عناصرُ التحديث الفكرية لدى النهضويين (2-2)

عبدالله خليفة
abdullakalifa@hotmail.com

2014 / 2 / 14

ترتبط أفكارُ التحديثيين العرب التقنيين بسيطرة فئات التجار المستوردين للسلع الاقتصادية الغربية، وقد عرفت هذه الفئات نمواً كبيراً منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى بداية القرن الحادي والعشرين، وليس الأمر يتعلق بنقل المنتجات فقط بل بنقل المنتجات المتغيرة باستمرار من بلدان المنشأ، وهذا النقل المتغير دوماً يتحول من نقل بسيط أقرب للمادة الخام كما لدى إسماعيل مظهر وسلامة موسى وشك طه حسين.
فمنتجاتُ المنشأ يجري عليها تغيير إنتاجي في بلدانها، بمعنى أنها تخضع باستمرار لبُنى منتجة، تعيد تشكيلها حسب تطورها الغني الخاص، أما البنى المستهلكة العربية، فهي تأخذ المنتجات البرجوازية المنتشرة عادة، أي تلك التي تروج لها الطبقات السائدة وحتى المعارضة الغربية في كل بلد من بلدان المنشأ، ولهذا فإنه لا يحدث تصنيع في هذه المنتجات الغربية المستوردة، ولا يحدث تراكم معرفي يقود إلى تحول كبير، فتطورية سلامة موسى تنقطع، ووضعية إسماعيل مظهر تنتهي.
إن اتجاه التحديث هنا لا يقوم سوى بنشر منتجات غربية وليس بحفر نقدي تحليلي في البُنى الاجتماعية العربية، ولهذا فإن هذه البضائع الفكرية المزوقة لا تصل إلى الأزقة الخلفية للحياة العربية، ولا تتفاعل مع الطبقات المنتجة.
إن هؤلاء المثقفين العرب كأجزاءٍ متعددة متباينة من الفئات الوسطى الطالعة في هذه المرحلة، لا يعكسون بشكل ميكانيكي فئة التجار المستوردة الكبيرة في هذه المرحلة، لكنهم يعبرون عن المناخ العام كلٌ من موقعه، ومن خلال آرائه وتطور بلده، فدرجاتُ الحفر في البنية العربية تختلف بين باحث وآخر.
إن الحفر الديني في هذه المرحلة يقوم بتصعيد أساسيات البناء الإقطاعي المذهبي العربي الإسلامي السابق، وتتيح له توجهات التحديث أن يستقطب جزءًا كبيراً من الفئات الوسطى المشتغلة بالدين والسياسة، ولهذا فإن تصاعد النظام الإقطاعي المذهبي مرةً أخرى من رماد العصر الوسيط، وعبر حماية الاستعمار الغربي، سوف يقوي عظامه الاجتماعية، وستتقلص عملية الانفتاح والتحديث داخل خطابه.
فقد ظهر الأفغاني ومحمد عبده والثعالبي الخ حين كان المصلحون الدينيون أفراداً لا تسندهم شبكات إقطاع مذهبي، وهي التي كانت عثمانية أو صوفية درويشية فيما سبق، ولكن حين استعادت هذه الشبكاتُ وجودَها الوطني المدعوم من الأنظمة، ولم يعد خطر المعاصرة جدياً، على (الإسلام) أي على سلطاتهم المذهبية في كل بلد، حينذاك لم يعد التحديث الديني مهماً.
بل أن قوى الإقطاع السياسي الحاكمة سوف تستخدم الإقطاع الديني لعرقلة اتجاهات التحديث والليبرالية والوطنية التحررية والتصدي للماركسيية.
وإن زعم التحديثيون اللادينيون بأن التطور المجرد سائر لا محالة إلى القضاء على الأديان - التخلف، وكون هذا التحديث شكليا وبرجوازيا مظهريا، إن كل هذا يدفع باتجاه تحريك الدينيين لمعاداة التحديث والعودة إلى(الأصول النقية).
إن هذين التوجهين اللذين يطلان برأسيهما يقترح أحدهما رفضاً كلياً للشرق – الإسلام – المسيحية، عبر بدائل تقنية صناعة – نظريات مستوردة – وأحزاب تنشأ في ظروف مغايرة الخ.
والآخر سيطرح العودة للأصول وللإسلام، وهو يعني العودة التقليدية لنظام الإقطاع المذهبي الخاص، وبقاء نظام الدولة بشكل ديني، وعدم وصول التحولات الحديثة إلى بناء الأسر، حيث يسيطر الإقطاع المنزلي.
من هنا نرى كيف أن الفئات التجارية - الثقافية المستوردة تتغلب في الجانب الأول، في حين إن رجال الدين الملتحقين بأجهزة الدولة وبالمعاهد والحوزات العلمية سيطرحون الجانب الثاني بقدر من الانفتاح على الجانب الأول.
وهذا يعبر عن ثقافة الجلب والاستيراد وضعف التحليل أو غيابه، فالمواد المجلوبة غربياً لا تخضع لتحليل معمق يربطها بسياقها التاريخي أو تُقرأ أبعادها الفلسفية، وحين يبدأ التحليل عند طه حسين ولويس عوض فإنه سيتخذ طابعاً أدبياً واجتماعياً محدوداً يقع في دائرة السببيات القريبة، أي أن دائرة التحليل ستصل إلى نقد الفقر والتخلف وغير ذلك من المظاهر التي لا توضعُ في إطار التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، أي أنه لن تــُرى كظاهرات في نظام ذي بنية تاريخية، وبالتالي فإن النقد لن يطرح هدم هذه التشكيلة ويقدم المواد التحليلية للنشاط السياسي التحويلي المرافق لذلك التغيير المقترح.
إن قسمات الحداثة المترابطة؛ الحرية – الديمقراطية – العلمانية ستؤخذ كعناصر منفصلة وفي إطارات معزولة عن علاقات الإنتاج، وستظهر إما كمواد طافحة فوق جسد الدعوة الفكرية الشعارية، كما يفعل سلامة موسى وإسماعيل مظهر وجبران خليل جبران وعلي عبدالرازق ولطفي السيد، وإما كعملياتِ تحليلٍ أدبية – ثقافية ذات نشاط سياسي مرتبط بفئات وسطى تابعة للإقطاع كما يفعل طه حسين، أو كعملياتٍ فكرية واسعة وتحليلية مرتبطة باستيراد كلي لنموذج الغرب كما يفعل لويس عوض.
ولهذا نلاحظ غياب المفردات الفلسفية لدى هؤلاء الرواد بسبب ان أعمالهم تدور في مستوى واحد من البنية الاجتماعية، فهي تقتصر على رؤية الأبعاد السياسية أو الاجتماعية أو النظرية، دون ترابط هذه المستويات داخل البُنى الاجتماعية الُمحلَّلة عبر العصرين الوسيط والحديث، ولن تصل إلى قراءة المستوى الاقتصادي لهذه البنية أو التفريق بين أسس هذه الأنظمة الاقتصادية في العصور المختلفة وبين الغرب والشرق، والعمليات المركبة لتداخلها.
ومن هنا فإن المنطق الميتافيزيقي الأرسطي سيكون مسيطراً على بناء هذه المواد، حيث ستبدو العوالم السياسية – الاجتماعية كذواتٍ متجوهرة مطلقة خاضعة لخصائص أبدية إيجاباً أو سلباً، فمحمد عبده يرى العرب والمسلمين ببنية متجوهرة وكنظام اجتماعي سياسي ديني خالد، في حين سيرى علي عبدالرازق هذا النظام كنظام اجتماعي وليس دينياً منذ نشأته، وفي الحالتين فإن هناك غياباً للسيرورة التاريخية ولقراءة الجذور الاجتماعية لنشأة النظام الديني الإسلامي. ويعود ذلك لرؤية هذا النظام بصفته نظاماً مُشكلاً بطريقة غيبية.
أما في حالة النفي الأوسع من حالة علي عبدالرازق فثمة تجاهل للتاريخ العربي الإسلامي لدى سلامة موسى ولويس عوض أو إذا تم التحليل فيمكن أن يقال النظام الملوكي المتخلف وأشبه ذلك من النعوت التي لم تقم بدرس التاريخ.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن