كيف نعرف الحق؟

أحمد القبانجي

2014 / 3 / 30

قالوا وقلنا:........

قال السيد المسيح:( اعرفوا الحق والحق يحرركم )-انجيل يوحنا-8-32.
وقال الامام علي:( الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله )-نهج البلاغة- الحكمة 262.

أقول : الكلام المذكور اعلاه في هذين الحديثين صحيح تماما, فاذا عرف الانسان الحق احبه وهذا الحب هو الذي سوف يحرر الانسان من سجون العقائد الباطلة وقيود الانانية ويمنحه الشجاعة والجرأة للتخلص من ضغط المجتمع والعرف, وكذلك يستطيع بهذه المعرفة للحق ان يميز بين اهل الحق واهل الباطل, والمقصود من الحق هنا هو الحق في القضايا الدينية وليس الحق بين طرفين والذي يبحث في باب الحقوق كحق الزوجة وحق العامل وحق الحكومة وامثال ذلك, وكذلك ليس الحق بمعنى الحقيقة العلمية التي تثبت بالتجربة والمشاهدة..
ولكن المشكلة الاهم: كيف نعرف الحق حتى نستطيع بعد ذلك ان نتحرر او نعرف اهل الحق؟ ومعلوم ان جميع الفرق والمذاهب تدعي انها هي الحق وما عداها باطل. حتى مقولة المسيح: انا الطريق والحق والحياة, لا نستطيع الالتزام بها ما لم يثبت لدينا انه هو الحق او هو الله, اي ان التصديق بهذه العبارة يستلزم الدور المنطقي, مضافا الى ان كل مؤسس لدين يقول هذا الكلام.. فكيف السبيل لمعرفة الحق؟

بداية نستعرض المعايير لمعرفة الحق والحقيقة وأهمها :
1)التطابق:اي التطابق مع الواقع الخارجي,فاذا كانت القضية متطابقة مع الواقع الخارجي فهي حق,فلو قيل ان السماء ممطرة الان وكانت ممطرة فعلا فالقضية صادقة وحق والا فلا,ويستخدم هذا المعيار في القضايا العلمية من خلال التجربة والمشاهدة والاستقراء,وتقدم ان القضايا الدينية والاخلاقية لا تملك واقع خارجي مادي,ولذلك لا يمكن استخدام هذا المعيار, مضافا الى ان الحقائق العلمية لا تحرر الانسان من سجن الانانيات وقيود الشهوات ولا تستطيع المرء تشخيص اهل الحق من اهل الباطل.

2)التوافق:اي التوافق والانسجام بين مفردات العقائد واصولها لدى الشخص المعتقد, وللتوضيح ينبغي التمييز-حسب هيوم- بين الاصول المتعارفة والاصول الموضوعة التي يستند اليها كل رأي او معتقد, فالاصول المتعارفة هي البديهيات المعترف بها عند جميع افراد البشر,وهي حق عند جميع الناس, والرأي الذي يستند اليها يكون حقا ايضا عند الجميع,بخلاف الاصول الموضوعة وهي التي تسالم عليها افراد طائفة معينة دون غيرهم,فمعتقدات تلك الطائفة تكون صحيحة عندهم لانها تتوافق مع اصولهم ومبتنياتهم لكن هذا لا يعني انها حق, هنا لابد من التمييز بين الحق والصواب, فكل حق هو صواب ولكن ليس كل صواب حق,فقد تكون تلك الاصول والمباني خاطئة وقد آمن بها الشخص بسبب التلقين والتربية والمحيط الاجتماعي وصارت كالبديهيات عنده, مثلا المسلمون يعتقدون بأن القرآن كلام الله,وهذا اصل موضوعي عندهم, ويترتب على ذلك ان كل ما ورد فيه هو حق وصواب رغم ان غير المسلمين يرون الكثير من احكامه ومعارفه باطلة, واهل السنة يرون عدالة الصحابة,وهذا يعني ان كل ما صدر منهم حق وصواب حتى غزو البلدان,في حين ان مثل هذا الغزو يعتبر عند كثير من الناس جريمة انسانية,والشيعة يعتقدون بالائمة الاثني عشر كأصل موضوعي,ويترتب على ذلك وجود الامام الغائب لحد الآن رغم أن اهل السنة يعتبرونه خرافة.. ومن هنا يتبين لنا سبب خوف المشايخ واضطرابهم من البحث في الثوابت والاصول الموضوعة عندهم ويهجمون فورا على من يتساءل عنها ويتهمونه بالانحراف او الكفر,لان هذه الثوابت هي اساسا غير ثابتة عقلا بل هي مسلمات عند كل طائفة منهم..

3)البديهات العقلية:وهذا يعني استخدام الدليل العقلي والفلسفي لاثبات حقانية المعتقدات الدينية بالتمسك بالاصول المتعارفة والبديهية عند جميع الناس, ولكن هذه الاصول البديهية قد لا تنفعنا ايضا في هذا البحث لأن المعتقدات الدينية تناقش غالبا امورا غيبية كوجود الله والحياة بعد الموت مما لا يدخل في البديهيات الرياضية والمنطقية والحسية.ومن هنا تتدخل الميول والنوازع النفسية والتعصب لطائفة وفئة معينة في اظهار الباطل حقا والخطأ صوابا.. والشاهد على ذلك ان علماء الكلام من جميع المذاهب يستخدمون هذا المنهج في اثبات العقائد ولكن الاختلاف فيما بينهم لا زال قائما.

4)معيار النفع:او البراجماتية,وتتلخص في مقولة:من ثمارهم تعرفونهم..فكل عقيدة تنفع الانسان والمجتمع في مجال الاخلاق والخير والصلاح في حق والا فلا.. ولكن هذا المعيار وان كان صحيحا في موارد كثيرة ولكنه معيار ضبابي ويحتاج بدوره لمعيار آخر للتمييز بين النافع والضار,فليس جميع الناس متفقون على ذلك,فمنهم من يرى بعض الطقوس او المعتقدات مفيدة كالعقيدة بوجود النار والجنة ومنهم من يعتقد انها مضرة وهكذا.. وعلى الصعيد العملي فهناك بعض السلوكيات التي يظهر منها انها مضرة فعلا ولكنها اثبتت نفعها وظهرت ثمرتها بعد جيل او جيلين كتعريض المسيح نفسه للصلب او الامام الحسين للقتل, فكيف نستخدم هذا المعيار في مثل هذه الحالات التي لا تظهر ثمراتها الا بعد حين؟

5)معيار الوجدان,ولتوضيح المقصود يجب علينا ان نعود الى أبده البديهات كما صنع ديكارت, وهي وجود الانسان نفسه كفرد اي وجود الذات الفردية,فأنت لو شككت بكل شئ من الامور العقلية او الحسية او الغيبية فلا تشك في وجودك,فوجودك حق لا ريب فيه,وهذا هو ماينبغي جعله اساسا لكل حق آخر وهو أصل يعترف به كل البشر ويدركه الانسان بالعلم الحضوري فلا مجال للخطأ فيه, ومن هنا يكون المنطلق لمعرفة الحق في الاديان والحقوق والاخلاق وامثال ذلك.. ولكننا نختلف عن ديكارت,فهو أراد الانتقال من وجوده الى اثبات وجود الخالق لانه ادرك انه لم يكن موجودا في السابق فلابد له من موجد وهو الله,اي انه استعان بالعقل للتوصل الى هذه النتيجة, وقلنا ان اصل المعتقدات الدينية قضايا غيبية خارجة عن دائرة العقل والزمان والمكان كما اثبته كانت,مضافا الى أن قضية العلة والمعلول ليست من بديهات العقل كما قرر هيوم وكذلك الغزالي والاشاعرة,وهناك الكثير من الفلاسفة وعلماء الطبيعة ينكرون وجود الله مع اعترافهم بمبدأ العلية وخاصة بعد نظرية دارون في اصل الانواع حيث يمكن معها الاستغناء عن فرض وجود الله في مسألة خلق الانسان,وكذلك نعلم ان العقل طالما يخضع للمؤثرات النفسية والعاطفية فلا يصح ادخاله في هذه المسألة وفي هذه المرحلة على الاقل, فلابد من العودة الى الحق الاول وهو وجود الانسان ذاته لنرى ماذا يتفرع عنه.
قلنا بأن الاصل الاول والحق الذي لاريب فيه هو شعور الانسان بوجوده كفرد وحبه لذاته الفردية ومايشعر به من عواطف وغرائز بدنية, ومعلوم ان هذه الذات او النفس تنمو وتتكامل بنمو البدن وعندما يتجاوز الانسان مرحلة الطفولة تبدأ الذات الاجتماعية بالظهور أو كما يقول فرويد الانا الاعلى,فيرى في اعماق نفسه ميول متظاربة بعضها يدعوه لاشباع غرائزه ولو على حساب مصالح الاخرين, واخرى تدعوه الى احترام المجتمع والعرف والقانون والوالدين ولو على حساب منافعه الذاتية,اي هي ذات واحدة في كل فرد ولكنها الآن ذات قطبين او جانبين: فردي واجتماعي,وهذا ما يشعر به جميع الناس ويمكن اعتباره مرحلة اعلى واكمل من الاول,وهي الانا الاجتماعية,ومنها يتولد الضمير الاخلاقي عند الانسان كما يقول علماء النفس..
وعندما يتكامل الانسان وضميره اكثر فسوف يجد ان بعض احكام العرف والمجتمع الذي يعيش فيه على غير حق رغم ان الذات الفردية والاجتماعية لا تعارضان هذه الاحكام لانها قد تصب في صالحهما كالغزو والاستعمار للبلدان الاخرى واستراق اهلها ونهب ثرواتها,وهذا يعني ان ذاتا ثالثة بدأت بالظهور في نفسه وهي الذات الانسانية, وهذه هي الحق الثالث الذي يتفق على وجودها جميع البشر حتى لو لم يعملوا بمقتضياتها, فتراهم يمدحون الشخصيات التي ضحت في سبيل الانسانية خارج اطر المنافع الفردية والفئوية والطائفية,وهذا مايشعر به كل انسان سوي.

بعد هذه الذات الانسانية لا يمكن الاستناد الى شئ كحق بديهي معترف به عند جميع البشر كوجود الله مثلا او حقانية المسيح او الاسلام وغير ذلك,وهذا يعني ان الحق البديهي يتوقف عند الذات الانسانية او الوجدان في الانسان وبذلك نجعلها هي المعيار لكل حق آخر نريد اثباته, فكل عقيدة تتفق مع هذا الحق الاصلي وتخدم الانسانية بعيدا عن المصالح الشخصية والدوافع الفردية والفئوية والاجتماعية فهي حق يجب الاعتراف به والا فلا..وهذا ما يتفق في النتيجة مع معيار الثمرة والنفع(من ثمارهم تعرفونهم)ولكنه افضل منه.
والآن نأتي الى حديث المسيح والامام علي, فعندما نعرف الحق وهو الذات الانسانية في كل واحد منا-وهو الوجدان- فسوف تحررنا هذه الذات الانسانية-كما يقول المسيح- من كل قيود النفعية والطائفية والعقد النفسية والعقائد اللاانسانية التي تدفع الانسان باتجاه الكراهية والعدوان على الآخرين وامثال ذلك.. وعندما نعرف الذات الانسانية فينا يسهل علينا معرفة اهل الحق ايضا كما يقول الامام علي...

ولكن سوف تبرز امامنا مشكلة اخرى وهي:كيف نعرف هذه الذات السامية والشريفة؟.هل بمجرد ان نعلم بوجود هذه التراتبية في الذوات الثلاث سوف نعرف الحق في الاديان والمذاهب؟.. كلا طبعا,فالمسألة ليست بهذه البساطة,والا لتحرر جميع الناس لانهم يعلمون بهذه المراحل الثلاث للذات البشرية,والعلة في ذلك ان المراد بالمعرفة هنا(اعرف الحق)ليس هو العلم ولا الفهم الذهني والعقلي بل المعرفة القلبية كما تقدم توضيحه في مقالة:كيف نفهم الدين, وعلى هذا الاساس يجب ان يصل الانسان في كماله الاخلاقي والمعنوي الى مرتبة الذات الانسانية ويحقق في نفسه حب الخير لجميع الناس حتى يتسنى له معرفة الحق ثم يعرف اهل الحق ويتحرر من ضغط المجتمع والعرف..اي ان المسيح او الامام علي لا يقول لنا:اعرف الحق بقراءة الكتب او بالدرس ليحررك الحق بل يقول:كن انسانا لتعرف الحق ثم تتحرر وتستطيع ان تعرف اهل الحق..... وشكرا لكم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن