الموسوعة المسيحية: النشوء والتكوين

صبري المقدسي
sabriyousif61@yahoo.com

2014 / 9 / 14

الموسوعة المسيحية
(النشوء والتكوين)


المقدمة
ان العمل الذي أضعه بين أيدي القراء الاعزاء من المسيحيين وغير المسيحيين هو عمل شامل ومتسلسل تحت عنوان (الموسوعة المسيحية) التي أنوي نشرها في 20 جزءاً، بإسلوب عربي سهل ومبسط، بحيث يستطيع قراءتها وفهمها الجميع، ولاسيما الشباب الذين يمرون في نزاعات وأزمات نفسيّة وإجتماعية كثيرة. وهي أيضا محاولة لإعطاء الفكرة الصحيحة عن المسيحية لغير المسيحيين إضافة الى معرفة المسيحيين بإيمانهم المسيحي وتذكيرهم بدورهم في المجتمع أينما عاشوا وخاصة في المجتمعات الشرقية الاسلامية.
لا أقصد بنشر هذه الموسوعة كي تكون مصدرا لاهوتيا بقدر ما أقصد منها أن تكون موسوعة تعليمية وتهذيبية وإرشادية، إذ فيها معظم الافكار المسيحية منذ بدايات نشوءها وتكوينها. وسوف أحاول التركيز على القيّم المسيحية التي هي منبع كل حقيقة، ومصدر كل نظام خلقي بَشّر به يسوع المسيح ووضع أسسه للبشرية جمعاء وأمر رسله وتلاميذه ومعاونيهم وأتباعهم المؤمنين من بعدهم، بتطبيق وصاياه وتدوينها لكي تبقى ذخرا حيّا للعالم أجمع والى منتهى الدهور.
فالمسيحية لم تأتِ لتحط من قيمة الانسان وطموحاته بل لتحفظ كرامته وكرامة الانسانية. ولم يأتِ يسوع الى العالم ليدين العالم، بل ليرفعه ويعطيه الحياة الجديدة.
سوف تدور الموسوعة بكل أجزاءها حول يسوع المسيح الذي يبقي أملاً للبشر، كل البشر، في التغيير نحو الاحسن، وعن حياته ورسالته ودوره في تغيير العالم والتاريخ.
يدور الكتاب حول التعريف بالمسيحية وتأسيسها مع الركائز الاساسية لإيمانها وعقائدها. والاجزاء الاخرى سوف تكون حول الله والثالوث الاقدس ومفهوم الكنيسة وعدد المذاهب المسيحية والفلسفات والأسرار المقدسة والعقائد ودورها الاجتماعي والفكري والاخلاقي في العالم مع إنتشار المسيحية منذ القرن الاول والى يومنا هذا.










































المسيحية
هناك تفاسير وتعاريف عديدة في الموسوعات والقواميس العالمية، للديانة المسيحية. تتجنب البعض منها استخدام مصطلح (الديانة)، ذلك بإعتبار المسيحية مجرّد تعاليم أخلاقية، ليس فيها تشريعات وقوانين كما هي عليه الحال في بعض الديانات العالمية كاليهودية والاسلام.
وقد جاء تعريف المذهب الارثوذكسي للمسيحية بأنها: ديانة مؤسسة بموجب تعاليم السيد المسيح الذي جاء لخلاص البشرية من عبودية الخطيئة ولجعل كل من يؤمن بها أو به حرّا من قيود الشر والخطيئة. وينظر اللاهوت البروتستانتي للمسيحية على أنها:"تعاليم أخلاقية سامية جاءت لرفع الانسان روحيا وسلوكيا". واللاهوت الكاثوليكي المعاصر يصنفها على أنها: "ديانة تاريخية تعبر عن ظهور الله في التاريخ في شخص إبنه يسوع المسيح الذي يريد أن جميع الناس يخلصون ويبلغون الى معرفة الحق". وأما المصادر العلمانية الغير المسيحية فتعدها على أنها: "ديانة سماوية، ويُعد يسوع المسيح، الشخصية الأساسية فيها".
مع تعاريف أخرى كثيرة توضح وجهات النظر الكنائسية المختلفة التي تجمع على حقيقة واحدة وهي: أن المسيحية ديانة إلهية وإنسانية لكون مؤسسها يسوع المسيح هو إله وإنسان معا. أو هي تعاليم إلهية تدور حول شخص حيّ هو يسوع المسيح تجسّد في إنسان من مريم العذراء.
ومع كل ذلك فإننا يجب أن لا ننسى على أن المسيحية تتضمن طقوسا وأنظمة ووصايا وعقائد ومراسيم ملزمة ونصوصا مقدسة، وهي كلها من متطلبات المجتمع الذي تعيش فيه المسيحية، ويعيش فيه المسيحيون. فالافضل إذن إستخدام مصطلح (الديانة) للتعبير عنها، لأن المصطلح مستخدم في كل التجمعات الروحية في العالم التي لها دلالة تاريخية وتتطلب وجود نظام رموز يعمل في الجماعة ويثير لديهم حوافز قوية وعميقة ومستديمة عبر صياغة مفاهيم روحية تؤدي بالانسان والمجتمع الى التماسك والتعاون المشترك. ولما كانت المسيحية فيها من تلك العوامل ومعروفة بتاريخيتها وعطاءها وروحيتها فمن الممكن القول انها بالاضافة الى كونها طريقة حياة جديدة فهي أيضا ديانة كغيرها من الديانات.
تذكر الاناجيل بأن المسيحية جاءت لترفع البشرية الى الله ولتسمو بهم. ولذلك فهي تبقى في روحها وجوهرها، تعاليم اخلاقية وسلوك روحي داخلي تهتم في الاغلب بالقلب وبتغييره من الداخل أكثر مما تهتم بالخارج من طقوس تطهيرية خارجية كما في اليهودية التي تفرض الوضوء بالماء قبل الصلاة. فالماء الذي كان يغتسل به اليهود ويُعمّد به يوحنا المعمدان، يُطهّر الجسد فقط، وأما الروح الذي تتكلم عنه المسيحية، فهو لتطهير القلب من الخطايا. والغاية من المعمودية في المسيحية هي للتطهير من الداخل ولتجديد الحياة الروحية. وما تقوم به اليهودية من ختان للاطفال الذكور هو تطهير جزء زائد من جسم الذكور فقط، بإزالة جزء من الغرلة. ولكن الختان في المسيحية يختلف إختلافا كليا وجوهريا، إذ هو تطهير للجسم كله. ويجب الاشارة على أن التطهير المسيحي لا يقتصر على الذكور فقط بل يشمل الذكور والإناث معا في ما يُسمى بالولادة الجديدة. والغاية الرئيسة منه هي للتغيير من الداخل، فمن يُغيّر داخله فإن التغيير يشمل خارجه أيضا. ولكن إذا غيّر الانسان خارجه فالتغيير قد لا يشمل داخله بالضرورة. ولهذا يسمي الكتاب المقدس المسيحيين بالقديسين. ومعنى ذلك أن المسيحي المُعمّد يكون قديسا، إذ يصبح إبناً أو بنتاً لله. وتتطلب هذه البنوة لله، الإقتداء بالمسيح يسوع وبأعماله. ولا يمكن للمسيحي بعد أن يؤمن إيمانا صادقا أن يقف موقف اللامبالاة تجاه السلوك والقيّم التي يدعو اليها المسيح، ولهذا فلا تكفي ممارسة الطقوس مثل الصوم والصلاة والعبادات المختلفة بل يتطلب من المؤمن التشبه بالمسيح والنظر الى ذاته والسعي الى الكمال الروحي المطلوب، والتسليم له كليا، والتزود بروح جديدة ملؤها المحبة والتواضع والتضحية.
فالمسيحية إذا لم تأتِ لتحط من قيمة الانسان وطموحاته بل لتحفظ كرامته وكرامة الانسانية. ولم يأتي يسوع المسيح الى العالم ليدين العالم بل ليرفعه ويعطيه الحياة الجديدة. ولذلك يبقي المسيح أملاً للبشر، كل البشر، في التغيير نحو الاحسن كما يقول الكاتب (هانس كونغ) في كتابه (هوية المسيحي) لمترجمه الاب صبحي الحموي اليسوعي ص 13:((المسيح أمل للثوار والمصلحين، يسحر رجال الفكر والبسطاء، وينادي الموهوبين وقليلي المواهب، ويحث على التفكير علماء اللاهوت والملحدين على السواء)). ويضيف الكاتب في المصدر نفسه قائلا:((ان المسيحية ترتبط بشخص المسيح وقد تستطيع فصل مذهب عن صاحبه أو نظرية عن واضعها ولكنك لا تستطيع فصل المسيحية عن المسيح لأن تعاليمها وعقائدها تشكل وحدة واحدة مع مصيره وحياته وموته الى درجة أن الشخص والقضية يتطابقان تماما في يسوع الذي عاش على الارض وبالأحرى في يسوع الذي دخل في حياة الله)).
يظن البعض خطأً بأن المسيحية هي ديانة الغرب والغربيين أو هي ديانة الجنس الاوربي مع أنها إنطلقت من أورشليم(القدس) في اليهودية(فلسطين) وترعرعت في ربوعها وإرتوت من مناهلها وجداولها الغنية. ولعل مرجع هذا الاعتقاد يعود الى سيادة المسيحية في أوروبا ولقرون عديدة، مع أن المسيحية نشأت منذ بدايتها ديانة أممية، ولم تنشأ ديانة قومية، إذ لم تحصر نشاطها التبشيري في طائفة معيّنة، ولم توجه رسالتها لشعب واحد فقط، بل وجهت رسالتها لكل الشعوب والامم. والمسيح نفسه وإن كان إنساناً شرقيا في ثقافته إلا أنه كان أمميا وعالمياً، إذ لم يوجه خطابه لليهود فقط أو لجماعة ضد جماعة أخرى بل للإنسانية جمعاء. ولذلك خاطب من خلال تعاليمه كل الشعوب البشرية، وخرج من نطاق الفكر اليهودي الضيّق في رسالته الى النطاق العالمي الواسع، وعرف بكونه عولميا وثوريا من الدرجة الاولى، ومُجدّدا بإمتياز. وكل ما جاء به من تعليم، وإن كان تتمة للعهد القديم، إلا أنه كان جديدا بنفَسه وروحه وجوهره.
وتؤكد العقائد المسيحية على أن المسيحية ديانة الإله المُتجسد الذي جاء لكي يدعو البشرية اليه من خلال البشارة الحيّة والتي هي منبع كل حقيقة، ومصدر كل نظام خلقي بشر به يسوع ووضع أسسه للبشرية جمعاء وأمر رسله وتلاميذه ومعاونيهم وأتباعهم المؤمنين من بعدهم، بتطبيق وصاياه وتدوينها لكي تبقى ذخرا حيّا للعالم أجمع والى منتهى الدهور.
ويتبيّن للمطلعين على المسيحية وكتبها المقدسة على أن المسيحية لا تستند في تطبيقاتها العملية على ما يصنعه الانسان تجاه الله، بل على ما يصنعه الله تجاه الانسان، وعلى أنها لم تأتي الى العالم لكي تعمد البشر فقط، وإنما جاءت لكي تغير البشر نحو الاحسن، كونها ديانة إلهية وإنسانية معا. والمسيح مؤسسها هو الإله الكامل والانسان الكامل الذي جسّد كلامه في محبته وأعماله ومعجزاته التي لا تزال حيّة في الجماعة التي تؤمن به. فهي بحاجة ماسة الى أن يُنيرها في أمور الحقائق الدينية والاخلاقية، وأن يجعلها معروفة لدى الجميع في تدبير إلهي، أبدي غير زائل زرعه (المسيح) في الكنيسة، وهو تدبير لم يتم الإفصاح الكامل عن مضمونه وسرّه ولكنه سوف يتم الكشف عن فحواه الكامل عبر الاجيال(التعليم المسيحي الجديد). ولذلك تحمل الكنيسة (عروس المسيح) هذا التدبير وتعتبره أمانة مقدسة عليها أن تحمله معها في كل مكان، فهي إذاً مسؤولة من نشره بين الناس الى أقاصي الارض وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. ويثبت التاريخ والتقاليد الكنسية على أن الكنيسة قاومت حقاً كل أنواع الاضطهادات عبر تاريخها الطويل، ولا تزال تعاني في كثير من المناطق، وتواجه المنع والاقصاء والتشريد ولكنها صمدت بقوة سيّدها الفادي الذي لا يمكن أن تذهب تضحيته عبثاً وهباءأ.
وكان للروحية المسيحية وأخلاقياتها تأثير كبير على المسيرة البشرية منذ القرن الميلادي الاول. إذ إتجهت وجهة دينية روحية سامية أساسها الكتاب المقدس والعمل بما يحض عليه من التسامي بالروح والتحلي بالفضيلة ونبذ الرذيلة والسعي في طريق حب الله والقريب. ولا تزال الاخلاقيات المسيحية تنتشر بين الافراد والشعوب وتؤثر إيجابيا على الاخلاقيات البشرية والتي لها صداها العميق بين البشر، والتي تبقى ينابيع حيّة تنهل منها المجتمعات البشرية الى منتهى الاجيال.
البدايات والتكوين
لا نجد ذكر كلمة (فلسطين) في الكتاب المقدس. ولكن نجد ذكر الفلسطينيين لمرات عديدة، ونجد ذكر (أرض الكنعانيين) لأكثر من مئة مرة. وأما ذكر (أرض اسرائيل) فيأتي لمرة واحدة فقط، وذلك في انجيل متى وحده. وكانت تبلغ مساحة الارض التي يقال عنها اسرائيل واليهودية 235 كيلومتر مربع، ولم تبلغ أكثر من هذه المساحة في أي يوم من الايام. وكانت الارض تتقاسمها الشعوب التي كانت تعيش في سلام ووئام تارة، وفي نزاع وخصوم في معظم الاحيان، كما هي عليه الحال في وقتنا الحاضر.
يؤرخ اليهود تاريخهم ابتداءً من أبي المؤمنين (أبرام) الذي سُمي (ابراهيم) ومعناه أبي المؤمنين أو الأب الأكبر. ولهذا نجد مصطلح أبناء ابراهيم أو نسل ابراهيم في الكتاب المقدس مرارا وتكرارا. وكان منشأ ابراهيم الجد الاول لشعب اسرائيل في مدينة (أور) الكلدانية في جنوب العراق والواقعة على ضفاف نهر الفرات. حين دعى الله (أبرام) الى ترك عبادة الاوثان والايمان بإله واحد كلي القدرة، وأمره بالذهاب الى أرض جديدة، وإنشاء أمة جديدة في أرض كنعان. وغيّر الله أسم أبرام الى ابراهيم الذي يعني أبا لشعوب كثيرة، وأمره بختان كل ذكر من عشيرته كعلامة للعهد المُبرم بينه وبين الله. وتناقل الايمان بإله واحد من جيل الى جيل حتى مجىء المسيح ابن مريم.
كانت أرض اسرائيل في أيام يسوع يحكمها هيرودس الأدومي من سنة 37 ق. م الى سنة 4 ق. م ويرتبط اسم الملك هيرودس في ذاكرة المسيحيين بمذبحة أطفال بيت لحم، كما رواها متى الانجيلي. وقد حكم هيرودس الكبير، اسرائيل ببأس شديد، إذ كان سياسيا بارعا يميل كثيرا الى الرومان ويؤيد وجودهم. ولذلك ساعده الرومان في توسيع ممتلكات مملكته، فسموه بالكبير. وكان هيرودس أدومي الاصل غير محبوب بين اليهود لكونه دخيل على اليهودية. وكان شديد القلق على حكمه، إذ كانت المعارضات المسلحة تشتد بين الحين والآخر ضد حكمه. وكان يقتل كل خصومه حتى إذا كانوا من أهل بيته وأولاده. وكان يهتم دائما في تعين رؤساء كهنة اليهود بنفسه لغرض السيطرة عليهم. واستولى الحزن والخوف على قلوب معظم سكان مملكته التي انقسمت بعد وفاته الى ثلاثة أقسام حكمها أولاده الثلاثة، إذ حكم ابنه أرخيلاوس القسم الاوسط من البلد والذي دام حكمه من 4 ق.م الى 6 م، ونُزع من منصبه ونفي الى غاليا(فرنسا)، بسبب الشكاوي الكثيرة ضده. وهيرودس أنتيباس الذي إستلم قسم الجليل والذي تهمنا فترة حكمه على الاكثر بسبب ظهور يوحنا المعمدان في عهده والذي كان أكثر إخوته شبها بوالده قسوة، ولقسوته سماه يسوع بالثعلب (لو 13 /32). وفيلبس الذي استلم الحكم في جزء من منطقة جناسرت الى آباشان الجبلية، وهي في معظمها من المناطق الجبلية في الشمال والشرق من البلاد، وغالبية ساكنيها من غير اليهود.
ومع كل هذه التقسيمات الجغرافية والسياسية في زمن يسوع المسيح، إلا أن الحكم في اسرائيل كان في الحقيقة بيد رجلين، هما هيرودس أنتيباس اليهودي، الذي كان واليا على الجليل، وبنطيوس بيلاطس الروماني الذي كان واليا على اليهودية والسامرة، والذي عُرف بجبنه وضعفه الشخصي وعجزه حتى عن معالجة المشاكل في ولايته. وبلغ عجزه الى درجة أن رؤساء اليهود أجبروه على إصدار الحكم بالصلب على يسوع مع علمه اليقين ببراءته. ومن شدة استيائه في حكم اليهود علق على الصليب صيغة (يسوع الناصري ملك اليهود) ليعبر عن كرهه لهم. وتوالى الحكام على السامرة واليهودية بعد بيلاطس حتى سنة 37 ميلادية الى أن توحدت ادارة الولايات تحت حكم هيرودس أغريبا الاول، وهو حفيد هيرودس الكبير الادومي الاصل، والذي كان آخر ملوك اليهود. ويعتبر المؤرخون، هيرودس أغريبا الاول، إنسانا حاذقا في الحكم وفطنا في الادارة مثل جده هيرودس الكبير، إذ إسطاع توحيد مملكة جده الاكبر. وكان الملك أغريبا يهتم بالديانة اليهودية ظاهريا ويصلي في الهيكل يوميا ويطارد المسيحيين ويسجنهم وينكل بهم شر تنكيل.
حكم بعد أغريبا الاول ابنه أغريبا الثاني الذي كان ضعيفا. وفقدت المملكة اليهودية في عهده كل قوتها، وباتت الامور في يد الولاة الرومان الى أن دمروا هيكل اورشليم في سنة 70 ميلادية، بعد الازمات السياسية الشديدة مع اليهود الثائرين. وفي سنة 135 ميلادية أنهى الرومان كل وجود سياسي لليهود في المنطقة. وإستمر وضعهم في الشتات الى أن أسسوا دولتهم في سنة 1948 ميلادية، وهي قائمة الى يومنا هذا ولكن في حالة صراع دائم مع جيرانها العرب الذين لم يعترفوا بها كدولة شرعية لها الحق في الوجود.
كانت الثقافة الهيلنستية اليونانية الاغريقية قد إنتشرت في الشرق بسبب احتلال جيش أسكندر المقدوني لهذه المناطق بأكملها، حيث أراد اسكندر المقدوني السيطرة على هذه الشعوب سيطرة فعلية، وحاول صهرهم في شعب واحد وثقافة يونانية واحدة. ولكن الاحتلال الروماني لحوض البحر الأبيض المتوسط في سنة 30 ق. م، غيّر مقاليد الأمور، إذ أن الفترة التي بدأت من طيباريوس(14 ـ 37 ) الى ترايانوس(98 ـ 117 )، هي فترة العهد الجديد، كان فيها المؤمنون المسيحيون يعيشون في بيئة يهودية آرامية هيلينستية(يونانية) رومانية. وكان الناس ينظرون إليهم على أنهم يشكلون بدعة من البدع اليهودية.
وأصبحت أرض يهوذا واسرائيل خاضعة لحكم الرومان، شأنها شأن معظم البلدان، من المحيط الأطلسي في الغرب إلى الشرق الأوسط، ومن الجزر البريطانية حتى الشواطىء الأفريقية. وكانت الضرائب تُثقل على كاهل الناس الذين كانوا يعيشون حالة يُرثى لها من الجوانب الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم تكن الأوضاع الداخلية للمجتمع اليهودي الاسرائيلي في حال تفتخر بها الأمة الاسرائية، إذ كان الشعب في صراع بين التيار الديني المتشدد، وبين التيار القومي المتشدد من جانب، وبين (الفريسييّين)، التيار الديني المُتشدّد وبين (الصادوقييّن)، التيار الديني المُتحرّر من الجانب الآخر.
في هذه البيئة المليئة بالتناقضات الدينية والسياسية واللغوية والاجتماعية والثقافية جاء الى العالم المعلم الاعظم يسوع المسيح الذي كان عليه أن يأخذ موقفا من كل هذه الامور، وكان عليه أن يكون حاضرا لشعبه بجميع طبقاته، ليداوي جروحهم ويشفي أمراضهم ويعزي تعساءهم، ويقف موقفا داعما للبؤساء والمظلومين ورافضا للظلم والعدوان ومبشرا للجميع بقرب ملكوت الله وبشمول البشرى السارة لكل البشر.
النصوص المقدسة
تعود المسيحية بجذورها الروحية والاخلاقية الى اليهودية، التي تتشارك معها في الإيمان بكتاب يسمى العهد القديم، والذي يتكون من كتب التوراة الخمسة (توراه) وكتب الشريعة(كتوبيم) وكتب الانبياء (نبويم). بالاضافة الى الكتب المسيحية الاساسية التي تسمى بالاناجيل مع رسائل بولس الرسول وأعمال الرسل والرسائل الرعاوية وكتاب سفر الرؤيا للقديس يوحنا الانجيلي.
وتعني كلمة العهد: الميثاق أو الوصية Covenant (الميثاق بين الله والانسان)، الذي بدأ مع ابراهيم وتجدد مع النبي موسى حينما تلقى الناموس (لوحي الوصايا)، وتمّ كمال العهد مع المسيح يسوع (إبن الانسان ـ ابن الله).
وينظر بعض المسيحيين الى العهد القديم والى تاريخه وأنبيائه على أنه الكتاب الخاص باليهودية(الكتاب العبراني)، ولا يحتاج المسيحي الى إستعماله في صلواته أو طقوسه الدينية. في حين أن معظم الآباء المفكرين للمسيحية يرون أنه من الضروري إستخدام العهد القديم مع العهد الجديد لمعرفة خطة الله الخلاصيّة وجذورها العبرية اليهودية. وأما العهد الجديد فهو الكتاب الخاص بالمسيحية والذي تجد الكنيسة فيه مع العهد القديم غذاءَها وقوتها إذ أنها تتلقى فيه كلمة الله. ويحتوي بحسب المسيحية على الحقيقة الموحى بها من اللهً، والتي دونت فيه بإلهام من الروح القدس. ولهذا فالكنيسة تحيط الكتاب المقدس بالاحترام والإجلال. ولا تعتبر المسيحية كتابها المقدس بالمنزل، بل تعتبره كتاباً موحىً من الله.لأن المسيحية ديانة الكلمة المُتجسد(يسوع المسيح) الذي تدور حوله الكتب المقدسة جميعها من سفر التكوين في التوراة الى سفر الرؤيا اليوحناوية.
كان المسيحيون الأوائل يستخدمون النصوص المكتوبة من قبل بعض الرسل والمفكرين المسيحيين في طقوسهم الكنسيّة ويعدّونها نصوصا مقدسة، وذلك منذ القرن الميلادي الأول. وأختار آباء الكنيسة 27 نصا من هذه النصوص وجمعوها في ما سُمي بالعهد الجديد. ويتكون العهد الجديد من (الأناجيل الأربعة ـ متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وسفر أعمال الرسل، ومن الرسائل الرسولية المُرسلة الى الكنائس 21 رسالة، مع سفر الرؤيا ليوحنا الانجيلي). ويعطي آباء الكنيسة وعلماء الكتاب المقدس (الكاثوليك والبروتستانت)، تواريخ تقديرية عن كتابة الاناجيل:
• انجيل مرقس: كتب بين سنة 68 ـ 73 ميلادية.
• انجيل متى: كتب بين سنة 70 ـ 100 ميلادية.
• انجيل لوقا: كتب بين سنة 80 ـ 100 ميلادية.
• انجيل يوحنا: كتب بين سنة 90 ـ 110 ميلادية.
ويُسمي العلماء، الأناجيل الثلاثة الأولى بالأزائية synoptic Gospels ، لكونها تتشابه في القواعد الأساسية نفسها مع الاختلاف في الخصوصيّات وفي طريقة التحليل والعرض. في ما عدا انجيل يوحنا الذي له خصوصيّته الفريدة من نوعها، إذ تختلف طريقته اللآهوتية عن الثلاثة الأولى، مع الاحتفاظ في طبيعة الحال على الركائز الأيمانية نفسها كما في الأناجيل الأزائية.
فالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد:((قد أوحي به من الله وهو مُفيد للتعليم وللتقويم وللتهذيب بالبر)) 2 تيموثاوس 3/ 16. والغاية منه هي لتعليم المؤمنين، وهو المرجع الوحيد مع التقاليد الكنسيّة (بحسب الكنيسة الكاثوليكية) للدين والأيمان. ويعدّ الكتاب المقدس بأسفاره الثلاث والسبعين(46 سفراً للعهد القديم و27 سفرا للعهد الجديد)، كتاباً متكاملا في وحدته، نوراً ومصباحا لسبيل المؤمنين في كل أمور حياتهم الروحية والتربوية والأخلاقية، لا يناله الزوال الى المنتهى، لأن أسفاره من وحي إلهي، تحتفظ بقيمتها الروحية والخلاصية الى الأبد. ولذلك كل من يقرأ الكتاب المقدس بصدق وحسن نية يرى بأنه كتاب واحد يجمعه وحدة الموضوع والهدف، ويدور بأسفاره حول شخص واحد هو يسوع المسيح. والوحدة الموجودة في مواضيعه، يعتبرها المفكرون معجزة حقيقية رغم أنه كتب في فترة زمنية تتجاوز 2600 سنة، وإشترك في كتابته 49 كاتباً، وفي مختلف المهن والاختصاصات البشرية، ومن مختلف الخلفيات الاجتماعية والأدبية والاقتصادية، إذ منهم من كان ملكاً وراعياً وطبيباً وصياداً وفيلسوفاً وشاعراً وقائداً عسكرياً وعشاراً ورئيساً للوزراء. وتمت كتابته في أماكن متنوعة مثل روما وبين النهرين ومصر، أي أنه كتب في ثلاث قارات (آسيا وأفريقيا وأوروبا). وتختلف مواضيعه من الأخلاقية الى الأدبية والتاريخية والحكمية والتربوية والتشريعية والنبوية والسير الذاتية مع أسلوب الشعر والمقالة والمثل والحكاية والقصة والاقصوصة والاسطورة وتراجم حياة ومراسلات ومذكرات شخصية وألوان من الاسلوب المسرحي المأساوي.
عملت الكنيسة على تثبيت قانونية الكتاب المقدس في القرن الخامس الميلادي، وفي زمن البابا (إينسنت الأول Pope Innocent I ) واختارت بالاجماع الأناجيل الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا). وكان ذلك من خلال مجامع عديدة مثل(مجمع روما سنة 382 Council of Rome) ومجمع (هيبو سنة 393 Synod of Hippo ) ومجمع (كارثيج سنة 397 و 419 Synods of Carthage). وأعطت تلك المجامع الشرعية لتثبيت قانونية الكتب المقدسة، وأصبحت الحافز القويّ لظهور الترجمة الأولى للكتاب المقدس من قبل المطران ايرونيموس جيروم وتحت إدارة البابا داماسوس سنة 382 ميلادية الى اللغة اللآتينية والمعروفة بترجمة (الفولغاتا Vulgate).
وتعتبر (العبرية والآرامية) للعهد القديم، اللغتات الأصليتان بالنسبة الى العهد القديم وأما اللغة اليونانية فهي اللغة الاصلية بالنسبة الى العهد الجديد. وظهر الكتاب المقدس بكامله في اللغة الانجليزية ولأول مرة في القرن الرابع عشر. وترجم المُبشرون المسيحيون الكتاب المقدس بعد ذلك التاريخ الى كل اللغات المكتوبة في العالم.
وهذه نبذه عن تاريخ الترجمات للكتاب المقدس:
• الترجمة السبعينية للعهد القديم الى اليونانية وهي ترجمة الكتاب العبراني الذي يُسمى في المسيحية بالعهد القديم الى اللغة اليونانية لأول مرة في التاريخ البشري، وهي من أشهر الترجمات اليونانية. وقد بدأت بترجمتها لجنة من العلماء اليهود تحت رعاية بطليموس فيلادلفوس عام 285 ق.م. وسُميّت بالسبيعنية بسبب اشتراك سبعين شيخا يهوديا قاموا بالترجمة في مدينة الاسكندرية المصرية.
• الترجمة القوطية سنة 312 ميلادية والتي قام بها الاسقف أولفيلاس وهي لا تزال محفوظة في المخطوطات.
• الترجمة الى اللغة اللاتينية في سنة 382 ميلادية، من قبل المطران ايرونيموس جيروم والتي سُميّت بالفولغاتا(الشعبية) وهي الترجمة الكاثوليكية الاولى التي تعتز بها الكنيسة وتعدّها دليلا قويّا على شرعيّتها الرسولية القديمة وتاريخها العريق.
• الترجمة القبطية الاولى والتي أنجزت في القرن الميلادي الثالث، والتي ما تزال تستعمل في الطقوس المسيحية للكنيسة القبطية في مصر والسودان واثيوبيا والكنائس القبطية في المهجر.
• الترجمة السريانية الاولى للكتاب المقدس والتي انجزت في القرن الرابع الميلادي والتي سُميّت بالبشيطا(البسيطة) والتي ما زالت تستخدم في الطقوس الكنسيّة للكنائس الشرقية الآشورية والكلدانية والسريانية.
• الترجمة الى اللغة الصينية والتي انجزت من قبل المبشرين المشرقيين(كنيسة المشرق) في سنة 640 ميلادية والتي قدمت الى الامبراطور الصيني(تاي تسونغ).
• الترجمة الأرمنية في القرن الخامس والتي تستعمل من قبل الكنيسة الأرمنية الارثوذكسية والأرمنية الكاثوليكية في طقوسها الكنسية الى يومنا هذا.
• الترجمة السلافية القديمة والتي أنجزت في القرن التاسع الميلادي والتي ما تزال تستعمل في الكنائس الارثوذكسية في روسيا والبلدان التي تنتشر فيها الجاليات الروسية.
• الترجمة الانجليزية من اللغة اللاتينية والتي أنجزت من قبل (جان ويكليف) سنة 1384 ميلادية، والتي مُنعت من التداول في مجمع اكسفورد سنة 1408.
• الترجمة الالمانية باستعمال الحروف المعدنية ولأول مرة في ماينز بألمانيا والتي أنجزت في سنة 1450 ميلادية. وطبعت بعد ذلك بالايطالية في سنة 1471 ميلادية، ثم بالفرنسية والهولندية والاسبانية.
• الترجمة الى الالمانية والتي إعتبرت من أشهر الترجمات جميعها والتي تمت من قبل المصلح البروتستاني الكبير (مارتن لوثر) في سنة 1532، حيث ترجم الكتاب بكامله الى الانجليزية في سنة 1526 م. وأشتهرت بعدها ترجمة (مايلز كوفردال) التي عرفت بأسم الملك هنري الثامن.
• الترجمة الى اللغة الصينية في سنة 1615 ميلادية، مع ترجمة النصوص الطقسيّة والتي أثرت على انتشار المسيحية السريع في هذه الفترة والتي أوقفتها الاضطهادات القاسية من قبل الأباطرة الصينيين.
• الترجمة العربية الاولى التي أنجزت في اشبيليا(اسبانيا) سنة 724 ميلادية. والترجمة التي انجزها ابن العسّال من اللغة القبطية الى اللغة العربية في 1250 ميلادية، حيث طبع الكتاب المقدس ولأول مرة سنة 1645 ميلادية، ثم تلتها الطبعات الاخرى في لندن سنة 1657 م. وتلتها كذلك الطبعة التي أشرف عليها المطران سركيس الرزّي في روما سنة 1671م. ثم طبعة فارس الشدياق سنة 1865 والمعروفة بترجمة البستان ـ فاندايك.
• ترجمة الآباء الدومنيكان في الموصل والتي طبعت في عام 1878 ومن بعدهم قام الأباء اليسوعيون في بيروت بعمل ترجمة طبعت في سنة 1880 ميلادية.
مع الترجمة العربية الحديثة الصادرة عن جمعيّات الكتاب المقدس والترجمات الكاثوليكية الجديدة. والترجمة المشتركة لجمعية الكتاب المقدس وهي ترجمة من قبل لجنة من اللاهوتيين الكاثوليك والإرثوذكس والبروتستانت بصياغة الشاعر يوسف الخال. والترجمة التفسيرية وهي ترجمة مشتركة لدار الكتاب المقدس وضعتها لجنة مؤلفة من علماء الكتاب المقدس ولاهوتيين من مختلف الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية. وبلغت الترجمات العالمية للكتاب المقدس إلى أكثر من 2.200 لغة ولهجة، ويُمثل هذا الرقم ثلث اللغات المعروفة في العالم والتي يبلغ عددها أكثر من 6.500 لغة ولهجة.
الكتب المنحولة
كتب المسيحيون الأولون قصة المسيح بإسلوب جديد سموه الأنجيل ومعنى الكلمة في اللغة اليونانية (البشرى السّارة)، إذ أخذ الكثير من المسيحيين بتأليف قصة في الأمور التي حدثت بخصوص المسيح، كما يقول الانجيلي لوقا في بداية إنجيله:((اذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المُتيّقنة عندنا، كما سلمها الينا، الذين كانوا منذ البدء معاينيّن وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا، إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحّة الكلام الذي علمّت به)). ويُؤكد هذا المقطع من انجيل لوقا على وجود أناجيل كثيرة عن المسيح منذ القرن الأول للمسيحية. وكان للكنيسة أسبابها الشرعيّة بقبول الأناجيل الاربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) دون غيرها من الأناجيل، وبإعتبارها الكتب القانونية الوحيدة عن المسيح ورسالته دون غيرها. إلا أن الجماعات المسيحية كانت تتداول كتبا اخرى تتناول فيها قصة المسيح وأقواله وعجائبه، ولم تقبلها الكنيسة بسبب الشكوك حول مؤلفيها والوقت الذي كتبت فيه وضعف شهادات كاتبيها وعدم دقة الحوادث التي كتبوا عنها وبُعدهم عن الأيمان القويم. لذلك رفضتها الكنيسة ورفضها الآباء اللآهوتيين الأوائل والشعب المؤمن.
وهذه قائمة بالكتب غير القانونية، وهي الأناجيل التي لم تقبلها الكنيسة بإعتبارها شهادات غير حيّة وغير دقيقة عن المسيح وعن العقائد المسيحية، ولهذا تسميها الكنيسة بالأناجيل المزوّرة أو المنحولة: Gospels Apocrypha
• انجيل توما.
• انجيل الحق.
• انجيل فيليب.
• انجيل بطرس كتب بين سنة 90 ـ 120.
• انجيل مريم المجدلية.
• انجيل المصريين.
• انجيل العبرانيين.
• انجيل يعقوب.
• انجيل يهودا.
• انجيل برنابا ( كتب في القرون الوسطى).
الطوائف اليهودية في عهد المسيح
إنقسمت اليهودية الى طوائف ومذاهب منذ الأيام الاولى من تأسيسها مثل غيرها من الأديان في العالم. وكانت في فترة نشوء المسيحية، تنقسم اليهودية الى جماعة الفريسيين والصادوقيين وفرقة الغيارى والأسينيين. ولكي نفهم المسيحية التي نشأت وترعرعت في اليهودية علينا أن نكون على علم بطوائفها في تلك الفترة الزمنية.
• الفريسيون، هم طائفة من المُعلمين للشريعة ومن المُحافظين على القوانين والنواميس الشرعيّة بحسب حرفية التوراة والناموس الموسوي، لاسيّما في ما يتعلق بيوم السبت والطهارة الطقسيّة ودفع العشور ومُمارسة الشريعة ممارسة ًدقيقة. سماهم خصومهم بالفريسيّين بمعنى المنعزلين، وفي الآرامية (بريشى). أما إسمهم الحقيقي فهو الأحبار(حباريم ـ رفاق)، إذ كانوا هكذا يُسمّون أنفسهم. وكان للفريسيين تأثير كبير على المجتمع اليهودي لأنهم كانوا القوة الدينية الحقيقية التي تدير الشعب روحيّا. ولم يكن هدفهم سياسيّا بل روحيّاً محضا. ويذكر الخوري بولس الفغالي في كتابه (مسيرة الكتاب من التكوين الى الرؤيا) ص 62 ما يلي: ((تعود جذور الفريسية العميقة الى أيام عزريا ونحميا مع إعادة بناء الهيكل وأسوار أورشليم ... ويبدو أنهم تأسسوا بصورة رسمية في أيام المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد)). وقال فيهم يسوع:((تؤدون عشر النعنع والشمرة والكمون وتهملون أهم ما في الشريعة أي العدل والرحمة والأمانة)) 23 /23. وندد بهم يسوع مرارا وتكراراً قائلا لهم: تحبون الفضة ومال الأرامل، والمظاهر الخارجية وقبول التحية في الاسواق والبحث عن المقاعد الاولى في المجامع والولائم. ومع كل الجدالات والمواقف الحادة بينه وبينهم إلا أنه لم يمتنع دخول بيوتهم، حيث دعاه فريسي للطعام في بيته فدخل وجلس معه للطعام" لوقا 11 / 37 ". ودعا أيضا نفسه الى بيت أحد رؤساء الفريسيين "لو 14 / 1" . وصادق بعضا منهم وأعجبوا بشخصيته ودافعوا عنه مثل نيقاديموس ويوسف الرامي كما في يو 19 / 37 .
• الصادوقيون، هم طائفة من اليهود الكهنة التي نشأت قبل الهدم الثاني لهيكل سُليمان بقرنيين (كان التدمير الأخير للهيكل سنة 70 ق.م). وكان معظم الصادوقيون من عوائل ارستقراطية وتجارية، يتعاملون مع الرومان بوّد وإحترام من دون أن يحاولوا مُحاربتهم وإخراجهم من البلد. وكان الصادوقيون ينتمون إجمالا إلى الكهنة، ولا يرتبط إسمهم بكلمة صاديق بل بكلمة صادوق الذي جعله سليمان على رأس كهنة أورشليم، فأمّنوا خدمة الهيكل منذ ذلك الحين الى وقت الجلاء. وعرفوا بإختلاف عقائدهم وتفسيراتهم الخاصة للتوراة وإختلافهم مع الفريسيين ولاسيما في نكرانهم لوجود الملائكة والارواح وقيامة الأموات. ولم يتصادم (الصادوقيون) مع يسوع مثلما فعل الفريسيّيون، ومن الممكن أن يكون هذا السبب في عدم ذكرهم كثيرا في الأناجيل. والشىء المعروف عنهم من خلال الاناجيل أنهم كانوا من أغنياء اليهود (الطبقة الأرستقراطية)، إذ كانوا يتبنون موقفا علمانيا مُتحرّراً تجاه ممارسة الفريسييّن الدينية المُتشددة.
• الكتبة: يرتقي عملهم الى زمن العودة من الجلاء البابلي وعرفوا بكونهم طبقة من مفسري الشريعة، من الكهنة واللاويين، مع وجود طبقة من أفراد الشعب الذين إختصوا بدراسة الشريعة وتفسيرها بينهم أيضا.
• الأسينيّة: كان الاسينيون طائفة دينية يهودية، يجمعون النظام الرهباني مع ميول نسكية لأول مرة في التاريخ اليهودي. وعُرفت هذه الطائفة حديثا بعد إكتشافات كهوف قمران سنة 1945 ميلادية في منطقة بحر الميت (أريحا) في الصحراء الاردنية. ويظهر إسمهم في شكلين: أسانوي أو أسيني، أو الساكتين. والرأي الأصح (بحسب المحيط الجامع في الكتاب المقدس) هو الشفائين من اللفظة السريانية: أسيا(طبيب). كان الأسينيون يعيشون في مُجمّعات صغيرة، يُفضلون البتولية ويتقاسمون كل شىء مع بعضهم البعض في نظام اشتراكي رهباني وذلك في حوالي سنة 100 ق. م. وكانوا يمتنعون المشاركة في الحروب والاعمال التجارية، ويعملون من أجل قوتهم البسيط في الزراعة والأعمال اليدوية. ويستعملون الوضوء ويحترمون السبت إحتراما شديدا، ولم يكونوا يؤمنون بالذبائح الحيوانية.
• الغيارى: كان الغيارى جماعة سياسية قومية، يُؤمنون بمجىء المسيح القريب كمخلص يُحارب الرومان بأستعمال القوّة، ومن المنتمين الى هذه الجماعة في عهد المسيح: سمعان الغيور ويهوذا الاسخريوطي وباراباس الذي اطلق سراحه بيلاطس البنطي في عيد الفصح، مع انه كان مجرما وقاتلا. عرف هذا الحزب بأصوليته وتعصّبه الشديد لليهودية إذ كانوا يمزجون الدين بالسياسة ويؤمنون بالثورة التحريرية ضد الرومان بأستعمال كل الطرق الإرهابية للوصول الى غايتهم السياسية. بدأت قوّة الغيارى السياسية تظهر في سنة 44 ميلادية، إذ اشتدّ دورهم في الثورة الشعبية سنة 66 ميلادية والتي أدت الى تدمير هيكل اورشليم سنة 70 ميلادية.
كانت تلك الطوائف تمثل معظم اليهود الذين إنتشروا في الامبراطورية الرومانية في جميع ممالك الشرق منذ القرن السادس قبل الميلاد، بسبب الحروب وسياسات الأسر التي كانت تستخدمها الدول القديمة ضد بعضها البعض. ولما نشأت المسيحية في فلسطين توجه الرسل الجليليون ببشرى الخلاص الى هؤلاء اليهود والى اليهود الذين كانوا في الشتات(المهجر) أولا، ومن ثم الى الوثنيين(الهلينستيين)، الرومان، المصريين، الرافدينيين، الفرس، الهنود وغيرهم. فأقبل الكثيرون على هذه العقيدة الجديدة وأصبحوا في عداد تلاميذ المسيح. وهكذا ولدت المسيحية التي إنفتحت على كل الأجناس البشرية وبسرعة شديدة. وكان مجمع أورشليم سنة 49 ميلادية، بمثابة أول مجمع مسيحي يأخذ قرارا هاما جدا حول أممية الديانة المسيحية بإعطائها زخما قويّا لكي تنتشر في المناطق الرومانية والمناطق المجاورة. وبقيت الجاليات اليهودية النواة الاولى لنشر المسيحية في القرن الميلادي الأول.
ولقد تم انتشار الإيمان المسيحي بحسب كتاب أعمال الرسل بدافع من الروح القدس وبتشجيعه للخروج من حرفية الشريعة والإنطلاق نحو العالمية، من دون المرور في الشريعة اليهودية الضيقة والمتشددة. وكان الروح القدس(الاقنوم الثاني من الثالوث الأقدس)، الدافع والمُشجع والمؤيّد، الذي يمنح الحكمة والجرأة والقوة في مواجهة المصاعب، لسماع الكلمة وخدمة الجماعة بتضحية كبيرة وبتواضع عميق.
المهيىء لطريق الرب
كان الانسان موضوع الخلاص الاهم الذي أراد الله تحريره من عبودية الشر والخطيئة من خلال تاريخ شعب الله، ومن خلال تاريخ تطور النبوءة في الكتاب المقدس. وبلغت النبوءة في اسرائيل معناها الحقيقي كدعوة خاصة، إذ لم يكن النبي إلا رائيا ينادي وينطق بإسم الله من خلال كرازاته وحياته، والناطق الحيّ عن وحي الله والمستقبل. وأعتبر النبي موسى أول حلقة من الانبياء كما جاء في سفر تثنية الاشتراع: ((وأقيم لهم نبيا من بين اخوتهم مثلك والقي كلامي في فمه فيخاطبهم بجميع ما أمره به))، تث 18 / 18. حيث أقامه الله وسيط العهد وإختاره مخلصا لشعبه من عبودية مصر. وأصبح قائداً تاريخياً وصاحب دعوة امتزجت بشخصه حتى عُرف بها وعُرفت به. ولم يقم من بعد نبي في اسرائيل كموسى الذي عرفه الرب وجها الى وجه ((سفر تثنية الاشتراع 34 / 10). مع انبياء آخرون كثيرون أقامهم الله وتنبأوا عن مجىء المسيح الى أن جاء يوحنا المعمدان الذي دعاه المسيح في انجيل متى 11 / 9 نبيا وأعظم من نبي.
تكلم الانبياء في العهد القديم جميعهم عن مجىء المسيح الفادي والمخلص. وكانت النبوات حيّة وناطقة وهي أقرب على أذهاننا اليوم من سامعيها في عهد الانبياء، وذلك لبعدها عن فهمهم ولبعدها الزمني الفاصل لتحقيقها في تلك الفترة، كما يثبت قول المسيح لتلميذي عماوس في لوقا 24 / 25 :((ما أقصر ابصاركما وما أبطأ قلوبكما في الايمان بكل ما نطقت به الانبياء، ثم فسر لهما ما يختص به في الاسفار كلها ذاهبا من موسى الى جميع الانبياء)).
ولما كان المعمدان النبي الاخير في سلسلة الانبياء، كما يؤكد على ذلك قول أبوه زكريا في انجيل لوقا:((وأنت أيها الصبي نبي العليّ تدعى لأنك تسبق امام وجه الرب لتعد طرقه وتعطي شعبه علم الخلاص لمغفرة خطاياهم)). لذلك كان من الصعب الحديث عن المسيح من دون التكلم عن يوحنا ورسالته، وهو القريب للمسيح من طرف والدته، إذ ولد يوحنا قبل يسوع بنحو ستة أشهر، من اليصابات التي منيت بالعجز في الانجاب الى درجة أنها وزوجها بلغ بهما اليأس ودخل الشك في قلبيهما، إلا أن الله تذكرهما واعطاهما ابنا وسمياه يوحنا والذي معناه (تحنن الله أو حنان الله) لكي يكون خاتمة انبياء العهد القديم والحلقة التي تربط بين العهد القديم والعهد الجديد، وبين عهد الناموس وعهد النعمة. ولقد امتلأ يوحنا من الروح القدس وهو جنين في بطن أمه، ليحضّر الطريق ليسوع بكر الانسانية الجديدة. وفي لقاء مريم مع أمه اليصابات إهتز الجنين (يوحنا) في بطنها وإمتلأ من الروح القدس بعد أن وقع سلام مريم في أذنيها. ويؤكد الكتاب المقدس بأن يوحنا كان رمزا للفرح والبهجة لعائلته وجيرانه وشعبه وللعالم أجمع بحيث كل من سمع بولادته العجيبة كان يقول في نفسه:((ماذا عسى أن يكون هذا الصبي؟ وفي الحقيقة، كانت يد الرب معه)) لوقا 1 / 66 . فأبوه وأمه كانا سليلا أسرة كهنوتية مرموقة، وأبوه الذي رأى فيه الخلاص كان يعده لكي يكون كاهنا يخلفه في وظيفته الكهنوتية ويواصل مسيرة الاسرة الكهنوتية. ولكنه نشأ في الصحراء وعاش حياة الزهد وإنكار الذات التي تميز بها أنبياء الله الذين سبق وأن أرسلهم الله عبر التاريخ الاسرائيلي العريق لتقويم مسيرة الشعب الايمانية وتذكيره بوعود الله الخلاصية.
كان يوحنا يمثل الرحمة الإلهية التي احتاجت اليها البشرية إذ كان ((الخير والرحمة يتبعانه كل أيام حياته)) مزمور 23 / 6. وأظهر الله في شخص يوحنا المعمدان رحمته لشعب اسرائيل بعد انقطاع النبوءة لفترة طويلة، وتذكر الله ميثاقه مع ابراهيم واسحق ويعقوب، واستعاد الشعب ثقته في الله وفي كلمته بمجيء المعمدان، وتمم الرب عهده المقدس وصنع الرحمة التي وعد بها.
وقد سبق يوحنا المسيح بالولادة والكرازة، وإختار الخدمة في العراء التي أراد أن يجعلها معبدا مقدسا لتفرح به البرية والارض اليابسة، ولتبتهج به الطبيعة ابتهاجا ولترنم ترنيمات روحية للرب كما جاء في مزمور داود النبي 63: ((عطشت اليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء ....)). وكانت تخرج اليه الجموع ليتوبوا وليعتمدوا. ومن الذين خرجوا لسماع خطاباته قادة اليهود والفريسيين الذين لم يرتاحوا له واعتبروه خطرا على سلطتهم الدينية، والهيرودسيين الذين اعتبروه رمزا للثورة ضد هيرودس، والصدوقيين الذين لم يرتاحوا له لأنه كان يقلب أفكار الشعب في القيامة والدينونة، فقرر الجميع التخلص منه بكل الوسائل الممكنة، الى أن قتله هيرودس بقطع رأسه هدية لسالومي الراقصة إبنة هيروديا عشيقته.
حافظ يوحنا على حياة التقوى والطاعة والزهد والتضحية المستمرة، طامعا بالخلود ومعلنا بوجود قيّم روحية أسمى وأرفع من القيم المادية والزمنية، مناديا بأعلى صوته بالرجوع الى طاعة الله والى طاعة شريعته، مشيرا الى يسوع المسيح الذي دعا الى اتباعه لكونه ابن الله. وكان يوحنا شاهدا للحق لم يكن يحابي الوجوه، ولم يكن يخاف الحكام والسلاطين بل كان يطلب منهم تغيير سلوكهم بنبرة صوتية نبوية وبغيرة ايمانية أواخرية. وإهتمامه الوحيد كان في تأسيس ملكوت روحي وليس أرضي وزمني.
عاش المعمدان حياة قريبة في شكلها وزهدها لحياة الجماعات الاسينية الذين انعزلوا عن اليهود ومدنهم، ليعيشوا حياة جماعية رهبانية مشتركة في منطقة قمران شمال غرب البحر الميت. ويقال أنه كان على إتصال بهم أو لربما كان منتميا اليهم في فترة من فترات حياته. ويثبت على ذلك التشابه الكبير بين زهده وزهد تلك الجماعة، وبين تعاليمه عن التوبة وتعاليمهم، وأسلوبه في التحضير لمجىء المخلص وأسلوبهم، إذ لم ينعزلوا العالم إلا ليهيئوا الطريق لمجىء المسيا أي المسيح.
وكان المعمدان يُعمّد كل من يأتي اليه معمودية التوبة التي ترمز الى العهد الجديد الذي يبدأ بالمسيح المنتظر. ولم يكن لمعموديته أن تهب البنوّة لله، لأنه كان يعمد بالماء وليس بالروح القدس. ومن الممكن القول بأن المعمدان طوى الحياة ما بين عهدين مقدسين، إذ به خُتم العهد القديم، وبه أيضا بدأ العهد الجديد. فهو النبي والرسول وخاتم الانبياء بالنسبة الى أنبياء العهد القديم، وأول المرسلين بالنسبة الى رسل العهد الجديد. كان يوجه كلامه مباشرة لسامعيه طالبا منهم تبديلا في المواقف. ويوجه تحريضاته المضطرمة الى الفريسيين والصادوقيين والقوافل التجارية المارة بالقرب منه. لهذا ذاع صيته في كل مكان بخطاباته النارية في كل فرصة تسنح له، كما جاء في انجيل يوحنا 1/ 24 ـ 27 :((أنا صوت صارخٍ في البريةِ قَوموا طريق الرب... أنا أعمدكم بالماء، وبينكم من لا تعرِفونه، الذي يأتي بعدي، وهو أعظم مني، وأنا لست أهلا لأحل رِباط حِذائه)). وكان يخطب بقرب مجىء ملكوت الله وقرب مجىء الرب ليسود شعبه، الذي يأخذ بيده المذراة التي تفرز الحنطة عن القش، فيحفظ الحنطة في الاهراء، ويحرق القش في النار التي لا تطفأ. فالمعمدان يقدم المسيح كديان يأتي ليقوم بالتذرية بنفسه. ويراه بأنه العارف بالقلوب والقادر بفصل الناس بحكمة وعدل من دون أن يخطىء.
لم يكن المعمدان يطالب أحدا بما يفوق طاقته، بل كان يدعو الجميع الى المحبة والرجوع الى الله من دون رياء ولا تكبر مع إنه كان ينذر الجميع بالتوبة وبقبول المعمودية، مندداً بالفريسيين بالبر، والعشارين بالإستقامة، والجنود بعدم الظلم، والهيرودسيين بعدم الوشاية بالابرياء، والاثرياء بالعدل والرحمة، والحكام والمتسلطين بالعدل بين الناس. وكان لخطاباته تأثير كبير على الشعب، إذ كانت تهز ضمائرهم وتشعرهم بالخوف والرهبة وبالرغبة الى البر والعدل والقداسة. وكانت مهمته ببساطة محدودة ومعروفة، وذلك لإعداد الناس لمجىء المسيح، ولم تكن لجذب التلاميذ ولتأسيس ديانة أو طائفة خاصة به. وشهد يوم العماد على أن المسيح يسوع هو ابن الله الذي سبق للنبوات أن تحدثت عن مجيئه الى العالم كما جاء في لوقا: ((أنا اعمدكم بالماء وسيأتي بعدي من لا أستحق أن أحل سيور حذائه. هو يعمدكم بالروح القدس والنار)). وكانت لحظة مجيىء المسيح الى يوحنا ليعتمد لحظة مركزية مهمّة وحاسمة في رسالته، إذ تردد لبرهة وتفاجأ في كيفية القيام بمهمة عمله كمهيىء لمجيىء المنتظر الذي كان يعرفه جيدا بسبب قرابته له وبقوة الروح القدس وقوة روحه النبوية وقوة مهمته التي اختاره الله من أجل تكميلها. ولكنه قام بواجبه وعمده كما جاء في متى 3 / 14 ـ 15 : ((فمانعه يوحنا وقال لَه أنا أحتاج أن أَتعمد على يدك، فكيف تجيء أنت إلي فأجابه يسوع ليكن هذا الآن، لأننا بِه نُــتمم مشيئة الله. فَوافَقَه يوحنا)). وجاء رفضه وإستغرابه بسبب معرفته لشخص المسيح الطاهر إذ كيف يعمد معمودية التوبة من الخطايا؟ من لم يرتكب خطيئة أو زلة في حياته؟ ولكن المسيح أصرّ على قبول العماد من يده لمعاني قد تكون مهمة في فهمنا لرسالته الارضية. وهي أنه أراد من ذلك إعلان بدء رسالته الالهية وذلك بشهادة الآب والروح القدس وبأخذه مكان الخطأة مع أنه الكامل الذي لا يحتاج الى التوبة وبأنه الحمل الحامل خطايا العالم.
ميلاد المسيح
تعد مواسم الاعياد الفترة الاهم في حياة الناس الاجتماعية، إذ يتحين الناس ولا سيما في الشرق المسيحي حلول هذه المواسم لإزالة ما قد حدث من مشاحنات وخصومات وأسباب التفرقة المختلفة بين الاهل والعوائل والاصدقاء. ويقوم البعض عادة بنشر بذور المصالحة والالفة والوفاق حبا بالطفل يسوع الملك السماوي. وتدعونا الاناجيل في قصص الطفولة الى أن نهرع الى طفل المغارة مثل الرعاة والمجوس، فرحين من دون خوف ولا تردد لكي نلقاه في المذود.
ولد يسوع في مغارة للرعاة في بيت لحم اليهودية، ومن عائلة يهودية فقيرة. من مريم ويوسف اللذين كانا من ناصرة الجليل. وتمت ولادته حينما كانا أبواه في سفرة إجبارية ليكتتبوا في بيت لحم مسافة مائة وثلاثين كيلومترا، حتى يدفعوا الضريبة في تلك السنة التي تدعى السنة الميلادية الأولى. وكانت مريم العذراء على وشك الولادة في أي لحظة، ولكن عند وصولهما الى بيت لحم كان صعبا عليهما أن يجدا مكانا للأقامة، فأقاما في حظيرة للحيوانات حيث ولد يسوع هناك في مذود بسيط.
ولقد بشّر الملاك جبرائيل، الرُعاة المتواجدين بالقرب من المغارة التي ولد فيها المسيح قائلا لهم:((اليوم في مدينة داود وُلد لكم مُخلص هو المسيح الرب)) لوقا 2:11. فاشتركت السماء بالهتاف في اليوم المشهود الذي يُعد وبحق أعظم يوم في تاريخ البشرية، وأعظم ليلة على الاطلاق، إذ فيها ولد رب المجد في العالم ولخلاص العالم. ولد رب البشر وفاديهم في أكثر المطارح قذارة، ولم يكن من حواليه غير الرعاة والحيوانات التي كانت تتخذ من الزريبة مأوى ليلي لتحمي نفسها من برد الشتاء القارس مع رعاتها البؤساء.
يستهل متى الرسول في انجيله بمخاطبة اليهود، ويبدأ كتابه بالحديث عن سلسلة نسب يوسف. وأما في انجيل لوقا الذي يُخاطب الهيلينيّين(اليونانيين) والرومان، فإنه يستهل كتابه عن نسب مريم. وكانا كلاهما (يوسف ومريم) من نسل داود الملك. وأما من الوجهة التاريخية، فتظل طفولة يسوع أمرا خفيّا، وليس هناك أية وثيقة تتكلم عن طفولته فيما عدا كونه ورث مهنة والده أو مربيه(يوسف) الذي كان نجارا. فهو على الأغلب كان يعمل في النجارة الى أن أصبح في سن الثلاثين. ويذكر إنجيل لوقا على أنه ناقش علماء الشريعة في الهيكل حينما كان عمره اثنتي عشرة سنة، ولم تتطرق الأناجيل إلى السنوات الثماني عشرة اللاحقة التي كان فيها يسوع بين الثانية عشرة والثلاثين من عمره. وما أن بلغ يسوع الثلاثين من عُمره حتى ترك أهله وعائلته في الناصرة، مُعلنا نفسه مُعلما بعد أن إعتمد على يد النبي يوحنا في نهر الأردن، وكأنه بعماده قدم أوراق إعتماده كرسول من السماء الى الأرض. وبدأ يتحدث مع الناس ويخطب فيهم ويصنع لهم المُعجزات ويُخاطبهم بلغة بسيطة ويُنبّههم تنبيها علنيّا:((إن لم يتب الشعب ويتبدل، فهو ذاهب الى الهلاك)) مت 3 : 7ـ 10
إختار الله ولادة المسيح الاله المتجسد في المذود ليحمل للبشرية رسائل في التواضع والبساطة والحرية والاخوة والعدالة والفرح والسلام. وبالاضافة الى هذه الفضائل العظيمة التي نتعلم منها الكثير، إلا ان هناك ألواحا فنية رائعة يمكن رسمها من خلال المشاهد الانجيلية عن قصة ميلاده وخاصة القصة المروية من قبل متى الانجيلي حيث المغارة والمذود والرعاة والمجوس والنجم والحيوانات. فهي رموز تدل على أن الخليقة التي خلقها الله بكافة أنواعها وأجناسها وألوانها وطبقاتها، إحتفلت حول المغارة في بيت لحم بميلاد ابن الله. فمن طرف نقف مع الملائكة الذين يرتلون انغاما سماوية قائلين:((المجد لله في العلى وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة)) لوقا 2 / 13 ـ 14. ومن طرف آخر نشهد المجوس لميلاده يهدونه الهدايا: ذهـب ولبان ومر، رمزا للملوكية والكهنوتية والآلام من أجل البشر وخلاصهم. ومع كل هذه الرموز الجميلة إلا أن الرسالة ليست في كل ما يحيط بالولادة بقدر ما هي بحادث الولادة نفسه.
يحتفل المسيحيون في عيد الميلاد ومعهم العالم كله بميلاد ملك السلام الذي يرغب كل فرد من البشر أن يعمّر في قلبه. ولذلك يعتبر عيد الميلاد فرصة لتجمع الاحبة ولتلاقي الاصدقاء والاقرباء، ومناسبة لتفقد أحوال الناس وتبادل الزيارات التي تضفي رونقا وجمالا على معنى وجوهر هذا العيد. ويُجسّد العيد أيضا روح الاخوة والمحبة والفرح والسلام بالاضافة الى كونه علامة الهية تدل على محبة الله لنا وعلى وقوف الله في جانبنا في كل مراحل حياتنا، لكي يبين افتقاد الله لنا وللبشرية جمعاء. وقد أراد الله بميلاده فى بيت لحم أن يعلمنا أن الكرامة الحقيقية تنبع من الداخل وليس في المظاهر الخارجية.
عاش المسيح طفولته وحداثته في كنف عائلة مُتديّنة تتقي الله، كما يثبت لوقا الانجبلي في كتابه قائلا:((أما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة، وفي النعمة عند الله والناس)). ونلاحظ من خلال القصة في انجيل لوقا، تشابه عملية خلق الطفل يسوع مع عملية خلق الانسان الاول(آدم)، ويشير الكتاب المقدس من خلال الميلاد العذراوي الى بشرية يسوع والى ظهوره كآدم الجديد أو آدم الثاني. ويشير الكتاب أيضا الى طبيعته الإلهية لولادته من مريم البتول ومن دون تدخل بشري. وما يشير اليه أيضا في ولادة المسيح في المذود على أنه إذا لم يكن له مكانا لائقا وكبيرا لكي يولد فيه إلا أنه كان له مكانا كبيرا في قلوب الرعاة المساكين الاطهار في المغارة الصغيرة، لأن ترتيبات الله تختلف عن ترتيبات البشر.
كان يسوع مثال الطاعة والخضوع في البيت العائلي وفي المجتمع الذي عاش فيه وللحكام الذين كانوا يحكمون مثل هيرودس وبيلاطس، إذ لم ينادي بقيام الثورة ضدهم ولم يشجع الناس بعدم دفع الجزية لهم. ولطالما فضل تسمية إبن البشر على الاسماء الاخرى إذ فيه يكمن سر محبته لنا وتعلقه بنا كإنسان مع إنه إله مُتجسّد. ويظهر ذلك جليا واضحا من خلال قراءتنا لرسائل بولس الرسول الذي جامع الطبيعتين الإلهية والإنسانية في المسيح ولاسيما في رسالته الى أهل فيليبي 5:2 – 8: ((المسيح يسوع ... الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله. لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب)). ومما لا شك فيه أنه لا يستطيع أحد أن يعرف الآب (الإله الحقيقي) إلا عن طريق معرفته لابنه يسوع المسيح: ((الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر)) يوحنا18:1.
وسعى يسوع كذلك في مشوار حياته الى إعطاء الشريعة معناها الحقيقي ضمن نطاقها الاساسي الذي هو العلاقة بين الله والانسان. وسعى كذلك من خلالها الى إلغاء الحواجز التي تمنع من التوجه الى الامم الوثنية والتوجه نحو البشر وتوحيدهم وذلك بمنع العنصريّات القبلية والعداوات بين الشعوب والافراد. وسعى أيضا الى دعوة المؤمنين للإقتداء به والى عيش الانجيل بكل معانيه ورموزه من التواضع والقداسة والمجد والمحبة والتضحية والفرح. والايمان الذي يدعو اليه هو الحياة بكل معناها كما يقول بولس الرسول: ((أنا أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في)).
وجدير بالذكر أن يسوع المسيح دعا في رسالته الى المحبة والرحمة والغفران والى اهتداء القلب والانقلاب من الانانية والكبرياء والانفتاح الكامل لله والقريب والى نزع الانسان القديم ولبس الانسان الجديد. ولم يدعو الى ديانة بطقوس ومعتقدات ولا دعى الى إنشاء شرائع ونواميس تثقل كاهل الناس بترديد الصلوات وتطويل المراسيم كما نرى في كثير من الكنائس التقليدية التي تحتاج الى تجديد حقيقي في طقوسها وجعلها أقرب الى قلوب الشعب المؤمن.
ولقد حاول العلماء ايجاد طريقة دقيقة لمعرفة اليوم والسنة التي ولد فيها يسوع المسيح. وتشرح الاناجيل ميلاد يسوع التاريخي كإنجيل متى ولوقا، وتجعل ميلاده يقع في وقت حكم الملك هيرودس الذي توفي في سنة 4 قبل الميلاد. وقد شرح انجيل لوقا التعداد السكاني الذي حدث في السنة 6 قبل الميلاد، مما يجعل العلماء يتصورون حدوث الميلاد بين السنة 4 ـ 6 قبل الميلاد. ويختلف المسيحيون اليوم وللأسف الشديد في تحديد يوم واحد للإحتفال بهذا العيد المبارك والملىء بالبركات الروحية. فالمسيحيون الغربيون الذين يؤلفون غالبية المسيحيين من الكاثوليك والبروتستانت، يحتفلون في يوم 25 ديسمبر (كانون الاول)، وأما المسيحييون الشرقيون الارثوذكس يحتفلون في 7 (كانون الثاني) من كل عام. ولا بد من الاشارة على أنه لا يوجد إثبات تاريخي على إحتفال المسيحيين الأوائل بعيد الميلاد إذ لم يبدأ الاحتفال به الا في منتصف القرن الرابع الميلادي، ولا سيما بعد أن تحولت الدولة الرومانية الى الديانة الجديدة على يد الامبراطور قسطنطين.
ولكي نفهم ولادة يسوع المسيح وتجسده لابد من قراءة النبوات الواردة في العهد القديم الذي يكشف عن تدبير الله الذي ألهم به أنبياءه لكي ينطقوه ويسجلوه في أوانه شهادة أزلية من السماء. فالانبياء لم ينطقوا إلا بما وضع الله في فمهم:((إذ لم تأت نبوة قط بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلموا من قبل الله)). وتنبأ الانبياء بولادة المسيح في كتب العهد القديم، وكان المسيح قبلة أنظار العهد القديم إذ عليه علقت الآمال الكبار لأنه كان مزمعا أن يحقق جميع المواعيد، وبه تتم كل العهود التي أبرمها الله مع شعبه عبر التاريخ. وتنبأ اشعيا النبي الذي عاش في الفترة 750 سنة قبل الميلاد عن المسيح فقال:((فلذلك يؤتيكم السيد نفسه آية: ها إن الصبية تحمل فتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل)) 7: 14. وكذلك النبي ميخا الذي تنبأ عن ولادة المسيح في بيت لحم وذلك 700 سنة قبل الميلاد قائلا: ((وانت يا بيت لحم أفراتة إنك أصغر عشائر يهوذا ولكن منك يخرج لي من يكون متسلطا على إسرائيل وأصوله منذ القديم منذ أيام الازل)) 5: 1. وتنبأ النبي ملاخي 400 سنة قبل الميلاد عن يوحنا المعمدان ليمهد الطريق لمجىء المسيح قائلا:((هاءَنذا مرسل رسولي فيعد الطريق أمامي، ويأتي فجأة الى هيكله السيد الذي تلتمسونه، وملاك العهد الذي ترتضونه به ملاخي)) 3: 1. ومن أعظم النبواة قاطبة عن ميلاد المسيح ما جاء في اشعيا الذي يصف ميلاده نور يشرق على العالم، وقد تحققت النبوءة في لفضها وحرفها وروحها وذلك في المسيح يسوع فقط كما قال في 9: 1 و5: ((الشعب السائر في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا... قد وُلِدَ لنا ولد، وأُعطِيَ لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه ودُعِيَ اسمه عجيبًا مشيرًا، إلهًا جبّارًا، أبا الأبد، رئيس السلام)). ولا تنطبق هذه النبوءة على أي شخص آخر غير المسيح لأنه هو الوحيد الذي كان حقاً ملك السلام وابن الانسان والإله الجبار الذي جاء نوراً للعالم كله. ولا يمكن أن يليق مصطلح (ملك السلام) لأي شخص في التاريخ القديم والحديث كما يليق بالمسيح يسوع. ولا يستطيع أي تعليم أو دين أو معتقد الادعاء برسالة السلام الحقيقي للفرد وللشعوب والامم كما تدعو المسيحية الى القيم الداعية للالفة والمحبة والسلام بين أعضاءها وأتباعها والبشر الآخرين.
فالميلاد الذي صار في تاريخ البشرية بكل هذه المواصفات الجميلة قد صار بالجسد لكي ننال التبني في المسيح يسوع، الاله والانسان، الذي يولد كل يوم في القربان المقدس ويتحد في المؤمنين المشتركين في السر المقدس. ويتجدد هذا الحضور أو هذا الميلاد في الكنائس كلها أثناء الاحتفال بالذبيحة الالهية (الافخارستيا). ويحدث الميلاد الآخر في كل نفس بشرية تائبة تنتقل من الخطيئة الى النعمة ومن الموت الى الحياة، وتقبل المسيح مخلصا وفاديا في ما نسميه الميلاد الروحاني أو الولادة الجديدة بالروح القدس، والتي من ثمارها: (المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والايمان والوداعة والتعفف). ومعنى الولادة الروحية في المسيح، أن الله أصبح بشرا واتخذ اسم (يسوع) الذي معناه (المخلص)، الذي يخلص شعبه من خطاياهم. ويسمى كذلك (عمانوئيل ـ الله معنا) والذي به يستطيع البشر معرفة الله بالجسد ويكون فرصة جديدة لحياة جديدة بوجوده البشري، الذي عرف الفقر منذ اليوم الاول من ولادته، وكان شفيع المشردين الذين لا مأوى يأويهم غير الكهوف، واضطر للهرب الى مصر منذ صغره، فكان لاجئاً على مثال اللاجئين والمغتربين، ولكنه كان من الذين رجعوا الى وطنهم وتجول في طول البلاد وعرضها معلما ومبشرا، وغيّر التاريخ البشري، وقسمه الى شطرين، الى ما قبله (القديم) والى ما بعده(الجديد).

تعاليم يسوع
تأسست المسيحية كجواب نهائي ومستفيض عن الاسئلة التي يطرحها كل إنسان عن نفسه في موضوع الحقيقة والحياة ومعناها ومغزاها. وتأسست كذلك من خلال تعاليم المسيح الذي عُرف بتفاؤله في الحياة وثقته بنفسه وإتزانه في وضوح الهدف الذي من أجله جاء الى العالم، ألا وهو خلاص البشر. وكان الصليب وسيلته الى ذلك مع علمه اليقين بالطريق المليىء بالاشواك والعذابات والآلام والاهانات الكثيرة. ولكن المسيح لم يُساوم على الحق بُغية الحصول على شعبية رخيصة أو دور سياسي يجعل منه ملكا لليهود. وعُرف المسيح أيضا في قابليته للتآلف بين الوداعة والجرأة، وتمسكه بالشريعة والتجديد، وتمييزه بين العبادة والتزييف، إذ غضب مرة عندما دخل الهيكل وطرد الباعة والتجار والصيارفة قائلا: ((بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص)) متي 21: 12.
كان الجميع يتعجب من كلام المسيح الكلي الإتزان المُعبّر عما يريده من خلال الامثال والمعجزات والخطب، ويعجز القلم أحيانا في تحديد جوهر الكلمات التي علمها يسوع. والرسل أنفسهم كانوا متعجبين من كلام الحكمة الذي يخرج من فمه. مع أن تعاليمه لم تخرج من نطاق تعاليم الكتاب المقدس سواء عن الله أو المحبة أو الغفران أو الشريعة أو السلوك والاخلاق. وقد يبدو لأول وهلة أن المسيح لم يأتِ بشىء جديد في تعاليمه إلا أنه في الحقيقة، كل ما جاء به كان جديدا في روحه ونفَسه وجوهره مع أنه لم يخرج من روح الشريعة التوراتية، إذ ركز على الاغلب بتغيير الاطر القديمة فقط، والتي أصبحت عاجزة عن احتواء فكره التجديدي الذي يدعو البشر الى عبادة الله بالروح والحق، وببناء انسانية جديدة على صورة الله ومثاله. وكانت قضية الله حاضرة دائما في تعاليمه وخطاباته ومعجزاته وفعالياته اليومية وفي تعامله مع التلاميذ والآخرين. وكانت الجموع البشرية تصغي له وتتعجب من كلام الحكمة الخارج من فمه وكانوا يتساءلون مبهوتين: ((ما هذا؟ إنه تعليم جديد، تعليم من له سلطان)) لوقا 1 / 22 و 27 . ولكنه أكد دائما بأنه ممثل الله على الأرض، وعلى أنه أعظم من الرسل والأنبياء والكتبة والفريسيّين. فالأنبياء كانوا يتكلمون بأسم الله ويُشرّعون بأسم الله، ولكنه تكلم بأسم نفسه وشرّع من سلطته الخاصة. ولذلك كان يستخدم الصيغة(وأنا أقول لكم) في أغلب خطاباته للشعب وللتلاميذ. وليس غريبا أن يقول في انجيل متى على أنه:((أعظم من يونان، وأعظم من سليمان، وأعظم من ابراهيم)) 12/ 41 ـ 42. وأكد المسيح أيضا بأنه جاء لكي يكمل الناموس ويعمل بسلطان وقدرة إلهيين، إذ عندما غفر الخطايا وشفى المرضى وأقام الموتى، تصرّف كإله كامل، جاء ليكمل ما أصاب الخليقة من تلف ونقصان. وعندما جاع وعطش وبكى وتعب وغضب وتعرض للألم وخضع للموت وغيرها من الاعمال البشرية الاخرى، فإنه تصرف كإنسان كامل.
ولطالما أتهم رجال الدين اليهود المسيح بنقضه للشريعة، ولكنه أكد دائماً بأنه لم يكن ممكنا له أن ينقض الشريعة لأنه رب الشريعة ومؤسسها. وبأنه ابن الله المتجسّد الذي جاء ليتحقق من شريعته ومفاعيلها وكيفية تطبيقها وتفسيرها وإحيائها.
وركز المسيح في تعاليمه على خدمة الفقير والبائس والمسكين، ويتبين ذلك في تعامله مع رسله ومع مختلف طبقات البشر. وجسّد تعاليمه بصورة أكثر عملية في حياته اليومية، ولم يوصِ شيئا لم يطبقه بنفسه في حياته. فالتواضع مثلا جسّده المسيح عندما غسل أرجل تلاميذه وقبّلها، متمما من خلال هذا الفعل ناموس الطاعة الحقيقية لله ومجددا ما صار باليا وعتيقا، وذلك بخلع الانسان العتيق المتكبر والمتشامخ من كل الميول والرغائب البشرية الدنيئة، ولبس الانسان الجديد بروح مشبعة بالتواضع والبساطة والتجرّد والفقر والقناعة. وعُرف يسوع أيضا بكونه وديعا ومتسامحا، ولم تكن وداعته ضعفا وخنوعا أمام الأقوياء، إذ كان يتحّنن على الشعب فيصنع المعجزات ويزرع الإبتسامات على الوجوه الحزينة بشفاء المُرضى وإقامة الموتى وإشباع الناس الجياع في البرية. وكثيرا ما نلمس عطفه على الخطأة والفقراء والمساكين وحتى الأغنياء الذين لا يهتمون إلا بجمع الأموال. وقد أرسى في تعاليمه وتجواله وتضحياته الكثيرة، أسس ملكوت الله على الارض.
لم يكن يسوع تقليديا مقيّدا بالسنن والقوانين والتشريعات الناموسية، بل كان تقدميّا من الدرجة الأولى، إذ حارب العقلية العنصرية التي كانت تُسيّطر على عقول معظم اليهود، وأعلن المساواة بين الناس جميعا. وأحدث أكبر ثورة روحية وأخلاقية في التاريخ البشري على التقاليد البالية والشكليّات الخارجية وعلى العقليّات الجامدة والمُتحجّرة ومن دون إستخدام القوّة أو أي وسيلة ضغط أو خدعة أو إجبار. وكان سلاحه الوحيد الى ذلك البُشرى السارّة لجميع الأمم، مع المحبة والغفران بلا حدود. ونَلمسُ في شخصيته تفاؤلا عجيبا في قبوله الآخر بغض النظر عن خلفيّة هذا الآخر الاجتماعية والاقتصادية، وبالرغم عن كونه رجلا أم إمرأة، خاطئا أم تقيّا، يهوديا أم وثنيا. فما خاطب الناس من علوٍ وكبرياء. وطريقته الوحيدة كانت: التخيير في التباعة من دون القسّر والأجبار.
لم تكن تعاليم المسيح سلبية أبدا إذ ركز منذ بداية رسالته على رفع المعنويات والسموّ في الاخلاق والصدق في التعامل والاخلاص والابداع في العمل. ويبدو هذا واضحاً في جميع أعماله وأمثاله وحتى في قيامته التي تدل على الانتصار الدائم وبعث الحياة الجديدة. وبلغت تعاليمه قمتها في التسامح والغفران وفعل الخير تجاه القريب وفي مواقفه تجاه الآخر.
أكد يسوع دائما بكونه ممثل الله على الأرض، وعلى أنه أعظم من الرسل والأنبياء والكتبة والفريسيّين. فالأنبياء كانوا يتكلمون بأسم الله ويُشرّعون بأسم الله، ولكنه تكلم بأسم نفسه وشرّع من سلطته الخاصة. ولذلك كان يستخدم الصيغة(وأنا أقول لكم) في أغلب خطاباته للشعب وللتلاميذ. وليس غريبا أن يقول في انجيل متى على أنه:((أعظم من يونان، وأعظم من سليمان، وأعظم من ابراهيم)) 12/ 41 ـ 42. وأكد المسيح أيضا بأنه جاء لكي يكمل الناموس ويعمل بسلطان وقدرة إلهيين، إذ عندما غفر الخطايا وشفى المرضى وأقام الموتى، تصرّف كإله كامل، جاء ليكمل ما أصاب الخليقة من تلف ونقصان. وعندما جاع وعطش وبكى وتعب وغضب وتعرض للألم وخضع للموت وغيرها من الاعمال البشرية الاخرى، فإنه تصرف كإنسان كامل.
لم يُحوّل المسيح العلاقة الخاصة مع الله أبيه الى وسيلة للتسلط على الناس ولإغتصاب حرّيتهم، بل بقي طول الوقت يُكمل مسيرته الأنسانية خادما للبشر رغم التجارب المُرة والظروف الصعبة التي كان يُواجهها في أيام الرسالة التبشيرية. ويؤكد العهد الجديد على علاقة الله بالانسان وخلاصه من خلال تجسّد المسيح يسوع الذي هو كلمة الله الخلاصية الذي أظهر وجه الله الحق وكيفية تحقيق الانسان غاية وجوده ومصيره.
ركز المسيح في تعاليمه لجعل البشر أكثر انسانية وذلك بإنتشالهم من ضعفهم ومساعدتهم لكي يصبحوا ما هم وما ينبغي أن يكونوا. وكان يتجوّل في اليهودية داعيّا الى التوبة والى قرب مجىء ملكوت الله. وفي أثناء تجواله أختار تلاميذه الأثني عشر وسماهم الرُسل الذين علمهم تعليمه الجديد حول ملكوت الله والتعاليم الاخلاقية الجديدة التي تؤكد على الأخوّة البشرية وأن يصلوا لله ويدعوه (أبانا) بحب وإحترام وعلى إختلاف مقامهم وأجناسهم، إذ هم كلهم عنده إخوة وأخوات، والله أبوهم الروحي الذي خلقهم. ولم يدعُ تلاميذه عبيدا لكنه سمّاهم أصدقاء: ((لا أسميّكم عبيدا بعد لان العبد لا علم له بما يصنع سيّده، بل سميّتكم أصدقاء لأني اطلعتكم على كل ما سمعت من أبي)) يوحنا 15/ 15.
كان يسوع مثالا أعلى في كل شىء قاله وفعله ولاسيّما في مثال الطاعة، إذ أطاع أباه حتى الموت على الصليب: ((لأني نزلت من السماء لا لأعمل مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني)) يوحنا 6/38. وكان خير وسيط بين السماء والأرض ووساطته مُنبثقة من صميم طبيعته الآلهية والبشرية: ((لأنا اذا صولحنا مع الله بموت إبنه ونحن أعداء فبالأحرى كثيرا أن تغزر نعمة الله التي لأنسان واحد هو يسوع المسيح)) روم 5/ 10ـ 16. فوساطة يسوع فريدة في نوعها:((لأن الله واحد والوسيط بين الله والناس واحد وهو الأنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فداء عن الجميع)) 1 تيموثاوس 2/ 5ـ 6.
وتبرز شخصية المسيح من خلال تعاليمه الخلقية والسلوكية التي نقلها التلاميذ في الاناجيل والتي ما كتبت إلا لتكون منهلا ينهل منها المؤمنون لكي يقتدوا بالمعلم يسوع المسيح الذي ختم كل ما قاله بشهادة الدم للفداء العظيم من أجل جميع البشر. إذ كما علم المسيح في حياته الصداقة الحقيقية التي جسدها في وقوفه مع تلاميذه ومع المحتاجين اليه، علمنا أيضا، كيفية الإقتداء به وبتعاليمه وكيفية ممارسة الصداقة الحقيقية وعيشها بصدق وإخلاص ومن دون أدنى شائبة. وكما علم المسيح التسامح الحقيقي الذي تجلى في حكمه على الزانية وعلى الخطأة الآخرين، وعلم الرحمة في مواقفه المؤيّدة للبؤساء والمحتاجين (لوقا 16)، هكذا علينا أن نتسامح مع بعضنا البعض ومع الذين يحتاجوننا والذين ليسوا بالضرورة من أقربائنا أو من أتباع جنسنا وديانتنا وأن نترحم بهم ونساعدهم. وكما علم المسيح التعامل على أساس الاحترام والكرامة الحقيقية ولاسيما في تعامله مع الاطفال والشيوخ والنساء والارامل والمعوزين، ودعا في دعوته الى إحترامهم والى مد يد العون لهم ومنع تعريضهم للاذى والشكوك، هكذا علينا أن نكون مع الاطفال والشباب والشيوخ والنساء والارامل والمحتاجين الينا.
فالمسيح الذي كان النسخة الأكثر تألقا للجمال الآلهي الأسمى في أعماله وأقواله ونظراته وأحكامه، وجميع إختياراته الحياتية منذ طفولته حتى موته على الصليب وقيامته المجيدة، ثبت لسامعيه بأنه أعظم من جميع المرسلين، إذ لم يستطع شخص أو نفر ما أن يثبت عليه لوما أو جرما أو خطأ أو خطيئة. ولا يزال المسيح المثال والقدوة للملايين من البشر الذين يتبعون تعاليمه بإيمان وإخلاص. ويشهدون له بالقول والفكر والعمل، مستعدين لحمل الشهادة حتى الموت من أجله. ويثبت تاريخ المسيحية وجود هذا النوع من الرسل والمؤمنين وهذا النوع من الشهادات الحيّة، وسيبقى دوما من يتبع المسيح ويُجسد أقواله وأعماله في حياته ويصبح مسيحا آخر.
لقد دعى المسيح كنيسته للإقتداء به وبحياته في خدمة الكلمة من خلال المشورات الانجيلية التي نقلها الرسل والتلاميذ والتي هي الآن معروضة للجميع. ودعى المسيح أيضا كل البشر الى حياة الخدمة التي تفرعت من نواة اولى زرعها، والتي نمت وانتشرت وأصبحت شجرة باسقة، منها تفرعت فروع اختصت بعضها في الحياة الرهبانية للصلاة والتأمل ونشر الكلمة، وإختصت بعضها الآخر في الحياة الرعاوية لخدمة الجماعة وفعل الرحمة بين الناس، وأخرى في ممارسة الرسالة في العالم كالخميرة في العجين وهم العلمانيون الذين مارسوا ايمانهم بفضل قوّة روحهم كشهود للمسيح بتقشفهم وقداسة أعمالهم.
وأعلن يسوع في تعاليمه مرارا وتكرارا أنه لم يأت ليُبطل الشريعة والناموس، بل جاء ليُفسّر ارادة الله ويُعمّق وبطريقة جذريّة معناها في حُب الله والقريب. وطريقه الى ذلك هو الدخول في البنوّة الآلهية عبر السلوك اليومي العملي والأختبار الشخصي في الحياة. وبلغ تعليمه القمة في الموعظة على الجبل (التطويبات) والتي تعد روح الأنجيل أو بالأحرى الأنجيل المُصّغر الذي ليس فيه انتصارات دنيوية زائلة، ولا معاني المجد الزمني الباطل ولا العظمة الدنيوية الفارغة.
ـ طوبى للفقراء بالروح، فإن لهم ملكوت الله.
ـ طوبى للودعاء، فإنهم يرثون الأرض.
ـ طوبى للحزانى، فإنهم يُعزون.
ـ طوبى للجياع والعطاش الى البر، فإنهم يشبعون.
ـ طوبى للرحماء، فإنهم يرحمون.
ـ طوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يُعاينون الله.
ـ طوبى لمن يسعون من أجل السلام، فإنهم بني الله يُدعون.
ـ طوبى للمضطهدين من أجل البر، فإن لهم ملكوت السماوات.
ـ طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من أجلي، افرحوا عندئذ وابتهجوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لانهم هكذا اضطهدوا الأنبياء الذين سبقوكم. (انجيل متى 5/ 3ـ 12).
لقد لخص المسيح تعاليم الملكوت وأخلاقياته في هذا الخطاب (العظة على الجبل)، وأكد من خلاله على الخضوع لملك الله دائما، والقناعة في الحياة المادية من دون كسل في العمل، والتقدم الى الأمام من دون تخلف وتخاذل، والاصرار على قول الحق في وجه الأقوياء، إذا تطلب الامر من دون جبن ولا خنوع، والعمل على تحقيق السلام الداخلي من دون مجاملات فارغة، والقضاء على العداوات وروح البغضاء والانتقام وكل أنواع النميمة والافتراء من دون جبن ولا خنوع.
لطالما تبع المسيحيون هذه التعاليم السامية وضحوا بكل غال وثمين من أجل جوهرة الايمان الثمينة، وقدموا حياتهم فدية، ولم ينكروا مسيحهم، ولم يتركوا ايمانهم العزيز على قلوبهم مهما كان الثمن. ونتأسف في الوقت نفسه رؤية الكثير من الذين يُسمون بالمسيحيين وهم لا يمثلونها بشىء لا من قريب ولا من بعيد. ونتأسف كذلك لحكم الآخرين على المسيحية من خلال تصرفات هؤلاء. ولطالما حكم البعض على سلوكيات وتصرفات بعض الدول التي يظنون أنها دولا مسيحية، والتي لا تمثل المسيحية بشىء لأنها دول علمانية صرفة لا علاقة لها بأي دين من الاديان. وتجدر الملاحظة على عدم وجود دول أو شعوب مسيحية في العالم وإنما هناك فقط جماعات مسيحية تحاول التعبير عن إيمانها بصدق وإخلاص، وتحاول الاقتداء بأخلاقيات المسيح يسوع معلمها. وتحاول جهدها لتطبيق تعاليمه الالهية التي تؤكد في مجملها على صون كرامة الانسان وحفظ قيمه السامية.
ونستنتج من خلاصة تعاليم المسيح أنه يختلف عن كل الانبياء والمصلحين والمعلمين والفلاسفة في العالم. ويتميز بكونه معلم جديد جاء ليعلم تعليماً جديداً، وبأنه يتكلم بسلطان ذاتيّ فائق يهدي الى روح جديدة والى هيكل إلهي جديد والى عهد إلهي جديد والى ولادة أخلاقية جديدة للإنسان الذي يُريده محرابا لعبادة الله بالروح والحق.
التلاميذ الاثني عشر
تذكر الأناجيل الإزائية Synoptic Gospels أن المسيح أرسل الرسل الأثني عشر، وأرسل كل إثنين منهم الى القرى والمدن في الجليل ليُبشروا بالخبر السّار حول قرب ملكوت الله. وكانت مهمّتهم شفاء المُرضى وطرد الشياطين، ونشر البشرى السارة بين الناس وتأسيس ملكوت الله على الارض.
والرسول هو(من يُرسل الى) للعمل في رسالة مُعيّنة. والبعثة الاولى التي أرسل يسوع رسله الى الجليل كانت بمثابة بعثة تجريبية، ولكنه أرسلهم بعد ذلك للكرازة والتبشير الى العالم كله وأمرهم بالتعميد:((وقال لهم اذهبوا الى العالم اجمع واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يُدان)) مرقس 16/15ـ 16. وأوصى رسله أن يحملوا معهم العصيّ، وقد أصبح هذا تقليدا يتوارثه المطارنة التي ترمز الى السلطة والى وراثة الرسل.
وجدير بالأشارة، أن الرسل كانوا من الجليلييّن اليهود، إلا أن عشرة منهم كانوا يحملون أسامي أرامية وأربعة يونانية. وبحسب الأناجيل الازائية (مرقس 3/ 13ـ 19 ومتى 10/ 1ـ 4 ولوقا 6/ 12ـ 16 )، فإن القائمة بأسماء الرسل التي اختارها يسوع في بداية خدمته، هي القائمة الرسمية والموثوقة في كل المصادر الكتابية في العالم. ونختار هنا القائمة كما جاءت في انجيل مرقس لكونها من أقدم القوائم ولأن مرقس هو الأول بين الأناجيل: ((وجعل لسمعان اسم بطرس ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخا يعقوب وجعل لهما اسم بوانرجس اي ابني الرعد واندراوس وفيلبس وبرثولماوس ومتى وتوما ويعقوب بن حلفى وتداوس وسمعان القانوني ويهوذا الاسخريوطي الذي اسلمه)) 3 / 13 ـ 19. انتخب يسوع هؤلاء الاثني عشر من بين أتباعه ليمثلوا الأسباط اليهودية الاثني عشر ولكي يعلنوا البشرى السارة بين أبناء ابراهيم ولكي يجعلوا العالم كله ميدانا لرسالتهم.
• شمعون (سمعان) الذي يُدعى بطرس petros, petra وكان يُدعى أيضا (شمعون بار يونا)، أصله من بيت صيدا الواقعة على بحيرة طبرية والتي كانت قرية للصيّادين واسم أخيه أندراوس. سمي عند ولادته شمعون، وهو إبن يوحنا الذي كان يسمى محليّا يونا وكان من الرسل المتزوّجين، إذ شفا يسوع حماته من مرض الحمى. وكانت أعمال شمعون (بطرس) وإدارته الحكيمة للجماعة المسيحية الأولى، مع أعمال بولس الرسول التبشيرية، الأساس المهم في بناء الكنيسة وإنتشارها في القرن الأول الميلادي. والمسيحية تبقى مدينة لنشاط هذين الشخصين في العهد الجديد والى الابد. وكان شمعون على إطلاع واسع بالكتاب المقدس مع انه لم يلتحق بالمدارس الدينية أبدا، ولم يكن يتقن اللغة اليونانية على الأغلب. وكان يعيش في كفرناحوم وهي مدينة تقع في الشمال الغربي من نهاية بحر الجليل. ويُحتمل أن يكون بطرس وشقيقه أندراوس في شراكة صيد مع إبني زبدى (يعقوب ويوحنا). وكان شمعون(بطرس) من التلاميذ المُقرّبين جدا ليسوع، إذ كان مسموحا له أن يُرافق يسوع دائما، وقد ذكر على رأس القوائم بأسماء الرسل في الأناجيل الأربعة. وهو من الشهود المُهمّين لقيامة يسوع. كان يقود الجماعة المسيحية الصغيرة العدد في اورشليم مع اخوته الرسل، ثم ذهب الى روما ليُبشر بالمسيحية هناك ولكننا لا نملك معلومات أكيدة عن زمن مجيئه اليها، وأما عن موته فيُعتقد أنه مات مصلوبا في روما بين سنة 64 ـ 67 ميلادية. ويؤكد على هذه الحقيقة آباء الكنيسة مثل القديس اقليمنس ثالث اسقف في روما سنة 96 م، والقديس اغناطيوس اسقف انطاكيا سنة 107 م، وايريناوس اسقف ليون سنة 177 م، مع مصادر اخرى كثيرة تؤكد موته مصلوبا في روما منكس الرأس ولا يوجد أي مصدر ينفي هذا التقليد.
• أندراوس: كان أول من دُعي رسولا وهو شقيق بطرس من مدينة (بيت صيدا) في الجليل وكان تلميذاً ليوحنا المعمدان قبل أن يدعوه يسوع في الوقت نفسه مع بطرس الى التلمذة. وعُرف بالطيبة والصدق والإخلاص، وقاد عددا كبيراً من الناس الى يسوع. وتذكر التقاليد الشرقية بأن الرسول أندراوس بشر في المناطق الواقعة في شمال تركيا الحالية وجنوب روسيا، وبأنه استشهد على صليب متقاطع العارضتين والتي كانت إحدى الطرق الرومانية في قتل وتعذيب المتمردين الاجانب والعصاة. وتقول بعض التقاليد بأن القديس نال اكليل الشهادة في (بتراس) بحكم صدر من الحاكم الروماني. ونقل الامبراطور قسطنطين جثمانه سنة 357 م الى القسطنطينية ليوضع في كنيسة الرسل الملكية التي شيدها ونقل جثمانه بمرور الزمن الى روما. ولكن في سنة 1964 كبادرة حسنة من الكنيسة الكاثوليكية للكنيسة الارثوذكسية نقلت ذخائره بإحتفال مهيب الى مكانها الاصلي.
• يعقوب الكبير: نجد في قائمة الرسل تلميذين بإسم يعقوب: الأول ابن زبدى ويُلقب بالكبير والثاني إبن حلفى ويُلقب بالصغير. وكان يسكن في بيت صيدا ثم تحوّل الى مدينة كفرناحوم. واسم أبيه زبدى حيث كان من أحد المقرّبين الحميمين الى يسوع، إذ حضر مع بطرس وأخوه (يوحنا التلميذ الحبيب ليسوع)، معجزة إحياء ابنة يائيروس وصعد مع يسوع الى جبل طابور، وكان أحد الشهود لمشهد التجلي الالهي. وقضى يعقوب كل حياته التبشيرية في اورشليم الى أن استشهد فيها سنة 43 ميلادية.
• يوحنا ابن زبدى: هو من التلاميذ المُقرّبين جدا الى يسوع، يُعتقد أنه استشهد وهو شيخ كبير في السن، وكتب الأنجيل الرابع من العهد الجديد والسفر الاخير من الكتاب المقدس والمسمى بسفر الرؤيا. بقي يوحنا مع يسوع منذ اليوم الأول من بشارته وفي يوم عماده وفي عرس قانا وفي يوم صلبه. كان شاهدا قويّا على قيامته من بين الأموات. وتذكر التقاليد بأن الرسول يوحنا سجن مرات عديدة ونفي الى جزيرة بطمس. ويُقال بحسب ترتليانوس بأنه ألقي في زيت مغلي من دون أن ينكر معلمه يسوع. وقيل أيضا بأنه أعطي شرابا مسموماً. وفي بعض المصادر الاخرى قيل بأنه مات مصلوبا وهو يتجرّع الآلام.
• فيليبس: هو من مدينة (بيت صيدا) في الجليل وكان من تلاميذ يوحنا المعمدان. ودعاه يسوع الى التلمذة، فتبعه حالما سمع نداء الدعوة. ويحتل فيلبس الموقع الخامس من بين الرسل في الجداول الخاصة بهم في العهد الجديد. وكان من طبعه خجولا ونبيلا وفرحا جدا بلقائه بيسوع. ويُعتقد أنه استشهد مُنكس الرأس، وكان له من العمر 87 سنة أي في سنة 98 ـ 117 م ودفن في هيرابوليس. وقسم من ذخائره محفوظ في القسطنطينية وقطعة من ذخائره في روما في دير للآباء الفرنسيسكان.
• برتلماوس: كان صيّادا مثل سائر الرسل. ويُقال أنه ونثنائيل هما الشخص نفسه، لكون اسم برتلماوس ليس في الواقع إسما شخصياً. وآمن برتلماوس بسبب معرفة يسوع الخفيّة عن إجتماعه مع مُريده تحت الشجرة ومعرفته بتفاصيل الأجتماع. فأنبّهر به برتلماوس قائلا: هو بالحقيقة (ابن الله ـ ملك اسرائيل)، وأجابه يسوع قائلا: سترى أمورا أعظم من هذا. وأما عن موته فالتقليد يؤكد لنا أنه استشهد بسلخ جلده وهو حيّ، ثم بقطع رأسه من دون أن ينكر معلمه يسوع.
• توما: لا نملك شيئا أكيدا عن أصله وعائلته، وكل ما هناك أن الأناجيل تذكر اسمه في جداول الرسل من دون تفصيل كبير لعائلته ولدعوته الرسولية. ويُدعى في الآرامية توما ويعني (التوأم). وكان منطقيا ولحوحا، يلح في رؤية الامور بنفسه والتحقيق بشأنها، إذ كان شكوكا لا يُصدّق الأمور بسرعة مثل غيره من الرسل، مما جعله يُفيدنا في تحقيق الأمور الدينية وتصديقها عقلياً. ويُقال أنه بشر في ما بين النهرين وايران والهند. ويُعتبر المؤسس الفعلي للكنيسة المشرقية الآشورية ـ السريانية ـ الكلدانية ولذلك تتخذه الكنيسة الشرقية شفيعا لها. ويفتخر المسيحيون الهنود التقليديون برسالة القديس توما في بلادهم، وهناك أسَر تدعّي بإنحدارها من العهد الرسولي وتفتخر بذلك. وتؤكد التقاليد الكنيسة الشرقية العريقة في الهند (الملبارية والملنكارية) في ولاية كيرالا على وفاة القديس توما أو قتله في الهند. وتحتوي كنيسة مار توما الرسول للسريان الارثوذكس في الموصل على الذخائر الحقيقية التي نقلت اليها من جنوب الهند.
• يعقوب الصغير: كان يحتل موقعا مهمّا في الجماعة المسيحية الأولى، ويُعتقد أنه كان الأسقف الأول لكنيسة اورشليم ورئيس جماعتها. وهو شقيق يهوذا ـ غير الأسخريوطي ـ وتسميّته أحد أخوة يسوع تشير الى قرابة أو نسب بينهما، إذ ربما كان ابن عمه قليوبا أو ابن خاله. ويعتقد يأنه قتل من قبل اليهود رجما بالحجارة الى أن مات.
• تداوس: يلف شخصية تداوس غموض كبير في العهد الجديد، إذ كان من الغيّورين للشريعة اليهودية، حيث كان ينظر الى التمسك بتقاليد العهد القديم مع التعاليم المسيحية الجديدة. ويُسمى في العهد الجديد(يهوذا) وهو اسم كان مُنتشرا في عهد يسوع. ويعدّه البعض من أقرباء يسوع والبعض الآخر من أشقائه، من طرف مُربيه يوسف النجار. ولا نعرف الطريقة التي استشهد فيها تداوس، مع أن البعض من الكتاب اليونانيّين قالوا أنه مات ميتة طبيعية.
• متي: كان عشارا، يجمع الضرائب للرومان، وهو ابن حلفى. دعاه يسوع في كفرناحوم فترك عمله وتبعه (متى 9/9). ولأنه كان يعمل في الضرائب، لذلك نجده يشرح في انجيله شرحا دقيقا، أمور المال والكنز الدفين والوزنات والدرهم الضائع. يُقال أنه بشر في الحبشة، وقتل هناك رجما حتى الموت.
• شمعون الغيّور: كان مُنتميّا الى فئة الغيّارى ومن اليهود الذين كانوا يُخططون في تغيير النظام والقيام بالثورة السياسيّة ضد الرومان. ويُعتقد أنه أحد أقرباء يسوع، ويأتي أسمه في آخر الأسماء في قائمة الرسل. ليست لدينا معلومات كثيرة في العهد الجديد عن هذا الرسول سوى أنه من الغيارى، ولكن التقاليد الكنسية تؤكد دائما أنه اسندت اليه اسقفية الكنيسة في أورشليم بعد استشهاد القديس يعقوب. وتذكر التقاليد أنه تقدم في السن كثيراً ولكن شيخوخته العميقة لم توفر له ان يموت ميتة طبيعية إذ يذكر أوسابيوس بأن عذب الى أن استشهد وهو شيخ طاعن في السن.
• يهوذا الاسخريوطي: كان الوحيد من بين التلاميذ من أرض اليهودية بينما الآخرون كانوا من الجليل. عُرف بخيانته لمعلمه يسوع وتسليمه للرومان. وكان ينتظر خلاص اسرائيل من الاستعمار الروماني بالقوة الثوريّة الشاملة. ولم يجد في يسوع المسيح الشخص الثوري الذي يقود هذه الثورة. ولربما كان هذا السبب في خيانته له. ويبدو أنه كان شخصا قوميا وثوريا مُتقلبا ومُحبا للمال. وتذكر الاناجيل بأنه ندم على خيانته لمعلمه فشنق نفسه بعد حادث الصلب.
• متيّا: انتخبه الرسل بالقرّعة بعد خيانة يهوذا لإعادة عدد هيئة الرسل الى سابق عهده أي الى اثني عشر رسولا، ليحل محل يهوذا الشاغر بعد خيانته وإنتحاره. وتدل القرائن الموجودة في التقاليد واعمال الرسل 1 / 21 ـ 23 على أن متيا كان واحدا من بين الذين تركوا أعمالهم من بداية رسالة المسيح ليعيش مع الجماعة المحيطة به. وبحسب تاريخ أوسابيوس كان متيا واحد من الاثنين والسبعين تلميذا. ويُقال أنه قتل في منطقة (اليهودية) رجماً بالحجارة بسبب إيمانه المسيحي، وفي بعض المصادر الاخرى انه بشر في اليهودية ومات ميتة طبيعية.
الشهادات
الكتابية حول يسوع المسيح
تعتقد المسيحية أن يسوع المسيح هو ابن الله المخلص، والمؤسس الحقيقي لها وللكنيسة التي تمر في الالفية الثالثة. وتتفق معظم المصادر الكتابية والتقليدية على أن المسيح كان يهوديا من الجليل، علم تعاليم جديدة عن ملكوت الله، وعمل المعجزات الكثيرة، وصلب في اورشليم (القدس) في عهد الوالي الروماني بيلاطس البنطي، الذي كان واليا على اليهودية، وذلك بتهمة التحريض على الفتنة ضد الرومان. ودُعي بالمسيح ويعني (المختار أو الملك الممسوح). ويؤكد العهد الجديد في فقرات كثيرة على ان المسيح جاء ليخلص العالم أجمع من الشر والخطيئة، ويجعل كل من يؤمن به حرّا من عبودية الخطيئة، وليُعلن بقرب مجىء ملكوت الله والاستعداد له بالتوبة وبتغير القلوب، وبمحبة الله ومحبة القريب ونشر العدالة الاجتماعية بين البشر.
ويؤكد العهد الجديد على تجلى الله في يسوع المسيح. وقد عاين يوحنا المعمدان مجده في وقت العماد وسمع صوت الآب يمجده قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا. وشاهد التلاميذ أيضا وعاينوا مجده وسمعوا صوت الله الآب يُمجده في حادثة التجلي. فالمسيح الذي جاء الى العالم لملاقات البشرية، هو الوحيد الذي يستطيع أن يُعرّفنا بالآب، ويقودنا اليه ويجعلنا أبناءً له، ويملأنا من نعمته وحقيقته. ونجد هذا المفهوم العقائدي في جميع أقوال يسوع وكرازاته وسلوكه ومصيره، وفي جميع كتابات الرسل ورسائلهم وشهاداتهم الايمانية. فالمسيح يسوع ابن الله المخلص، هي شهادة ايمانية تأتي من الله نفسه كما جاء في رسالة بولس الرسول الى العبرانيين: ((بعد أن كلم الله قديما بالانبياء مرارا عديدة وبشتى الطرق كلمنا في هذه الايام الاخيرة بالابن الذي جعله وارثا لكل شىء وبه أيضا أنشأ العالم الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره وضابط كل شىء بكلمة قدرته)) عبرانيين 1/ 1 ـ 3 .
والتجسد هو السبيل الذي سلكه المسيح بإرادة الله الآب لكي يقود المؤمنين الى الله كما جاء في انجيل يوحنا 1/ 1ـ 3 : ((في البدء كان الكَلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هو في البدء كان عند الله. بِه كان كل شيءٍ، وبِغيره ما كان شيء ممّا كان)). ولم يستنتج المسيحيون هذه الحقيقة من خلال قصص مبتكرة أو بدع ورثوها من الآخرين بل من خلال شهادات حقيقية وحيّة وصلت اليهم، من قبل المؤمنين الاوائل التي دوّنوها وأصبحت ما يسمى بالعهد الجديد. فالاناجيل مع رسائل بولس وكتاب أعمال الرسل والرؤيا اليوحناوية هي شهادات حيّة وصادقة لأشخاص شهدوا بها عن المسيح المُتجسّد، بالاضافة الى الشهادات الكثيرة في العهد القديم من خلال نبوات ورموز تكلمت عن المسيح عن ولادته وآلامه وصلبه وموته وقيامته.
وتعدّ شهادة يوحنا المعمدان من أولى الشهادات التي جاءت في انجيل يوحنا: ((يوحنا شهد له ونادى قائلا هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي صار قدامي لأنه كان قبلي)) 1/15. وكان المعمدان معروفا لدى الجميع في اليهودية واسرائيل، وكانت الجموع تنجذب اليه، كما قال في انجيل مرقس: ((يأتي بعدي من هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا عمذتكم بالماء وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس)). وكذلك الشهادة نفسها في انجيل يوحنا ولكن بصورة لاهوتية عميقة: ((أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله)) 1: 34. وفي شهادة أخرى أكثر دقة وتفصيلا في المصدر نفسه: ((حين أرسل إلَيه اليهود من أُورشليم كهنةً ولاويّـين ليسألوه من أنت فا‏عترف وما أنكر، ا‏عترف وقال ما أنا المسيح. فقالوا من أنت، إذًا هل أنت إيليا قال ولا إيليا. قالوا هل أنت النبـي أجاب لا. فقالوا لَه من أنت، فنحمل الجواب إلى الذين أرسلونا. ماذا تقول عن نفسك؟ قال أنا، كما قال(النبـي إشعيا): صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب. وكان بينهم فَريسيّون ..... وفي الغد رأى يوحنا يسوع مُقبِلا إلَيه، فقال ها هو حمل الله الذي يرفع خطيئةَ العالَمِ ..... وشهِد يوحنا، قال: رأيت الروح ينزل من السماءِ مثْل حمامة ويستَقر علَيه. وما كنت أعرِفه، لكن الذي أرسلَني لأُعمد بِالماءِ قال لي الذي ترى الروح ينزل ويستَقر علَيه هو الذي سيعمد بالروح القدس. وأنا رأيت وشهِدت أنه هو ا‏بن الله)) 1 :19 ـ 23.
وعلى رأس كل الشهادات في طبيعة الحال تأتي شهادة الله الآب، لأن المسيح الإله المتجسد لا يقبل شهادة إلا من فوق، ومع أنه كان من حقه أن يكتفي بشهادة المعمدان، إلا أنه أراد شهادة من مَنِْ هو أسمى وأكمل. وقد تكون شهادة الله الآب أكمل الشهادات حول شخصية المسيح يسوع، إذ طالما تكلم المسيح في كرازاته ومواعظه الشهيرة عن شهادة الآب الذي أرسله كما في يوحنا 5 / 37 : ((والآب الذي أرسلَني هو يشهد لي))، وكذلك في يوحنا إذ قال: ((لأنك أحببتني قبل انشاء العالم)) 17 /24. وفي يوحنا أيضا: ((لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله وسيريه أعمالا أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم)) 5/ 20 . وفي يوم العماد أيضاً إذ إنفتحت السموات ورأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه وصوت من السموات قائلا:((هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت)). مرقس 1/ 11، وشهادة الآب في حادثة التجلي أمام التلاميذ (بطرس ويعقوب ويوحنا)، إذ تغيرت هيئة المسيح قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور، وإذا موسى وايليا ظهرا لهم يتكلمان معه كما في انجيل مت 17 / 1 ـ 3 . ويمثل هذا المشهد شهادة كتابية عظيمة في شخص أبي الناموس، موسى النبي الذي خلص شعب اسرائيل من عبودية اليهود في مصر مع ايليا النبي الذي يعتبر من أعظم الأنبياء قاطبة في العهد القديم. ويؤكد الانجيلي في هذا المشهد على تأييد العهد القديم ليسوع مثبتاً بأنه المرسل من الله كشهادة لرسل العهد الجديد الحاضرين معه. ويشهد الله الآب أمام مرأى ومسمع الجميع قائلا: ((هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا)) مت 17 /5 ، لو 9/ 34.
ومن الشهادات المهمة الاخرى عن شخص المسيح يسوع، شهادات الرسل والتلاميذ الذين قدموا دماءهم ضحية من أجل إثبات صحتها، وتقرّ بذلك المصادر المسيحية التي هي الاناجيل القانونية الاربعة إذ كتب الرسل عن المسيح كل الامور التي شاهدوها وعاينوها وبيّنوا بأنهم عرفوه تدريجيا وتوصلوا الى نتيجة حتمية عن ماهيته وشخصيته. وتطوّرت معرفتهم به الى أن سألهم هو بنفسه من أنا بنظركم؟ فأجاب بطرس قائلا: أنت المسيح ابن الله الحيّ مت 16/ 16. وتعتمد الكنيسة على كل تلك الشهادات لمعرفة معلمها يسوع المسيح. وتقرأ الكنيسة هذه الشهادات في كل المناسبات وكأنها مكتوبة اليوم. وهي شهادات واقعية كتبها أناس آمنوا بالمسيح بعد أن تحققوا من كل شىء وشهدوا بحياتهم لموته على الصليب وقيامته من بين الاموات. وفي إحدى تلك الرسائل شهد بطرس في رسالته الثانية قائلا: ((لأننا لم نتبع خرافات مصنعة إذا عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه. بل قد كنا معاينين عظمته لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدا إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسني هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به ونحن بطرس ويعقوب ويوحنا سمعنا هذا الصوت مقبلا من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس)) 2 بطرس / 16 ـ 18. وشهد أيضا لوقا الانجيلي الذي كان طبيباً آمن بالمسيح وبشر بملكوته. ونقل كل ما عاين وسمع من مريم العذراء بأمانة وإخلاص لتلميذه (ثيوفيلوس) الذي يعني اسمه (محب الله) وهو بهذا قصد تقديم انجيله لكل من يحب الله الى قراءته والإطلاع على محبة الله الاواخرية في شخص المسيح يسوع كما قال: ((لأن كثيرا من النـاسِ أخذوا يدونون رِواية الأحداث التي جرت بيننا، كما نقلَها إلَينا الذين كانوا مِن البدء شهود عيان وخدّاما للكلمة، رأيت أنا أيضًا، بعدما تتَــبعت كل شيء مِن أُصوله بتَدقيق، أن أكتُبَها إليك، يا صاحِب العزة ثاوفيلس، حسب ترتيبِها الصحيح، حتى تَعرف صحة التعليمِ الذي تلقيته)) لو 1/ 1 ـ 5.
كذلك علينا أن ننتبه الى شهادة المسيح عن نفسه إذ فيه تمت وتحققت النبوات وبه ابتدأ الملكوت الجديد والعهد الجديد وهو الذي جاء ليؤسس عهد الله الجديد، الذي له السلطان في التعليم والتهذيب كما جاء في مرقس 1 / 21 ، 22، وفي السلطان على الارواح النجسة كما في مر 1 / 34 ، 41 ، 42، وفي السلطان على المرض كما في مر 2/ 5 ، 10، وفي السلطان على الطبيعة كما في مر 5/ 41 ، وفي السلطان على غفران الخطايا كما في مر 4 / 39 ـ 41 ، وفي السلطان على الموت كما في مر 6 / 41 ـ 44. وتأتي أعماله التي لا يعملها الا الله شهادة أخرى لرسالته، مثل سيره على الماء وسلطانه على الرياح الهائجة والعواصف وشفائه للمرضى بكلمة من فمه وفتحه لعيون العميان وتسليم الشياطين وصراخهم بمجرّد مروره من أماكن سكناهم وإحياء الموتى بقوة من ذاته ومن دون الرجوع الى الله، وما تلك الاعمال إلا إثبات على أنه يسوع المسيح ابن الله.
وتشهد له كل الاعمال التي قام بها أيضا كما جاء في يوحنا 5/36 :((هذه الاعمال التي أنا أعملها هي تشهد لي)). ودعا يسوع اليهود بتفتيش الكتب شهادة لهم إذ قال: ((فتشوا الكتب .. وهي تشهد لي))، يوحنا 5 / 39. ولكي يتأكد كل من له شك في شخصه ورسالته أعلن قائلا لليهود والفريسيين عن ذاته بتوجيه أنظارهم الى شهادة الكتب التي تنبأت عنه والتي تحققت كلها فيه كما جاء في يوحنا: ((تَفحصون الكتب المقدسةَ، حاسبـين أن لكم فيها الحياة الأبديةَ، هي تشهد لي)) 5/ 39 . والمقصود بالكتب من سفر التكوين الذي هو أول كتب التوراة الى سفر ملاخي الذي هو آخر الكتب المقدسة لدى اليهود. ولقد كرر هذا الاسلوب مرارا وتكرارا في حياته الرسولية مع تلاميذه كما جاء في لوقا: ((ثم قال لَهم عندما كنت بعد معكم قلت لكم لا بد أن يتم لي كل ما جاء عني في شريعة موسى وكُتُبِ الأنبـياءِ والمزاميرِ. ثم فتح أذهانهم ليفهموا الكتب المقَدسةَ، وقالَ لهُم هذا ما جاء فيها، وهو أن المسيح يتألم ويقوم من بينِ الأموات في اليومِ الثـالث، وتعلَن با‏سمه بِشارة التوبة لغفرانِ الخطايا إلى جميعِ الشعوب، ا‏بتداء مِن أورشليم)) 24 : 44 ـ 47. وكرر الشىء ذاته لتلميذي عماوس كما في لوقا: ((فقال لهما يسوع ما أغباكما وأبطأَكما عن الإيمانِ بكل ما قالَه الأنبـياء أما كان يجب على المسيحِ أن يعاني هذه الآلام، فيدخل في مجده وشرح لهما ما جاء عنه في جميعِ الكتب المقدسة، من موسى إلى سائرِ الأنبـياء)) 24 / 25 ـ 27. وفي مجمع الناصرة أيضا فتح سفر اشعيا وقرأ:((وجاء يسوع إلى الناصرة حيث نشأَ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأَ. فناولوه كتاب النبـي إشعيا، فلما فتح الكتاب وجد المكان الذي ورد فيه روح الرب علَي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلَني لأنادي للأسرى بالحرية، وللعميانِ بِعودة البصر إليهِم، لأحرر المظلومين وأعلن الوقت الذي فيه يقبل الرب شعبه. وأغلَق يسوع الكتاب وأعاده إلى خادم المجمع وجلَس. وكانت عيون الحاضرين كلهِم شاخصةً إليه. فأخذ يقول لهم: اليوم تمت هذه الكلمات التي تلَوتها على مسامعكم)) لو 4 / 16 ـ 21 .
والمثير للإنتباه هو أن سفر اشعيا يتكلم عن المسيح يسوع الذي عاش قبل المسيح بنحو 750 سنة، وكأنه عاش في عهد المسيح يسوع بالضبط إذ يتكلم عن آلام المسيح في فصل كامل وهو الفصل 53 والذي يفسر فيه طريقة صلبه وآلامه من أجل البشرية، ويتكلم عن خلاص البشرية على يده وعن احتقار الناس له في حياته العلنية وعن موته الكفاري وعن نجاحه في مشروع الخلاص 53 / 10 وصبره العجيب في تحمل الالآم 53 / 7، بالاضافة الى ولادته التي تنبأ عنها قائلا:((هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانوئيل)). وبسبب كل هذه النبوات يسمي بعض علماء الكتاب المقدس سفر اشعياء بالانجيل الخامس.
وشهادة الملاك في حواره مع مريم العذراء عن دور الروح القدس في حبله الالهي حيث أجاب الملاك وقال لمريم: ((الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك. فلذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله)) 1 / 35. وشهادة رتل من الملائكة أيضا في يوم ميلاده إذ رنموا ترتيلة السلام العظيمة التي أصبحت عنوان لتراتيل كثيرة في الكنائس عبر التاريخ وفي كل اللغات العالمية كما جاء في انجيل لوقا: ((وظهر مع الملاك بغتةً جمهور من جند السماء، يسبحون الله ويقولون المجد لله في العلى، وفي الأرضِ السلام للحائزين رِضاه))، وحتى شهادة الشياطين في انجيل مرقس1: 23، 24: ((وكان في مجمعهم رجل به روح نجس. فصرخ قائلا آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا أنا أعرف من أنت قدوس الله)). ومع شهادة الاعداء والحاقدين على المسيح، تعتبر كلها دليلا على صحة رسالة المسيح ودوره في تغيير القلوب كما جاء في انجيل مرقس15/ 39: ((ولما رأى قائد المئة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال حقا كان هذا الإنسان ابن الله)). وكذلك شهادة رؤساء الكهنة والفريسيون في مجمعهم قائلين:((ماذا نصنع فإن هذا الانسان يعمل آيات كثيرة إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به)) يوحنا 11 / 47 ـ 48 . وإن كانت شهادات الشياطين والاعداء تشير الى رسالة يسوع، فلا غرابة من إستناد بعض المفكرين واللاهوتيين وإعتمادهم في بعض الاحيان على شهادات الكتب الغير القانونية أو الغير المقبولة من قبل الكنيسة، كمصادر أخرى لمعرفة مؤسس المسيحية(يسوع التاريخي).
بالاضافة الى كل ذلك هناك أيضاً شهادات الشعوب التي تغيرت سلوكياتها من همجية الى شعوب مُتمدنة بمجرّد قبولها للمسيح وايمانها به ربا ومخلصا، والتي تغيرت بعد إهتدائها وساهمت في بناء الحضارات والثقافات العالمية وفي نشر القيم والاخلاق العالية كشعوب (الفايكنغ الاسكندنافية) وكثير من شعوب الادغال والغابات في افريقيا وامريكا الجنوبية والشمالية. مع كثير من الافراد الذين جاهدوا للتخلص من الخطايا التي استعبدتهم، وتحرروا من عبودية الخطيئة، وأعداد كثيرة من المجرمين والسجناء وأرباب السوابق الذين تغيروا نحو الأحسن وأصبحوا ايجابيين بعد قضائهم فترة في السجون الذين تغيّروا بعد تعرفهم على شخص المسيح. ولطالما تغيرت بيوتاً ممزقة مُدمّرة وأصبحت بيوتا هادئة تنعم بالدفء والامان والمحبة بمجرد دعوتها ليسوع المسيح بالدخول في حياتها. وأناس اختبروا السعادة الحقيقية بعد تعارفهم على يسوع المخلص والفادي الامين الذي يفتح ذراعيه قائلا لكل فرد وعائلة وشعب، تعالوا الي يا ثقيلي الاحمال وأنا اريحكم. وشهادات فردية حيّة لا تعد ولا تحصى تحث كل من ضاع في معمعة الحياة وجاء الى الطريق القويم بسبب الايمان بالذي يغير الاوضاع الى الاحسن، مع شهادات الذين يتغيرون يوميا بمجرّد الايمان به، والذين يختبرون تعاليمه السامية على سلوكهم اليومي. فمنهم من يهجر السكر والجريمة، ومنهم من يرى الفرح والسعادة والامل، بمجرد الإيمان بالمسيح يسوع الذي جاء الى العالم لكي يظهر العطف والحنان في القلوب ويعين المحتاجين والمرضى والحزانى من خلالنا نحن المؤمنين به والمتممين لمشواره الخلاصي في العالم.

مفهوم الله في المسيحية
كشف العقل البشري في القديم عن وجود الله عن طريق المخلوقات التي لابُد لها من خالق أظهرها للوجود. فالمخلوقات كانت العلامة والرمز لحقيقة الله. ويعتبر الانسان الموّكل من جميع المخلوقات، بالكشف عن الله وعن سرّه، وإزالة الغموض عنه وعن وجوده وعن علاقته بالكون والكائنات. وبعد الجولة التي قطعها الإنسان بحثاً عن القدرة الأعلى والأسمى منه والذي سماه الله الخالق، إنتقل نقلة أخرى في تعقله للأله وفي تصوّره له. وحينما اطمأن عقله بوصوله الى هذه الغاية القصوى، بدأت عنده النزعة القلقة عن حقيقته وسرّه ومحاولة الاقتراب منه وازالة كل الحُجب عنه، فسماه (الله) أو الحقيقة المطلقة أو بأسماء مختلفة تختلف بحسب الثقافات والأماكن الجغرافية. فالله هو الخالق المتفرّد بالعظمة والجلال، والمُبدع للأشياء كلها وما فيها من أجناس وطبائع كما يوضحه بولس في رسالته الى أهل رومية:((لأن ما يُعرف عن الله بيّن لهم، فقد أبانه الله لهم. فمنذ خلق العالم لا يزال ما لا يظهر من صفاته، أي قدرته الآلهية وألوهته، ظاهرا للبصائر في مخلوقاته)) روم 1/9 و 20. ويتجسّد هذا المفهوم في العهد القديم حيث يكشف الله عن ذاته: إلها خالقا ومخلصّا، يختار شعبه ويُقيم معه عهدا خلاصيّا أبديا ويكشف له عن أسمه ورسالته:((فقال موسى: ها أنا سائر إلى بني اسرائيل، فأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإن قالوا لي ما اسمه؟ فقال الله لموسى: أنا هو الكائن. وقال: وكذا قل لبني اسرائيل الكائن أرسلني إليكم)) خروج 3: 13ـ 14.
وكانت رحلة البحث عن الله من أمتع وأصعب الرحلات في تاريخ الانسانية، إذ لم يكن من السهل الإمساك بالخيط الأول من خيوط هذه الرحلة التي ابتدأت في شخص ابراهيم قبل 40 قرنا من الزمان، والتي توسعت تدريجيا وشملت عائلة(يعقوب ـ اسرائيل)، ثم توسعت أكثر لتشمل شعب اسرائيل، وتوسعت أكثر لتشمل سائر الشعوب البشرية لكي يعيش جميع الناس حياة النعمة البنوية الجديدة في شخص يسوع المسيح. حيث صار الله انسانا:((الكلمة صار بشرا وحلّ بيننا)). أي أن الذات الآلهية حلت في اللحم والدم(الانسان ـ الإله ... الإله ـ الانسان). أو أن الله الواحد ـ الثالوث المقدس الأبدي، دخل في تاريخنا البشري بحريّته ومحبته ليتألم من أجلنا تعبيرا عن عهد الله من أجل الخطأة والمتألمين، وأصبح شخصا إلهيا إنسانيا كاملا في يسوع المسيح، الذي جاء ليرفعنا معه في قيامته.
وإحترمت المسيحية اسم الله احتراما كبيرا، وإستخدمته بلياقة في العبادة والتسبيح، وهو أسم خاص لأنه يحمل حقيقة شخصه، ويتسم بسمة متميزة. وتقول المسيحية، أن الله ظهر شخصيّا في تاريخنا البشري في شخص يسوع المسيح، الذي قال عن نفسه:((أنا هو الطريق والحق والحياة)) يوحنا 6/14. وهو(الله) الخالق، سيّد التاريخ والحياة، الكائن الشخصيّ المُحب، الذي يعتني بالإنسان كما يعتني بطيّور السماء وزنابق الحقل. والذي جاء ليقترب من الانسان بثقة ومحبة وأظهر حبه كما يظهر الأب لأبنه ويثق به ثقة الصديق لصديقه. ولهذا تدعوه المسيحية (أبا)، ولا تنحصر أبوّته في كونه خالقا، بل هو أب في علاقته بابنه الوحيد، منذ الأزل، ونعرف أبعاد هذه الأبوّة الآلهية من خلال الأبوّة البشرية.
فالله في المسيحية، هو على غرار العهد القديم، الأله الوحيد الذي له وحده يجب السجود:((يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس فقال له يسوع تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك هذه هي الوصية الاولى والعظمى والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والانبياء)) متى 22/36 ـ 40. ولكنه ليس إله القدرة والتسلط والانتقام وانما هو إله العطاء والمحبة الذي أحب البشر الى درجة أنه بذل ابنه الوحيد ذبيحة حيّة من أجلهم:((فانه هكذا أحب الله العالم حتى انه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية)) يوحنا 3/ 16.
وتعتقد المسيحية بأن الله هو الأب الروحي لكل البشر، والذي يترك التسعة والتسعين ويبحث عن الخروف الضائع:((هكذا يكون الفرح في السماء بخاطىء واحد يتوب أكثر من الفرح بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون الى التوبة)). انجيل متي 18:12ـ 14. وقد تجسد في شخص المسيح يسوع ليُقيم في مؤمنيه: ((إن أحبني أحد يحفظ كلمتي وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا)) يوحنا 14 / 23. ويعني أن يُقيم هو فينا وأن نقيم نحن فيه، وأن يثبت هو فينا وأن نثبت نحن فيه. وقد جاء ليدعونا الى الكمال:((كونوا كاملين كما ان أباكم السماوي هو كامل)) مت 5: 48 مع انه يعلم ضعفنا ومحدوديتنا، وليدعونا الى التشبه بمثال المحبة الذي أظهره لنا يسوع المسيح ببذل ذاته حتى الموت من أجلنا ومن أجل كل البشر.

شىء من التاريخ
كان وضع الرسل والمسيحيين الأوائل قلقا جدا بعد أن صُلب معلمهم يسوع، إذ كانوا في حالة الخوف والهلع مما سوف يُصيبهم بعد موته. وكانوا يجتمعون في العليّة والأبواب موصدة من خوف اليهود. ينتظرون الفرصة السانحة للرجوع الى بيوتهم والألتحاق بعوائلهم التي تركوها لأكثر من ثلاث سنوات منذ أن دعاهم يسوع الناصري للتلمذة والتبشير. ولكن الخبر السار الذي انتشر بينهم حول قيامة معلمهم جعلهم ينتظرون في اورشليم، وشجعهم على مواجهة السلطات الرومانية والقادة اليهود بدون خوف.
وعلى أن تاريخ نشوء المسيحية الحقيقي كان في يوم العنصرة(الخمسين)، وهو اليوم المشهود الذي تعده الكنيسة المسيحية عالميّا، يوم ميلادها، فيه نزل الروح القدس على الرسل والمسيحيين الأوائل لتثبيتهم وتقويّتهم روحيّا. وأصبح المسيحيون منذ ذلك اليوم ينتمون كليا ليسوع، وبدأوا يبشرون بالبشرى السارة وهم مستعدون للتضحية بحياتهم من أجل ايمانهم المسيحي إذا تطلب الامر. ولهذا تحتفل الكنيسة الكاثوليكية في هذا اليوم كل سنة طقسيّة، وتؤمن بأن الرسل قبلوا قوّة الروح القدس وانتشروا بعد ذلك في العالم كله لكي يبشروا بالمسيح القائم من بين الأموات ويُعمّدوا الناس بأسم الآب والأبن والروح القدس. وقام الرسل بتأسيس الكنائس والجماعات المسيحيّة أينما ذهبوا وحلوا بشجاعة إيمانية وبدون خوف من اليهود ومن السلطات، بالرغم من كل المُضايقات والإضطهادات ضدهم كما جاء في أعمال الرسل 2 ، إذ صرّح بطرس أمام جمع من اليهود قائلا:((اسمعوا هذه الأقوال: إن يسوع الناصري ذلك الرجل الذي أيده الله لديكم بما جرى عن يده بينكم ... صلبتموه وقتلتموه الذي أقامه الله ناقضا أوجاع ... ونحن جميعا شهود لذلك ... فلما سمعوا نخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الأخوة ... فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على أسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس لان الموعد هو لكم ولأولادكم ولكل الذين يدعوه الرب إلهنا ... فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة الآف نفس)).
فالتاريخ المسيحي يبدأ إذاً بالأحداث التي يرويها العهد الجديد كما هو بيّن في أعمال الرسل والأناجيل والرسائل الرسولية وسفر الرؤيا، التي هي وثائق تاريخية لا يُمكننا تجاهلها لمعرفة بدايات المسيحية وتطوّرها في القرن الأول الميلادي بالاضافة الى التقاليد الكنسيّة التي وصلت الينا عن طريق الآباء مثل أوسابيوس القيصري وغيره من الآباء. ففي سنة(70) ميلادية يُدّمر الرومان مدينة اورشليم ويشعر المسيحيون بثقة ويقين، من أنهم أبناء العهد الجديد، عليهم أن يُبشروا للوثنيين واليهود من دون تفرقة، وعليهم أن يقطعوا أواصرهم بالمجامع اليهودية وبيوم السبت اليهودي ويؤسسوا لأنفسهم مجامع خاصة بهم، وأن يختاروا يوما خاصا للعبادة وهو يوم الأحد أو يوم الرب بدلا من السبت اليهودي. وفي نهاية القرن الأول الميلادي كانت المسيحية قد قرّرت الإنتشار غربا، وكان عدد المُعمّدين قد وصل في تلك الفترة بين 300 الف الى 500 الف، في العالم المعروف آنذاك.
ورأى المسيحيون في ذلك أن الوقت قد حان لتأسيس قيادة كنسيّة بسبب انتشار الرقعة الجغرافية، وكانت الكنائس تدار من مدن مثل أنطاكيا وأفسس والأسكندرية. وأصبحت روما، المركز المسيحي الأهم بسبب كونها عاصمة الامبراطورية الرومانية والمدينة التي استشهد فيها بطرس أول الرسل وبولس رسول الامم. وأختارت الكنيسة في روما المطران كليمنت رئيسا ثالثا وخلفا لبطرس (البابا الأول)، وأعطت الكنائس في المدن الأخرى ولاءها له، وذلك لأيمانها بوحدة الكنيسة التي أسسها المسيح. وفي تلك الأثناء كانت الامبراطورية الرومانية يحكمها الامبراطور دوميتيان( 81 ـ 96 ) الذي كان يُحاول إجبار المسيحيين بترك المسيحية والسجود للآلهة الوثنية، وقتل الآلاف منهم بسبب ذلك. وبعد حكم دوميتيان أعلنت الامبراطورية عن سياسة رسمية بتعذيب وقتل المسيحيين أينما وجدوا في الامبراطورية والاستيلاء على ممتلكاتهم. وإستمرت هذه السياسة في عهود الامبراطور تراجان (98 ـ 117 ) وعهد ماركوس أورليوس ( 161 ـ 180) وديسيوس (249 ـ 251) وديوكليتيان (284 ـ 305). ويُقدّر عدد الذين قتلوا في سبيل إيمانهم المسيحي في تلك العهود بعشرات الآلاف.
نبذة عن تاريخ المسيحية
• 4 ق.م ـ 6 م، ميلاد يسوع المسيح الناصري في بيت لحم.
• 30 ـ 37 ميلادية، هو يوم العنصرة أو يوم الخمسين من قيامة يسوع من بين الأموات في مدينة أورشليم، حيث إجتمع بطرس مع أعضاء الكنيسة الأولى الذين كانوا يتكلمون الآرامية (اللغة السامية الأكثر إستعمالا في الشرق الأوسط آنذاك). واللذين كانوا يتميّزون عن اليهود بالعماد وبمواظبتهم على سماع تعاليم الرسل وكسر الخبز في جماعات أخوية(أعمال الرسل 2/41 ـ 47 و4/32 ـ 35).
• 54 ـ 63 ميلادية، وقوع أشد الأضطهادات ضد المسيحية بقيادة الملك الروماني نيرون والقضاء على حياة الرسولين بطرس وبولس في هذه الفترة الزمنية، كما يقول التقليد الكنسي.
• 70 ميلادية، ثورة اليهود على الرومان لغرض إقامة دولة مُستقلة تعبد الله بحسب الشريعة الموسوية والتي أدى فشلها الى اشتعال حرب ضروس والى خراب أورشليم والهيكل والى هجرة الجماعة المسيحية الاولى الى شرق الأردن والقضاء نهائيا على علاقة المسيحية بالديانة اليهودية.
• 98 ـ 117 ميلادية، إصدار قرار من الحاكم الروماني في آسيا الصغرى (بلينس الأصغر) لمطاردة المسيحيين ليس لكونهم أشرارا أو غير صالحين بل لمُجرّد كونهم مسيحيين.
• 161 ـ 180 ميلادية، شن حملة اضطهادات ضد المسيحيين في بلاد الغال(فرنسا) ولاسيّما في مدينة ليون حينما قتل الرومان إثر مظاهرة شعبية خمسين مسيحيّا ومن بينهم الأسقف بوتينس الشيخ ابن التسعين سنة.
• 193 ـ 211 ميلادية، شن الاضطهادات على المسيحيين ومنعهم من التبشير بدياناتهم ومحاولة قتل جميع الاكليروس في هذه الفترة التي عُرفت بعهد سبتيمس ساويرس.
• 216 ـ 277 ميلادية، ظهور الديانة المانوية التي كانت تعتقد بثنائية مطلقة بين الخير والشر وبين النور والظلمة والتي كانت نوعا من التأليف بين التعاليم الفارسية الزرادشتية والتعاليم المسيحية. وقد أسست من قبل ماني الذي كان ينحدر من بلاد ما بين النهرين(بابل)، ومن تعاليمها أن يسوع هو الذي يهدي الطريق وماني هو رسوله، والبارقليط ـ المُعزي(الروح القدس) قد بشر بمجيىء النبي ماني.
• 240 ـ 272 ميلادية، نفي الملك شهبور الأول للمسيحيين وأساقفتهم داخل الامبراطورية الفارسية وقتل قادتهم الكبار وذلك لأضعاف الكنيسة وشلّ حركتها ومحو رسالتها.
• 251 ـ 356 ميلادية، ظهور الناسك أنطونيوس أبو النساك والحبساء الذين عاشوا في براري مصر وإتباع الراهب باخوميس الخط الرهباني نفسه وتأسيسه 9 أديرة للرجال في صعيد مصر الى يوم وفاته. وتبعته شقيقته مريم التي أسست الحياة الجماعية للراهبات في الفترة نفسها والتي أسست ديرين للراهبات الى يوم وفاتها.
• 258 ميلادية، استشهاد عدد كبير من المسيحيين بسبب الإضطهاد العام الذي شُن عليهم من قبل(فاليريانيس) الذي كان يرى وجود المسيحيين خطرا على وحدة امبراطوريته، فإتخذ الإجراءات القاسية ضد الأكليروس بإعدام عدد كبير منهم.
• 261 ميلادية، إصدار الامبراطور غاليانس مرسوما تسامحيا بعدم الإعتراض للمسيحيين مما أدى الى ازدياد عددهم السريع في هذه الفترة التي دامت حوالي أربعين سنة.
• 301 ميلادية، اعتناق الدولة الأرمنية للمسيحية في عهد الملك تيريدات واعتبار القديس غريغوريوس المُنوّر شفيعا لكنيستها، وترتيب الأبجدية الأرمنية بمساعدة القديس مسروب.
• 303 ـ 304 ميلادية، رفض الجنود المسيحيون الاشتراك في شعائر العبادة الامبراطورية للآلهة الرومانية في عهد الامبراطور غاليريوس مما أدى الى أعنف الاضطهادات ضد المسيحيين وإتلاف كتبهم المقدسة وهدم كنائسهم وتجريدهم من كل الحقوق بالاضافة الى تعذيبهم وقتلهم.
• 304 ـ 305 ميلادية، ظهور الاضطهادات القاسية ضد الطبقات المسيحية المؤمنة، وبروز الأخلاقيات المسيحية من المحبة والتضحية والعمل المخلص والطاعة والتعاون مع السلطات الحاكمة بالرغم من المُضايقات والإضطهادات، ويُقال بأن عدد المسيحيين في هذه الفترة وصل الى حوالي 50 % من عدد سكان الامبراطورية الرومانية.
• 312 ميلادية، إهتداء الامبراطور قسطنطين الى المسيحية بعد رؤيته للصليب في رؤيا كعلامة للنصر. وإعلانه مرسوم ميلان في سنة 313، الذي أوقف فيه كل أنواع الاضطهادات ضد المسيحيين، وإعطائهم حقوقهم الدينية في العبادة والتبشير والحرية في جميع ربوع الامبراطورية الرومانية. والبدء بحملاته العسكرية بعد ذلك تحت راية الصليب. وإعلان نفسه حاميّا للأيمان المسيحي في كل مكان في العالم.
• 325 ميلادية، عقد المجامع الكنسيّة العامة(المسكونية) بتأيد من الامبراطور ورعايته وذلك لتثبيت الايمان ضد الهرطقات وضد الخارجين عن الايمان القويم. ومن أهمها مجمع نيقية سنة(325) ميلادية، الذي أدى الى توثيق الروابط التي أقامها مرسوم ميلانو(313) بين الامبراطورية الرومانية والكنيسة.
• 325 ميلادية، تنظيم الحياة الدينية والاجتماعية المسيحية بجعل يوم الأحد يوم عطلة وتحريم الزنى رسميا مع وضع العقبات أمام الطلاق للحفاظ على قدسية العائلة والأطفال.
• 330 ميلادية، إحتفال الشرق بعيد الظهور في 6 كانون الثاني الذي كان عيد ميلاد الاله المصري(رع) والذي أصبح عيد ظهور الله على الأرض(عيد الميلاد والعماد). وأما في الغرب فقد حلّ عيد الميلاد محل عيد ميلاد الشمس التي لا تقهر والذي كان في 25 كانون الأول وبإعتبار المسيح هو الشمس الحقيقية.
• 340 ميلادية، انتشار المسيحية بين الأحباش وقبول ملكها العماد بتأثير من (فروموطيوس) الذي أصبح أول اسقف لتلك البلاد.
• 380 ميلادية، تحريم الوثنية وكل ممارساتها وملاحقة أهل البدع وتدمير المعابد الوثنية وإعلان الكاثوليكية الديانة الرسمية في الامبراطورية الرومانية.
• 381 ميلادية، قيام الكنيسة بعقد مجامع مسكونية مثل مجمع القسطنطينية حول(الثالوث الأقدس والتجسّد)، الذي كان هدفه محاربة تعليم آريوس، الكاهن الاسكندري المصري، الذي أنكر أزلية الإقنوم الثاني من الثالوث الاقدس.
• 410 ميلادية، شن الفرس أشرس حملة من الأضطهادات ضد المسيحيين الذين كانوا يظهرون نشاطا تبشيريا قويّا في الشرق المعروف بإمبراطورية الفرس.
• 431 ميلادية، تحريم النسطورية وإعتبارها فكرا هرطوقيا في مجمع أفسس الذي كان يُنادي بإنفصال الطبيعة الألهية عن الطبيعة البشرية أثناء الصلب.
• 449 ميلادية، إنفصال الكنيسة المصرية والحبشية بسبب تحريم الفكرة التي أعلنها البطريرك ديسقوروس من أن للمسيح طبيعتين ممتزجتين في طبيعة واحدة، فيما تدعى بالمونوفيزية جماعة(الطبيعة الواحدة).
• 476 ميلادية، خلع البرابرة للأمبراطور الروماني الذي كان آخر إمبراطور قبل سقوط الامبراطورية الرومانية وتفتيت الغرب الروماني وانقسامه الى ممالك بربرية صغيرة.
• 496 ميلادية، إدخال ملك كلوفيس(ملك الأفرنجة ـ فرنسا) الديانة المسيحية الى فرنسا ومساعدته على نشر المسيحية في عموم البلاد الأفرنجية.
• 590 ميلادية، إهتمام البابا غريوريوس الكبير (Gregory the Great) بتبشير العشائر الالمانية، وإرساله الرهبان البندكتيين بتأسيس الأديرة الرهبانية بقيادة القديس بونافيس.
• 600 ميلادية، إهتداء الشعوب الموجودة على أرض انجلترا وايرلندا والمانيا والمناطق الأخرى من اوروبا الى المسيحية.
• 638 ميلادية، دخول المسلمين أورشليم وبعدها الى دمشق والاسكندرية في سنة 642 ميلادية، ومن ثمّ الى بلاد فارس في سنة 651 ميلادية، وآسيا الصغرى وشمال أفريقيا سنة 658 ميلادية، وبلاد اسبانيا في القرن السابع الميلادي (732 ميلادية).
• 732 ميلادية، نجاح الملك الفرنسي (شارل مارتيل) بصدّ المسلمين من دخول فرنسا سنة 732 ميلادية من أمام أسوار بواتييه. وصدهم في الطرف الآخر من اوروبا في الشرق وذلك في معركة ليبانت البحرية سنة 718 ميلادية.
• 800 ميلادية، توحيد ملك الأفرنجة (شارلمان) معظم دول اوروبا وإعلان نفسه امبراطورا على الامبراطورية الرومانية ومساهمته في تجديد الايمان المسيحي وصدّه هجوم العرب في شمال اسبانيا.
• 963 ميلادية، تأسيس الراهب أثناسيوس أول دير في جبل آثوس في شمال اليونان. وجعل الجبل فيما بعد جمهورية للرهبان التي أصبحت فيما بعد فخر الروحانية الأرثوذكسية.
• 1059 ميلادية، وضع القواعد الشرعية لإنتخاب البابا وذلك بإختيار الكرادلة وحدهم. والإكتفاء بالمصادقة في الهتاف للمُنتخب الجديد (البابا) من قبل الشعب والأكليروس.
• 1076 ميلادية، زوال الوجود المسيحي في مطلع القرن الثاني عشر في شمال أفريقيا تماما، وإنتقال مركز الثقل المسيحي من جنوب البحر الأبيض المتوسط الى شماله.
• 1096 ـ 1270 ميلادية، بدء الحملات الصليبية على الشرق لأنقاذ الأراض المقدسة. وإتخاذ القرار الأول في مجمع كليرمون بطلب من البابا أربانس الثاني ونزولا عند طلب امبراطور بيزنطية(ألكسي الأول)، الذي كان مهددا من قبل الأتراك السلاجقة.
• 1171 ـ 1226 ميلادية، مساهمة الكنيسة في بناء المدارس والأديرة والجامعات الكبيرة وتأسيس الرهبانيات العالمية مثل الرهبنة الدومنيكية سنة 1171 ميلادية، والرهبنة الفرنسيسكانية سنة 1226 التي أسسها فرنسيس الأسيزي.
• 1294 ميلادية، وصول أول راهب كاثوليكي فرنسيسكاني أسمه يوحنا الى الصين واستقراره في بكين، وتعينه أول رئيس أساقفة لمدينة بكين.
• 1215 ميلادية، فرض الإعتراف بالخطايا مرةً واحدة في السنة على أقل تقدير وذلك في زمن الفصح وأعياد القيامة في المجمع اللاتراني الرابع في 1215.
• 1445 ميلادية، اطلاق تسمية الكلدان لأول مرة على المسيحيين المشرقيين من قبل البابا أوجين الرابع عند انضمام كنيسة قبرص النسطورية الى الكثلكة وذلك لتميزهم عن المدعويين بالنساطرة.
• 1453 ميلادية، استيلاء الأتراك على مدينة (القسطنطينية) عنوة في 29 أيار ودخول السلطان التركي العثماني محمد الفاتح في كنيسة القديسة آيا صوفيا راكبا على حصانه.
• 1492 ميلادية، عودة اسبانيا الى العالم المسيحي بعد سقوط آخر مدينة اسلامية في الأندلس وهي غرناطة. وفقدان أوروبا المسيحية للقسطنطينية في نفس الفترة الزمنية.
• (1517) ميلادية، ظهور تباشير الصراعات الكنسيّة الكبيرة في الفترات اللاحقة، ونشوء حوادث مهمّة في تاريخ المسيحية الغربية، مع حدوث نهضة فلسفية ولاهوتية في العقيدة المسيحية. ومن تلك الصراعات، الحركة التي قادها الراهب الألماني (مارتن لوثر) الذي نادى بالاصلاح في الكنيسة الكاثوليكية، وبالإنشقاق عنها وبتأسيس ما يُسمى بالحركة البروتستانتية. وتبعه أشخاص آخرون مثل جان كلفن (سويسرا) وجان كنوكس (اسكتلندا) والملك هنري الثامن في (انجلترا). وإصطدام الكنيسة بتلك الإنشقاقات ومحاولتها تصليح الأمور وعقد مجمع ترانت ( 1554 ـ 1563) الذي كان في حقيقة الأمر حملة تثقيفية وتجديديّة في الايمان الكاثوليكي ومن إحدى نتائجه نشوء الرهبنة اليسوعية من قبل القديس أغناطيوس دي ليولا(1540) التي ساهمت في إنشأء الجامعات الكاثوليكية العلميّة في العالم أجمع.
• 1542 ميلادية، نشوء محاكم التفتيش في اوروبا ضد الهراطقة والملحدين الخارجين عن الكنيسة. وكانت تلك المحاكم تتألف من ستة كرادلة واثني عشر عضوا، يُرسلون المفتشين الى الجهات المختلفة من اوروبا لمكافحة الخارجين عن الكاثوليكية.
• 1551 ميلادية، ترشيح الراهب يوحنا سولاقا الذي كان رئيسا لدير الربان هرمزد للرئاسة البطريركية لكنيسة المشرق والذي سافر الى روما برفقة وفد من الأعيان، ورسمه بطريركا للكنيسة الكلدانية في الموصل في 20 نيسان 1553 بإسم (يوحنا سولاقا). وتقليده درع الرئاسة المعروف بالباليوم من قبل البابا يوليوس الثالث.
• 1509ـ 1564 ميلادية، بروز حركات الاصلاح الديني في معظم بلدان اوروبا وانتشارها في عموم اوروبا بقيادة (يوحنا كالفن) ووصول الحركة الى انجلترا ونشوء ما يُسمى بالكنيسة الانكليكانية.
• 1597 ميلادية، إعدام مسيحيين في مدينة ناغازاكي (اليابان) مما يدل على وجود مسيحية ناشئة في اليابان. وقتل خمسة وثلاثون ألف مسيحي في (شيمبارا) في سنة 1635 ميلادية وغلق أبواب هذا البلد بعد تلك الفترة أمام المُبشرين المسيحيين حتى القرن التاسع عشر.
• 1542ـ 1591 ميلادية، قيام حركات روحيّة تجديديّة من داخل جدران الكنيسة بقيادة الراهبة القديسة (تريزا الأفيلية) وتأثيرها إيجابيا على الروحانيات النسكية للرهبنة الكرمليّة واللآهوت العقائدي في الكنيسة الكاثوليكية عموماً.
• 1615 ميلادية، ترجمة الكتاب المقدس والنصوص الطقسيّة الى اللغة الصينية وانتشار المسيحية السريع في هذه الفترة والتي أوقفتها الاضطهادات القاسية من قبل الأباطرة الصينيين.
• 1776 ميلادية، انطلاق الكنيسة في حملة تبشيرية خارج الحدود الاوروبة في أفريقيا وأمريكا وآسيا وتأسيس مناطق وقرى مسيحية على الإسس الأخلاقية المسيحية. والانتشار السريع للكنيسة في الصين وكوريا واليابان، بالاضافة الى الصحوّة الدينية المسيحية في أمريكا وتأسيس الكنائس والأبرشيات المسيحية فيها ونشوء المنافسة القوية بين البروتستانت والكاثوليك في تبشير السكان الأصليين في الأمريكتين.
• 1784 ميلادية، إهتداء تاجر كوري للمسيحية عندما كان مارا ببكين، ونشره للإيمان المسيحي في بلده بعد رجوعه إليها وتنظيمه جماعة مسيحية اولى تبشر بالمسيحية في عموم كوريا بمساعدة المسيحيين الهاربين من الاضطهاد في الصين.
• 1804 ـ 1860 ميلادية، نشوء نهضة إيمانية أرثوذكسية في القرنين الأخيرين في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بظهور عدد من المفكرين الروحانيين ومن أبرزهم ألكسندر خوياكيف، ويوحنا سرجيوف(1829ـ 1908)، اللذين ركزا على الصلاة وإحياء الطقوس الدينية.
• 1869 ـ 1870 ميلادية، عقد المجمع الفاتيكاني الأول والخروج بنوع من التوضيح العقائدي بخصوص علاقة العقل بالوحي ومحاولة الكنيسة بفتح المجال للدراسات الكتابية والخروج من اللغة التوماوية (توما الأكويني) القديمة في تفسير الايمان والعقيدة والبحوثات العقلية والايمانية وكيفية التآلف بينهما.
• 1799 ـ 1800 ميلادية بدء التحدي الجديد للكنيسة في التوجه نحو العالم الجديد وتبشير الشعوب الهندية الأمريكية هناك. ونشوء حملة إضطهادات من نوع جديد من قبل الثورة في فرنسا التي حاولت تهميش دور الكنيسة وقتل وإبعاد الكهنة والرهبان فيها، والهجوم على روما وأسر البابا بيوس السادس وحجزه الى يوم مماته في السجن.
• 1902 ميلادية، تشريد الكهنة والرهبان في فرنسا بسبب حكم (إميل كومب) وهو طالب أكليريكي سابق، والذي بدأ بغلق جميع المؤسسات الدينية وتحريم الجمعيات الدينية والرهبانية.
• 1905 ميلادية، صدور قانون فصل الدولة عن الكنيسة فصلا نهائيا في جمهورية فرنسا، مع الإعتراف بحرية الضمير والإستيلاء على كل الممتلكات الكنسية وإلغاء جميع المعاهد الدينية.
• 1917 ميلادية، وقوع الكنيسة الأرثوذكسية تحت نير الحكم الشيوعي في روسيا والدول الشرقية الاوروبية وإلغاء دور الكنيسة الارثوذكسية لمدة 70 سنة الى مجىء عهد غورباتشوف في نهاية القرن العشرين وتحرير الكنيسة من السجن الذي كان يُحيطها ويُجرّدها من كل قواها الروحية والرسولية.
• 1926 ميلادية، فصل البابا بيوس الحادي عشر بين الكنيسة والعمل الرسولي والمصالح السياسية وإرسال المندوبين الى مختلف البلدان كرجال للدين وليس كرجال للسياسة.
• 1929 ميلادية، محاولة إصلاح الكنيسة علاقاتها مع الحكومات الاوروبية في القرن التاسع عشر وفشلها في ذلك ووصولها الى حالة من القطيعة مع الدولة الايطالية وتأسيس دولة الفاتيكان التي بدأت بإدارة الكنيسة الكاثوليكية في العالم الى يومنا هذا وجعل الكنيسة في الفاتيكان المركز الدبلوماسي الكاثوليكي العالمي، داعية الى السلام والعدل والمحبة بين شعوب العالم.
• 1948 ميلادية، تأسيس المجلس المسكوني للكنائس العالمي في مدينة أمستردام. والذي كان خطوة جبارة في العمل المسكوني ومن قراراته: الإيمان والنظام والعمل والاعتراف بيسوع المسيح ربا وإلها ومخلصا. وإعتبر تأييد(مجمع إنتشار الإيمان) الكاثوليكي بهذا العمل بكونه خطوة رائعة وعمل إيماني مُثمر نحو الوحدة والتقارب بين الكنائس العالمية.
• 1962 ميلادية، حضور معظم المطارنة والأساقفة والكرادلة في العالم والبالغ عددهم 2800 مطرانا وكاردينالا، في تجمّع كاثوليكي مسيحي، للتكيّف مع العالم ومع أفكاره الجديدة وخلق الحوار المسكوني مع الكنائس والأديان والعودة الى ينابيع الكتاب المقدس والى الجذور المسيحية الأصيلة في ما يُسمى بالمجمع الفاتيكاني الثاني.
• 1967 ميلادية، احتفال في الطقوس الدينية باللغات المحلية كخطوة أولى في التطبيق العملي لقرارات المجمع الفاتيكاني الثاني وخلق نوع من التآخي بين الكنائس الشقيقة والأديان العالمية والثقافات المختلفة بالحوار معهم وبالابتعاد عن روح الإتهام والتجريح، والإعتذار عن الماضي وعن الأخطاء المُرتكبة من قبل الكنيسة ورجالاتها عبر القرون الماضية. ولقاء البابا مع الشخصيات الدينية التاريخية مثل بطريرك القسطنطينية وبابا الأقباط ورئيس أساقفة كانتربري وقادة الأديان الأخرى.
وشهدت الكنيسة في نهاية القرن العشرين تطوّرات عظيمة في العلاقات الدبلوماسية مع دول العالم، مع تبوء الكرسي البابوي في الفاتيكان، عددا من البابوات الكبار المشهود لهم في دعوتهم الى تجديد الكنيسة من الداخل، وخلق روح التآخي والتقارب والحوار بين الشعوب والأديان ودعواتهم المتكرّرة الى نشر السلام والعدالة والأخلاق الحميدة بين الشعوب.

أساسيات الايمان المسيحي
يتكلم الكتاب المقدس عن خلق الله للإنسان خلقا حرا، بتصميم وعبقرية لا مثيل لهما. ولا يزال العلم يتعجب من عظمة خلق الله للإنسان. وحاول الانسان بدوره الاتصال بالله منذ القدم ولكن بطرق مختلفة. واستمر الانسان في رغبته لمعرفة الله لكي يحيا ويجد الحقيقة ويتمتع بالسعادة التي ما فتىء يسعى إليها. وأخفق الانسان في معرفة الله عن طريق الطبيعة والمخلوقات فجرب عن طريق العقل وحده ولكنه أخفق أيضا. ولذلك إحتاج الى الوحي الالهي الذي أنار عقله وقلبه وفتح له الآفاق الواسعة للدخول الى سر الله. والله بفرط صلاحه وحكمته أوحى الى الانسان بذاته وكشف له بالاحداث والاقوال والاعاجيب عن ذاته وعن قصده. وكانت البداية في دعوة الله الى ابراهيم للخروج من أرضه وبجعله أبا لشعوب كثيرة وإعطائه الوعد بأنه سوف تتبارك به جميع عشائر الارض كما جاء في سفر التكوين 12 / 3 . وإختار الله ابراهيم ونسله لكي يكون المؤتمن على الوعود الالهية المقطوعة للأجداد. وأنشأ الله شعبا خاصا تعين من قبل الله للمحافظة على العهد الالهي معه. وأعطى الله الشريعة عن طريق النبي موسى بعد أن أنقذ شعبه من عبودية مصر. وأقام الله أنبياءً عديدين للمحافظة على ذلك العهد المبرم. وبشر الانبياء في كل فرصة ومناسبة عن المخلص والفادي الذي سيأتي ليخلص الجميع من خطاياهم وليؤسس عهدا أبديا مع البشر.
وتم العهد الابدي مع المسيح الكلمة المتجسد، الذي صار إنسانا وتألم وصلب ومات ولكنه قام في اليوم الثالث منتصرا على الموت. وقد جاء في الكتاب المقدس في هذا الخصوص: أنه لما بلغ ملء الزمان، أرسل ابنه الوحيد فاديا ومخلصا للجميع من خطاياهم ولكي يدعوهم الى كنيسته ويمنحهم أن يكونوا أبناءه بالتبني ويرثوا السعادة الابدية وليبشر بقرب مجىء ملكوت الله. ويشرح الكتاب المقدس تدخل الله في الزمن الاواخري من خلال الاقنوم الثاني (كلمة الله)، يسوع الذي تجسد في مريم العذراء وحبل به بقوة الروح القدس ودعي اسمه عمانوئيل(الله معنا). وتتفق الاناجيل أن المسيح ولد في مدينة بيت لحم اليهودية. وترعرع وإمتلأ من الحكمة والقامة والحضوة عند الله والناس. وكان طائعا لوالديه المُقيمين في الناصرة الى أن أصبح ناضجا في الثلاثين من عمره. وتجمع الاناجيل أنه لما إعتمد يسوع حلّ عليه الروح القدس وقت خروجه من الماء كشهادة تأييد سماوية لينطلق برسالته، أو كتفويض إلهي للبدء برسالته الالهية ولتأسيس ملكوت الله على الارض. ولكن قبل البدء برسالته، إتجه الى البرية لكي يصوم لمدة أربعين يوما واربعين ليلة، وبعد أن أنهى صومه جُرب من قبل الشيطان، مما يثبت على أنه إنسان حقيقي جاء ليختبر كل شىء وليمرّ بكل الاهوال التي تعرّض لها الانسان بسبب الشر. ولكنه شابهنا في كل شىء فيما عدا الخطيئة. ففي التجارب التي واجهها المسيح، رفض كل المغريات المادية والدنيوية، ورفض السلطة الدنيوية، وبيّن أن مملكته ليست من هذا العالم. ولم يقبل عرض السيادة على العالم مقابل السجود للشيطان، ولم يستخدم قواه الروحية بطريقة سحرية لكي يشبع جسده المنهك من الجوع كما طلب منه الشيطان. فخرج المسيح من التجارب منتصرا لكي يُعيد للإنسان كرامته بعد فشله في التجارب الاولى في الفردوس وطرده منها نتيجة لذلك. وكرس المسيح جلّ وقته للتعليم وعمل المعجزات في القرى والمدن، من خلال الخطب والامثال والمعجزات على حقيقة جوهرية واحدة ألا وهي: حلول ملكوت الله مع المسيح كزرع سري ينمو بصورة سرية أو كخميرة في العجين يخمر العجين كله.
وكشف المسيح عن شخصيته تدريجيا من خلال حياته لأنه لم يكن سهلا معرفة وفهم شخصيته وسره الالهي الذي جاء لينير العالم بنور الحق والذي وكل اليه أن يتمه بأقواله وأعماله وآياته ومعجزاته وموته. وكشف يسوع كذلك إرادة الله الآب ومشيئته الربانية التي أعطى لها الاولوية في كل شىء حتى في موته على الصليب عندما قال: لتكن مشيئتك لا مشيئتي. وبالرغم من ذلك تعرض المسيح الى التساؤل حول هويته إذ ظن البعض أنه يوحنا المعمدان والبعض الآخر انه النبي إيليا والبعض انه أحد من الانبياء، ولكن بطرس أصاب في جوابه عندما قال: ((أنت المسيح ابن الله الحيّ)). فانطلق المسيح في رسالته التبشيرية لتوضيح هذه العقيدة(ابن الله الحيّ) ولتأسيس كنيسته على هذا المفهوم الذي أشار اليه كالصخرة التي لا تتزعزع. فأجاب بطرس قائلا: ((أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها)). وكان المسيح في معظم خطاباته وأمثاله، يقود مستمعيه الى هذا السر العميق والى كيفية قبوله. وكان يستدعي من تابعيه موقفا واضحاً: من ليس معي فهو ضدي وعلى الذين يتبعونني أن يعطوا لي الأولوية المطلقة في الحياة وأن يحملوا صليبي ويتبعونني وأن يتركوا كل شىء ويتبعونني. وكان يعتبر هذا النوع من التباعة، ضربا من الجنون أو التجديف لدى اليهود، لأن اليهودية كانت تخلط الدنيويات بالروحانيات، وأما يسوع فإنه ميّز وبصورة واضحة بين طريقه وطريق العالم، وبين من يتبعه وبين من يتبع العالم، كما جاء في انجيل متى قائلا: ((من كان أبوه أو أمه أحب إليه مني، فليس أهلا لي. ومن لم يحمل صليبه ويتبعني، فليس أهلا لي. من حفظ حياته يفقدها، ومن فقد حياته في سبيلي يحفظها)) 10 / 37 – 39. ومن هذا يتبين خط المسيحية الذي يدعو الى تكوين العلاقة الشخصية بين التابع والمسيح يسوع المخلص. وعلى الأتباع أن يكونوا على مثاله وأن يأخذوه نموذجا وقدوة إذ عليهم بالرحمة من دون حدود والغفران 77 مرة سبع مرات في اليوم الواحد، وأن لا يكون تصرفهم تجاه الذين يحبونهم فقط بل تجاه أعدائهم أيضا (متي 5 / 43 – 45 ).
وأكد المسيح في رسالته على ضرورة المعمودية للخلاص فهي سر الايمان الذي ينمو ويتطور. والعماد بحاجة الى أن يتطور للدخول الى الحياة الالهية بكل غناها لأنه به يصير كل من يعتمد أبناً لله أو بنتا لله ومدعوا الى الكمال. وإن ما تؤتيه المعمودية من ثمار متنوعة ترمز اليه العناصر الحسيّة المستعملة في شعائر هذا السر. فالتغطيس في الماء يستلهم رموز الموت والتنقية من الخطايا كما يستلهم أيضا الولادة الجديدة في الروح القدس (التعليم المسيحي الجديد 1262 ص 386 ). ويستطيع المُعمّد ان يقبل جسد المسيح ودمه التي هي وليمة عشاء مقدس يمارسه المسيحيون كل يوم ولاسيما في أيام الآحاد والاعياد وذلك لتجديد ذكرى العشاء الرباني المقدس للمسيح مع تلاميذه في يوم الفصح المجيد قبل صلبه. وشهد الرسل والمسيحيون الاوائل على ذلك، ولم يبخلوا حتى بدمائهم من أجل نشر الكلمة ومعرفة المسيح يسوع الذي يجب أن يبشر به في جميع الشعوب، متممين قول معلمهم:((اذهبوا وتلمذوا كل الامم وعمذوهم بإسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به، وها أنا معكم طوال الأيام، الى إنقضاء الدهر)) انجيل متى 28 / 19 ـ 20.
فالمسيحية إحتاجت منذ نشوئها الى تضحيات جسيمة، إذ قدم معلمها ومؤسسها حياته ثمنا لها كما فعل معظم الرسل والتلاميذ الذين لم يكن لديهم أثمن من حياتهم، ولم يبخلوا بها في سبيل نشوئها وتطورها وانتشارها في العالم كله. ولا عجب فهي من أكبر الاديان قاطبة من حيث عدد الاتباع، ولا تزال من أكثر الاديان إنتشارا من حيث عدد المهتدين كل سنة. ولا يوجد اليوم بلد في العالم لا يحتوي على جماعة مسيحية مؤمنة.
العقائد المسيحية
الايمان هو أعظم موهبة مُنحت للبشر، وهو ليس شيئا شخصيا يحتفظ به المرء لنفسه، ولا هو اختبار عقليّ وليد التجربة والبرهان. وإنما هو الثقة المطلقة في الشخص الذي نؤمن به في كل الأحوال والظروف ومن دون أدنى شك. والإستسلام المُطلق له بالرغم من توافقه مع العقل أو عدم توافقه. فهو إذا الإختبار المُباشر والداخلي الذي لا يحتاج الى إثبات ولا الى برهان.
هذه بعض الشواهد الإيمانية والعقائدية المشتركة بين معظم الطوائف المسيحية:
• يؤمن المسيحيون بإله واحد وهو إيمان يُعاش عمليا وليس إيمان يُقال ويُردد نظريا. وهو نوع من الرفض للآلهة الوثنية وتأليهها ورفض تأدية أية عبادة لها أو أي إحترام لقواها الثلاث، التي هي الخبز والجنس والسلطة.
• تؤمن المسيحية بأن الله قادر وحكيم وقدوس وعادل، وهو سيّد الكون والأشياء كلها والأشخاص جميعها، والإله الصباؤوت. وهو في الوقت نفسه ينبوع دائم التجدّد، الذي لا نهاية لمحبته في وحدة الثالوث المقدس(الآب والابن والروح القدس).
• تؤمن المسيحية بأن المغامرة الإيمانية الاولى للبشر بالله بدأت مع ابراهيم حوالي 1850 ق.م، وتجسّدت المغامرة مع موسى النبي وشعب اسرائيل حوالي 1270 ق.م، وذلك في خروج شعب اسرائيل من مصر العبودية الى حرية الايمان في أرض الميعاد(كنعان). وتوسع مفهوم المغامرة الايمانية ليشمل كل البشر بعد صلب الكلمة المتجسد، يسوع المسيح الذي يقود العالم الى خروج جديد من عبودية الخطيئة الى حرية النعمة.
• يؤمن المسيحيون أن المسيح هو كامل في كل شىء في حياته على الأرض، وأنه جاء الى الأرض ليُعلم الناس خطة الله، فعلى الناس أن يقبلوه أو لا يقبلوه وهو يعرض عليهم شخصه قبل أن يعرض تعاليمه وعقائده.
• تؤمن المسيحية بأن المسيح مات على الصليب من أجل خطايا العالم وأن حُب الله فاض على العالم بشخص يسوع وأن الله يغفر خطايا كل شخص يتوب ويرغب أن يكون له أو لها بداية جديدة لحياته أو حياتها، ومن هنا يأتي التعبير المسيحي(الولادة الجديدة)، وهي الولادة الثانية أو الولادة الروحية، إذ يولد المرء طبيعيا من والدته(الولادة الاولى) ويولد ثانية ولادة روحية في المسيح يسوع (الولادة الثانية).
• تؤمن المسيحية، بأن الأنسان لا يستطيع العيش إلا بالأيمان الذي يرتبط بالرجاء والتاريخ والمحبة والحياة الأخلاقية. وأن المسيح إنما جاء لكي يُحرّر الإنسان من قيود الخطيئة ومن قيود الشريعة وثقلها وتفاصيلها الدقيقة، لأن الشريعة تدفعه الى العمل الصالح الذي لا يستطيع أن يقوم به. وجاءت المسيحية بالنعمة لتحل محل الشريعة، ولكي تجعل كل من يؤمن بها تحت النعمة الآلهية وليس تحت الشريعة الآلهية (الموسوية).
• تؤمن المسيحية، بيسوع المسيح ربا وإلها، وتوحد بين الأسم يسوع وبين اللقب المسيح. واللقب هو جزء من اسم العلم الذي يدل على رجل الناصرة. وأما الأسم (يسوع) فيعني (المخلص) ويدل على الوظيفة وعلى الشخصية، ويستحيل الفصل والتمييز بينهما لكون الوظيفة هي الشخص والشخص هو الوظيفة.
• تؤمن المسيحية، أن الخلود ليس فقط من خلال الآخرين كالأولاد مثلا، إذ يؤكد البعض بقاءهم وديمومتهم في الحياة من خلال نسلهم وممتلكاتهم الأرضية فقط.
• تؤمن المسيحية بالفرح والسعادة وبمشاركة الله في حياة الانسان وإعطائه دورا مهمّا في تكملة مسيرة الخلق والإبداع. وهم(المسيحييون) مدعوون لممارسة الصوم والتقشف من أجل الوصول الى تمام الفرح والسعادة والسلام الداخلي.
• تؤمن المسيحية، أن الإنسان لا يستطيع أن يخلص بطاعته للشريعة وحفظها وممارستها ولكن بالإتكال على المسيح والإيمان به وبالتضحية والمحبة، لأن الإيمان يظهر في المحبة وعندما تفحص محبتك فإنك تفحص إيمانك.
• تؤمن المسيحية، أن الزواج والعزوبة موهبتان من الله وكلاهما لهما مكانتهما في إتمام مقاصد الله. والزواج أوجده الله كوسيلة لتوفير الرفقة والتناسل وهو خير من التحرّق بالشهوة. وأما الجنس فهو عنصر جميل وضروري في الزواج ويكون إساءة الى الله والى قداسة الزواج عندما يُمارس خارج الزواج. وعلى الأزواج والزوجات ألا يمتنع أحدهما عن الآخر.
• تؤمن المسيحية أن الموت ليس نهاية كل شىء بل هو مدخل الى الحياة الأبدية التي هي عطية مجانية من الله في يسوع المسيح الذي به يكون الخلاص من الخطيئة.
• تؤمن المسيحية، أن الصلاة هي في ذاتها حديث مع الله وهي جوهر الإيمان المسيحي، فعلى المسيحي أن يُصلي كل حين من دون أن ييأس أو يملّ. وكما أن الجسد يتنفس بالهواء هكذا النفس تتنفس بمراحم الله من خلال الصلاة، لأن الله نبع لا ينضب للماء الحيّ وما على المؤمن إلا أن يمد وعائه ويأخذ منه على قدر ما يريد.
وتتفق المسيحية منذ بدايتها على قانون للأيمان المسيحي الموّحد( قانون الرسل) والذي تقبل به معظم الكنائس المسيحية. وقد طوّر هذا القانون إلى أن إتفق الجميع على الصيغة النهائية له في سنة 325 ميلادية في مدينة نيقية في تركيا مع تعديلات طفيفة في المجامع المسكونية الاخرى. وتعتبر صيغة نيقية للقانون الايماني، الصيغة المُستعملة من قبل معظم الكنائس (الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية والكنيسة المشرقية الآشورية مع الكنائس البروتستنتية والانجيلية)، ويُسمى بقانون إيمان الرسل وهذا نصه.
نؤمن بإله واحد/ الآب الضابط الكل/ وخالق السماء والارض/ وكل ما يرى وما لا يرى/ وبرب واحد يسوع المسيح/ إبن الله الوحيد/ المولود من الآب قبل كل الدهور/ إله من إله / نور من نور/ إله حق من إله حق / مولود غير مخلوق / مساو للآب في الجوهر/ الذي على يده صار كل شىء/ الذي من أجلنا نحن البشر / ومن أجل خلاصنا نزل من السماء / وتجسّد من الروح القدس / من مريم العذراء / وصار إنسانا / وصلب عوضنا في عهد بيلاطس البنطي / تألم ومات / ودفن وقام في اليوم الثالث كما في الكتب / وصعد إلى السماء / وجلس عن يمين الله الآب / وأيضا سياتي بمجده العظيم / ليُدين الأحياء والأموات/ الذي ليس لملكه انقضاء / ونؤمن بروح القدس الرب المحيّ / المنبثق من الآب والأبن / ومع الآب والأبن / يُسجد له ويُمجد الناطق بالأنبياء/ وبكنيسة واحدة / جامعة / مقدسة / رسولية / نقرّ ونعترف بمعمودية واحدة / لمغفرة الخطايا / وننتظر قيامة الموتى / وحياة جديدة في العالم العتيد، آمين.
وهذا هو بإختصار ما يؤمن به المسيحيون ويُعلنوه منذ القرن الرابع الميلادي:
• الايمان بالله الواحد الآب الضابط الكل.
• الايمان بالله خالق السماء والأرض.
• الايمان بيسوع المسيح ابن الله الوحيد.
• الايمان بالروح القدس.
• الايمان بالثالوث الأقدس.
• الايمان بالكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية.
• الاعتراف بالمعمودية والأسرار المقدسة.
• الرجاء في قيامة الموتى والحياة الجديدة في الدهر الآتي.
فالايمان المسيحي بحسب معظم آباء الكنيسة والعلماء البروتستانت والانجيليين ليس مجرّد صيغ ومعتقدات وتعابير طقسيّة جامدة، ولا هو نظريات علميّة نتعلمها عن ظهر القلب في طفولتنا. وإنما هو العلاقة الحميمة بين الله والانسان وذلك بأقوال صادقة لا غش فيها. وهو نعمة مجانية يقدمها الله للبشر من فيض حُبّه وسخائه. وأن يحيا البشر حسب منطق هذا الايمان على أن يُجسّدوه في حياتهم اليومية بأصالة وعمق وتواضع.
وعهد الله وديعة الايمان الى مجمل كنيسته التي هي شعبه الجديد، فهي المؤتمنة على الوعد الالهي الجديد والمسؤولة على المحافظة عليه بدعم من الروح القدس المرشد والمدافع عن ايمانها لكي تبقى حيّة ومُتجددة بسلطتها التعليمية وشعبها المؤمن الذين يشتركون في خدمة كلمة الله بحسب مواهبهم الروحية، فمنهم الاساقفة والكهنة والشمامسة والعلمانيين.
وتطورت فكرة الايمان لدى المسيحيين بمرور الزمن ومن دون أن تخرج من نطاق الكتاب المقدس الذي أكد على أن الله تكلم مع البشر من خلال ابراهيم والانبياء الآخرون، ولكنه في المسيحية أتى الله لملاقاة البشر بكشف ذاته لهم وبطريقة بشرية عن طريق المسيح يسوع ابن مريم الذي كان له في كل اعماله، بُعد الهي وبُعد بشري. فأقواله هي أقوال الله الآب وكذلك أعماله هي أعمال الله المقيم فيه، فمن رأه قد رأى الله الآب.
على أن قبول أفكار يسوع وتطبيق نصائحه تؤدي الى التغيير الشامل في الانسان والمجتمع والى تجنب الحروب والويلات. فالعلاقة مع يسوع المسيح تغيّر الحياة، إذ يستطيع العالم عن جهل بحقيقة المسيحية أن يهزأ بالمسيحية، ويستطيع أن يسخر منها، لكنه لا يستطيع نكران قوتها في تغيير حياة الناس كما قال بعض الذين اهتدوا الى المسيحية وإعترفوا بتغيير جذري حصل في حياتهم بعد الايمان بيسوع المسيح وقبوله مخلصاً وحيدا. إذ بمجرد وضع الثقة في المسيح واتخاذه مُخلصاً وفاديا فإن الانسان يُغير حياته رأسا على عقب. ويوجه المسيح دعوة مفتوحة للجميع لقبوله فاديا ومخلصا، والمبادرة الاولى تأتي منه كما جاء في سفر الرؤيا قائلا:((ها أنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه)) رؤيا 20:3.
ينعم الفرد بقبوله ليسوع بحياة أفضل بكثير مما كانت له، وما يحتاجه الانسان هو الايمان به والعمل بحسب وصاياه بفعل سماع الكلمة والتأمل فيها والصلاة بصورة يومية. وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضا على الجماعة وعلى الشعوب أيضا، إذ أن الجماعات التي قبلت المسيح تاريخيا تغيرت الى حالة أسمى بكثير مما كانت عليه، والشواهد على ذلك الشعوب الاسكندنافية التي كانت جماعات بربرية وقراصنة وقطاع طرق، ولكنها تمدنت وإرتقت بمجرد قبولها للإيمان المسيحي وشعوب أخرى كثيرة سواء في آسيا أو أمريكا أو أفريقيا، لأن السمو المسيحي والاخلاق المسيحية تشهد لها المدارس والجامعات المسيحية والمستشفيات المسيحية المختلفة، وكذلك خدمة رهبانها وراهباتها ومؤمنيها وتضحياتهم الكثيرة من أجل مساعدة القريب المحتاج. فالسمو والارتقاء بالفرد والشعوب هو الخروج من الشريعة الطبيعية الى المثل السامية التي تدعو اليها المسيحية والتغيير من خلائق الله الى ابناء الله، والتغيير من الشريعة بصيغتها السلبية أو الطفولية الى الشريعة بصيغتها الايجابية والتي تخاطب الناضجين. ولعلك تسأل ماذا عن الحروب التي تمت بإسم المسيح والحروب التي اشتعلت بين الشعوب المسيحية انفسها التي حاربت بعضها البعض ولسنين طويلة؟. أقولها وبصراحة شديدة وبحسب الاثباتات التاريخية، أن الحروب التي قامت في اوروبا وغيرها من الدول، لم تكن يوما من أجل المسيح والمسيحية، لأن المسيح لم يكن دافعها، والكتاب المقدس لم يدعو اليها يوما، وحتى الحروب الصليبية لم تكن سوى حروب سياسية اقتصادية تمت بإسم المسيح لا أكثر ولا أقل.
القربان المقدس (الافخارستيا)
يجد الانسان المسيحي(بحسب آباء الكنيسة) بنوّته في الأفخارستية(القربان المقدس)، وهو من أعظم الأسرار، إذ أنه فرح الفصح الذي يكمل في أحضان الكنيسة المقدسة. وهو تذكير حيّ لما قام به المسيح في العشاء الأخير. كما جاء في انجيل لوقا:((أخذ خبزا شكر وكسر، وأعطاهم قائلا، هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم، إفعلوا هذا لذكري)) لوقا 22/ 19. وكذلك في انجيل يوحنا:((هذا هو حمل الله الذي يزيل خطيئة العالم)) يو 1/29.
ويقوم يوحنا بشرح السرّ في انجيله تفصيليّا، ويُعطى له بُعدا تاريخيا في العهد القديم، إذ يقول:((الحق الحق أقول لكم، إن موسى لم يُعطكم خبزاً من السماء، وإنما أبي هو الذي يُعطيكم ألآن خبز السماء الحقيقي. فخبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة جديدة للعالم. قالوا له: يا سيد، أعطنا في كل حين هذا الخبز. فأجابهم يسوع: أنا هو خبز الحياة. فالذي يقبل إليّ لا يجوع، والذي يؤمن بي لا يعطش أبدا)) يو 6/ 32ـ 36 .
ومن الممكن إعتبار هذا السرّ(العلامة)، جوهر الحياة المسيحية (الكاثوليكية والأرثوذكسية والكنائس الشرقية وبعض الكنائس البروتستنتية) وهي من أهم العلامات المسيحية، إذ تقول الكنيسة في(التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية) منشورات المكتبة البولسية ـ جونيه ـ لبنان سنة 1999 المقال الثالث 1322: ((الأفخارستيا المقدسة تختتم مرحلة التنشئة المسيحية. فالذين أُكرموا بالكهنوت الملكي بالمعمودية، وتصوّروا، بالتثبيت، بصورة المسيح بوجه أعمق، يشتركون مع كل الجماعة، في ذبيحة السيد نفسه، بواسطة الافخارستيا)). ويسمى السر بالافخارستيا وهي كلمة يونانية تعني(أداء الشكر لله)، وقد تُدعى (كسر الخبز)، إذ كما فعل يسوع في العشاء الأخير يفعل تلاميذه وكهنته ويُعيدون ذكره. أو قد تُسمى الذبيحة المقدسة: لأن الأفخارستية في العهد الجديد تفوق كل الذبائح في العهد القديم أو تسمى بالقداس: لانها ذبيحة حيّة ومقدسة وصادقة يتم فيها سرّ الخلاص الحقيقي لكل البشر. أو قد تسمى بالشركة: لاننا بهذا التجمّع الليتورجي، نتحد بالمسيح وهو يتحد بنا بتناولنا جسده ودمه في ذبيحة القربان المقدس. فالحدث إذا ليس حدثا تأريخيا فقط، وإنما هو حدث دائم التجديد للمسيح القائم من بين الأموات. وهدف يسوع من إعطاء جسده ودمه قربانا على الصليب وعلى المذبح(ذبيحة مقدسة)، ليس هو تحويل الخبز والخمر الى جسده ودمه، بل بالأحرى هو تحويل قلوبنا وجماعاتنا شخصيّا الى(جسده). فالمسيحي، يؤمن حقا أن القربان هو جسد المسيح الحيّ، فعليه أن يشترك في الذبيحة الآلهيّة(القداس) ويشارك في تناوله لكي يُصبح متحداً معه. وعليه أن يحترم هذا الجسد ويُقدسّه وأن يتأمل فيه. فهو مصدر للقداسة والتقرّب الى الله، سواء كان من خلال الساعة المقدسة أم من خلال الزيارات الشخصيّة للقربان المقدس الموجود في بيت القربان أم من خلال التأملات الفردية والجماعية في هذه المناسبة المقدسة لدى الكاثوليك والمذاهب الاخرى.
الصلب
كلما زادت شهرة يسوع في اورشليم، كلما إشتدت مقاومة السلطات الدينية له. ولربما كان دخول يسوع في الهيكل وقلبه للموائد وضربه الصرّافين، السبب المُباشر الذي أدى بالسلطات اليهودية الى أخذ الموقف الصارم ضده. إذ أن الهيكل كان مركزاً إقتصادياًً مهمّاً بالنسبة الى التجار والكهنة والفريسيين الذين كانوا يأخذون حصتهم من التجارة في الهيكل.
وكان دخول يسوع الهيكل لآخر مرة راكبا اتاناً، يعدّ عملا مسيحانيّا رمزيا بحسّب التقاليد اليهودية، وذلك في أهم موسم من مواسم الأعياد اليهودية وهو عيد الفصح. وكان مؤيدو يسوع قد رتبّوا الفصح في الغرفة العليّة له ولتلاميذه، فيما يُدعى اليوم بالعشاء الأخير. وهناك في العليّة أسس يسوع العهد الجديد الذي يُدعى عهد الافخارستية(القربان المُقدس) بمشاركة تلاميذه، حينما أخذ الخبز وبارك وقال لهم:((هذا هو جسدي))، ثم أخذ كأس الخمر وقال لهم: ((هذا هو دمي)). ثم قال لهم:(( إفعلوا هذا لذكري)). وكانت الأفخارستية منذ القرن المسيحي الأول، الرمز الأعظم لذبيحة الصليب في المسيحية والى يومنا هذا، يعُاد ذكرها عند غالبية الكنائس المسيحية وهي ذبيحة غير دموية يحتفل بها الكاهن أو المطران مع الشعب المُؤمن كل يوم.
شكل يسوع خطرا كبيرا على قادة اليهود، إذ كان عمله التخريبي في الهيكل بنظرهم، دليلا كافيا على أنه يشتهي القيادة السياسية للشعب، وخطاباته التي أعلنها أمام الملأ بدنو حكم الله، كانت تتضمن رسالة سياسيّة عميقة ومُخيفة بالنسبة إليهم. وشكل طرد الباعة والصّرافين من الهيكل تهديداً مُباشراً لهم وللأيمان اليهودي الذي يُمثلونه، لأن الهيكل كان يرمز الى الأيمان اليهودي بكامله وكذلك الى السلطة الدينية التي تديره.
والخطر الثاني الذي كان يُشكله يسوع بالنسبة الى الكهنة والفريسين هو الأعلان عن كون الله هو الآب للجميع وهو قريب في وسط شعبه وليس بعيداً كما كانوا يُصوّرونه. وبهذا المفهوم يكون بإستطاعة كل يهودي التقرّب من الله مباشرة. وهذا ما يجعل الشعب في المستوى نفسه مع الكهنة والفريسيّين، من دون وجود طبقات أو درجات، ولا ننسى ما يُشكل فقدان هذه السيطرة على الشعوب من هلع وخوف على الكراسي وعلى المصالح الاقتصادية بالنسبة الى رجال الدين آنذاك.
والخطر الثالث الذي كان يُشكله يسوع بالنسبة الى الكهنة والفريسيّين هو أن الشعب كان مُعجَبا بشخصيّته وتعاليمه وعجائبه التي كان يصنعها حتى في الهيكل أمام مسمع ومرأى من القادة والمسؤولين الدينيّين، ولاسيّما قصة الأعمى منذ مولده الذي شفاه يسوع. وكان الحدث مثل الصاعقة على رؤوس الكهنة والفريسيّن، الذين أجروا محكمة على الأعمى وعلى أهله وأرادوا تكذيب الخبر بالقوّة والتزوير ولكنهم لم ينجحوا في مؤامرتهم.
وعلى أي حال، لم تكن كل هذه الأسباب تعني شيئا بالنسبة الى الحاكم الروماني (بيلاطس البنطي) والسلطات الرومانية الأخرى التي لم تكن تهتم كثيرا بالصراعات الدينية داخل المُجتمع اليهودي. وكانت التهمة الثلاثية التي ألصقوها بيسوع، تحريض الشعب ضد الرومان ومنعهم من دفع الضرائب وإعلان نفسه ملكاً لليهود، كانت هذه التهم كافية على إدانته وصلبه بالنسبة الى الرومان.
وبالرغم من أن يسوع لم يكن يهتم بتأسيس دولة سياسيّة ولكن تعاليمه الروحية عن الله وحكمه وملكوته على الأرض شكلت تحديّاً صارخا بالنسبة الى المؤسسة اليهودية التقليدية وممارساتها السلطويّة اليومية. وكان يسوع قد إتخذ طريقا خطراً لم يكن من السهل الرجوع عنه بسبب وضوح الهدف الذي كان يرمي إليه ألا وهو خلاص البشر جميعا من دون إستثناء.
فكان لابد من التخلص منه بأية وسيلة كانت، حيث أدين وعلق على خشبة الصليب، وكانت هذه الطريقة الرومانية المعروفة في إعدام الأشرار والمُجرمين والثورييّن والخارجين عن القانون.
ولربما يتبادر الى الذهن هذا السؤال؟ أما كان بالإمكان أن يفتدي يسوع البشر بكلمة واحدة أو بفعل سجود بسيط بإسم البشرية جمعاء، من دون أن يُقاسي الآلام الفادحة والأهانات القاسيّة. والجواب لهذا السؤال، يكمن في كوّن البشر لا يتأثرون إلا بما يقع تحت الحواس، لكونهم بشرا من لحم ودم تحكمهم الأحاسيس والمشاعر البشرية.
فكان لابد من الموت بهذه الطريقة المؤلمة بسبب فظاعة الخطيئة التي استوجبت التجسّد والموت على الصليب ثمنا للمُصالحة مع البشر الخاطىء، وإلا لما كان للتضحية من معنىً يُذكر، ولا للموت حُبا بالآخرين من هدف يبتغيه الأنبياء والسياسيّون والثوريّون من أجل أديانهم وأوطانهم وشعوبهم من دلالة لها إعتبار.
القيامة
عُلق يسوع على الصليب حتى الموت كما جاء في الأناجيل، وكان على أحد تلاميذ يسوع أن يشتري جسده من الرومان ليسمحوا بدفنه. فوضع جسده في كهف وغطى فوهة الكهف بحجر دائري كبير يشبه حجر الرحى. وحدث هذا يوم الجمعة قبل أن يقبل السبت، وبقي يسوع في القبر الى يوم الأحد، فعندما ذهبت النسوة بحسب عادة اليهود في اليوم الثالث ليطيّبن جسده، وفي غداة يوم الأحد وجدنَ القبر فارغاً، ثم بشّرنَ بطرس وإخوته(التلاميذ) أن يسوع ليس في القبر. وكان القبر فارغاً، والكفن والمنديل، ملقيان في الداخل. عندئذ فقط، خطرت ببالهما (بطرس ويوحنا) الكلمات التي تنبأ بها يسوع عن قيامته في اليوم الثالث وإنتصاره على الموت. وعندما ظهر لهم وهم مجتمعون، أزال شكوكهم وأوهامهم التي لازمتهم وقال لهم كلماته الأخيرة:((اني قد أُعطيت كل سلطان في السماء والأرض. اذهبوا الآن، وتلمذوا كل الأمم، مُعمّدين أياهم بإسم الآب والأبن والروح القدس، وعلمّوهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل يوم الى منتهى الأجيال)) متى 28/ 18ـ 20.
كانت قيامة المسيح حدثاً تاريخياً راهناً، بل حدثاً ظاهراً في العلن. الحدث الذي لا مثيل له في التاريخ الإنساني، إذ كيف يُسيطر الموت على من صرّح علانية أنه الطريق والحق والحياة، وكان لا بدّ لمن هو الحياة أن ينتصر على الموت بالحياة، لأن الناس لا يعبدون ميّتا يظل في قبضة الموت، ولا يمكن أن يموتوا من أجله إذا إقتضى الأمر بالشهادة في سبيله كما حدث لمعظم الرسل حيث إستشهدوا وختموا بشارتهم الأنجيلية بدمائهم، وغيرهم كثير من المسيحيين الذين كانوا مستعدّين للموت في سبيل معلمهم القائم من بين الأموات:((فأين نصرك يا موت وأين يا موت شوكتك؟ إن شوكة الموت هي الخطيئة وقوة الخطيئة هي الشريعة، فالشكر لله الذي أتانا النصر على يد ربنا يسوع المسيح)) كورنثوس الاولى 15/ 55ـ 57.
فالقيامة إذن هي بيان صدق رسالة يسوع ورفعه الى المجد وكشفه عن ذاته وقدرته على الموت والحياة. لأن موته على الصليب كان يبدو لأول وهلة وكأنه دليل على أن الله أباه قد أهمله ولكن في القيامة أظهر الله صدق رسالة إبنه يسوع عندما أقامه من الموت.
نستنتج من كل ما تقدم أن قيامة المسيح أصبحت مصدرا لحياة الله في شعبه وفي العقائد المسيحية والأسرار والطقوس. ولولاها لما كانت المسيحية نفسها ولما كانت الشهادة من أجلها رمزا للبطولة والفداء في أوساط المسيحيين الأوائل. ولا تزال الشهادة جزءاً مهماً من التبشير بالمسيحية الى يومنا هذا، إذ لا يزال يستشهد في سبيلها كل يوم عشرات المُبشرين في كل أصقاع العالم. وأصبح المؤمن شجاعا لا يهاب الموت بعد أن تأكد أن معلمه يسوع هو صاحب السلطان على الموت وأنه بقيامته كسر شوكة الموت وغلب الجحيم وصار الموت بالنسبة الى المؤمنين، إنتقالا من الحياة الأرضية الزمنية الى الحياة الأبدية.
وأصبحت القيامة منذ اليوم الاول من إنتشار المسيحية، عيدا تحتفل به المسيحية كل سنة طقسيّة، وهو عيد الغلبة والنصر على الخطيئة، وعيد انتصار الخير على الشر والحُب على البغض والحياة على الموت. وأصبح المسيحيون يتبادلون التحيّة الجديدة(المسيح قام ... حقا قام)... تحية لطيفة... تحية الاخوّة الحقة، تنبض بالمحبة والتسامح والسلام.
الصلاة
من الممكن إعتبار الصلاة الشخصيّة شيئا مشتركا بين جميع الكنائس المسيحية وهي خلق نوع من الصداقة الحميمة مع الله، بين الأبن وأبيه وبين الخالق والخليقة. وإن المسيح نفسه أوصى بهذا النوع من الصلاة في البيت بعيدا عن التظاهر والتباهي:((إذا صليتم فلا تكونوا كالمرائين فإنهم يحبّون القيام في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم)) متى6/ 5ـ 6.
فالصلاة الفردية هي مهمّة ومفيدة للمؤمن المسيحي، وأما الصلاة الجماعية في الكنيسة فهي واجبة أيام الآحاد والأعياد في جميع الكنائس المسيحية. وهي تعبير صادق عن إيمان الجماعة الراسخ. وهي الصلاة التي علمّها المسيح نفسه:(( أمّا أنتم فصلوا هكذا: أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، أعطنا خبزنا اليومي، واغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ الينا، ولا تدخلنا في التجربة، لكن نجنا من الشرير آمين)) متى 6/ 9 ـ 14. يتحدث كل مؤمن مسيحي من خلال هذه الصلاة مع الله، ويدعو الى غفرانه. وهي تدل دلالة عميقة على ثقة المؤمن بالله وقناعته برزقه، وعلى محبة القريب والرغبة في الصفح عنه.
وفي غيرها من الصلوات الارتجالية التي ترتكز على نفس الأسس للصلاة الربية ولاسيّما في الكنائس الانجيلية. ولكن المثال الكامل للصلاة هي صلاة يسوع البنوية كما يقول التعليم المسيحي الجديد هو:((صلاة يسوع البنويّة في الخلوة، سرّا، تقتضي المطابقة الروحية لمشيئة الآب حتى الصليب، والثقة المطلقة بالاستجابة لها)). ويجب أن تكون الصلاة التي يُلقنها يسوع بقلب نقيّ وإيمان حيّ مثابر وجرأة بنويّة.
وتغطي الصلاة المسيحية كل أنواع المناسبات والحاجات الشخصية والعائلية، إذ هناك صلاة تشكرية لله وصلاة الصفح والغفران عن الخطايا وكذلك صلاة الصبح والظهر والمساء وصلوات التبريكات وصلاة الوردية المقدسة (بالنسبة للكاثوليك)، بالاضافة الى التسبيحات والعبادات المختلفة الاخرى
المعمودية
يقال قديما: أن الماء هو أصل كل شىء حيّ. وعلى أن هناك حقائق ترتبط بالماء، فالحقيقة الفزيائية تقول: أن الماء يغلي في 100 درجة مئوية، والحقيقة الكميائية: أن الماء هو: H2O، وهذا يختلف عن كون الماء مهمّ جدا للعطشان في البرية أو لمن يحترق بيته أو عمّن يسبح ويلهو به في الصيف. ولكن بالنسبة الى الأديان فإن الماء هو رمز للطهارة كما في (الهندوسية واليهودية والصابئة المندائية والاسلام)، حيث أن الماء هو رمز للطهارة من الأنجاس ولهذا يُكثرون من إستخدامه في طقوسهم الدينية. وأما في المسيحية فالله هو الذي ينضح على مؤمنيه ماءً طاهرا للتطهير، إذ يقول الكتاب المقدس في سفر حزقيال:((أنضح عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من جميع نجاستكم وأطهركم من جميع اصنامكم. وأعطيكم قلبا جديدا وأنزع من لحمكم قلب الحجر واعطيكم قلباً من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم وأجعلكم تسلكون في رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون في الأرض التي أعطيتها لآبائكم وتكونون لي شعبا وأكون لكم إلهاً)) حزقيال 36/ 25ـ 28 . ويدل الماء الطاهر في هذا المقطع الى العماد، الذي هو رمز مهم جدا للدخول في عائلة الله، إذ به يُصبح المرء إبنا أو بنتاً لله. وهو أول سرّ من أسرار الكنيسة، يعود بنا الى بدء الأزمنة، الى الحب الآلهي الكامل إذ تقول التوراة في سفر التكوين:((في البدء خلق الله السماء والأرض. وكانت الأرض خالية وخاوية والظلام يغطي البحر. وروح الله يرف على وجه المياه)) تكوين 1/ 1 .
ولمّا لم يعد بإمكان الأنسان اليوم، أن يرى يسوع أو يلمسه أو يسمع كلام الحياة منه جسديّا، فإنه يستطيع أن يلتقي به بوساطة الأسرار، ولاسيّما في سرّ العماد وسرّ الافخارستية(القربان المقدس). ويُصبح المرء في العماد عضوا في جسد المسيح بقوة الروح القدس، ولا يستطيع أحد أن يُقيّد الروح القدس، إذ أنه يهب حيث يشاء، كما أن الهواء يهب حيث يشاء ولا يستطيع أحد أن يُقيّده. وهو أي سرّ العماد أكثر من علامة إنتماء الى ديانة معيّنة، فهو التحرّر من الخطيئة ومن الانسان القديم لكي يولد إنسانا حرّا وجديدا، به سوف يدعى المُعمّد إبنا أو بنتا لله، وبه سوف ينادي المُعمّد الله (أبانا)، ومن له الله أبُ فهو ليس عبداً.
يذكر الكتاب المقدس عدداً من الآيات التي ترمز وتشير الى الماء ودوره في التطهير، ففي سفر العدد نقرأ ما يلي: ((ثم يأخذ ماءً مقدساً في إناء من خزف ويلتقط بعض غُبار أرض المسكن ويضعه في الماء)). مما يعني أن الماء هو العنصر المقدس للحياة مع التراب. وهو بالاحرى الحياة بعينها بالنسبة الى المسيحية كما يقول القديس ترتليانوس. والماء الذي أخرجه موسى من الصخرة لشعب اسرائيل في صحراء سيناء، يرمز أيضا الى الايمان وأما الصخرة فترمز إلى المسيح. ومما لا شك فيه، أن العماد أصبح مقدسا في المسيح يسوع بسبب الماء، إذ به إعتمد يسوع على يد يوحنا المعمدان.
وفي الكنيسة تجد للماء دوراً ومكانة مقدسة إذ تضع الكنائس الطقسية ماءً مباركاً في قحفة صغيرة على مقربة من المدخل الرئيسي من كل كنيسة للتبريك ولتنظيف النيّات وللتطهير من أرجاس الخطيئة. وفي حال دخول المؤمنين الى الكنيسة يغمسون رأس أصبعهم اليمنى في القحفة بإحترام قائلين:(بأسم الآب والأبن وروح القدس الأله الواحد آمين) وثمّ يدخلون الى الكنيسة للصلاة. وبهذا يتذكرون عمادهم ويجددون عهودهم ويشكرون الله على نعمه الكثيرة. ويُرش الماء المبارك على الشعب في بعض المناسبات في بداية القداس الآلهي ولاسيّما في الطقوس الغربية وبعض الطقوس الشرقية لتذكير المؤمنين بمعموديتهم المقدسة ولمحاولة إحياء معانيها في حياتهم اليومية من الايمان بالله الآب وبيسوع المسيح وبروح القدس المحيّ وبالكنيسة الواحدة المقدسة الرسولية العامة وبقيامة الموتى والحياة الأبدية، كما جاء في مزمور داود النبي:((إرحمني يا الله حسب رحمتك، وأمح معاصي حسب كثرة رأفتك. اغسلني كثيرا من إثمي وطهرني من خطيئتي. فإنني أقر بمعاصيّ وخطيئتي ماثلة أمامي)) 50/ 1 ـ 3 . وإن كان الماء رمزا مهمّا في العماد، إلا أن المعمودية هي معمودية الروح كما جاء في انجيل يوحنا:((أجاب يسوع وقال له الحق الحق اقول لك ان كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله قال له نيقوديموس: كيف يمكن الانسان أن يولد وهو شيخ، ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح هو روح، لا تتعجب اني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق)) يوحنا 3/ 3 ـ 7.
فالمعمودية سرّ مقدس من أسرار الكنيسة. والباب للدخول الى المسيحية والى سائر الأسرار الكنسيّة الأخرى، إذ فيها يُصبح المؤمن المسيحي عضوا في جسد المسيح السري(الكنيسة)، أو بالأحرى عضوا في عائلة الله، ويدعى إبنا لله أو بنتا لله. ولا يُمكن للمسيحي أن يُعمّد أكثر من مرة واحدة في الحياة، فهي بمثابة الولادة الطبيعية التي تكون مرة واحدة ولا تعاد ثانية. ولهذا تسمى بالولادة الثانية أو الولادة الروحية.
وتعمّد معظم الكنائس المسيحيّة الأطفال، فيما عدا المُهتدّين الجُدّد الذين يُعّمَدون بعد حصولهم على الدروس الضرورية، ويُسمّون قبل عمادهم (الموعوظون). وأما الأطفال المعمّدين فإنهم يمرون خلال دروس التناول الأول والتعليم المسيحي بعد سن البلوغ ليكونوا جنودا روحانيّين للمسيح ويصيرون واحدا في المسيح يسوع، في كيانه وحياته وموته وقيامته في ما يُسمى بسرّ التثبيت. ويُصبح المرء في المعمودية، منتميّا الى عائلة ثانية، ويقول الله أثناء العماد للشخص المُعمَّد ما قاله ليسوع يوم عماده:((أنت ابني الحبيب، الذي به سررت)) مرقس 1/ 11 .
وجدير بالاشارة، أن معظم الكنائس البروتستانتية، لا تعمد الا البالغين. وحجتها حتى يكون لهم نوع من حرية الإختيار. وأما الكنائس التقليدية (الكاثوليكية والارثوذكسية والكنائس الشرقية الكلدانية، السريانية، الآشورية) فهي تعمد الأطفال وحجتها في ذلك:
• أن المعمودية هي تتمة العهد الذي قطعه الله مع ابراهيم.
• أن الطفل هو(هي) ثمرة حب الوالدين، والمعمودية هي تقدمة شكر الوالدين لله.
• المعمودية هي سر الإنتماء الى جسد المسيح السري، أي سر العضوية في عائلة الله. ولا يوجد مانع من عضوية الأطفال الى هذه العائلة.
• المعمودية هي انقاذ الأطفال من الخطيئة الاصلية(خطيئة آدم وحواء) ولم يعد هذا التعليم منتشرا في أكثر الكنائس التقليدية.
بولس الرسول
لم يكن بولس الرسول من الأثني عشر وإن كان يحسب نفسه رسولا مُعيّنا من قبل يسوع القائم من بين الأموات، حيث ظهر له وهو في طريقه الى دمشق: ((وفي ذهابه حدث انه اقترب الى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتا قائلا له: "شاول شاول لماذا تضطهدني" فقال: "من أنت يا سيد" فقال الرب: "أنا يسوع الذي انت تضطهده، صعب عليك ان ترفس مناخس، فقال: "وهو مرتعد ومتحيّر يا رب ماذا تريد أن أفعل" فقال له الرب: "قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل". وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدا. فنهض شاول عن الأرض وكان وهو مفتوح العينين لا يبصر أحدا، فاقتادوه بيده وأدخلوه دمشق وبقي ثلاثة أيام لا يبصر فلم يأكل ولم يشرب، وكان في دمشق تلميذ اسمه حنانيا فقال له الرب في رؤيا، يا حنانيا فقال هانذا يا رب، فقال له الرب، قم واذهب الى الزقاق الذي يقال له "المستقيم" واطلب في بيت يهوذا رجلا طرسوسيّا اسمه شاول لانه هوذا يصلي، وقد رأى في رؤيا رجلا اسمه حنانيا داخلا وواضعا يده عليه لكي يبصر، فاجاب حنانيا يا رب قد سمعت من كثيرين عن هذا الرجل كم من الشرور فعل بقديسيّك في اورشليم وههنا له سلطان من قبل رؤساء الكهنة ان يوثق جميع الذين يدعون باسمك، فقال له الرب اذهب لان هذا لي اناء مختار ليحمل اسمي أمام امم وملوك وبني اسرائيل، لأني ساريه كم ينبغي ان يتألم من أجل اسمي. فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه يديه، وقال أيها الأخ شاول قد ارسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق، الذي جئت فيه لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس. فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور فأبصر في الحال وقام واعتمد)). أعمال الرسل 9/ 1ـ 18 .
وتقع مدينة دمشق على بعد( مائتين وثمانين كيلومترا) شمال شرق اورشليم وكانت تربطها طرق تجارية بمختلف المدن الاخرى. وكان يظن شاؤول انه بإستئصال المسيحية من دمشق قد يمنع انتشارها الى المناطق الاخرى. وكان شاؤول يُحارب المسيحية وهو في اعتقاده يُحارب هرطقة يهودية خارجة عن الايمان القويم. إلا أن يسوع واجهه بقوله (أنا يسوع الذي تضطهده). ودعا يسوع شاؤول الى الأيمان والى التلمذة. فأستلم شاؤول (بولس) الأنجيل من يسوع المسيح مباشرة وبَيّن صدق رؤيته وإيمانه بيسوع لبطرس والرسل الآخرين بعد أن قضى فترة سنتين في الصحراء مع العرب. ومُنح بولس اللقب المشهور(رسول الأمم) في المجمع المسيحي الأول في اورشليم برئاسة بطرس ويعقوب ويوحنا، وقوبل بترحيب كبير بين المسيحيين الاوائل وهو المعروف جدا في الأوساط اليهودية واليونانية بوصفه فريسيّا يهوديا تقياّ ومعلما وفقيها كبيرا.
أما بالنسبة الى ولادته فإنه ولد في مدينة طرسوس في تركيا من عائلة يهودية. ومن ثم انتقل الى اورشليم لاكمال دراسته الدينية. وكان شديد التعلق بالمذهب الفريسّي، قاد حملة مشهورة لأضطهاد المسيحيين، وأشرف بنفسه على رجم الشهيد اسطفانوس الذي كان الشهيد الأول للمسيحية.
يجب علينا أن لا ننكر بما للرسول بولس من دور عظيم في نشر المسيحية في العالم اليهودي والهيليني (اليوناني) والروماني، حيث كان قد مُنح الجنسيّة الرومانية بسبب خدماته الكثيرة للأمبراطورية قبل أن يهتدي الى المسيحية، ولربما كان هذا السبب في حمله إسمين، إذ كان يستعمل إسمه (شاؤول) اليهودي بين طائفته اليهودية وإسمه الروماني عندما يتعامل مع الرومان والهيلينيين اليونان. وكان معروفا بتعصّبه الشديد لليهودية قبل إهتدائه الى المسيحيّة، إذ كان قد تتلمذ على يد المعلم غملائيل. ونجد عمق تعلمه الفلسفي واللآهوتي اليوم من خلال قراءتنا لرسائله الراعوية التي كان يبعثها للكنائس التي كان يؤسسها في عهده الرسولي. ومات بولس الرسول شهيدا لرسالته المسيحية في روما بحد السيف (اوسابيوس: تاريخ الكنيسة) ويُعتقد أنه استشهد بين سنة 64 و67 ميلادية.
ويُعدّ بولس في كل الكنائس المسيحية، قدّيسا كبيرا ولاهوتيا بارعا، إذ لا تزال تقرأ رسائله الراعوية في الكنائس، وهي نصوص مقدسة يجب على كل مسيحي أن يقرأها لكي يفهم الأيمان المسيحي. وللقديس بولس، يوم خاص في السنة الطقسيّة في الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، ويقع اليوم في 29 من شهر حزيران ويُسمى بيوم بطرس وبولس.
وجدير بالاشارة، أن الكنائس اليوم تفضل استخدام كلمة مُبشرين missionary لرسل المسيح، لان الأعتقاد السائد في معظم الكنائس هو أن الرسالة أو لقب (الرسول Messenger)، تنحصر فقط، في الذين عاشروا يسوع وشاهدوه وعايشوه. والكلمة (الرسل Apostolos) في اليونانية لم تكن تحصر اللقب في الذين عايّنوا المسيح وعاشروه فقط، وإنما كل من يُبشر بالمسيح إبن الله القائم من بين الأموات، هو الرسول وله الحق في أن يستخدم اللقب.
مريم العذراء
تعتقد الكنيسة من خلال دراسة كتب العهد الجديد بأن مريم العذراء الام الحنون التي يشبهها الآباء بالحواء الثانية، قد ساهمت في ردّ الحياة الجديدة للبشرية في شخص ابنها الفادي المخلص الذي يشبهه آباء الكنيسة بآدم الجديد، وجددّت كل شىء بعد أن ساهمت أمنا الاولى حواء في إدخال الموت الى الجنس البشري بالخطيئة والعصيان.
وقد جاء في قانون الايمان المعروف بقانون نيقية سنة 325 : ((من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من مريم العذراء بفعل الروح القدس)). ويفسر مجمع الفاتيكاني الثاني هذه المقولة قائلا بأن: ((سر الخلاص الالهي يتجلى لنا ويستمر في الكنيسة التي أقامها الرب جسدا له، وفيما يتوجب على المؤمنين المرتبطين بالمسيح الرأس المتحدين في الشركة الواحدة مع قديسيه جميعاً، أن يكرموا في الدرجة الاولى ذكر مريم المجيدة والعذراء على الدوام وإم الهنا وربنا يسوع المسيح)).
وكان رضى مريم لبشارة الملاك وقبولها لإرادة الله الخلاصية وحملها المسيح وولادته وتغذيته وتقديمه للآب في الهيكل، وتألمها مع ابنها في موته على الصليب، قد جعلها وأصطفاها الله لتكون في تصميم لله الذي أشركها بسخاء وبإمتياز فريد على الاطلاق في عمله الخلاصي. وهي كانت أكثر علما ومعرفة بواقع ابنها الالهي إذ كانت تحفظ كل ما يحدث له، وما يقوم به منذ صغره. وهي الشاهدة الوحيدة التي كانت تعلم كل شىء عنه لكونها كانت أقرب الناس اليه.
عاشت مريم مطمئنة فقيرة، فرحت بإبنها يسوع فرحاً عظيماً بالرغم من علمها بكل الآلام والمعانات التي سوف يواجهها والتي سوف تبلغ الى صميم قلبها، كما تنبأ سمعان الشيخ بعد أن قدمته مع مربيه يوسف الى الهيكل لتطهيره ولتكملة الناموس، فحمله وباركه قائلا: ((يا رب، تممت الآن وعدك لي فأطلق عبدك بِسلام. عيناي رأتا الخلاص الذي هيأتَه للشُعوب كلها نورا لِهداية الأمم ومجدا لشعبِك إِسرائيل)) لوقا 2 / 28 ـ 32 . وتنبأ سمعان أيضا بنفاذ سيف الآلام والاحزان في قلبها بسبب إبنها كما جاء في لوقا: ((وباركهما سمعان وقال لمريم أمه هذا الطفل ا‏ختاره الله لسقوط كثير مِن النـاس وقـيام كثير منه في إِسرائيل. وهو علامة من الله يقاومونها، لتنكشف خفايا أفكارهم. وأما أنت، فسيف الأحزان سينفذ في قلبِك)) لوقا 2 / 34 ـ 35. والرمح التي تنبأ عنه سمعان هو رمح آلالام والعذابات والاهانات التي سوف يواجهها يسوع في حياته، أثناء صلبه وموته. ولا يزال المسيح يواجه الآلام بسبب نكران صلبه وبسبب الالحاد المنتشر في العالم والكفر به وبسبب الاهانات المستمرة التي توجه ضده سواء من قبل مختاريه وصراعاتهم المذهبية أو بسبب الحروب الهمجية بين البشر في كل مكان.
كان اشتراك مريم العذراء ويوسف خطيبها في حياة المسيح رمزا لإشتراك البشرية الطاهرة والصادقة في حياة الله على الارض، إذ نرى مريم الطائعة لإرادة الله التي إنسكبت عليها نعم الله بغزارة ورجلها يوسف البار الذي عرف بالطاعة والخضوع لإرادة الله.
كانت مريم المختارة من قبل الله والممتلئة نعمة والمصونة منذ اليوم الاول من الحبل بها من دون وصمة الخطيئة الاصلية كما تقر بذلك تعاليم الكنيسة الكاثوليكية عن عقيدة المحبول بها بلا دنس والتي أعلنها البابا (بيوس الثاني عشر) كعقيدة ثابتة مع عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء بالنفس والجسد، وذلك في الخامس عشر من شهر آب من كل سنة.
تؤكد العقيدة الكنسيّة على موت مريم العذراء الطبيعي وانتقالها إلى السماء بعد مماتها الجسدي. وتمثل مريم العذراء البشرية جمعاء بخضوعها لبشارة الملاك كما يفسر آباء الكنيسة. والكلمة التي رددتها مريم للملاك في قولها: (نعم)، تعني الطاعة المطلقة للإرادة الربانية كما جاء في انجيل لوقا 1 / 38. وبسبب تلك الطاعة المطلقة كتب الآباء واللاهوتيون عن حب مريم الصادق لله وعن طاعتها لكلمته القدوسة. ومن أجمل التعابير التي قيلت عنها حديثا ما جاء في كتاب (يسوع في حياته) للمؤلف أديب مصلح، الجزء الاول ص 129 إذ قال: ((مريم هي الزهرة الوحيدة النقية التي نبتت في تربة تفوح بروائح الفساد والتي اختار يسوع أن يتجسد في أحشائها ويصوغ جسده من دمها)). ومن هذا المنطلق قال آباء الكنيسة منذ القرن الميلادي الاول بأن إيمان مريم وقبولها للإرادة الإلهية هما السبب في حضور الله الى العالم والسبب في دخولنا في حياة يسوع والاشتراك في سر عذابه وسره الفصحي وآلامه على الصليب وفي حمل صليبه وإتباعه والاقتداء به. فالمسيح لم يأخذ لاهوته من مريم العذراء في تجسده، ولكنه أخذ ناسوته (بشريته) من اليوم الاول الذي حبل به من الروح القدس، ولم يتم ذلك بتدخل رجل بشري بل بتدخل الله المباشر وبقوة الروح القدس. ومن هذا يثبت أبوّة الله الحقيقية وكذلك بنوّته الحقيقية. وجدير بالانتباه أن المسيح لم يصبح إلها عبر حياته أو في يوم مماته أو في يوم قيامته إلا أنه كلمة الله الذي تجسد في مريم العذراء وصار بشرا، وهو كان يعلم بوضعه وسره الالهي علم اليقين، إذ نوه الى ذلك مرارا وتكرارا. وقد شهد بذلك في مناسبات عديدة كما جاء في انجيل يوحنا 8 / 58 :((الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن)). وهناك اشارات اخرى في حياته تدل على ادراكه لدوره بصفته ابن الله، مع انه كان يعرف الله أباه الحقيقي، إلا أنه لم يرفض الأبوين الأرضيين بل أطاعهما، وأعطى لنا مثالا على ذلك من خلال حياته اليومية. وكان أبواه يعرفان عنه بأنه طفل متميز عن باقي الاطفال ومن دون أن يعلما تفاصيل رسالته وما يدور في ذهنه. ومن دون أن يعرفا حقيقة أن إبنهما يسوع قد جاء الى العالم لكي يكشف سر الله الخاص (الآب والابن والروح القدس) وبأنه موجود منذ البدء مع الله الآب، ومساوي له في الجوهر، الذي رأيناه وسمعناه بعيوننا ولمسته أيدينا وبأنه اله حق من إله حق، تجسّد في مريم العذراء وأخذ جسما بشريا وسمي يسوع وهو أسم بشري أطلقه يوسف مربيه حسبما أمره الرب. وهذ يعني أنه لم يكن ليسوع الانسان وجود قبل الحبل به في مريم ولكنه كان له وجود كإبن لله. ولم يكن للتلاميذ والمسيحيين الاوائل علم بواقعه الحقيقي الا تدريجيا ومن خلال خبرة إيمانية عاشوها أثناء التبشير به في العالم.





















المحتويات
المقدمة
المسيحية
البدايات والتكوين
النصوص المقدسة
الكتب المنحولة
الطوائف اليهودية في عهد المسيح
المهيىء لطريق الرب
ميلاد المسيح
تعاليم يسوع
التلاميذ الاثني عشر
الشهادات الكتابية حول يسوع المسيح
مفهوم الله في المسيحية
شىء من التاريخ
أساسيات الايمان المسيحي
المسيحية ديانة السلام
العقائد المسيحية
القربان المقدس (الافخارستيا)
الصلب
القيامة
الصلاة
المعمودية
بولس الرسول
مريم العذراء



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن