هل الإسلام جاء من بلاد الفرس ؟ -2

ياسين المصري
yasiensm@gmail.com

2014 / 2 / 14

مدخل تمهيدي

لقد أصبح الباب مفتوحا على مصرعيه. وأصبح من الواضح حتى للعميان أنه لا يوجد شعب واحد من شعوب الأرض يثقل الماضي كاهله ويرزح تحت وطأة تاريخه وعنف تقاليده مثل الشعوب المتأسلة عامة والناطقة بلغة العربان خاصة. فكثير من شعوب العالم وقعت في يوم ما تحت طائلة الهمجية والعنف والدمار ولكنها لم تلطم خدودها ولم تنعي حظها ولم تنتحر، بل سارعت إلى استعادت عافيتها والعودة إلى المسار الإنساني الطبيعي. اليابانيون ـ مثلا ـ تخلصوا من الآثار المدمَّرة معنويا وماديا، التي سببتها لهم الحرب العالمية الثانية وتخللها ضربهم بقنبلتين ذرتين إمريكيتين، كما تخلص الألمان من النازية ومصائبها، وتخلصت أوروبا الشرقية من كابوس الشيوعية .....، وتعلم الجميع، فأصبحت تلك الأوقات المأساوية في حياة هذه الشعوب وغيرها مجرد تاريخ تأخذ منه العبر بحيث لا تعود مرة أخرى أو على الأقل تتأخر عودتها إلى أطول وقت ممكن.

بينما المتأسلمون وفي مقدمتهم العربان والمستعربون مكبلون دائما وأبدا بـ"همجية" تاريخية حقيقية شكلت ماضيهم السحيق وحددت معالم تقاليده البائدة. لا يستطيعون الفكاك منها، بل تفرض تلك الهمجية التاريخية على الكثيرين منهم رؤية إعادة عقارب الزمن إلى ذلك الماضي السحيق بما يحتويه من تقاليد بالية يجب الالتزام بها والتسليم لها دون اعتراض. والسبب في ذلك هو أن حاضرهم دائما سيء وينتقل باستمرار إلى الأسوأ. لذلك يحاولون ليلا ونهارا إستدعاء همجية الماضي لغرسها عنوة في الحاضر. فلا يكف زعماؤهم عن طرحها في الخطاب الديني بصورة جميلة ومبهرة وتحايلية خادعة وفرضهما بالقوة على المواطنين. هذا الأمر يحتم على الباحث "المحايد" أن يتعامل بقدر كبير من الدقة والارتياب مع تلك التقاليد المسلم بها تحت الإصرار والعنف، خاصة عندما يتناول بدايات الإسلام.

صحيح أن هذا الأمر لا ينطبق على الإسلام تحديدًا، بل يمتد بالمثل ليطال كل الأديان والعقائد وربما التيارات الفكرية، عالمية كانت أو محلية، حيث يؤدي بالضرورة الخلط بين ما هو « ديني ـ أسطوري ـ غيبي » وما هو « دنيوي ـ تاريخي ـ واقعي » إلى تشويش الصورة الفعلية للوقائع ذات السمات الدينية ومنها ـ بداية ـ وجود محمد نبي الأسلمة.

ولكن ما العمل؟ وقد جُبِلنا، نحن البشر، على تصديق الخرافات أكثر وأسرع من تصديق الحقائق "المُـرَّة" تبعا للتوصيف الشائع بيننا.
إنني على يقين، بالرغم من التشكيك الاستشراقي الحديث، بأن النبي المدعو "محمد" شخصية تاريخية مثله مثل الشخصيات الإسلاموية الأخرى إبتداء بابن قحافة وانتهاءً بابن لادن وغيره ممن يعلقون في منظومة تاريخية متواصلة، حتى وإن أحاط بها أو ببعض منها قدر كبير من الأساطير والخرافات. لقد وجد في وقت ما في بداية القرن السابع الميلادي (تاريخ وجوده غير متفق عليه حتى الآن خاصة بين المتآسلمين). فهو شخصية غير أسطورية ولكن تمت أسطرتها وفبركة ديانة خاصة به بعد وفاته بـ 100 عام، وبالتحديد في أواخر القرن الثامن وحتى بداية القرن العاشر على أيدي متأسلمين جميعهم وبلا استثناء من أصول فارسية، لا يوجد بينهم عربي واحد، وجميعهم أيضا وبلا استثناء ينتمون إلى جيل واحد، أو ظهروا في نصف قرن واحد خلال العصر العباسي الممتد من عام 750م/ 132ع حتى عام 947م/232ع.

كانت البداية عندما التفت القليل من علماء التاريخ الإسلاموي إلى أن القرآن لم يقدم أية إشارة عن سيرة محمد المكي، وأن كل المعلومات عن سيرته جاءت في كتب السيرة التي كُتِبت جميعها في بداية القرن التاسع والقرن العاشر، أولها سيرة ابن هشام المتوفي عام 768م ـ 101ع، والتي إدَّعى أنها اعتمدت على سيرة مفقودة لابن إسحق المتوفى أيضا في نفس العام، ولا ندري إن كان ذلك حقيقة أم وهم.
ثم كتاب المغازي للواقدي المتوفي عام 822م ـ 207ع.
وكتاب طبقات ابن سعد المتوفي عام 845م ـ 221ع.
وتاريخ الطبري المتوفي عام 922م ـ 310ع.
ومجموعة كتب "الصحاح" الموضوعة جميعها في نفس الوقت:
البخاري المتوفي عام 870م ـ 256ع.
مسلم المتوفي عام 875م ـ 262ع.
إبن ماجه المتوفي عام 886م ـ 273ع.
إبن داوود المتوفي عام 888م ـ 275ع.
التلمذي المتوفي عام 892م ـ 279ع.
النسائي المتوفي عام 915م ـ 303ع.

لا شك أن رجال الدين الإسلاموي يعرفون هذا وغيره، ولكنهم يخفونه عمدا ومع سبق الإصرار، ولم يلتفت إليه، كما سبق ذكره، إلا قلة قليلة من المؤرخين، وذلك لأسباب سوف يرد ذكرها في مقالات قادمة.
أما نحن فلا يبقى لنا سوى "الصدمة" من فظاعة الأمر برمته تبعا لقول الشاعر اليمنى عبدالله البردُوني:
فـظـيع جـهـل ما يجـري وأفـظع مـنه أن تدري

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتفق جميع المؤرخين العربان والمستعربين على أن المنطقة التي تعرف بـ"الهلال الخصيب" وهي العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، مضافا إليها مصر أو على الأقل سيناء المصرية قد هاجر إليها واستوطنها العربان من وسط شبه الجزيرة عندما ضربها الجفاف والقحط أو من اليمن بعد انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم. وقد يكون هذا صحيحا إلى حد ما في مثل هذه الظروف الكارثية، ولكنهم يصَوِّرون الأمر وكأن تلك البلدان كانت خالية تماما من البشر، وأن البدو العربان كانوا هم النواة الأولى لسكانها الحاليين!!.

إنه بلا شك ضرب من النفاق والرياء بهدف صبغ المنطقة برمتها بصبغة "العروبة" المزعومة، حتى وصل الأمر إلى وصف السكان الأصليين من السوماريين والأشوريين والبابليين والآراميين والسريان والكنعانيين والفراعنة وغيرهم بأنهم "عرب" أو ينحدرون من أصول عربية!!

هذا التعتيم العرقي سوف نضطر للعودة إليه فيما بعد، لنستوضح الأسباب الكامنة وراءه، وما يلعبه من دور هام في تأكيد القصد من دراستنا هذه.

مشكلة التاريخ الإسلاموي البدئي هي التدوين. فقد كان التناقل الشفهي عبر الأجيال المتاعقبة هو المسيطر على نقل الحدث أو النص في الحقبة الإسلاموية الأولى. حتى القرآن نفسه لا نملك دليلا مقبولا على وجوده بأي شكل قبل العقد الأخير من القرن السابع الذي من المفترض أن محمدا عاش في بدايته، حيث ظهرت قصاصات قرآنية متناثرة هنا وهناك، والكثير من نصوصها لا يتفق مع ما بين أيدينا الآن من نصوص. كما أنه لا يمكن الاعتماد على الادعاء بمرويات لأحداث تاريخية وقعت في نفس القرن، بيد أن الاستفادة منه لا تكمن إلا في دراسة الأفكار الدينية التي برزت في القرن الثامن مع بداية حكم البدو العباسيين. لكن القرن الثامن هذا ينبئنا بصريح العبارة أنه كان حقبة زمية ترسخ فيها تشظي "أمة الإسلام" إلى فرق وأحزاب متطاحنة متناحرة. يسعى كل طرف منها إلى دعم مزاعمه السياسية بترسانة لاهوتية من القوالب العقائدية والتاريخية المتناقضة والمتضاربة، تُنسب جميعها إلى النبي ذاته أو إلى المقربين له من الصحابة.

لذلك إذا أخذنا التراث الإسلاموي ككل، خاصة ما يتعلق منه ببدايات الإسلام، سوف نجد الخبر ونقيضه؛ روايات متباينة ومتعارضة للحدث الواحد. وأيضا اختلافات صارخة حول قيمة هذه الشخصية أو تلك، واختلاق لشخوص وأحداث لم يكن لها وجود قط. ولكنها تهدف جميعهاإلى تدعيم التوجه العقائدي للتيار السياسي من قبل السادة المسيطرين الجدد، وهم العباسيون.

الحقيقة أنني على إدراك تام لا يتطرق إليه أدنى التباس أن محاولة البحث في تلك الفترة الضبابية من بداية الإسلام والتي تقدر بـ 200 عام على الأقل، تثير في وجه أي باحث تاريخي "محايد" ما لا طاقة له على تحمله من المشاكل؛ مهما كانت قدراته وعلومه ومواهبه، لأنه يحاول السباحة ضد التيار، ويحاول أيضا الغوص في "همجية" تاريخية مظلمة لا أول لها ولا آخر. ولكن ما جدوى الاستسلام، وما فائدة الخضوع والخنوع لتاريخ مبتور وتقاليد عفا عليها الزمن؟؟.
قبل الاستمرار في محاولة تبيان هذه "الهمجية" التاريخية ـ قدر الإمكان ـ، أود هنا أن أقدم باختصار شديد بعض المسميات التي كانت شائعة في بدايات الدعوة المحمدية ومدلولاتها في الوقت الحاضر، لأننا سوف نضطر دائما إلى ذكرها والحديث عنها لمشاركتها في أحداث ذلك الوقت:

1 - الساسانيون:
ترجع هذه التسمية إلى الكاهن الزرادشتي "ساسان" الذي كان جدا لأول ملوك الساسانيين "أردشير الأول". وقد أسسوا الإمبراطورية الساسانية التي شملت كل إيران الحالية والعراق وأجزاء من أرمينيا وأفغانستان والأجزاء الشرقية من تركيا وأجزاء من باكستان. وأصبحت الإسم الرسمي للإمبراطورية الفارسية الثانية (226 ـ 651)، وانتهت عندما حاول ملك الدولة الساسانية الأخيرة يزدجر الثالث (632 ـ 651) التصدي لغزو العربان.

2 ـ السراسنة Saracens:
الإسم الذي أطلقه اليونانيون والرومان على العربان المقيمين في شمال شبه الجزيرة، الذين اعتبرتهم توراة اليهود "أبناء إسماعيل"، وبالأحرى أبناء الأمة التي حرمت من "الوعد الإلهي "المشمول به إبراهيم وإبناؤه واستمر لمئات السنين. ويعني اللصوص أو السراقين. (أنظر مكسيم رودنسون، الصورة الغربية والدراسات العربية الإسلامية، هامش رقم 1ص 80 من كتاب جوزف شاخت "تراث الإسلام" ج 1 ترجمة محمد زهير السمهوري وآخرين، سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية 1985.

3 ـ الإسماعيليون:
هم البدو العربان الذين سكنوا المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة التي تعرف بـ"صحراء النفود أو بادية الشام" جنوب الهلال الخصيب. وكانوا يدعون أنهم أحفاد إسماعيل إبن النبي العبراني أبراهيم أو إبرام عند أشقائهم العبرانيين، ولم يشملهم الوعد الإلهى لإبراهيم وإبنائه "اليهود" كما ورد في الفقرة السابقة.

4 ـ الهاجريون:
سمي الإسماعيليون أيضا بهذا الإسم نسبة إلى الجارية المصرية "هاجر" أم جدهم إسماعيل. وكان الإسم يطلق عليهم لتحقيرهم بصفتهم أحفاد "جارية أو خادمة". وهو يعود إلى نص من العهد الجديد في "رسالة بولس إلى أهل غلاطية" يقول: « قولوا لي أنتم (البدو العربان) الذين تريدون أن تكونوا تحت الناموس (المقصود به السر الإلهي وهو التوراة) ألستم تسمعون الناموس، فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم إبنان واحد ولد من الجارية والآخر من الحرة » (أنظر الإصحاح الرابع: 21 ـ 31).

5 ـ الغساسنة:
يقول المؤرخون الإسلامويون أنهم قوم هاجروا من اليمن عقب انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم وأقاموا فترة قرب عين ماء تسمى "غسان" في تهامة في مملكة آل سعود الحالية، حيث عرفوا بهذا الإسم، ثم واصلوا هجرتم نحو الشام، حيث استقروا في الأردن وفي "بصرى" جنوب سوريا، التي يقول المروث الإسلاموي أن الراهب "بحيرا النسطوري" كان يقيم فيها، وأنه استقبل النبي مرتين.

6 ـ الأبيونية:
الإسم مشتق من كلمة أبيونيم العبرية ومعناها الفقراء، والأبيونية حركة دينية ظهرت في القرن الأول للمسيحية وانتشرت في فلسطين والمناطق المجاورة لها حتى المنطقة الوسطى من شبه الجزيرة. حيث اعتنقها فرع عبد العزي القرشي الذي ينتمي إليه القس ورقة بن نوفل خديجة بنت خويلد الزوجة الأولى للنبي. وكانت الأبيونية يهودية النزعة، إذ رأت أن المسيحية إمتدادا لليهودية، في محاولة منها للتوسيط بينهما.

في المقال القادم سوف نتقدم قليلا نحو الحيثيات الإشكالية التي تشكل تلك الهمجية التاريخية، والتي دعت إلى مزيد من الشكوك في المرويات التراثية الإسلاموية.
وبعد ذلك نتطرق إلى تاريخ الحركة العباسية ونتناول عملية "الأسلمة" القهرية التي اتبعتها لترسيخ أقدامها في السلطة، ولذلك تعد نموذجا تحتذي به كل الجماعات الإسلاموية التي ظهرت على مر العصور والأزمنة تحت مسميات عديدة، فليس آخرها ـ ولن يكون بلا شك ـ عملية "الأخونة" التي تشهدها العديد من دول المنطقة في الوقت الراهن.

ولا يسعنا إلا أن نتذكر دائما قول أبي العلاء المعري:

أيها الغُـرِّ قد خُصِصْتَ بعقلٍ فاسْألـنَّهُ، فكلُّ عـقـلٍ نبيُّ

ودمتم جميعا بكل خير



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن