السلطة، الجسد المعولم، والمجتمع الاستهلاكي

سعد محمد رحيم

2014 / 7 / 6

ثمة منافسة، جزءٌ كبير منها مستتر وموارب، بين السلطات المختلفة، للهيمنة على الأجساد؛ على زمنها، وموجِّهات فعلها، وولائها، وطاقتها الحيوية.. السلطة الدينية تريده من رعايا المعبد والمشارك في طقوسه والمدافع عنه حتى الموت إذا تطلب الأمر.. والسلطة السياسية تريده موالياً، ومشاركاً في الاحتفالات، وجندياً متهيئاً للقتال.. والسلطة الاقتصادية تريده عاملاً منتجاً، أو بيروقراطياً محترفاً، أو مستهلكاً قادراً على الإنفاق.. والسلطة الاجتماعية تريده فرداً مطيعاً لقيم الآباء والأجداد، وعضواً ذائباً في النسيج الاجتماعي.. وهكذا دواليك؛ فكل سلطة تسعى لجعل وظيفة الجسد فاعلة في ضمن منظومة وجودها واشتغالها ومقاصدها. وجميعها تستلبه، بهذا القدر أو ذاك؛ أي تسلبه بعض مقومات ذاته الإنسانية.
ليس هناك في المحيط الاجتماعي/ الإنساني من جسد حر تماماً.. فالمحيط يفرض منطقه وقيمه ومعاييره السلوكية وإكراهاته ـ وهي ليست متشابهة في المجتمعات المختلفة ـ على الجسد فيكتسب الأخير ( وفي حالات معينة يفقد أو يلتبس عليه ) مغزى كينونته ومحموله الدلالي والرمزي وطبيعة وظيفته تبعاً لذلك.. الجسد ملكية فردية خاصة، وملكية مجتمعية في الوقت نفسه، وتتباين النسب كماً، وفي شكل العلاقات، بين الملكيتين، بحسب واقع المجتمعات وعقائدها وأعرافها وتقاليدها الاجتماعية ونظمها السياسية إن كانت ليبرالية أو محافظة أو تخضع للحكم الاستبدادي.
وإذا كانت الثقافة بالمفهوم الأنثروبولوجي هي ما تتم إضافته إلى الطبيعة فإن الجسد يتحول في الحياة الاجتماعية المنتجة من حالة كونه جهازاً عضوياً/ بيولوجياً إلى حضور اجتماعي/ أخلاقي، أي واقعة ثقافية.. هذا الحضور هو الذي يجعل الجسد يمتثل ويتنازل عن قدر يكبر أو يصغر من حريته لقاء تحقيق المقبولية الاجتماعية والسياسية والدينية. فيجري ضبط الرغبات والطاقة الداخلية والتحكم بها واستثمارهما لمصلحة الجماعة، أو مصلحة من يقودها.. فيما قوة التوسط هي السلطة، او السلطات والتي تتجذر وتتعقد وتغدو أشد مكراً وتنبث في كل مكان أكثر وأكثر كلما ارتقى المجتمع في سلّم التحضر والتمدن.
ما تريده السلطة، أية سلطة؛ ( أسرية، دينية، سياسية، اجتماعية، الخ.. ) ليس هو تحديد الأفق اللذائذي/ المتعي للبشر وحسب، وإنما أفق طاقتها الحيوية فذلك الأفق يتصل بأفق الحرية، أو ربما بالفوضى أحياناً.. إن تحديد ذلك الأفق وضبطه يعني التحكم بالأجساد وسوْسها.. يصل ذلك التحديد حتى إلى المتع الخاصة بالفنون الإبداعية؛ المتع الأكثر شخصية وفردية وحميمية حيث تؤطر بمحددات وقوانين وأنطقة تحريم.. يشبِّه رولان بارت استيلاء السلطة على متعة الكتابة "شأنها إزاء كل متعة" باستحواذها "على مولود المتعة الجنسية لتجعل منه جندياً مناضلاً يعمل لصالحها".
باتت معايير الملكية وأحكامها وقوانينها في المجتمعات الرأسمالية الحديثة والمعولمة تنطبق على الجسد أيضاً، حيث ينحل مثل أية سلعة إلى قيمتين ( استعمالية وتبادلية ) في سوق العرض والطلب فيباع ويشترى؛ الجسد الرياضي المستثمر في سوق المسابقات والفرجة التي تتعولم أكثر وأكثر، وكذا جسد عارضة الأزياء، وفتاة الإعلان، الخ.. إن الرأسمالية التي تتسع في دائرتها الكونية مساحة ما يُعرف بالاقتصادات غير الشرعية والمشبوهة تستثمر الجسد لا في العمل والفن، وعروض الفرجة والاستيهامات الجنسية والدعارة وحسب وإنما في الجريمة المنظمة والحروب التي من أدواتها المرتزقة كذلك. فيعاد استملاك الجسد لزجِّه في سوق الاستهلاك.. "إن المرء يسيّر جسده، يدبِّره مثلما يدبِّر ملكية، ويتلاعب به مثلما يتلاعب بواحد من دالات المركز الاجتماعي" كما يقول بودريارد.
تتجاوز البلاغة الجسمانية حدود الجغرافيا والفوارق الثقافية وتخترقهما؛ في مشاهد القوة والإغراء التلفازية والسينمية، في عروض الأزياء والسيرك وألعاب الرياضة، وفي أفلام البورنو، وغيرها. وقد سرّعت القنوات الفضائية ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي من وتيرة عمليات الاتصال وفاعلية التأثير.. فالجسد يعولم عبر تسليعه وإتاحته للفرجة؛ أن يكون مركز اهتمام داخل نطاق بصري متاح وعابر للحدود، حيث يجنسن العالم على وفق مقتضيات السوق الرأسمالية المعولمة، وحسابات الكلفة والربح.
يصبح الجسد القابل للاستملاك وإعادة الإنتاج والتسويق غرضاً عابراً للحدود والقوميات واللغات من خلال الانترنت والميديا والإعلان التجاري.. غرض جذاب بعد تتبيله بنكهة جنسية، والهدف استدراج البشر في كل مكان إلى تقمص أشكال وتبني معايير جمال معينة وموضات ذات طابع عالمي؛ في اللباس ودرجة الرشاقة وقصّة الشعر ولونه، وحركات الجسم وأسلوب الكلام، وميكانزمات استخدام الأشياء وأنماط العلاقات وطرق الاتصال الجنسي وفي الممارسات اليومية عموماً.. ويجري الترويج لقيم جديدة تنكل بتلك التي درج الناس على احترامها. فجانب من العولمة تفعِّل هزّات أخلاقية بعضها يطيح لا بكرامة الجسد فقط، وإنما بفكرة الحرية والعدالة، أحياناً، أيضاً.
تقول لوريتانا بوليوني في كتابها (الاقتصاد العالمي الخفي ) وهي تتحدث عن ازدهار تجارة الدعارة المعولمة، تلك التجارة التي صارت مادتها نساء من بلدان شرق أوروبا المستقلة حديثاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي:
"مثل مروجي الحلم الأمريكي يتصرف مسوقو صناعة الدعارة العالمية وكأنهم أشخاص عظام لا يبيعونك المنتجات فقط، بل وأيضاً أسلوب حياة جديداً، فقد غيّر قوادو العولمة أخلاق الطبقة الوسطى، وأصبحت الدعارة السلافية ورقيق الجنس مجرد إكسسوارات في ثقافة جديدة مجازة يمكن فيها للراشدين وحتى الأولاد بيع الجنس وشراؤه بحرية بموافقتهم".
لم يعد جمال الجسد هبة الطبيعة.. إنه مزيّة تُكتسب عبر طقوس وممارسات وباستخدام مواد مصنّعة وتقنيات ترشيق وتجميل، فيما المقاييس والرؤى والأحكام معولمة ومجنسنة غالباً. حتى ليغدو نيل الجمال قرين النجاح والحصول على مكانة، حيث الجمال بتعبير بودريارد: "علامة اصطفاء على مستوى الجسد مثل النجاح على صعيد الأعمال. ناهيك بأن الجمال والنجاح يرتديان، في مخازنهم المتعاقبة، رداء الأساس الصوفي ذاته: لدى المرأة نجد الحساسية الكاشفة والمثيرة ( من الداخل ) لكل أجزاء الجسد. ولدى المقاول، نجد الحدس المناسب لكل احتمالات السوق".
يدخل الجسد الجميل والمثير في ضمن اهتمامات الاقتصاد ما بعد الحديث حاله حال قوة العمل بالإحالة إلى بودريارد.. إنه الجسد الذي ينفق في سوق الرشاقة والتجميل والصحة البدنية عشرات مليارات الدولارات، ويعرض نفسه في سوق الإنتاج كغرض قابل للاستعمال والمبادلة والتثمير.
ما يحصل هو التلاعب بالرغبة، إثارة الغلمية، إغراق الأشياء بالظلال الجنسية وإشباع الصور، الكلمات، والإعلانات بالإيحاء الجنسي.. يصبح الظفر الموهوم ذو الطابع الجنسي صنو الشراء؛ من المشروبات الغازية إلى العطور إلى السيارات.. اشتر وستنال إعجاب امرأة فاتنة ستنقاد إليك وتكون طوع أمرك.. وفي معظم الأحايين تتسم الإعلانات بالرؤية الذكورية جاعلة الأنثى غرضاً.. بيدك زجاجة المشروب الوحيدة والمرأة تنظر إليك وتتلمظ.. الإعلان يقول أن المرأة لن تكتفي بزجاجة المشروب إنما سترغب بك أنت؛ حاملها ومالكها.. تحصل علاقات الحب استيهامياً بتوسيط السلع، وأي شيء آخر لا ضرورة له.. الجسد المستعمل للفرجة، الذي يُغرَّب عن ماهيته؛ في أن لا يكون هو ذاته، ينقل العدوى للمتفرج الذي يستغرق في خيلات عابرة تبعده عن ذاته أيضاً.. لا أتحدث هنا، بطبيعة الحال، عن الفنون الجميلة التي مادتها الجسد؛ ( السينما، المسرح، الأوبرا، التلفزيون ).
يخلق الاقتصاد الرأسمالي المعولم حاجات زائفة، يفرضها من طريق وسائل الترويج والإعلان، وبذا فهو يوطد أسس مجتمع الاستهلاك وقيمه، حيث الاستهلاك مثلما يقول بودريارد "منظومة قيم، مع كل ما يتضمن هذا المفهوم من وظيفة دمج الجماعة ومن الضبط الاجتماعي". والنظام الرأسمالي يُعيد إنتاج نفسه بوساطة ترويض المجتمع على الاستهلاك اللاعقلاني، وله في ذلك آليات عديدة، لعل من أخطرها ( التسليف ) الذي يمهد السبيل لرخاء سريع يربط المرء بعجلة النظام لتشكيل ما يسميه بودريارد بالعقلية الاستمتاعية. فيؤدي التسليف أخيراً إلى حالة من "ترويض اجتماعي ـ اقتصادي مبرمج على التوفير القسري وعلى الحساب الاقتصادي لأجيال المستهلكين الذي كان يمكنهم، لولا ذلك، أن ينجوا على امتداد حياتهم، من تخطيط الطلب، وكان يمكنهم الانفلات من الاستغلال بوصفهم قوة استهلاكية".. تشبه عملية التسليف في داخل المجتمعات الرأسمالية عملية إغراق دول الجنوب، أو ما كان يُعرف بالعالم الثالث، بالديون لإبقائها في حالة تبعية مستمرة، وإحراج سياسي دائم.
إن اقتناءك لبضاعة لا تحتاجها أو لا فائدة منها لك يعني أنك تنفق نقودك على ما يبعدك عن ذاتك.. نسيان الذات هو التجارة الرائجة اليوم في حقل الصناعة الثقافية الرأسمالية. وأي شيء أفضل من الجسد/ القوي والجميل والمثير والمتطلب والمغامر يصلح أن يكون مادة استثمار بهذا الصدد. العملية برمتها تبغي استدراجك لتكون جزءاً من مجتمع الاستهلاك، حيث الحاجات الوهمية البراقة، والضاغطة. وفي اللحظة التي تدفع فيها نقودك يتلاشى الوهم، تشعر بأنك خُدعت، اشتريت سلعة لا ضرورة لها وليست من ورائها منفعة، حتى بالحدود الدنيا.. كان الإعلان مضللاً، لكنك لا تزال تحت تأثير إعلانات جديدة تترى، تظهر في كل مكان، على الشاشة وفي الصحف والمجلات، على جوانب الطرق والساحات.. تعود وتتأثر بإعلان آخر.. تشتري غرضاً ثانياً وثالثاً وعاشراً، والنتيجة عينها، فأنت تستمر بالوقوع في الفخ ذاته لأنك صرت جزءاً من آلية إعادة إنتاج النظام.. قد تعرف هذا لكنك لا تفعل شيئاً لإيقافه، تعيش استلاباً لا سبيل في متناول اليد للحد منه.
في هذا الفضاء المترع بفوضى الحاجات والأغراض، والملبد بغيوم الجنسانية، يتعمق الشعور بالحرمان، وقد يفقد المرء ثقته بنفسه لاسيما إذا كان منتمياً لمجتمع محافظ يفصل الذكور عن الإناث حتى في الجامعات.. هذا الترنح النفسي بين الصور الخالقة للاستيهامات والواقع هو أس العصاب، وأحياناً السبب العميق المخفي للميل إلى العنف.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن