القرآن وتحجُّر اللغة

محمد علي عبد الجليل
mabdeljalil2003@yahoo.fr

2014 / 3 / 1

انطلاقاً من فلسلفة فِـلهيلم فون هُمبولت (Wilhelm von Humboldt) (1767 – 1835) ومَنْ خَــلَــفَــه من الكانطيين الجُدد والهُمبولتيين الجدد، تلك الفلسفة التي ترى أنَّ اللغة ليست أداةً سلبيةً للتعبير وأنَّ كلَّ نظامٍ لغوي ينطوي على تحليلٍ خاصٍّ به للعالَم الخارجي مختلفٍ عن تحليل اللغات الأخرى للعالَم وعن تحليل المراحل الأخرى للغة نفسِها، والتي ترى أيضاً أنَّ كلَّ نظام لغوي، نظراً لكونه حافظاً للخبرة المتراكمة عبر الأجيال، يزوِّد أجيالَ المستقبل بطريقةٍ معيَّنة للرؤية وبتفسير خاص للعالَم (راجِعْ: جورج مونان [Georges Mounin]، "المشاكل النظرية للترجمة" [« Les problèmes théoriques de la traduction »]، 1963، ص 43)،

وبالنظر إلى الواقع المنكمِش والمنغلِق والمتحجِّر للغة العربية التي تطغى عليها النظرةُ القرآنية،

يمكننا أنْ نلاحِظَ أنَّ القرآن كان من أهم الأسباب التي ساهمَتْ في تجميد اللغة العربية وبالتالي تجميد العقل العربي وتضييق أفق الرؤية عند المسلمين. إذْ شكَّلَ القرآنُ، كنصٍّ مقدَّس لا يجوز المساسُ به، عائقاً كبيراً أمامَ تطور العربية وانفتاحها ومرونتها لأنَّ عدوى قداسةِ القرآن طالت اللغةَ العربيةَ أيضاً. لا تتسرَّع أيها المسلم الكريم في رفض هذه الفكرة والهجوم عليها مندفعاً تحت تأثير عقيدتك، بل تأمَّــلْ فيها ملياً على ضوء النظريات اللغوية الحديثة ربما تجد فيها شيئاً من الصحة.

صحيح أنَّ القرآن قد ساهمَ في تقعيد اللغة العربية وإعطائها صفةً رسميةً، لكنه بالمقابل جمَّــدَ الصورةَ التي رسمَها لهذه اللغة وحجَّرَ الرؤيةَ التي فرَضَها عليها في لحظة تاريخية محددَّة في القرون الوسطى ولم يسمح لها بالتطور.

إنَّ السبب الأساسي في تخلُّف العالَم العربي والإسلامي وشعورِه بالنقص، بالإضافة إلى أسباب أخرى نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية معقَّدة، هو ضعف الإنتاجية للمجتمعات العربية والإسلامية. وهذا الضعفُ مردُّه أساساً إلى تكبيل اللاوعي الجمعي العربي والإسلامي بنظرة ضيِّـــقة عن العالَم مَصْدرُها الأول هو القرآن وما نتجَ حولَه من أحاديثَ وتفاسيرَ. فاللاوعي الجمعي العربي الإسلامي مقيَّد بلغة ضبابية سلبية خشبية تخديرية مثل: "الله الرزَّاق" و"الله الشافي" و"احتواء القرآن على كل العلوم" و"الإسلام هو الحل" و"اليومَ أكملتُ لكم دينَكم" و"كنتم خيرَ أمّة" وإلخ. مِـــثلُ هذه اللغة المخدِّرة هي أكبرُ عائقٍ أمامَ تحرُّرِ اللاوعي [الخافية] من الاتِّكالية على الغيب وأمامَ انطلاقِه نحوَ الإنتاجية والإبداع. فمديحُ القرآن للأمة الإسلامية، وهو المتغلغِــلُ في وجدانها والمتحكِّم بتفكيرها وبنظرتِها للعالَم، يُــسْـــكِــرُ النفسيةَ الجمعيةَ للأمة ويُــسَـــكِّــرُ عقولَها ويخدِّرُها ويوهمُها بأنَّ الحلَّ موجود في القرآن أو أنَّ الحلَّ بِـــيَـــدِ الله وحدَه.

اللغة هي طاقة خلَّاقة يخلقُ الإنسانُ من خلالها تصوُّراتِه وقِـــيَـــمَـــه وفهمَه للعالَم المضوعي مِن حَولِه. بل أكثر من ذلك، وكما يقول إرنست كاسيرر (Ernst Cassirer) (1874 – 1945)، "من خلال اللغة لا يَـــفهم الإنسانُ العالَمَ ويفكِّر به فحسب، بل إنَّ رؤيتَه للعالَم وطريقةَ عيشِه ضمن هذه الرؤية محكومتان باللغة". (راجِعْ: كاسيرر، "أمراض الوعي الرمزي" [« Pathologie de la conscience symbolique »] في: "جريدة عِلم النفس" [« Journal de psychologie »]، 1929، ص 29). وبالتالي، فإذا كانت اللغةُ متحجِّرةً برؤيةٍ قديمة من القرون الوسطى، كحال اللغة العربية التي تحجَّرَتْ بتأثير الرؤية القرآنية القديمة مع مرور الزمن، فإنَّ تحَــجُّــرَ هذه اللغة سيساهم في تحجُّر وعي الناطقين بها. وهذا ما نراه في واقع العالَم العربي والإسلامي.

ولذلك فإنني أكفل بأنْ تصبحَ الدولُ العربيةُ والإسلاميةُ في مصافِّ الدول المتقدِّمة إذا تمكَّنَــتْ مِن التحرُّر كُــلِّـــيّــاً من عقلية القرآن ومن رؤية واضعيه تحرُّراً واعياً لا انفعالياً. بتعبير آخر، سيخطو العالَـمُ العربي والإسلامي خطواتٍ إلى الأمام بمقدار ما يتحرَّر وعيُه مِن نظرة القرآن ولغته وآلياتِ تفكيره التي تربط هذا العالَـمَ الإسلامي بالماضي الغابر وتقتلِعُــه من حاضره.

لقد أصبحَ من الثابت، بحسب فلسفة هومبولت والبنيويين وغيرهم، أنَّ كلَّ لغة تخلق صورةً كاملةً عن الواقع. واللغةُ العربية التي ساهمَ القرآنُ في تشكيلها مساهمةً كبيرةً قد خلقَتْ صورتَها عن الواقع منذ زمن بعيد. هذه الصورةُ لم تَـــعُـــدْ صالحةً للواقع الحالي للعالَم العربي والإسلامي. فلا بدَّ إذاً، لتغيير الواقع الحالي للمسلمين، من تغيير رؤيتهم، أيْ لا بدَّ لهم من تغيير لغتهم، وليس المقصود تبَــنِّيَ استخدامِ لُغاتِ الدول المتقدمة، بل تبنِّي رؤية جديدة. ولتغيير اللغة والرؤية، لا بدَّ من إزاحة عوامل التحجُّر فيها وأوَّلُها القرآن. لا بد من خلع عباءة الفكر القرآني. لا بدَّ من التخلي عن طريقة التفكير القرآنية التقسيمية النزاعية الإقصائية وعن اللغة القرآنية. وبغير هذا التخلِّي لن يحقِّقَ المسلمونَ التطورَ النفسي والفكري والمادي.

ولكي نفهمَ تأثيرَ اللغة على طريقة التفكير وعلى التطور، تخيَّلوا لو أنَّ مجال الطب في العالَم ما زالت تحكمه لغةُ ابن سينا الطبية وما زال مرجِعُه وكتابُه المقدَّس كتاب "القانون في الطب"، فماذا سيكون حال الطب يا تُرى؟ هذا لا يعني الانتقاصَ من قيمة الكِتاب ولا من قيمة مؤلِّفِه. كذلك فإنَّ وَضْـــعَ القرآنِ في المتاحف مع ملحمة جلجامش وأساطير الكِتاب المقدَّس وأساطير الأمم الغابرة لا يقلِّــلُ من قيمة القرآن الأثرية والتاريخية. لكنَّ جَــعْـــلَ الأساطيرِ القديمةِ، ومنها القرآنُ، مرجِعاً للأمة هو ما ينتقص من قيمة هذه الأمة ووجودها.

ولذلك لا نستغرب من حال المسلمين الذين يحكمُ لغتَهم ومجالاتِ حياتِهم ووعيَهم وتفكيرَهم كِتابٌ أَقْـــدَمُ مِن "قانون" ابن سينا وأقلُّ قيمة علمية منه. وأتحدَّى المسلمين أنْ يتقدَّموا بالقرآن ولو خطوةً واحدةً إلى الأمام. كما أتمنَّى من المسلمين أنْ يردُّوا عليَّ ويُـــثبتوا بطلانَ كلامي من خلال العمل والإنتاج ومن خلال تطوير واقعهم بواسطة القرآن إنِ استطاعوا لا أنْ يردِّدوا شعاراتٍ وعباراتٍ ترديداً آلياً ببغائياً لا يفيد إلَّا في تكريس تقهقُرِهم. فإنهم يُـــثبتون تخلُّـــفَهم عندما يحاولون أنْ يُـــثبتوا صحةَ إسلامِهم وصحةَ نبوةِ نبيهم بذِكْرِ نبوءاتٍ له ومنها أنَّ محمداً تنبَّـــأَ أنَّ المسلمين سيصبحون غُـثاءً [زُبالة] كغُثاء السيل. لا أريد من المسلمين أنْ يُـــثبتوا وجودَ الله ولا صحةَ نبوة محمد، بل أنْ يُـــثبتوا وجودَهم في هذا العالَم بالمحبة والرحمة والإنتاج.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن