العرب بين رمل العقول ولفح السماء قراءة في رواية توفيق الحكيم ( عصفور من الشرق)

الطيب طهوري
ttayeb19@gmail.com

2014 / 4 / 1

تمخض الاحتلال الرأسمالي للعالم العربي عن غلق لأفق سيره الطبيعي نحو البرجوازية ( هل كان هناك سير طبيعي نحو البرجوازية فعلا؟) وادى ذلك – بالضرورة – إلى تفكيك بنية الواقع الاجتماعي العربي التقليدي ليتشكل على شبه أنقاضه واقع مغاير – نسبيا – ..
تحدد هذا الواقع الجديد بكونه خليطا من علاقات اجتماعية سابقة متداخلة وشبه ساكنة بعلاقات اجتماعية برجوازية كولونيالية ، لا امل في تقدمها محليا إلا في إطار ما هو في خدمة مصلحة ذلك الاستعمار أساسا ..وكان ذلك التشكل بطبيعة الحال تدريجيا..
لاشك أن المتتبع لهذا التغير الذي تم بالقوة العسكرية أساسا يلاحظ انه انعكس بشكل أو بآخر وبكيفية تدريجية أيضا في مجال الأدب العربي مضمونا وشكلا ، سواء كان ذلك الأدب تقليدا للماضي أم تقليدا لحاضر الآخر مالك القوة المهيمن ، أم إبداعا خاصا يتماشى مع واقع العرب في تلك اللحظة وهم في ما يشبه حالة الضياع..ولعل الرواية بحكم افقها السردي الواسع ومقدرتها على التعبير عن شرائح اجتماعية واسعة كانت النوع الأدبي الأول الذي استطاع أن يعبر عن ذلك الواقع– حتى ولو لم يكن ذلك التعبير مكثفا وعميقا وواعيا يتماشى ومتطلبات الواقع وظروفه في تلك المرحلة أي في زمنها التاريخي منذ بدء التفكيك إلى مرحلة الانغلاق المطلق لأفق هذا العالم العربي في تبعيته للغرب الرأسمالي ، وهي التبعية التي ما تزال متجذرة حتى الآن– شئنا ام ابينا –وهو الانغلاق الذي ادى أيضا إلى ضعضعة الإنسان العربي وجعله إنسانا يشك حتى في ذاته ، وجعل عقله أبعد عن الموضوعية وأقرب – بكثير – إلى الانفعالية العاطفية الطفولية .. نقرأ في هذا الإطار الكثير من الروايات العربية المعاصرة التي طرحت مشكلة التبعية تلك ، ومن ثمة العلاقة بين هذا العربي التابع الذي تسيطر على ذهنه الغيبيات والنظرة الأحادية للمجتمع والوجود وذاك الغربي الذي يتحدد فيه العقل كمحرك أساس لوجوده بأشكال متنوعة ورؤى متعددة ..
وإذا كانت رواية الطيب صالح ( موسم الهجرة إلى الشمال ) باعتبارها إحدى الروايات المفصلية التي طرحت تلك العلاقة بقوة قد انتهت بغرق بطلها مصطفى سعيد في النيل – بعد ضياعه سنوات طويلة في ذلك الغرب الرأسمالي غازيا جنسيا دون أية نتيجة – لتقول لنا بأن الانطلاقة الحقة / الحرث من اجل تقدم هذا العالم العربي هي هذه الأرض التي شربنا حليب ثدييها ، دون أن تبين الكيفية التي بها نحقق ذلك التقدم ، فإن الرواية التي ننوي معالجة بعض جوانبها في هذه الدراسة وهي رواية توفيق الحكيم ( عصفور من الشرق ) تختلف في منطلقها الأساس عن رواية ال ( موسم...) حيث يلاحظ أن بطل رواية الطيب صالح كانت انطلاقته الأساسية هي تحدي ذاك الغرب في عقر داره ليثبت له مدى ذكائه ومدى مقدرته على المشاركة في حضارته المعاصرة ، ولينتقم منه عن طريق غزوه جنسيا ( ربما كان ذلك الغزو رمزا لعقلية ونفسية الإنسان العربي الذي يسيطر على كيانه الجنس بشكل مريع نتيجة الحرمان منه في واقعه العربي الذكوري الخاضع لعادات ما يسميه بالشرف الذي يبرز اكثر في تضييقه على المرأة ، لكنه لا يتورع عن الانغماس بشكل كلي فيه إذا ما وجد نفسه في واقع آخر تكون المرأة فيه اكثر حرية وإرادة واكثر تملكا لجسدها )، رغم أن وجهة النظر هذه تبدو ضيقة نوعا ما..فإن رواية الحكيم ( عصفور من الشرق) تقدم بطلها من منطلق انه شخص يذوب حبا في تلك الحضارة الغربية ، لكنه حب من نوع آخر..غريب تماما عن الحب كما هو في ذلك العالم..
يقف محسن بطل الرواية كصفصافة الأحزان ..غريبا ذاهلا في بلاد غريبة عنه بكل مظاهر حياتها ..بعلاقاتها الاجتماعية التي لم يعرف إلا نقيضها في بلاده..بثقافتها المتحركة المتعددة خلافا لثقافة بلاده التقليدية شبه الساكنة ..برؤيتها المتفتحة للكون والحياة خلافا لرؤية الناس الضيقة المحاصرة في بلاده..يقف ضائعا في تأملاته الذاتية شبه الطفولية المليئة بالأوهام ..يبدو كل ذلك في تعلقه اللاعقلاني واللامجدي بفتاة لا يعرف عنها أي شيء ..لا يعرف اسمها حتى ..إنه البدوي الذي جيء به من رمل الصحراء الاجتماعية ليلا ليجد نفسه صباحا يغوص في بحر حياة جديدة عنه كل الجدة وهو الذي لم يواجه موجا في كل حياته ،ولم ير امامه سوى الكثبان ولم يسمع سوى بعض الأصداء التي تقول بأن اجداده البعيدين كانوا في لحظة ما من حياتهم قد خاضوا مزهوين بحارا كانوا يتحكمون فيها..يحب تلك الفتاة ويخاف من الاقتراب منها..يتوق إليها ويقف مرتجفا حين يراها ..يتقدم نحوها وتشله القيود فلا يصل إليها.. كانت الفتاة بائعة تذاكر في أحد مسارح باريس..وكان هو العربي قد هاجر كالكثير من أبناء وطنه ،هاجر بأوهامه قبل جسده المتراكم في السكون الطويل .. وبمعنى أصح جيء به نتيجة فعل الاستعمار في بلده ..كان يكرر تحيته الصباحية ..يقف قليلا..ثم يسير..يكرر تحيته المسائية ..يتسمر طويلا ربما..ثم يغادر..ياخذ صورتها في ذهنه ويغادر..لم تحقق تلك التحية شيئا له..وما كان لها أن تحقق وهو والفتاة بائعة التذاكر في شباك المسرح يختلفان..يختلفان..يعود الفتى إلى غرفته..يستمنئ كعادته كل ليلة ..وينام بعد جهد جهيد ..ماذا وراء تلك العلاقة ؟..ما المقصود بتصرفات الفتى محسن؟..من تلك الفتاة؟..ما المسرح؟..ما؟..ما؟..
الرواية ( عصفور من الشرق ) – بشكل او بآخر – معادل موضوعي لواقع اجتماعي هو واقع تلك التبعية ..تلك الهيمنة ..واقعهما معا في إطار علاقة التداخل المتشابكة بينهما..إنها علاقة هذا التابع العربي المتخلف المضطرب في سكونيته ..شبه الضائع..شبه المعلق بين ال هنا / محليته والاخر المهيمن والماضي ، وذاك الآخر المهيمن مالك القوة والحركة ، والذي يفرض عليه – بشكل أو بآخر أيضا – البقاء في تخلفه..
محسن إذن هو هذا الإنسان العربي الحالم الواهم الذي وجد نفسه يعيش في حضارة الغرب على الهامش..غريبا ..يتمنى الاندماج..لكنه يعجز..خوفه المتراكم في الذات (ذاته) من الآخر يمنعه..الاخر هذا غزا بلاده..رجها بعنف..خوض ماءها الآسن..ربطها به وبإحكام شديد..حاضرا ومستقبلا..أفرغها منها وتركها تمتلئ بالكثير من النفايات..دفعها إلى الوراء فارتمت في أحضان ماضيها مغمضة العيون..وإلى الأمام فتحركت لا ترى شيئا ..عصاها انكسرت وعيونها غشاها الضباب..
سوزان هي ذلك الغرب..حضارته المتكبرة ..المسرح أيضا هو تلك الحضارة..تغري بجمالها وتتمنع عن كل من ليس منها..توهمه بإمكانية امتلاكها..وتمنعه..يتفرج فقط..هكذا يبقى..في المسرح ذاك لا يمثل الأدوار ..لا يتحرك على الخشبة إلا هم / أهلها..الآخرون يتفرجون..يدفعون المقابل ويتفرجون.. ويخرجون..لا يمكنهم التمثيل ..أبدا لا يمثلون..يمثل بهم فقط..ويتأوهون..يعيشون في الدوامة..دوامة الصراع النفسي الرهيب..طموحاتهم لا حد لها، وهمية أكثر ..وإمكانيتهم لا اكثر ضعفا منها في الوجود..لا تكافؤ في العلاقة بينهما .. محسن وسوزان.. الصمت دائما هو ما يتلقاه محسن..ترد التحية سوزان ..لكنها التحية الصامتة..الشكلية اللامبالية..الصمت ذاك هو العجز عن امتلاك القدرة على الفرض..فرض الحوار المتبادل ..لكنه المستحيل..ذاك أن الحوار قوة..ولا قوة للطرف العربي..صاحب القوة / مالكها هو الذي يفرض ما يريد..وقد أراد إخضاع الآخر له..جعله تابعا، يدفع ليتفرج..لكنه لا يمثل أبدا..لا دور له في مسرح الحياة..الأقوياء فقط يمثلون ..
ولأن الأمر هكذا..يثير سلوك محسن اللامجدي انتباه الآخرين فيسخرون منه..يجعلونه حكايتهم الساخرة..وهذه السخرية هي حقيقة علاقتنا بالغرب الرأسمالي..وربما العالم كله..
وهاهي جرمين – مظهر آخر من مظاهر حضارة الغرب – تتساءل بعد أن تعرف كيفية عشق محسن لسوزان:أهذه المرأة في باريس أم في كتاب ألف ليلة وليلة؟؟..وهذا اندريه يقول: وهذا الشباك أين هو؟..في أي قصر سحري يوجد؟..
إنها المقارنة الساخرة المؤلمة بين عالم باريس / الغرب وعالم ألف ليلة وليلة/ القصر السحري / الشرق/ العرب.. وإذا كانت هذه التساؤلات تكشف لنا ذهنية الإنسان الغربي المرتبطة اكثر بواقعه العملي العقلاني ، فإنها تعطينا في المقابل صورة عن ذهنية العربي المنغرزة أكثر في الأوهام..
يبدو محسن في الرواية شخصية لا تعرف التعامل مع الواقع ، واقعها او واقع الاخرين إلا بالاوهام التي حملتها في الذات بالوراثة الاجتماعية الثقافية ، وهو التعامل الذي يجعلها عاجزة عن فهم نفسها وفهم الآخر المهيمن القوي ، من جهة ، والعيش في متاهات الصراع النفسي الممزِّق لها بين طموحاتها اللامحدودة وإمكانياتها الفقيرة جدا جدا ، من جهة أخرى..
هذا التعامل الذي تميزت به شخصية محسن هو ما يعطينا الفرق الجوهري بين الإنسان العربي السلبي في علاقته بحركة الحياة والإنسان الاوروبي الإيجابي الفاعل فيها ، حيث تتحكم في العربي النظرة الذاتية الميتافيزيقية التي ترمي همومه على الله منتظرة منه المساعدة في علاقته بالوجود ومشكلاته ، ومن ثمة كان عجزه المتواصل عن فهم أسرار الحضارة الغربية المعاصرة وآلياتها وأبعادها، وقبل كل ذلك واقعه هو ذاته..والإنسان الغربي الذي يتميز بنظرته الموضوعية في علاقته بهذا الوجود وإنسان هذا الوجود ومشاكله وقضاياه ..
ما يؤخذ على توفيق الحكيم في هذا الإطار هو اعتباره تلك الظاهرة في جانبيها العربي والغربي وكانها ظاهرة طبيعية كان لابد لها ان تكون هكذا دون البحث – روائيا طبعا – عن مجمل الظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية التي جعلتها هكذا ، ومن ثمة كان وقوعه في نفس الخطأ الذي رفضه ، أعني طريقة تعامل الإنسان العربي مع الوجود وإنسانه وقضاياه ومشاكله، حيث أصدر الحكم لكنه لم يبحث عن مختلف الأسباب التي أدت إلى تلك السلوكات التي اوصلت إليه..ذلك أن شخصيات الرواية ، أية رواية ، لايأتون من فراغ أبدا..إنهم اناس ورقيون حقيقة لكنهم ليسو مفصولين أبدا عن واقع الكاتب الذي اختارهم واثث بهم عمله الروائي ..إنهم أناس يعكسون بنية او بنيات اجتماعية..وفي هذه الرواية يعكسون بنيتين شبه متناقضتين في مكوناتهاما منطلقات وأهدافا..يتحدد العربي فيها متوجسا من الآخر، ينظر إليه بعين الشك والريبة ..خائفا أيضا من المغامرة في المجهول ، لأنه مقيد في الأساس ببنية ذهنية ونفسية تمنعه من التفاعل الإيجابي مع الآخر ، وقد عمق ذلك اللا تفاعل ما مارسه الغرب الاستعماري في بلاد العرب ..كما تمنعه من المغامرة في مجهول الحياة بحثا واكتشافا..
لكنه من ناحية أخرى اعطانا وبشكل فني عميق صورة عن تلك التناقضات التي تتميز بها شخصية محسن وهي تناقضات تبرز في ذات الإنسان العربي عموما ..هاهي جرمين الفرنسية تقترح عليه لإخراجه من حالة التردد الدائمة امام سوزان تقديم باقة ورد لها ( لسوزان) ، لكنه يهديها ببغاء في قفص..إنه بمعنى ما هو تلك الببغاء..وإن مكوناته الذهنية النفسية هي ذلك القفص..إنه تصرف غريب حتما..هكذا يبدو لكل مدرك لعلاقة الحب بين الأنثى والذكر..ذلك أن الورود هي مفتاح العلاقات بين الإثين كما هو متعارف عليه..لكن هناك، في الغرب..لا هنا ، حيث العرب صحراء غبار لا تسمح للورود بالتفتح فيها..لا حياة سوى حياة قمع المشاعر وقتل الأفكار وتكريس العجز والخوف..
إذا ربطنا هذا الموقف / التصرف بتصرفات محسن السابقة ندرك رمزية الببغاء..إنه تلك الشخصية العربية العاجزة عن التعبير عن نفسها وفق حاجاتها وطموحاتها وأفكارها وإرادتها ، لا لسبب سوى كونها لا تمتلك تلك الإرادة أصلا ، لأنها لا تمتلك حريتها ..ولا طموح لها ..لا أفكار لها ، لأن بنيتها الاجتماعية مغلقة بصخرة الماضي التي تخنق انفاسها ، وبعقدة الخوف من المغامرة التي تمنعها من التفاعل مع الحياة نتيجة خمولها المتراكم تاريخيا وعقليتها التي لا تخرج من حالة اجترار ماقاله الأسلاف..نقول ذلك لأن الببغاء هدية ، والهدية - باعتبارها اختيارا ذاتيا - تعكس نفسية صاحبها ..والببغاء هنا بمعنى آخر تحيل إلى العجز عن التكلم واللجوء إلى الآخر ليتكلم نيابة عن ذلك العاجز..وفي البدء كان الكلمة..الكلمة ليست صوتا يخرج من الفاه فقط..إنها تعبير عن إرادة فعل ما..توصيل موقف ما..فكرة ما..والعرب لا إرادة..لا موقف..لا أفكار..إنهم اجترار متواصل..عن فلان قال..عن علان قال..قال..قال..قال..أصداء تتواصل في كهوف التيه..من هنا ليس في مقدور هذا العربي فهم الآخر..إدراك كنه حضارته..معرفة ما في تلك الحضارة من تنوع وتعدد..واختلاف..حضارة الآخر القوي المهيمن الآن لا تكون في نظر هذا العربي إلا وجها واحدا هووجه الاستغلال والهيمنة..والإغراء أكثر..لا شك في ان هذا الوجه عميق فعلا في تلك الحضارة..لكنه ليس وجهها الأوحد بالتاكيد..
يركز الحكيم اكثر على إبراز هذا الوجه الهيمني داخليا وخارجيا..مع بعض الإشارة إلى بعض الأوجه الاخرى ..نعرف الخارجي اكثر ..فما هوالداخلي ياترى..؟..إنه تلك العلاقة الجنسية التي تخضع فيها سوزان القابضة في شباك المسرح لمدير المسرح رغم معاملته القاسية لها..إنه الاستغلال إذن.. سوزان قوة العمل والمدير هو الرأسمالي الذي يتحكم في تلك القوة ..ينتهكها لإشباع غرائزه ، من جهة ، وملء جيوبه من جهة اخرى..هكذا هي حضارة الغرب الرأسمالي واقعيا..لكن العربي لا يعي ذلك..كل الغرب الاجتماعي كتلة واحدة في نظره ..تتكبر عليه وتعامله باحتقار..وحتى لو افترضنا ذلك جدلا، فإن السؤال يطرح: لماذا؟..أين نحن العرب بمكوناتنا وسلوكاتنا من نظرة الاخر إلينا وطريقة تعامله معنا..؟..لا نقرأ نحننا..لا نعينا..ذاك يعني استحالة قراءتنا الآخر..وعيه ووعي وجوده وعلاقته بنا..نعيش بالصدفة أكثر..وفق ما نمليه علينا غرائزنا..كما القطيع تماما..بل قطيعا نعيش.. لا تعدد فينا..احاديون نحن..الاخر في نظرنا احادي أيضا..قطيع مثلنا..هكذا هو وجودنا..وهكذا هو تصورنا للحياة..وللآخر..هنا يتدخل الحكيم..يدفع بمحسن إلى جلبة الحياة أكثر..وفي ذلك إشارة إلى وجوب أن يخرج العربي من شرنقته إلى زخم الحياة..يرتمي فيها ليعرفها ويدرك سرها..يقول محسن:(إن سر تعاستنا هو اننا نعيش نعيش في هذه الحجرات المغلقة ، إننا نجهل الواقع وطرائقه المباشرة، لا شيء يكتسب بالخيال في هذه الحياة) ..
هكذا يندفع محسن فيقدم ببغاءه لسوزان..يهديها ببغاءه سجينة القفص ويتصور انه وصل..الببغاء كما قلنا سابقا هي ذاته العاجزة..العاجزة هنا عن التملص من قفص الحضارة الغربية لأنه لا يعيش إلا بما تنتجه ليشبع حاجاته الضرورية أو بعضها ..والعاجزة عن التملص من بنيته الذهنية النفسية التي وضحنا مكوناتها سابقا..لم يصل إذن بإرادته الحرة الواعية المسؤولة..وصل بإرادته السجينة بقفصين لا قفص واحد..أي بلا إرادته..أي بإرادتها تلك السوزان..إنها الجاذبة المحركة لمحسن الغائب فيها..إنها المغرية الجاذبة..لكنها التي لا يمكنه مسها وقطف ثمار أنوثتها المتفتحة..تلك الثمار للمهيمن الحقيقي المتحكم فيها، أعني المتحكم في تلك الحضارة..رأسمالييها..لا تنطق الببغاء إلا كلمة واحدة: احبك..الكلمة التي عجز محسن عن قولها ..هل يحيل ذلك إلى استحالة التواصل بين العرب وتلك الحضارة الغربية المعاصرة؟ ..هنا يدب الفتور إلى قلب محسن....يعود إلى واقعه الحقيقي..يدرك كم كان خياليا وهميا..لكنه إدراك الانفعال /الفشل/الخيبة ، لا إدراك الوعي..الوعي عمل على التغيير..بحث عما يغير حاله..لكن محسنا لا يعمل شيئا..لا يبحث عن كيف يغيروضعه..يستكين اكثر إلى الفراش/ العجز..لا يستيقض من نومه حتى يعود إليه..مل النوم منه ولم يمل هو منه ..إنه الضياع إذن..إنه الشلل.. بمعنى آخر يمكن القول بأن (محسن) هو المعادل الموضوعي للعرب باعتبارهم يعيشون وضعا تبرز فيه ثنائيتهم المتمثلة في الجمع بين شكل الحياة الاجتماعية ما قبل الاستعمار وشكلها في إطار هذه العلاقة التبعية ،وهو ما أدى إلى جعلهم يعيشون صراعا وهميا بين ما يسمونه أصالتهم وإصرارهم على الهروب إلى الماضي ، من جهة ، والسماء ، من جهة اخرى ، دون جدوى تذكر ( لعل النوم يحيل إلى هذا المعنى أيضا)،وذلك الغرب الذي يغزوهم بثقافته الاستهلاكية ،وتقدمه المتواصل الذي يعمق فيهم إحساسهم المتواصل بالعجز.. العرب في هذه العلاقة المتشابكة التي يبدون فيها تائهين متأرجحين بين زمنين لا فعل لهم فيهما هما زمن الأسلاف الذي لا يعود وزمن الآخر الحاضر الفاعل الذي يقفون منه موقف العاجز المتفرج المستهلك ليس إلا ..تصبح محاولتهم الخروج من شرنقتهم تلك شبه مستحيلة ، لأنهم كلما ازدادوا شعورا بالعجز ازداد هروبهم إلى السماء تدينا مفرطا وإلى الماضي افتخارا بالأسلاف الذين لا يستيقظون..وكلما ازداد هروبهم ذاك ازدادوا فقرا فكريا ويأسا نفسيا وقلة عمل وإنتاج وزيادة حاجة إلى ذاك الآخر ..ومن هنا يزداد صراعهم النفسي وضياعهم وانقسامهم بين منكفئين على أنفسهم في التدين الشكلاني المفرط ومنجذبين بشدة إلى ثقافة الاستهلاك المغرية المشيئة لهم..وفي الحالتين لا يكون إلا التيه في صحراء الجفاف التي لا تنبت شيئا..
ومن هنا أيضا يكون ذلك الصراع الوهمي بين الطرفين فاتحا المجال ، من جهة ، للاتهامات المتبادلة : أنت رجعي وانت تغريبي ..إلخ، ومن جهة أخرى للقوى المهيمنة المحلية - التي هي بشكل أو بآخر وسيط تجاري بين واقع عربي مستهلك وواقع غربي رأسمالي منتج - لتفعل ما تريد مادامت لا تجد أمامها سوى هذين الطرفين المتصارعين في الوهم وبالوهم..
الرواية بهذا المعنى تميل إلى أن تكون نقدا لاذعا لهذا المجتمع العربي بالحال التي صارعليها ..
الرواية اخيرا لا تغلق الأبواب كلها..تترك بعض بصيص أمل..يلتقي إيفان الروسي بمحسن ..يتحول محسن بفضل إيفان تدريجيا ..يحاول إدراك نفسه وتملك وجوده..يقول موحدا بين أوربا وسوزان: نعم، أنانية ، لا تعرف غير حياة الواقع( واقعها) ولا يهمها شقاء الغير ، ولا تحب الحياة إلا في...الحياة)..
هل أدرك محسن نفسه فعلا ، وعاها؟..هل تملك وجوده؟..واقعنا العربي يقول : على النقيض من كل ذلك هو ما يحصل..لقد ازددنا هروبا ..تماما كما ازددنا ارتماء في ثقافة الاستهلاك الإغرائية..ازددنا تيها في صحراء جفافنا..لاشك..لا شك....



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن