الهجرات الداخلية وهوية الأمكنة ( 1 2 )

سعد محمد رحيم

2014 / 9 / 14

في الدراسات الخاصة بموضوعة الهوية يصبح المكان، بوساطة الكتابة، محلَّ نظر ورؤية، وموضوعاً لتكوِّن تصوّر. ولأن المكان لا يستقر على حال فإنه يقبل قراءات متعددة، وتأويلات تتباين مع تغير الزمان وزاوية الرؤية ومنهجها ومقاصدها، واختلاف شخصيات الرائين. وقد خضع المكان العراقي والتحولات التي طرأت عليه لمعاينة كثر من الكتّاب العراقيين خلال السنوات الأخيرة. بعضهم استغرق في تأملاته الذاتية الوجدانية ليستعيد بعض ذكرياته الآسرة عن أمكنته، ويتبِّلها بالمتخيل الشعري، منتجاً نصوصاً تنطوي على شروط الأدب الجيد، لكن لا يمكن الاعتداد به من الناحية التاريخية أو من وجهة نظر علوم الاجتماع والأنثربولوجيا وغيرها. وبعضهم أخضع المكان لأحكام مسبقة من غير أن يقرأ المعطيات على الأرض ويخضعها لقواعد المنهج العلمي.
في النظر إلى المكان نكون، منهجياً، بحاجة إلى نظرتين تكمل إحداهما الأخرى.. نظرة من داخل التجربة مع المكان، وهي التي لن تخلو من شيء من الذاتية، والانحياز المعنوي لكنها سترى مناطق وزوايا خفية تعسر على من يأتي من خارج التجربة رؤيتها.. ونظرة من خارج التجربة، مع مسافة موضوعية، قد تفتقر إلى التعاطف، وإلى القدرة على اقتناص التفاصيل كلها، غير أنها سترى المشهد في كليته بتناقضاته وثغراته وكبواته وعلاقاته. ويمكن للباحث أن يحوز على النظرتين معاً، وأن يوفِّق بينهما، إذا ما خاض التجربة، واكتسب، بعد ذلك، الإرادة والفطنة لخلق المسافة الموضوعية بينه وبين التجربة في المكان. وأعتقد أن الشاعر والباحث محمد غازي الأخرس كان واحداً من الكتّاب الذين حاولوا التوفيق بين الرؤيتين بنجاح لافت وملموس. ولأننا نود التحدث عن وقائع الهجرات الداخلية في العراق وعقابيلها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 فإن من أكثر النصوص جرأة وموضوعية بهذا الصدد هو ما كتبه الأخرس عن تجربة النزوح الكبير للفلاحين من الجنوب إلى بغداد خلال عقود منتصف القرن الماضي وذلك في الفصل الأول المعنون ( دفتر العشيرة: من متن المدينة إلى هامشها ) من كتابه ( دفاتر خردة فروش: العوالم السفلية للمجتمع العراقي ). وعلى الرغم من أن نص الأخرس لا يمتلك صرامة الدراسة العلمية ومنهجها إلا أنه يتضمن رؤى لافتة صاغها من وحي تجربة عاش آثارها ونتائجها كونه ينتمي إلى واحدة من تلكم العائلات التي نزحت من مدينة العمارة إلى بغداد، بسبب الفقر وظلم الطبقة شبه الإقطاعية. فالأخرس يعد واحداً من الجيل الأول من أبناء أولئك النازحين الذين ولدوا في بغداد، وخبروا تحولات مشهدها السياسي والاجتماعي والعمراني خلال العقود الأربعة الأخيرة. والنص المذكور يجمع بين الأسلوب الأدبي، والأسلوب الصحافي، وشيئاً من روح الدراسة على الرغم من أنه لا يتبع منهجاً بحثياً محدداً كما قلنا، وهذا ما يجعل من قراءة نصه عملية لا تخلو من المتعة والإثارة إلى جانب الجدوى المعرفية.. فهو يطرح أسئلة مباشرة، يجري تداولها، في خضم الصراع الذي تعيشه أية مدينة بين ساكنيها القدماء والجدد، على ألسنة بعض الناس، وحتى بعض المثقفين يتداولونها أحياناً بطريقة متحذلقة. ولكي يتجنب النقاش البيزنطي والرومانسية الشعبوية فإنه يتصدى للأسئلة المذكورة، وأخرى يجترحها، بموضوعية عالية، ولمّاحية ناتجة عن الملاحظة العلمية الدقيقة والمعايشة الوجدانية، والحرص على الوصول إلى أفكار وإجابات تقترب كثيراً من الحقيقة. ليمنحنا درساً في الأنثربولوجيا والدراسات الثقافية. والأجمل أن الكاتب لا يدّعي امتلاك القول الفصل والنهائي بخصوص المسائل التي يعرضها والتي تحتاج إلى دراسات واسعة ومعمقة، لكنه يوفر بعض المفاتيح المهمة التي من شأنها مساعدة من يتفرغ لمقاربة هذه الموضوعة المهمة والخطيرة.
يبدأ الأخرس نصه بوصف التناشز الذي ينشأ، حين تتجاور قيم المدينة وثقافتها مع القيم والثقافات الوافدة التي يجلبها المهاجرون والمهجّرون من الأرياف والبلدات الريفية الصغيرة. وما ينتج عنه من صراعات ومآزق تتصل بالهويات الفرعية، فضلاً عمّا يولِّد، في بعض الأحايين، من قلق، وتوتر نفسي، وإحراج اجتماعي.
يحاوره صديق مثقف يسكن النجف حول هذا الأمر، بتأكيده أن "المدن في العراق أربع وغيرها قرى؛ أما المدن فهي البصرة، ثم بغداد، ثم النجف، وبعد ذلك تأتي الموصل". أما معاييره لتفريق المدينة عن القرية فهي "القيم الثقافية السائدة؛ بقدر ما يبتعد المجتمع عن قيم العشيرة وثقافتها والطائفة ومآزقها، بقدر ما يقترب من المدنيّة.. إن العراقة والقدم، أقصد عراقة المدن، معيار أساسي آخر". وهذا يقود الأخرس إلى السؤال فيما إذا كان تخلي المهاجر القروي عن الثقافة الريفية وخلع الثوب العشائري خلف أسوار المدينة هو "شرط المدينة الوحيد لاستقباله وهو ما يعني أن يندمج نهائياً بالقيم الجديدة" مثلما يخبره ذلك الصديق؟.
ترتبط قيم الجماعات المختلفة بالسياق الاجتماعي، وتفرضها ضرورات الحياة، ولذا ليس من حقنا أن نصف قيم جماعات تعيش في الريف بأنها متدنية وقيم جماعات أخرى تعيش في المدينة بأنها رفيعة.. غير أن انتقال القيم من الريف إلى المدينة تجعلها غير متساوقة مع الحاجات والمعطيات الجديدة.. إن صعوبات التكييف تنشأ في هذا الموقع، وتكون مقدمة لأنواع من الصراع الاجتماعي والنفسي الذي يمكن أن يتطور لاحقاً إلى صراع ذي طابع سياسي.. وفي هذه الحال ستعيش المدينة نوعاً من التناشز القيمي والاجتماعي، وتبدأ بفقدان روحها المدينية شيئاً فشيئاً إذا ما طغت القيم الوافدة على تلك المتوطنة والراسخة. ولكن لماذا فشلت المدينة العراقية الكبيرة في دمج كثر من النازحين إليها من الأرياف، وجعلهم يتشربون ثقافة المدينة وأنماط سلوكها؟.
نشأت مدننا القديمة، أو معظمها، إلى جانب وظيفتها التجارية، بوظيفة ريفية زراعية.. وحتى الكبرى منها كبغداد والبصرة وكربلاء وبعقوبة والحلة وغيرها بقيت تنتج، من بين ما تنتج، الغلة الزراعية، وما تزال.. والبساتين الواسعة والمزارع في هذه المدن وعلى أطرافها شاهدة على ما نقول.. وقد يفسر هذا، جزئياً، استمرار روحية الريف، ونمط علاقاته الاجتماعية، والبنية القبلية لتلك العلاقات، في مدننا.. وطالما قامت المدن على ضفاف الأنهار نجد أن القرى كانت قريبة دوماً من المدن، وكانت المدن مفتوحة عليها، وكثر من المدن الصغيرة ما هي إلا بلدات ريفية، أو شبه ريفية فيها بعض المنشآت المدنية. وهذا سبب جزئي ثانٍ. وخلال القرون الأخيرة دمرت الفيضانات المدن مراراً. فيما كانت الأوبئة والأمراض الفتاكة كالجدري والكوليرا والطاعون والسل الرئوي تبيد السكان، وأحياناً عن بكرة ابيها.. تخلو المدن من ساكنيها ومعهم تذهب ما تراكم من قيم ومعطيات ثقافية، فيأتي سكان جدد ( نازحون ) من المدن والأرياف القريبة والبعيدة، بقيم وتقاليد وأعراف أخرى، لا تنحل، لتتكرس بدلا منها قيم وتقاليد وأعراف مدينية عبر التعاطي مع المكان والمؤسسات المدنية، إلا بعد مرور مدة طويلة. وقد تحدث كوارث أخرى تعيد الدورة المأساوية، وهكذا دواليك.. من هنا لم تتعزز الثقافة المدينية والمؤسسات المدنية، وحتى ما قبل العقد الثالث من القرن العشرين في أغلب المدن ومنها بغداد على غرار مدن كالقاهرة وبيروت وتونس، حتى ننعتها بالعراقة والقدم، إلا بشكل محدود. غير أن فرصة بناء مدينة عراقية حديثة بثقافة تنوير مدنية متحضرة أتيحت مع تأسيس الدولة في مستهل عشرينيات القرن المنصرم. والآن، هل علينا كيل التهمة في الخراب المديني للعهد الجمهوري ذي الطابع العسكري، غير الديمقراطي الذي انبثق في 14 تموز 1958.. يقول الأخرس: "نعم، كانت لدينا بوادر تمدينية واعدة في العهد الملكي، وكان يمكن أن تنشأ طبقة وسطى كبيرة لو استمرت الأمور على ما كانت عليه. لكن هيهات وقد أطلّ جيل الغضب بقبعته العسكرية في 14 تموز بعد أن تمرن قبلها في عامي 1936 و 1941 فكان غزو اللانظام واللاقانون لحياتنا، ومعه قدمت شرائح ريّفت المجتمع من الشرق والغرب والشمال والجنوب".
لمحمد غازي الأخرس بعض الحق في اتهام الطبيعة العسكرية الاستبدادية للحكم الجمهوري في كبح تمدين حياة الأمة العراقية، وتنمية ثقافة المدينة.. غير أن علينا ألا ننسى، أيضاً، أن العهد الملكي نفسه كان يعاني من ضعف مؤسساته الدستورية والديمقراطية، وأن الفقر والجهل والمرض كان المثلث الكارثي الذي يحاصر النسبة الأعظم من سكان البلاد ويخنقهم، إلى جانب تسلط فئة محدودة، كثر من عناصرها غير مبرأة من جرثومة التفرد بالحكم والفساد، على مقادير الأمور، تلك التي وصلت إلى درجة مريعة من التأزم والاختناق. فيما كانت الجماعات المهاجرة تهرب من أمكنتها، حيث تشعر فيها بالتهديد، إلى أخرى تعتقد أنها ستحقق لها الأمن والكرامة، وتوفر لها الخبز وفرص الرقي.
أعتقد أن أحد الأسباب الجوهرية في عدم اندماج كثر من النازحين من الأرياف في حياة المدن، هو طبيعة الاقتصاد الريعي، وهو اقتصاد ينتج غالباً حكومات استبدادية، ومنظومات بيروقراطية هشة وفاسدة من جهة، واقتصاداً لا يخضع بدقة لحسابات الكلفة والإنتاج والربح والأجور كمكافأة للعمل من جهة أخرى. وتكون العلاقة بين السلطة الحاكمة والشعب قائمة على أساس معادلة المكارم والصدقات مقابل الولاءات، حيث تتصرف السلطة وكأنها المالكة الحصرية لثروات البلاد، وأن الرعايا ما هم سوى جزء من تلك الممتلكات، ومن حقها أن تسخِّرهم في برامجها وحروبها بحسب ما تقتضي مصالحها.. في مثل هذا المناخ، لا تكون الدولة، بأرضية قانونية صلبة، حامية حقيقية للملكيات والحقوق المدنية، ولا ضامنة حقيقية لحياة الأفراد ومعاشهم ومستقبلهم. وحتى الطبقة المدينية الوسطى، وجلهم من التجار أو ممن يخدمون في الجهاز البيروقراطي للدولة، لا يمتلكون المقومات الاجتماعية الاقتصادية والقانونية الكافية لتجعل منهم قوة قادرة على تنمية مصالحها وتعزيز بنية المؤسسات المدنية، والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية. والخلاصة أن المدينة في ظل مثل هذا الاقتصاد تفتقر إلى شروط المدينة الحقيقية وبالتالي تصبح قدرتها ضعيفة على استقبال النازحين الفقراء ودمجهم في نسيجها الاجتماعي/ الاقتصادي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن