إشكالية الانفصال أو الاندماج الكردي في العراق+1 من 2

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2005 / 8 / 18

إن استقراء تاريخ الأمم وتجاربها في الوحدة يكشف عن تنوع هائل واختلاف يصعب حده، لكننا نعثر مع ذلك على قانون صارم فيه يقول، بان الوحدة الفعلية للقوم في قومية ووحدة القوميات في امة يفترض أولا وقبل كل شيء بلوغ التكامل الذاتي في القوم والقومية. فهو الشرط الضروري لتكامل مكونات المجتمع والدولة والثقافة في وحدة تكفل للجميع إمكانية الفعل بمعايير المصلحة والانتماء الموحد. وهي معايير لا تتعارض مع الاختلاف الحاد في تفسيرها وتأويلها السياسي والفكري، على العكس تفترضه من حيث كونه قوة ديناميكية للتقدم والارتقاء في مختلف ميادين الحياة. وهي الحالة التي يمكن تلمس تاريخها الخاص والعام في التجارب المتنوعة للقوميات الأوربية وعملية تكاملها المعاصر في "امة أوربية". فهي تكشف، كما كشفت في عصور قديمة تجارب "الأمة الإسلامية" عن محاولات مختلفة من حيث تأسيسها وفاعليتها، إلا أنها تصب في نفس الاتجاه العام للبحث عن وحدة شاملة للشعوب. ففي تاريخ الحضارة الإسلامية كان شعارها الباطني هو تنوع واختلاف الشعوب واشتراكها في الانتماء إلى وحدة الأمة المتنورة بفكرة التقية الإسلامية. وهي فكرة تجسدت تاريخيا بأشكال وصيغ تختلف من حيث اقترابها وابتعادها عن النموذج الإسلامي المثالي في "الأمة الوسط" إلا أنها كانت تعبر، بما في ذلك في فشلها، عن مضمون الفكرة الآنفة الذكر والقائلة، بان تكامل الأقوام في امة يفترض تكاملها الذاتي.
فالتوسع الهائل والسريع لدولة الخلافة لم يكن بإمكانه دمج الأقوام بطريقة تتناسب مع ديناميكية الدولة. وهو اختلاف في التناسب لا يمكن لأية دولة أن تحله بصورة سريعة وذلك بسبب تباين آلية النمو التاريخي للدولة والقوم. إلا أن الخلافة العربية الإسلامية استطاعت في غضون قرنين من الزمن إرساء أسس الاندماج الثقافي للشعوب والقبائل في "امة إسلامية" ارتقت بفضل صيرورتها الثقافية (وليس العرقية) إلى أن تجعل من شعار "أكرمكم عند الله اتقاكم" مرجعية روحية عامة لتكاملها الذاتي. إلا أن الخلاف بين آلية وديناميكية التناسب الفعلي بين الدولة والأمة كان على الدوام يقف أمام محاولات ثلمها المتنوع. وهي عملية طبيعية ومعقدة ليس هنا مجال البحث فيها.
لقد قدمت التجربة الإسلامية نموذجا تاريخيا لما يمكن دعوته بالإمبراطورية الروحية، التي جعلت من مبادئ الإسلام الكبرى أساس البنية السارية في صرح الدول المتنوعة للخلافة. بحيث تحولت "الخلافة" إلى محاولات دائمة لاستخلاف النموذج الأعلى لفكرة الأمة (الإسلامية) وتمثيلها السياسي. وهي تجارب استطاعت أن تصنع احد أجمل وأرقى نماذج المشاركة الإبداعية للأمم. لكنها تعرضت للانحلال بسبب جمود الإبداع الإسلامي. وهو جمود ارتبط أساسا بتحول مرجعيات الروح الإسلامي المتسامية إلى عقائد "مقدسة" مما اقفل عليها إمكانية الاجتهاد الدنيوي. وعموما يمكننا القول، بان النتيجة التي أدت إليها في العالم المعاصر تسير بنفس الخطى العامة للتكون والانحلال المميز لتاريخ الوحدة والانفصام. إلا أن خصوصيتها في العالم المعاصر تقوم في تحول الفكرة القومية إلى الهاجس الفعال والقوة الروحية المحركة للمشاعر القومية وفكرة الأمة. وما لم تنجز الأمة تكاملها الذاتي على أسس قومية فإن من المستحيل توقع اندماجها بالقوميات والأمم الأخرى. وهي عملية قد تساعد العولمة المعاصرة على التعجيل في بعض جوانبها، إلا أنها يمكن أن تعرقل مسارها الطبيعي. بعبارة أخرى، إن وحدة الأمة تفترض تكامل القومية الذاتي. وهي عملية يصعب، بل يستحيل، تحقيقها دون مرور القوميات بطريق الآلام الفعلية لكي تعي حدودها الذاتية من جهة، ولكي ترتقي، وهذا هو الأهم، إلى مصاف الرؤية الثقافية لذاتها. وهي رؤية ممكنة التحقيق عندما ترتقي الفكرة السياسية للقومية إلى مصاف الرؤية الحقوقية. وهي الدرجة التي يمكن بلوغها بعد تحقيق فكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية الدنيوية. وذلك لأنها المكونات الأربع لزوايا الصرح الواقعي للأمة المعاصرة.
وهي الحالة التي يقف إمامها العراق في مجرى انتقاله من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. بمعنى وقوفه أمام مستويين من التكامل الذاتي، الأول وهو قومي والأخر وطني. وصعوبة التكامل الوطني العراقي المعاصر هو نتاج لضعف تكامل القوميات فيه. فالقومية العربية مازالت تعاني من انفصام وتجزئة مريعة بفعل زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي نجد انعكاسها المباشر وغير المباشر في استفحال ظاهرة الطائفية بشكل عام والسياسية منها بشكل خاص. أما ضعف تكامل القوم الكردي فهو نتاج ظاهرة مركبة من تعقيدات عديدة صنعت ما يمكن دعوته بالخلل والضعف التاريخي المميز له.
فمن الناحية المجردة، والبعيدة المدى، يمكننا الجزم بان المصير التاريخي للعراق وتكامله الذاتي سوف يذلل بالضرورة كل التوجهات الطائفية في القومية العربية، والنزعات العرقية عند الأقليات القومية بشكل عام. إلا أن إشكاليته الوحيدة تقوم في إمكانية بقاءه بين القوم الكردي. وهي عملية مرهونة بدورها بكيفية تكامل الهوية الوطنية للعراق، أو ما ادعوه بهوية الاستعراق، بوصفها الخاتمة الضرورية لتكامله الذاتي. فهي العملية الوحيدة القادرة على إتمام مرحلة "الفطام" مع النزعات الطائفية والعرقية وكل مظاهر التجزئة التقليدية. وهو "فطام" يمكنه الحدوث أما بطريقة الاندماج الوطني (الثقافي) أو بالانفصال العرقي (القومي). والمقصود بالاندماج الوطني الصيغة التي تجعل من الجميع مكونات منسجمة على أساس القانون والشرعية والمواطنة الكاملة لا على أساس العرق والأرض، وذلك لافتقادهما إلى أسس عقلانية (تاريخية ثقافية) في العراق، ولا على أساس الطائفية الدينية والمذهبية لأنهما مكونات لا علاقة لها بهوية المستقبل. بينما حقيقة الهوية المفترضة في العراق هي هوية المستقبل فقط.
وإذا كانت الأبعاد الطائفية في العراق هي، أولا وقبل كل شيء، جزء من معترك التكامل السياسي، ومن ثم جزء من نقص العرب في سعيهم للتكامل القومي الحقيقي في العراق، فإن الأبعاد العرقية في العراق هي، أولا وقبل كل شيء، جزء من معترك التكامل الوطني، ومن ثم فإنها جزء من نقص الأكراد في سعيهم للتكامل الحقيقي بمعايير الهوية الوطنية العراقية. وهو نقص تحدده البواعث الداخلية والدفينة للقومية الكردية التي لم تعرف حقيقة الهوية القومية بالمعنى الدولتي والثقافي والتاريخي. بعبارة أخرى، إن الإشكالية التي يواجهها العراق في هذا المجال هي إشكالية القضية الكردية والقومية الكردية والهوية الكردية. وهي إشكالية معقدة ومثيرة للجدل، إلا أن ما يخص العراق بصورة جوهرية منها هو الجانب الأول فقط، أي القضية الكردية بوصفها قضية عراقية. وهو أمر جلي يمكن استقراءه من تاريخ العراق المعاصر ككل. فهو يكشف عن أن "القضية الكردية" كانت إحدى قضاياه العضوية وقت السلم والحرب والصعود والهبوط. ومعضلتها تقوم في واقع استفحالها مع كل انعطاف حاد وانقلاب مفاجئ في تاريخ الدولة والمجتمع. ذلك يعني أنها اقرب ما تكون إلى "مرض" منها إلى حالة طارئة.
إننا نقف في كل مرحلة حرجة أو انعطاف حاد في التاريخ السياسي للعراق أمام أنماط ونماذج متكررة من ردود الفعل والسلوك السياسي من جانب الحركات القومية الكردية. بمعنى أنها لا تساهم في الأوقات الحرجة في الدفاع عن الدولة، على العكس! أنها تعمل من اجل الحصول على "مكاسب" إضافية واستعداد غير مشروط في الارتماء بأحضان القوى الأجنبية والعمل على إسنادها من اجل "تحقيق" إغراضها، كما جرى في الحرب العراقية الإيرانية والغزو الأمريكي البريطاني الأخير. وحتى في حال التغير الايجابي الهائل صوب تثبيت أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني نرى السياسة الكردية لا تتعدى في الأغلب مختلف نماذج الابتزاز الاقتصادي والسياسي والحقوقي، بل وصل الحد إلى درجة "المطالبة بالأراضي" العراقية عبر ضمها إلى "كردستان" أو "مناطق كردية"!! وهي سياسة وردود فعل يرافقها خطاب سياسي وممارسة "حقوقية" (مثل الاستفتاء الشعبي عن حق الأكراد بالانفصال عن العراق). وهي نوايا وممارسات يجري الإفصاح عنها علنا من جانب قيادات الحركات القومية الكردية. كما أنها واسعة الانتشار ومتغلغلة حتى مخ العظام في الخطاب والتثقيف السياسي والإيديولوجي القومي الكردي. بمعنى الإجماع على أن البقاء في العراق هو حالة تكتيكية، وانه مرهون "بظروف معينة"، وان للأكراد حق الانفصال وإقامة الدولة المستقلة. وهو واقع تكرر مرات عديدة في تاريخ العراق الحديث، ويتكرر الآن بصورة جلية وواضحة المعالم من الناحية القومية والسياسية والإيديولوجية والعملية. وهو واقع يشير إلى أن الأكراد ليسوا عراقيين. وهو أمر لا يعيبهم في شيء. فهو دون شك أيضا حق من حقوقهم! (ينبع)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن