سيكولوجية (الحصة التموينية) لدى فقراء العراق

فارس كمال نظمي
fariskonadhmi@hotmail.com

2005 / 7 / 17

يقصد بـ(فقراء العراق)، أكثر من (50)% من سكان بلد يكتنز في أعماقه أضخم مخزون نفطي وأشد خصوبة زراعية في العالم، في الوقت الذي تبلغ نسبة البطالة فيه أكثر من (60)% من الأيدي القادرة على العمل* ، ويعاني عدة ملايين من أبنائه من سوء تغذية مزمن، فيما بلغ مستوى تدهور الخدمات العامة الأساسية فيه وغياب برامج التنمية البشرية وتخلي الدولة عن ضمانها لحقوق الفرد في العمل والسكن والأمن، حد الانهيار!
ولأن مصطلح (الفقر) يعني أن معدل الدخل اليومي للفرد لا يزيد عن دولارين (أو دولار واحد تبعاً لبعض المعايير)، فإن (الحصة التموينية) التي ابتكرها النظام السابق ثم شرعنتها قرارت مجلس الأمن، أصبحت طوال اثني عشر عاماً بمثابة كلمة السر لبقاء هذه الجموع الضامرة والمنهكة على القيد البيولوجي للحياة، دون أن ننسى بأن هذه الفتات التموينية لم تكن إلا وسيلة سلطوية لابتزاز شعب، اشترك الجميع في نهب ثرواته وتمزيق هويته وتقويض فرص ازدهاره على مرأى منه.
ومع ذلك، صرنا نشهد اليوم مسؤولين رسميين في السلطة الجديدة، يطالعوننا عبر شاشة التلفاز من حين لآخر، وقد كسا اللحم المتورد رقابهم المصقولة بنسائم أجهزة التبريد على مدار الساعة، بتصريحات عن احتمال إلغاء الحصة التموينية أو استبدالها بمبالغ نقدية تدفع للمواطنين شهرياً. إن العقلية (البراغماتية) التي تحرك هذه التصريحات، أصبحت سمة جوهرية في شخصية السياسي المعاصر الباحث عن السلطة ولو لبضعة أسابيع أو شهور. وهي (أي هذه العقلية)، وبالاستناد إلى الأدبيات الأكاديمية في الاقتصاد الحر، ونزولاً عند شروط مؤسسات العولمة الاقتصادية الاحتكارية الساعية لأمركة التاريخ، لقادرة دوماً على تقديم قوائم طويلة بالفوائد (الجمة) الناجمة عن خصخصة الاقتصاد ورفع الدعم عن السلع الأساسية، كالحصة التموينية مثلاً. ونورد بعضاً من هذه الفوائد (المفترضة) التي يقدمها هؤلاء المسؤولون، على سبيل المثال لا الحصر:
* مكافحة بيروقراطية الدولة وفسادها الإداري.
* استثمار أموال الدعم هذه في مشاريع إنتاجية أكثر جدوى.
* فك الارتباط بين أيديولوجية الدولة ولقمة عيش الفرد.
* الحد من اتكال الفرد على الدولة وتشجيعه على المبادرة الفردية.
* دمقرطة الاقتصاد والنأي به عن المركزية والقطاع العام بوصفهما رديفين للاستبداد السياسي.
ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الرؤى الاقتصادية التي يجري تشكيل اقتصاد (العراق الجديد) على أسسها، فمن المؤكد أنها (أثمرت) على النطاق العالمي خلال العقدين الماضيين (وحسب تقارير صادرة عن هيئات دولية ومنظمات تابعة للأمم المتحدة) جملة من الوقائع، من بينها أن ( 358) شخصاً من كبار أثرياء العالم أصبح حجم مصادر ثروتهم النقدية يساوي حجم المصادر التي يعيش منها (3 ,2) مليار إنسان من فقراء العالم، وأن (20)% من دول العالم صار سكانها يمتلكون أكثر من (85)% من مجموع مدخرات الكرة الأرضية، فيما ينام مليار إنسان كل يوم وهم جياع، ويعيش (5 ,1) مليار إنسان دون رعاية صحية. وبالمقابل، فإن التقويم الاجتماعي والنفسي لعواقب الخصخصة الشاملة والمتسرعة للاقتصاد والتخلي عن مبدأ الشراكة الاجتماعية في ملكية الدولة، يقدم بدوره قوائم تفصيلية بالانتهاكات الفظة التي لحقت بكرامة المجتمعات التي أجبرت على تبني هذه الخيارات، ابتداءاً من ظاهرتي (القطط السمان) و(السكن الجماعي في المقابر) اللتين رافقتا الانفتاح الاقتصادي وبيع القطاع العام في مصر خلال سبعينات القرن الماضي، ومروراً بظاهرة (استيلاء المافيا على الدولة) في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في أواخر العام 1991م وارتفاع معدلات الفقر في دول الكتلة الاشتراكية السابقة من (2)% إلى(21)% بسبب تحولها إلى اقتصاد السوق (باعتراف البنك الدولي نفسه)، وانتهاءاً بقيام بعض حكومات البلدان الآسيوية التي ضربها إعصار (تسونامي) في أواخر 2004م بتشريع قوانين فورية لمنع مئات الآلاف من السكان من إعادة بناء مساكنهم على سواحل المحيط وإجبارهم على الانتقال إلى مناطق ضيقة في الداخل، لإتاحة الفرصة لكبريات شركات السياحة وصيد الأسماك لاستثمار هذه السواحل، تنفيذاً لشروط إعادة الأعمار وإطلاق منح الإغاثة، ضمن ما صار يصطلح عليه بـ(رأسمالية الكوارث).
وتوافقاً مع هذه النظرة، ونأياً عن الرؤية الاقتصادية البراغماتية المولعة بمبدأ (الاقتصاد للاقتصاد)، نورد فيما يأتي عدداً من الوظائف الاجتماعية والنفسية الإيجابية التي تؤديها الحصة التموينية لدى فقراء العراق حالياً، بالرغم من شحتها ومحدودية سعراتها الحرارية، وبصرف النظر عن الملابسات السياسية والاقتصادية التي أدت إلى إقرارها في حياة المجتمع العراقي منذ عقد ونصف:
* تمثل الحصة التموينية آخر خيط ظل يربط الفرد العراقي بدولته، بعد أن تمزقت عرى نسيجهما البنائي والوظيفي المشترك، واغتربا عن بعضهما حد الإنكار والمقت.
* إن الطمأنينة النفسية والشعور بالأمن الغذائي اللذين يغلفان انتظار الفرد العراقي لموعد تسلم حصته التموينية، يعملان بوصفهما (ميكانزماً دفاعياً) وظيفته تجنب أو خفض أو إلهاء القلق الناجم عن تداعي ثقته بدولته. فكأن لسان عقله الباطن يقول: ((نعم، الدولة ليست خائنة كلياً تجاه حقوقي، فهي ما تزال ملتزمة على الأقل بتوفير جزء من لقمة عيشي!)).
* يعد مجرد التفكير باحتمال تسلم سلة غذائية – ولو محدودة جداً – أول كل شهر، تخفيفاً ملموساً للضغوط والتوترات النفسية المكثفة التي يتعرض لها رب الأسرة العراقية نتيجة البطالة وقلة الموارد وانعدام الضمانات الاجتماعية.
* إن لجوء الكثير من الأسر العراقية إلى بيع بعض مواد حصتها التموينية لشراء سلع أخرى تفتقدها، ريثما تتسلم مستحقاتها من أجور أو رواتب أو معونات في مناورة للتوفيق المؤقت بين احتياجاتها، إنما يحقق إرضاءاً نفسياً محدوداً لها بأنها متحكمة نسبياً بمصيرها وقادرة على البقاء البيولوجي بالرغم من كل شيء.
وبذلك يمكن القول أن الحصة التموينية أصبحت جزءاً من مفهومي (الأمن الاجتماعي) و(الأمن النفسي) في العراق، إذ يحصل عليها كل عراقي بما فيهم الشيوخ والأطفال والعاجزون والمعوقون والمتقاعدون وربات البيوت ونزلاء المستشفيات والسجون والعاطلون عن العمل. ولعلها بذلك تمثل المصد الأخير للحد من تعاظم معدلات الفقر والجريمة وجنوح الأحداث والإدمان والتفكك الأسري والعنف الاجتماعي والاضطرابات النفسية. وإن إلغاءها في الوقت الحاضر أو استبدالها ببضعة دولارات تتبخر قيمتها فوراً في دوامة التضخم الاقتصادي، وقبل أن تنجح الدولة بتحريك عجلة الاقتصاد واحتواء البطالة وإرساء قواعد دستورية وإجرائية متينة للضمانات الغذائية والصحية والاجتماعية، سيعني في منظور السيكولوجيا الجمعية لفقراء العراق، أن السلطة الجديدة قد أصابتها عدوى (السادية) و(الأنانية) من السلطة التي سبقتها، وإنها قد اختارت حشرهم نهائياً في مزرعة أمريكية عصرية للعبيد اسمها (البنك الدولي)، الذي تسلم (بول وولفويتز) رئاسته مؤخراً بعد أن أنهى مهمته (الناجحة) في (البنتاغون) بوصفه المنظـّر لعملية احتلال العراق!


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الإحصائيات المتعلقة بنسب الفقر والبطالة في العراق اقتبست من تقرير صادر عن كل من برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في أيلول 2003م. وتعد هذه الأرقام أكثر تحفظاً من تقديرات أخرى للأمم المتحدة جاءت بعدها وحددت نسبة الفقر في العراق بين (70 – 80)%، ونسبة البطالة بـ(72)%.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن