوعية الحرب، واجهت مجموعات من الفلاحين المسلحين كتائب مصادرة المحاصيل، وسرعان ما سحقها البلاشفة. اجتاحت موجات من انتفاضات الفلاحين الريف الروسي، وفي فبراير 1921 وحده، أي قبل شهر واحد من انتفاضة كرنشتاد، رُصِدَ 118 تمرد فلاحي في مناطق روسية متفرقة.

ملامح انتفاضة كرنشتاد
فرضت الظروف المأساوية خيارات ضرورية وصعبة في آن؛ فالثورات لا تولد ولا تتحرك بالعواطف والمشاعر. كتب تروتسكي:

“الحرب الأهلية ليست بمدرسة إنسانية. إن المثاليين والمساومين قد اتهموا الثورات دوماً بـ”التجاوزات”، غير أن النقطة الرئيسية هي أن “التجاوزات” تنبع من طبيعة الثورة عينها التي ليست سوى “تجاوز” للتاريخ”.

بدت انتفاضة كرونشتاد كأنها تمرد ضد قيادة البلاشفة للجيش والدولة. بدأ الأمر في وقت عانت فيه الدولة من أوضاع ضعيفة ويائسة حيث بقاءها على قيد الحياة كان على المحك. خلال الثورة والحرب الأهلية، كان من المقبول معاقبة من يتمرد ضد الجيش الأحمر، أي قوات الدفاع عن أول دولة عمالية ظافرة في العالم، بالإعدام الفوري. وبما أن الصراع المسلح إنما هو ذروة المجابهات السياسية، فقد صارت كرونشتاد رمزاً ليس فقط للمأساة، بل أيضاً للضرورة. كان قمع كرونشتاد ضرورة، لأن الانتفاضة إذا كُتِبَ لها النجاح لصارت بمثابة، كما قال لينين، “خطوة، سلم، جسراً” لانتصار عاجل للثورة المضادة.

لم تكن قيادة متمردي كرونشتاد تدرك بالضرورة هذه النتائج، لكن هذه النتائج كانت هي الوحيدة الممكنة والمطروحة على جدول أعمال التاريخ. نجاح الانتفاضة كان من شأنه أن يمهّد الطريق لإحياء الثورة المضادة البيضاء وتوحيدها مع القوات الملكية الرجعية، والاشتراكيين الديمقراطيين المناشفة، والجيوش الأجنبية في حملة عملاقة على الدولة العمالية المُحاصرة والمعزولة.

كانت كرونشتاد مدينة مُحصّنة وقاعدة بحرية على جزيرة كوتلين في خليج فنلندا، تبعد حوالي 20 ميل عن مدينة بتروجراد. أنشأها القيصر بطرس الأكبر في القرن الثامن عشر لحماية العاصمة الجديدة من الهجمات القادمة من البحر المفتوح، لذا اكتسبت اسم “نافذة الغرب”. لجزيرة كوتلين موقع استراتيجي كشريط من اليابسة طوله ثمانية أميال في البحر، بعرض يبلغ ميل ونصف على الأكثر. صفوف من القلاع حصّنت الجزيرة من شمال إلى جنوب الخليج. أما كرونشتاد فتقع شرقي الجزيرة في الطرف المواجه لبتروجراد، كانت حرفياً قلعة حصينة، مدينة مُحاطة بجدران متينة عتيقة، مدخلها الرئيسي هو بوابة بتروجراد في الشرق، وفي الجنوب تقع الموانئ وأحواض السفن وأسطول بحر البلطيق.

في العام 1921، سكن حوالي 50 ألف شخص في كرونشتاد، نصفهم من العسكريين، والنصف الآخر من المدنيين الذين عملوا في أحواض السفن والمستودعات والصيد وأعمال صغيرة أخرى. التركيبة الطبقية لسكان كرونشتاد قد تغيرت بشكل مثير في السنوات بين 17 – 1921. خلال ثورة 1917، كان بحارة كرونشتاد من بين الطلائع الأكثر وعياً سياسياً في حركة الطبقة العاملة كلها. هؤلاء البحارة كانوا في القلب السياسي من جيش تشكل في معظمه من فلاحين مُجنّدين حديثاً كانوا قد تحولوا لتوهم من خلفيات سياسية رجعية وخبرات اجتماعية محافظة إلى البلشفية.

اعتمد تروتسكي، قائد الجيش الأحمر، على بحارة كرونشتاد خلال الثورة لحشد القوى عبر البلاد في سنوات الغزو والحرب الأهلية. انتظم الجيش الأحمر في دوائر متحدة مركزياً، فيما كانت أقلية من كوادر الطبقة العاملة المتقدمة سياسياً في المركز القيادي للجيش، مسئولة عن التوجيه السياسي والعسكري لدوائر أكبر وأكبر من القوى الأقل في التماسك السياسي.

قاتل بحارة كرونشتاد وساهموا في قيادة القتال دفاعاً عن الثورة، كانوا كما وصفهم تروتسكي “فخر ومجد” الثورة الروسية. قُتِلَ وجُرِج منهم الكثيرون، واستُبدِلوا في أسطول البلطيق بمجندين آخرين قدموا من مقاطعات ريفية سماهم البلاشفة “فتيان فلاحين في ملابس بحارة”. وكما في كافة أرجاء روسيا، حينما وضعت الحرب الأهلية أوزارها، كان أغلب العمال المتقدمين، الذين قاتلوا في القلب من الجيش الأحمر ودافعوا عن الثورة ضد الحرس الأبيض والقوى الإمبريالية، قد لقوا حتفهم في ويلات الحرب.

انخفضت أعداد العمال الصناعيين في روسيا – وطالما ظلوا يمثلون أقلية في المجتمع – من 3 ملايين عام 1917 إلى مليون و240 ألف، أي بنسبة 58.7%، في 21 – 1922. وكذا أيضاً تدهورت أعداد البروليتاريا الزراعية من مليونين ومائة ألف في 1917، إلى 34 ألفاً فقط بعد عامين (أي بلغت نسبة الانخفاض 98.5%). بينما زادت أعداد العائلات الفلاحية (وليس الأفراد الذين كانوا بالضرورة أكثر من ذلك أضعافاً) من 16.5 مليون في أوائل عام 1918 إلى ما يزيد عن 25 مليون عائلة في 1920، أي ما يُقدر بحوالي 50%.

في 1921، صار أكثر من ثلاثة أرباع البحارة في أسطول البلطيق الكائن في كرونشتاد من المُجنّدين حديثاً ذوي الأصول الفلاحية. ولكن حتى إذا وضعنا جانباً مسألة تغير تركيبة القوى في كرونشتاد، نجد أن بحارة كرونشتاد الذين نجوا هم أيضاً قد تأثروا بالأزمة المستعرة في الريف. كان قائد انتفاضة كرونشتاد في مارس 1921، بتريشينكو، هو نفسه فلاحاً أوكرانياً، وكان قد نما إلى علمه لاحقاً أن أكثرية أتباعه من التمردين هم أيضاً فلاحون أتوا من الجنوب متعاطفين مع حركة المعارضة الفلاحية ضد البلاشفة. قال بتريشينكو نفسه: “حينما عدنا إلى ديارنا، سألنا ذوونا لماذا نحارب لصالح الظالمين. هذا ما أثار تفكيرنا”.

هذه التغيرات في التركيبة الطبقية لم تكن محصورة فقط في أسطول البلطيق، بل أنها كانت سمة عامة في روسيا ككل. ولقد انقلب الفلاحون على البلاشفة بسبب فشلهم في فهم التحديات والصعوبات الجمة التي تواجه الثورة حيث الغزو الأجنبي والحصار والتأخر الاقتصادي. لم يتصوروا أن البلاشفة كانوا أيضاً ضحية الأوضاع الرأسمالية، تماماً مثلما كانوا هم – الفلاحون – كذلك.

انتشرت مناهضة الشيوعية وفقاً لرغبات الرأسمالية العالمية والثورة المضادة، وانتفاضة كرونشتاد كانت منساقة وراء ذلك وحلقة في هذه السلسلة. انتفاضة كرونشتاد كانت تمثل تمرداً مضاداً للثورة. خلال شهر يناير 1921 وحده، غادر حوالي 5 آلاف من بحارة البلطيق الحزب البلشفي محتجين على سياساته. أما في منظمة الحزب في كرونشتاد، فقد قدم نصف الأعضاء الأربعة آلاف استقالتهم في الفترة بين أغسطس 1920 ومارس 1921. كان يُنظر إلى سياسة شيوعية الحرب باعتبارها امتداداً للشيوعية، وليس نتاجاً لهجمات الرأسمالية وحلفائهم على الشيوعية.

كان متمردو كرونشتاد قد ناشدوا أنصارهم في أحد بياناتهم، محرضين على البلاشفة بطريقتهم المعهودة كما يلي:

“الحكم الشيوعي قد أوصل البلاد إلى مستويات غير مسبوقة من الجوع والمعاناة والحرمان؛ أُغلقت المصانع، وأوشكت السكك الحديدية على الانهيار. لم يبق من الفلاحين إلا العظام”.

الأحداث
عكست مطالب بحارة كرونشتاد الوجدان المحافظ لدى أكثر القطاعات تأخراً من الفلاحين في روسيا عام 1921. إلا أن المطالب العملية لم تحظ بتأييد كبير، في المقابل انطلقت دعوات خطابية مجردة تطالب بدرجة أكبر من الحريات. هذه الفجوة الهائلة بين الأفعال والأقوال ولّدت ارتباكاً كبيراً في صفوف اليساريين المهتمين بهذه الأحداث.

كان الهدف الاقتصادي الرئيسي للاحتجاجات هو إيقاف برنامج المصادرة القسرية لإنتاج الفلاحين وكتائب ملاحقة السوق السوداء للمحاصيل، بينما كان البلاشفة بالفعل يناقشون مسألة إيقاف شيوعية الحرب لصالح برنامج يقدم بعض الامتيازات للفلاحين، فيما سُميَ لاحقاً بـ”السياسات الاقتصادية الجديدة”. لكن مطالب الانتفاضة امتدت إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فقد طالب البحارة بمحو سلطة البلاشفة في الجيش وفي المصانع. لقد عارض متمردو كرونشتاد الشكل السوفييتي للحكومة، أي حجر الزاوية للسلطة الثورية، رافعين شعار “السوفييتات الحالية لا تمثل إرادة العمال والفلاحين”.

لقد جسّد بحارة كرونشتاد، باعتبارهم فلاحون جُلبوا من الريف واستُئصِلوا بشكل مؤقت من أراضيهم، الميول السياسية والمصالح الطبقية لأكثر قطاعات الفلاحية محافظةً، معتمدين على الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع الرأسمالي في تشكيل مجرى التاريخ؛ الطبقة العاملة أو البروليتاريا، والطبقة الحاكمة أو البرجوازية. حينما كانت الطبقة العاملة قوية، اندفعت قطاعات واسعة من الفلاحين، والعمال الجدد ذوو الأواصل القوية مع الريف، لتأييد الثورة الاشتراكية بحماس بالغ. أما حين ضعفت الطبقة العاملة في مجرى القتال ضد الغزو الإمبريالي والحرب الأهلية، فقد صارت البرجوازية، أي الطبقة الحاكمة العالمية، هي الأكثر تأثيراً عليهم، مما يُعد خطوة في اتجاه الثورة المضادة. لكن التعبيرات التي تمثل هذه المصالح الطبقية، مثلها مثل السياسات الطبقية بشكل عام، لم تكن صورة طبق الأصل للقوى المادية الحقيقية في النضال الطبقي. في المقابل، تنتقل الأفكار السياسية عبر النقاشات والجدالات بين الأفراد الذين يصنعون التاريخ – لكنهم يفعلون ذلك في ظروف لم يختاروها.

عبّرت أحداث الانتفاضة عن الصراع المستعر بين المصالح الطبقية المتنافرة، وهذا ما يمكن أن يوضحه لنا المثال التالي. في 28 فبراير 1921، كشف اجتماع عُقد على ظهر بارجة بتروبافلوسك المتجمدة في الميناء، أن أغلبية الحضور متأثرين بموجة الإضرابات ضد حصص الخبر المُقرة حديثاً في بتروجراد. استنتج الجميع بسهولة أن هذه الإضرابات مناهضة للبلشفية، ومن الممكن أن يساند العمال المضربون تمرد البحارة. لكن في الحقيقة كانت الحركة في المصانع على شفا الانتهاء، فيما أيّد عمال بتروجراد القمع البلشفي لانتفاضة كرونشتاد.

في اليوم التالي، 1 مارس، عُقد مؤتمر جماهيري للبحارة والجنود بأحد أهم ميادين مدينة كرونشتاد، حضره حوالي 15 ألف شخص لسماع اثنين من القيادات البلشفية العليا، كالينين وكوزمين، اللذين أُرسلا من بتروجراد في محاولة لاحتواء التمرد. أما زينوفيف، المسئول عن إجراء التفاوض، فتوقف عند أورانيانبوم، ولم يحضر المؤتمر. كان ذلك بسبب ما تعرض له من تهديد جسدي، فقد كان غل متمردي كرونشتاد موجهاً ضد زينوفيف وتروتسكي، باعتبارهما قياديان بلشفيان من أصل يهودي.

كانت معاداة السامية، التي اعتُبرت فيما مضى دعامة أساسية للحكم القيصري، متفشية بين المتمردين. كانت العنصرية تجاه اليهود شائعة بين الفلاحين من أوكرانيا والأراضي الحدودية الغربية، وهي تلك المناطق التي أتى منها الكثير من متمردي كرونشتاد، وأغلبية قادتهم بوجه خاص. أعضاء لجنة كرونشتاد الثورية مثلاً كانوا كلهم من هناك. كان أحد أعضاء هذه اللجنة، يُدعى فيرشينين، قال ذات مرة:

“كفاكم صخباً، وانضموا إلينا لهزيمة اليهود. إن هيمنتهم اللعينة هي التي نتحملها نحن العمال والفلاحين الآن”.

دليل آخر على معاداة السامية يظهر في مذكرات أحد البحارة المنخرطين في الانتفاضة. اعتبر البحار في مذكراته الحكم البلشفي أنه “أول حكومة يهودية”، واصفاً الإنذار الذي وجهته الحكومة السوفييتية للمتمردين للتراجع بـ”إنذار اليهودي تروتسكي”.

وبناءاً على تقارير المراقبين وشهود العيان، كان الجو ينذر في الحقيقة بهشاشة القاعدة التي يمكن بناء المفاوضات والنقاشات عليها. انحل مؤتمر 1 مارس قبل أن يكمل أيٌ من المتحدثين البلاشفة ولو حتى جملة واحدة دون مقاطعة ومرج. بعد ذلك عُرِضَت قرارات اجتماع بتروبافلوسك للتصويت، ليصوّت ضدها القياديان البلشفيان فقط، بالإضافة إلى فاسيلييف، قائد فرع الحزب البلشفي في كرونشتاد، أما عدا ذلك فقد صوّت الجميع لصالحها (*).

غادر كالينين الجزيرة، وبحسب ما ذكره الأكاديمي الأمريكي القريب إلى الفوضوية، بول أفريتش، فقد هُدِدَ بالاعتقال قبل أن يعبر الجليد عائداً إلى بتروجراد. أما كوزمين، فقد بقى هناك لحضور مؤتمر يُعقد في اليوم التالي – كان مُعد سلفاً لانتخاب مندوبين جدد إلى سوفييت كرونشتاد. حضر حوالي 300 مندوب المؤتمر الذي شاعت فيه فوضى عارمة، بما في ذلك الحرّاس على بوابة القاعة، بل وصل الأمر إلى حد إنكار ما جرت العادة عليه في رئاسة أعضاء الحزب جلسات المؤتمر. في النهاية، ترأس كوزمين وفاسيلييف المؤتمر، وحاولوا مراراً شرح الظروف التي تهدد الثورة في روسيا وعلى المستوى الأممي. ناشدوا المتمردين أن يتراجعوا، وحذروهم صراحةً أن البلاشفة سيضطرون إلى المواجهة العسكرية في حالة عدم التراجع.

وفي وسط الصخب والمرج والتهكم والسباب، أُجبر المتحدثَين البلاشفة، ومسئول شيوعي آخر كان من اختصاصه توجيه البارجتين اللتين اتُخذتا كمقرين للبحارة المتمردين، بالقوى على الخروج من القاعة. وعلى الفور بعد ذلك سرت إشاعة عن هجوم وشيك لكتائب بلشفية، إشاعة لم يكن لها أي أساس من الصحة في الحقيقة. ثم تولت لجنة مؤقتة غير منتخبة إدارة المدينة برمتها.

أُلغيت كافة الإجازات العسكرية، وفُرض حظر التجول، كما مُنِعَ الخروج من الجزيرة دون إذن خاص. صار أسطول البلطيق تحت قيادة قوى معادية للبلشفية. كان ذلك إعلاناً للحرب على دولة العمال الروس.

قمع تمرد كرونشتاد
قوبل التمرد بالقمع العسكري من جانب البلاشفة بعد أن رفض البحارة نداءات رمي السلاح. انهزم البلاشفة في الهجمات الأولى، لكن بعد حشد القوى، بما في ذلك تجنيد مندوبي المؤتمر العاشر للحزب البلشفي في الكتائب المسلحة، انتصر البلاشفة في هجوم 16 مارس. فر حوالي 8 آلاف من متمردي كرنشتاد إلى فنلندا، من بينهم بتريشينكو، حيث نسجوا هناك الصلات بالحرس الأبيض – جيش الثورة المضادة.

عاملان رئيسيان فرضا هذه الضرورة عند البلاشفة في قمع الانتفاضة؛ الأول سياسي بالأساس، والثاني عسكري واستراتيجي.

أولاً؛ بينما لم تكن تلك الانتفاضة أكبر تمردات الفلاحين أو حتى أكثرها حدة، إلا أن توقيتها وموقعها قد هيئا الفرصة للجيش الأبيض لإعادة حشد قواه. وبغض النظر عما دار في رؤوس أغلبية المتمردين من أفكار متناقضة ومتخبطة، كانت قوى الرأسمالية العالمية تراقب أحداث كرونشتاد عن كثب، وتخطط لهجمة جديدة مضادة للثورة مستغلةً في ذلك الانقسامات الجارية في دولة العمال الوليدة.

خلال أبحاثه اكتشف بول أفريتش مذكرة مكتوبة بخط اليد عام 1921، محفوظة في الأرشيف الروسي بجامعة كولومبيا، تحت عنوان “سري للغاية”. تقدم المذكرة دليلاً على خطة دولية لإطلاق ثورة مضادة باستخدام متمردي كرونشتاد كجسر، حيث تتضمن معلومات تفصيلية عن المصادر والأشخاص والخطط الخاصة ببحارة كرونشتاد، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى تتعلق بالجيش الأبيض والحكومة الفرنسية الداعمة لتمرد البحارة في مارس.

وثيقة أخرى بعنوان “مذكرة حول قضية تنظيم الانتفاضة في كرونشتاد”، كانت واحدة من سلسلة وثائق كتبتها منظمة تُدعى “المركز القومي” نشأت في بداية عام 1918. “المركز القومي”، كما عرّفت نفسها، كانت “منظمة سرية داخل روسيا بغية النضال ضد البلاشفة”، وبعد ما مُنيت به من هزيمة عسكرية، علاوة على إلقاء القبض على الكثير من أعضائها، جمعت المنظمة أشلاءها في المنفى مع نهاية عام 1920، فيما كان الجنرال رانجل، قائد الجيش الأبيض ذو العشرات الآلاف من الجنود المُدربين تحت إمرته في انتظار الهجوم، حليفاً عسكرياً أساسياً لها.

كُتبت هذه المذكرة في فترة بين يناير وأوائل فبراير 1921 بيد أحد أعضاء منظمة “المركز القومي”، في فيبورج أو هيلسينجفورس، أي بالقرب من كرونشتاد. كان الكاتب مهتماً بشكل خاص بتوفير مؤن الغذاء للمتمردين فور بدء الانتفاضة إذ أن “المنظمات الروسية المناهضة للبلشفية لن تتمكن من حل أزمة الغذاء وستُجبر على طلب الدعم من الحكومة الفرنسية”.

كانت الصلة مع قوات الحرس الأبيض غير خفية:

“انهيار معنويات البحارة المتمردين سيكون محتوماً إذا لم يتلقوا الدعم والتضامن من الخارج، بالأخص من الجيش الروسي بزعامة الجنرال رانجل… وفي هذا الصدد، سيكون من المستحسن أن تصل بعض السفن الفرنسية إلى كرونشتاد فور بدء الانتفاضة لترمز إلى حضور المساعدات الفرنسية”.

بل وأكثر من ذلك، كان يُنظر للانتفاضة باعتبارها:

“فرصة نادرة للغاية، فرصة ربما لن تتكرر لاغتنام كرونشتاد وتوجيه أقوى الضربات للبلاشفة، ضربات ربما لن يتعافوا منها”.

بالتأكيد لم يكن البلاشفة يعلمون بمثل هذه الوثيقة، لكن لينين والقيادة البلشفية كانوا قادرين على حساب توازنات القوى الطبقية بدقة بالغة، وبالتالي أدركوا حجم المخاطر المُحتملة قبل وقوعها. ولم يكن البلاشفة الوحيدون الذين اعتبروا انتفاضة كرونشتاد خطوة جيدة للثورة المضادة، لكن أيضاً الجيش الأبيض والطبقات الحاكمة العالمية التي دعمته.

هناك اعتبار هام آخر يتعلق بتوقيت مواجهة التمرد وقمعه. يتجمد خليج فنلندا لمدة تزيد عن أربعة أشهر من كل عام، بدءاً من نهاية نوفمبر حتى نهاية مارس أو أوائل أبريل. قبل الحرب العالمية الأولى، كانت البواخر غير العسكرية تمر بانتظام بين بطرسبورج وكرونشتاد في الأشهر الدافئة. وفي الشتاء يذهب القطار إلى مدينة أورانيانبوم، على بعد خمسة أميال من جزيرة كوتلين، ومن هناك يمكن استخدام المزالق لعبور الجليد المتصلب.

كان من المفترض أن يذوب الجليد بعد حوالي أسبوعين من اندلاع الانتفاضة، وقتها كانت سيطرة البحارة على السفن، عسكرياً واستراتيجياً، ستمكنهم من الإطاحة بالحكومة البلشفية. ولهذا السبب شددت الوثيقة المذكورة أعلاه “للمركز القومي” على الضرورة الماسة للتماسك والصمود في انتظار ذوبان الجليد لتأمين طريق الثورة المضادة.

دروس الضرورة المأساوية
كان قمع انتفاضة كرونشتاد ضرورة مأساوية للحفاظ على مكاسب دولة العمال البلشفية. بفضل هذا القمع، صمد التراث الاشتراكي الثوري وصمدت سلطة الطبقة العاملة في روسيا لسنين عديدة بجهود مضنية لترجيح كفة الميزان لصالح العمال على المستوى الأممي.

إذا كان تمرد كرونشتاد قد كُتب له الانتصار، لكانت المأساة أكبر وأكثر فداحة، ولكانت الدولة البلشفية التي يصيبها الضعف والتدهور قد تحطمت تماماً. الثوريون اليوم، حتى في البلدان الأوروبية المتقدمة، والتي تكافئ في ألمانيا 1921 في المستوى الاقتصادي مقارنةً بروسيا المتأخرة، يحتاجون دروس التاريخ لينهلوا منها الخبرات. لم تكن أحداث كرونشتاد حتمية، بل كان يمكن منع اندلاعها، لكن كلمة السر في ذلك كانت في ألمانيا وليس روسيا. إذا كان العمال الألمان قد انتصروا في 1919، وإذا كان لديهم حزباً عمالياً ثورياً جماهيرياً مستقلاً منذ أمد بعيد عن قبضة الاشتراكية الديمقراطية، لكان من الممكن مجابهة عزلة وبؤس الطبقة العاملة والفلاحين الروس بقوة التضامن الأممي، ولضعفت التربة التي اتخذت الثورة المضادة مواطئها الهامة.

وبرغم أن الرأسمالية العالمية اليوم في حالة مغايرة تماماً لما كانت عليه في بواكير القرن العشرين، إلا أن لا يزال هناك خيطاً متصلاً. لازلنا إلى اليوم نعيش في عصر من الحروب والثورات. ينبغي علينا من الآن تنظيم أنفسنا للاستعداد للمرة المقبلة التي ستسنح فيها الفرصة لثورة عمالية جماهيرية في بلد كبير. إذا استعددنا للثورة جيداً، وإذا عملنا على نظم أنفسنا اليوم بأكثر ما يكون عليه الأمر من كفاءة، بإمكاننا تقليص ما يمكن أن يحدث في المستقبل من مآسي، ومضاعفة فرص التأسيس لعالم جديد مبني على حرية البشر.

هوامش:
(*) من ضمن من كان لهم حق التصويت، كان هناك الفلاحون المُجندون حديثاً كأعضاء في الحزب، أولئك الذي انضموا لوحدات الجيش خلال الحرب الأهلية، والذين كانوا إذا ما أبدى أيٌ منهم الرغبة في الانضمام كانت قيادة الحزب تشجعه على ذلك.

* المقال منشور باللغة الإنجليزية في 1 يناير 2003 على موقع الاشتراكيين الأمميين بكندا



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن