العلم والدين بين الفكر القديم والفكر الحديث

حسام المنفي
elmanfyhossam@yahoo.com

2014 / 8 / 17

يعد مبدأ التوفيق بين الفلسفة والدين الإسلامي هو مبدأ قديم قدم الفلسفة الإسلامية ذاتها ، بل إن مبدأ التوفيق بين الدين والفلسفة كان سائدا طوال العصر الوسيط سواء في العالم الإسلامي أو في أوروبا حيث الديانة المسيحية .ولقد حاول كثيرا من المفكرين والفلاسفة المسلمين في إيجاد صيغة أو نسق فكري وفلسفي يجمع بين الدين والعلم أو بين الدين والفلسفة. فمن الكندي والفارابي مرورا بإبن سينا والغزالي وابن رشد وصولا للإمام محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كل هؤلاء حاولوا أن يوفقوا بين الدين أو بين مبادىء الدين الإسلامي وبين العلم.
ورغم أننا نختلف مع وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة العظام والكبار في قضية التوفيق إلا أننا رأينا أن من المفيد أن نتطلع على وجهة نظرهم ثم بعد ذلك نعرض بعض أراء مفكري القرن العشرين الذين يرون ضرورة الفصل التام بين العلم والدين مثل الأستاذ فرح أنطون و الدكتور طه حسين والدكتور زكي نجيب محمود .
ويظهر من ذلك أن النظرة التوفيقية عند هؤلاء المثقفون والمفكرون الجدد قد اختفت تماما وحل مكانها مفهوم الفصل التام بين العلم والدين عند هؤلاء المثقفون ولا شك أن اختلافهم في نظرتهم لهذه الجزئية ناتج عن تغير الزمان والمكان والمناخ الثقافي بصفة عامة والأهم من كل هذا أن الحضارة التي نشأ في ظلها مثقفوا القرن العشرين تختلف تماما عن الحضارة الإسلامية التي كان يعيش في ظلها الفلاسفة المسلمين الأوائل.
----------------------------------------
*يعقوب بن إسحاق الكندي (805-873)
-----------------------------------------
رغم أن الكندي قد فرق بين مصادر المعرفة عند الفيلسوف ومصدر المعرفة عند الأنبياء فقد حاول التوفيق بينهما . فهو يرى أن الأول مصدره العقل الإنساني والثاني مصدره الإلهام الإلهي الذي يتلقاه النبي دون نطر في الأشياء ودون تعلم ودون تجربة ، يقول ( إن العلوم اللإلهية أي علوم الأنبياء لا تأتي عن طريق التحصيل والإكتساب بل عن طريق الإلهام الإلهي) ورغم هذا فإن الكندي قد حاول التوفيق بينهما . فهو يقول في الصفحات الأولى من رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى :تعد صناعة الفلسفة ، التي تعرف بأنها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان ، من أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأسماها مرتبة . وسبب ذلك أن غرض الفيلسوف في عمله إصابة الحق ، وفي عمله بالحق.
وفي هذه الفقرة حاول الكندي أن يصبغ الفلسفة صبغة أخلاقية أي أن الفلسفة هي وسيلة لإصابة الحق أو الحقيقة ومن دون شك أن معرفة الله هي درب من دروب إصابة الحق وبهذا يستطيع الفيلسوف أن يوظف الفلسفة في خدمة الدين(من وجهة نظر الكندي) طالما أنها تنشد دائما الحق...يقول الدكتور عاطف العراقي :معنى هذا أن الكندي يدافع عن الإشتغال بالفلسفة أو الحكمة . بحيث لا يطعن فيها الطاعنون ، طالما أن المقصد منها نظريا كان أو عمليا ، من المقاصد النبيلة.-
يقول الكندي أيضا : إن كان غرض الفيلسوف إصابة الحق ، فإننا لا نجد مطلوباتنا من من الحق -من غير علة - وعلة وجود كل شيء وثباته ، الحق. انظر إلى الجملة الأخيرة( وعلة وجود كل شيء وثباته ، الحق) فهو إذن يبحث في علل الموجودات وأشرف العلل من دون شك هي العلة الأولى . ويستطرد قائلا : وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق.
ولا شك أن الكندي في الفقرة الثانية كان متأثرا بأستاذه - أرسطو- تأثرا شديدا في أمرين . الأول: لأن أرسطو إذا كان يعلي من شأن العلوم الطبيعية ، فإن بدوره يعلي من شأن علوم ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا أو الفلسفة الأولى على غيرها من العلوم النظرية والعلمية. الأمر الثاني: أن الفلسفة الأولى أو الإلهيات إذا كانت أشرف العلوم عند الفلاسفة وخاصة -أرسطو- فإن هذا يؤدي بالتالي إلى مشروعية الفلسفة والإشتغال بها.
------------------------------------
*أبو الوليد ابن رشد (1126-1198)
------------------------------------
وبهذه النظرة السريعة إلى بعض أقوال الفيلسوف الكندي تظهر لنا النزعة التوفيقية بارزة وواضخة في فلسفته . وهذه النزعة التوفيقية ستكون بلا شك أكثر وضوحا في فلسفة فيلسوف قرطبة أبو الوليد ابن رشد.
لقد عني ابن رشد بقضية التوفيق بين الدين والفلسفة عناية خاصة لأنه كان يؤمن أنه لا يوجد تعارض بين الدين والفلسفة أو بين العقل والنقل كما كان يقول بل كان يقول دائما أن القرأن يدعو إلى التفلسف والنظر في علل الأشياء والإحاطة بها. يقول ابن رشد :دعى الإسلام إلى التفلسف لأن الفلسفة وسيلة الإنسان لمعرفة الله ومن ينهي الناس عنها فقد صدهم عن الباب الذي دعا الشرع الناس من معرقة الله. وعلى هذا افترض ابن رشد بوجود
فإن الفلسفة من وجهة نظر ابن رشد هي : النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع . أما الدين فهو مجموعة من الحقائق الثابته أوحى الله بها للأنبياء . وقد حاول ابن رشد ببراعة فائقة أن الدين يوجب التفلسف وأثبت ذلك بذكر الأيات التي تدل عل ذلك . يقول في كتابه فصل المقال :فأما الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به فذلك بين في غير أكثر من أية مثل (فاعتبروا يا أولوا الأبصار) وهذا نص صريح على وجوب استعمال القياس العقلي كما يقول ابن رشد ومثل (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء) وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات.
وقد ربط ابن رشد بين معرفة الكون وقوانينه وبين معرفة الخالق يقول ابن رشد (فمن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع) فهو أوقف المعرفة اللاهية على معرفة الإنسان للكون والطبيعة جميع الموجودات ولنفسه أيضا . ومن هذا المنطلق حاول ابن رشد التوفيق بين العقل والنقل- .
----------------------------
*محمد عبده (1849-1905)
----------------------------
من دون شك فإن محمد عبده هو رائد من رواد عصر النهضة العربية التي لم يكتب لها أن تزدهر وتنمو وتكبر في عقولنا وأفكارنا ولم يكتب لها أن تتغلغل وتتوغل في نفوسنا. على أي حال فقد كان محمد عبده ينادي بضرورة التوفيق بين العلم والدين أي بين الحضارة الغربية ومنجزاتها وبين تراثنا العربي الإسلامي . فهو كان يدعو بشدة إلى الأخذ بعلوم ومناهج الغرب في الوقت الذي كان يدعو فيه إلى الرجوع إلى تعاليم السلف . فهو كان يرى أن من أهم العوامل التي تسببت في تخلف وتراجع وانحطاط المسلمين سياسيا كانت أم اقتصادية هي تفريط المسلمين أنفسهم دينهم . فكأن محمد عبده يربط بين فكرة التقدم وبين الرجوع إلى الدين . وفي وجهة نظرنا أنه لا توجد علاقة بين التقدم السياسي والإقتصادي وبين التدين أو عدمه . فهذه الأمور تخضع لأسباب وعوامل لا علاقة لها بالدين والتدين . وعلى أي حال فقد حاول الإمام محمد عبده أن يفق بين العلم والدين أو بين الخضارة الغربية الحديثة وبين التراث العربي الإسلامي.
وبعد ما عرضنا بعض نماذج من مفكرينا العرب لقضية التوفيق بين العلم والدين بقى إذا أن نتسائل هل هذه النظرة صحيحة وصائبة في عصرنا الحالي؟
نحن نرى وربما نكون مخطئين أنه لا سبيل للجمع بين العلم والدين... لأن العلم يوضع في دائرة "العقل" لأن قواعده مبنيه على المشاهدة والتجربة ، أما الدين فيوضع في دائرة "القلب" لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب من غير فحص في أصولها . ومعنى ذلك أن لكل منهما دائرة يتحرك فيها بحرية كما يشاء دون أن يكون أحدهما تابعا للأخر . ورغم ذلك نرى أن بينهما قاسم مشرك ألا وهو "ارتقاء الإنسان وتنميته والعمل على سعادته" فالهدف الرئيسي "للعلوم" هو إشباع حاجات الإنسان المادية أو الحاجات المتعلقة بالحياة أي حاجاته الدنيوية ،أم الدين فيسعى إلى إشباع حاجات الإنسان الروحية وانتشاله من مستنقع الشهوات والغرائز .يقول الأستاذ فرح أنطون (فإن العلم والدين إذا اختلفا في الطرق فإنهما يتفقان في الغرض . ذلك لأن غرض العلم والدين واحد وهو تحسين حالة الإنسانية وترقية شؤون البشر.
ولنترك فرح أنطون ونذهب إلى العبقري طه حسين الذي كان يرى أن العلم والدين سيظلان متخاصمان ومتباعدان إلى الأبد والطريقة الوحيدة لتجنب الصدام بينهما هو الفصل التام يقول :والحق أيضا أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين لأن الخلاف بينهما أساسي وجوهري لا سبيل إلى ازالته ولا إلى تخفيفه الا إذا استطاع كل واحد منهما أن ينسى صاحبه نسيانا تاما ويعرض عنه اعراضا مطلقا . وها هو طه حسين يرى أن العلاقة بين العلم والدين هي في الأساس علاقة تخاصمية ستؤدي إلى صراع بينهما إن لم يتم الفصل نهائيا ومن دون رجعة.
وننتقل من العبقري طه حسين إلى عبقري أخر وهو الدكتور -زكي نجيب محمود- يقول:إني لأرجح أن نعيش في عالمين متكاملان ولا يتعارضان ، بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الأخر ، في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه ، ولكننا بدل أن نقول : إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا ، يجب أن نقول : أن إلى جانب هذه الحياه العلمية ، حياة أخرى فيها الأماني وفيها المثل العليا وفيها المرفأ والملاذ ، فإذا كنت في الساعة العلمية أحصر النظر في الظواهر وحدها ، لإستخراج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر ، ففي الساعات الوجدانية من حياتي أخلع عن نفسي عباءة العلم ، وأسلم نفسي للتمني والرجاء ، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين ، يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل .
ونحن نرى أنه لا نستطيع أن ننهض بمجتمعاتنا سواء كانت تلك النهضة سياسية أو اقتصادية من هذا الفصل التام بين العلم والدين بين متطلبات الحياة وبين التطلع الى الأخرة وبين احتياجات الإنسان الدنيوية وبين احتياجاته الروحية . فلابد إذا أن يسير كلا من العقل والدين في طريق مستقل عن الأخر لأنه وببساطة شديدة إذا اجتمعا العلم والدين في حلبة واحدة فلابد أن يطيح أحدهما بالأخر . وسنستعير هنا بعض الجمل للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي يقول:العقل يجيب على أسئلة الدنيا ، لأنها أسئلة عالم مرئي محسوس محدود يتطور بمرور الزمن ، ويتغير بتغير الظروف ، فلابد أن تكون المعرفة الدنيوية عقلية أو انسانية يمكننا أن نجربها ، ونراجعها ، ونميز فيها بين الصواب والخطأ . أما الدين فيهدىء مخاوف الروح ، ويغمرها بالطمأنينة ، وينزل عليه السكينة ، ويجيب على أسئلة الضمير .
=======================================
*انظر كتاب "مذاهب فلاسفة المشرق" للدكتور عاطف العراقي
*انظركتاب "ابن رشد وفلسفته" للأستاذ فرح أنطون . تقديم الدكتور مراد وهبه
* انظر كتاب أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى للدكتورة زينب محمود الخضيري
*انظر كتاب "الفيلسوف ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية " للدكتور عاطف العراقي
*انظر كتاب "ثقافتنا في مواجهة العصر" للدكتور زكي نجيب محمود
*انظر كتاب "من بعيد"للدكتور طه حسين
*انظر كتاب "الإسلام بين العلم والمدنية"للإمام محمد عبده



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن