الخطاب القومي الكردي في العراق - التصنيع العرقي 2 من 2

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2005 / 8 / 17

لقد توصلت في مقالي السابق عن خصوصية الخطاب القومي الكردي في تاريخ العراق الجديد، وبالأخص في مجرى العقدين الأخيرين، إلى تراكم الرؤية الوجدانية والأسطورية فيه، مع ما ترتب عليه من بروز واضح للأبعاد العرقية واضمحلال شبه تام للرؤية الوطنية العراقية. بمعنى إحلال الهمّ القومي الكردي بصورة شبه تامة محل الهمّ الوطني العراقي. وهي حالة بلغت ذروتها فيما يسمى بقضية كركوك وأخيرا الخارطة الكردية في العراق!!
طبعا ليس من مهمة هذا المقال مناقشة "الخارطة" و"قضية كركوك" وذلك لأنها قضايا تخص الوهم القومي الكردي، ومن ثم لا علاقة لها بالعراق من حيث كونه تاريخ وهوية وجغرافيا ودولة. واكتفي بالمهمة الأساسية للمقال، بمعنى الكشف عن طبيعة النفسية والذهنية المتحكمة في الخطاب السياسي القومي الكردي في العراق وأثره بالنسبة لآفاق تطور الدولة والعلاقات القومية فيه. واكتفي هنا بتحليل شعار "كركوك قلب كردستان وقدس الأقداس" بوصفه شعارا نموذجا يمكن من خلاله دراسة فسلجة الوعي القومي الكردي الحالي.
إننا نعثر في فكرة "قلب كردستان" على أربعة جوانب مختبئة في الوعي القومي الكردي ومتحكمة بآلية لاوعيه السياسي، الأول وهو أن كركوك ليست عراقية. والثاني أنها محتلة. والثالث أن الأكراد لا علاقة لهم بالعراق، بمعنى أن قلبهم ليس في العراق. والرابع، أن الأكراد بلا كركوك هم أشبه ما يكونوا بإنسان بلا قلب، أي بلا شريان الدم. بعبارة أخرى، إننا نرى في هذا الشعار المضمون الخفي لهاجس الأرض "الكردية" "المحتلة"، وشريان النفط الضروري لحياة الأكراد المستغل من جانب قوى غريبة عنه.
والشيء نفسه يمكن قوله عن الشطر الثاني المكمل للشعار، أي لفكرة "قدس الأقداس". إذ نعثر فيها أيضا على أربعة جوانب مختبئة في الوعي القومي الكردي ومتحكمة بآلية لاوعيه السياسي. الأول وهو أهميتها "المقدسة" بوصفها ارض "الآباء والأجداد". والثاني أنها مسروقة من قبل أقوام دخيلة هم العرب والتركمان. والثالث، أنها "كعبة" القومية الكردية الجديدة. ورابعا، أهميتها الروحية بوصفها "قدس الأقداس"!
إننا نقف أمام مجموعة من العناصر الخفية التي تنتج وتعيد إنتاج الوعي العرقي للحركات القومية الكردية في العراق. وهو وعي لا تاريخي وأسطوري وفارغ من ابسط مقومات الرؤية الواقعية والعقلانية. فمن الناحية التاريخية السياسية كان الهدف الأرقى والأعلى والاسمي للحركات القومية الكردية قبل "اقتطاع" بعض من العراق التاريخي الكائن في جسد السلطنة العثمانية المتهرئ، هو السليمانية. وقد جرى اجتزاءها في بادئ الأمر بهيئة "حكمتدارية" جرى دمجها بالعراق الحديث لاحقا. بمعنى أن الحد الأقصى للرغبات القومية الكردية قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة لا يتعدى منطقة السليمانية. وهي رغبة محكومة بواقع سياسي وجغرافي وثقافي وديموغرافي آنذاك. إذ لم يكن للأكراد محط رجل لا في اربيل ولا دهوك. أما كركوك فإنها كانت في "غيب" الانتشار الكردي ضمن أراض العراق بوصفهم مواطنين فقط.
والقضية هنا ليست فقط في انه لا كردية في كركوك، بل والعراق بمعناه العربي (الذي كان يضم إلى جانب العراق الحالي أجزاء كبيرة من تركيا الحالية). كما لا يوجد اثر للأكراد حتى ضمن مفهوم "عراق العجم". فالأكراد من الناحية التاريخية هم قوم الجبل. ولا علاقة لهم بالمدن. والتاريخ الكركوكي (العراقي) لا كردية فيه لا بالمعنى الدولتي ولا الحقوقي ولا الثقافي ولا السياسي ولا الفني ولا المعماري على مدار آلاف السنين. أي منذ أن ظهرت إلى الوجود بوصفها مدينة عراقية. أما الانتشار الجديد للأكراد فيها زمن الدولة العراقية الحديثة فقد كان مرتبطا بانتقال "المساكين" الفارين والهاربين من سطوة الأغوات والفقر والقهر إلى أطراف المدن العراقية العديدة بما فيها كركوك. وهي عملية بدأ زخمها بالاندفاع منذ ثلاثينيات القرن العشرين، أي ضمن مسار وتطور الدولة العراقية. وهو نفس الشيء الذي يمكن قوله عن اربيل ودهوك وغيرها من المناطق والمدن العراقية. ومن ثم فان كل ما جرى بهذا الصدد هو جزء من تاريخ الدولة وليس القومية. ومن ثم فان وجود أكراد في منطقة ما لا يعني أنها "منطقة كردية"، وإلا لانقلبت جغرافيا الأمم والأرض! فالجغرافيا القومية هي أولا وقبل كل شيء تاريخ ثقافي وحضاري ولا شيء آخر. فالإفريقي المنقول زمن العبودية إلى أمريكا لا يفترض في وعيه أن يرى في أمريكا افريقستان! انه يمكن أن يكون مواطنا أمريكيا من أصول افريقية. والشيء نفسه يمكن قوله عن الأكراد في أراض العراق. كما يمكن قوله عن كل شخص آخر فيه مهما كانت أصوله القومية.
إن وجود أو انتشار الأكراد في مختلف مناطق العراق هو أول وقبل كل شئ دليل على قلب العراق الكبير ومعرفته لقيمة القدس والمقدسات في قبول البشر بغض النظر عن أصولهم العرقية والدينية. ولا معنى لتحويل قلب العراق الفعلي تجاه الأكراد والقومية الكردية إلى قلب "كردستاني" لا علاقة له بالعراق. أما مطابقتها مع "القدس" فهو اشتراك فيما لا ينبغي الاشتراك به. والقضية هنا ليست فقط في أن مضمون "قدس الأقداس" الكردية موجه ضد العرب، والقدس فلسطينية (عربية)، بل ولارتقاء مضمون القدس في الوعي القومي العربي إلى مصاف المقدس الإسلامي. أي أنها ليست قومية فقط. بمعنى أنها عربية وإسلامية. والأكراد مسلمون، فمن أين للأكراد المسلمين شهية العبارة النصرانية، وكيف يمكن الاشتراك مع يهود الصهيونية في العمل من اجل أسطورة لا توراة فيها ولا عهد قديم ولا قواسم مشتركة؟! إضافة إلى أن ما يدعوه القوميون الأكراد "بكردستان الجنوبية"، أي شمال العراق ما هو في الواقع سوى ارض عراقية آشورية تراكمت فيها منذ ألاف السنين ثقافات سامية عراقية عربية لم يكن للأكراد أثرا فيها على الإطلاق.
إن سيادة الرؤية الأسطورية والدينية المزيفة عن كركوك بوصفه "قدس الأقداس" الكردية، يحتوي في أعماقه على قوى تخريبية لا تعمل في ميدان الفكر القومي إلا على صنع مختلف نماذج الغلو والانغلاق العرقي، مع ما يترتب عليه من مواقف لا تتسم بأدنى مقومات الواقعية والعقلانية والوطنية. ومن ثم لا يمكنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى مآس لا يدفع ثمنها في نهاية المطاف سوى الشعب الكردي وليس "قياداته التاريخية".
إن امتزاج الرؤية الأسطورية بالدينية المزيفة في الشعار السياسي هو الوجه الآخر لضعف الحركة القومية وانسداد افقها التاريخي. أما النتيجة فهو انحدارها من منطق الرؤية الوطنية الثقافية إلى نفسية القومية العرقية، ومن الرؤية الواقعية والعقلانية إلى الأحلام الطوباوية واللاعقلانية. وهو الأمر الذي نعثر عليه في التمسك شبه الوثني على سبيل المثال بما يسمى المادة 58 من "القانون المؤقت". وهو قانون لا يتمتع بأية صفة شرعية، مع ما فيه من تناقضات تنبع من فكرة "المؤقت" في "القانون"!! إضافة إلى لغته العربية الركيكة التي تدل على أن من كتبه لا يلم باللغة والقانون على السواء. أما في الممارسة السياسية فانه عادة ما يجري اختزال كل مضمون "القانون المؤقت" إلى المادة الثامنة والخمسين!! وهو مؤشر إلى ما أسميته بهاجس وحافر الأرض والثروة، أي كل ما يتجسد في نفسية الغنيمة!! وهي نفسية لا تحتوي على أي قدر من الأبعاد الوطنية (العراقية). أما المطالبة بإرجاع العرب إلى أماكن سكنهم الأصلية في العراق، فإنه مؤشر إضافي على هذه النفسية. والقضية هنا ليست فقط في أن كركوك لم تكن جزء من منطقة الحكم الذاتي، بل وفي حق كل عراقي العيش فيها، كما يحق لكل مواطن العيش في كل بقعة من ارض العراق بغض النظر عن أصوله القومية وانتمائه الديني. إن من حق المواطنين العراقيين الأكراد المطالبة بالرجوع إلى مناطق سكنهم التي شردتهم أو رحلتهم أو طردتهم السلطات منها، لا تحويل القضية إلى مطالب بأرض قومية لا وجود لها. إضافة لذلك أن سلوك السلطات لا يخلو من إجحاف بحق فئة ما أو بحق الأغلبية أو حتى بحق الجميع أحيانا، إلا أن هذا يبقى مجرد جزء من تاريخ السياسة وليس من تاريخ القومية. وبالتالي ليس هناك من حق لأي طرف في العراق أن يطالب بترحيل أو إرجاع أو طرد أو ما شابه ذلك من عبارات لمن كان هو نفسه ضحية السياسة المجرمة لنظام بائد. إن الحد الواقعي والرؤية العقلانية بهذا الصدد تقوم في المطالبة باسترجاع الحقوق المدنية للإفراد وليس تحويل فكرة الحق إلى مطالب قومية عرقية. إذ أن فكرة إرجاع "العرب" من كركوك إلى أماكن سكنهم الأصلية تعني بالضرورة أن كركوك ليست عراقية. وهو مطلب غير معقول. لاسيما وانه مطلب سوف يدفع بالضرورة فكرة إرجاع الآشوريين إلى أماكن سكنهم الأصلية في شمال العراق بعد موجات الإبادة الهائلة التي تعرضوا لها قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها وفي العراق الملكي ومن جانب الأكراد بالأخص. كما انه يمكن أن يدفع شعار إرجاع الأكراد إلى مناطق سكنهم الأصلية، أي إلى مناطق الجبال وشهرزور، أي إلى ما وراء الحدود العراقية، كما فعل صدام مرة؟ ولم يحق للحركات القومية الكردية أن تكرر باسم حق تقرير المصير تكرار نفس جرائم الصدامية؟ ثم هل بإمكانها أن تفعل هذا دون تعرض نفسها للدمار؟ ولم لا يجري العمل من اجل فكرة المواطنة الحقيقة وإدراك الخطر الهائل المرتقب في إثارة القومية العرقية عند العرب بعد أن جرى تغذيتها لعقود طويلة بين الأكراد؟
إن الشعار القومي العرقي، الأسطوري وغير العقلاني لا يصنع بالمقابل إلا رديفه المناقض والمتمم في الوقت نفسه. والنتيجة معركة خاسرة للجميع. في حين أن الفوز الفعلي هو لقدس العقلانية والواقعية، أي للنظام الديمقراطي الاجتماعي ودولة المواطنة التامة وحقوق الجميع المكفولة بقوة القانون وليس قوة القومية المزيفة والادعاء الأسطوري عن "ارض الآباء والأجداد"، أي ممن لا وجود لهم!
إن الهوية الحقيقة، القومية منها والوطنية في العراق هي ليست في الدفاع عن أوهام "قدس الأقداس"، بل عن هوية المستقبل. لأن خيار المستقبل هو هوية العراق الفعلية. وهو خيار يمكن للقومية أن تعيش فيه ولكن بوصفها منظومة ثقافية وليس إيديولوجية عرقية أيا كان مصدرها والناطقين بها والمدعين تمثيلها. وتجارب الأمم الحية الكبرى، القديمة منها والمعاصرة تبرهن على حقيقة لا مجال للشك فيها ألا وهي أن الرؤية العرقية هي مصدر السلوك العنصري، أما نهايتها فهو الانحطاط القومي الشامل والهزيمة التاريخية.
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن