من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات.

نضال الربضي

2014 / 1 / 28

من سفر الإنسان – الوحدة الجمعية للبشر و كيف نغير المجتمعات.

أتعجب حين أتابع النقاشات المحتدمة بين أصحاب الأديان المختلفة، فهي لا تخرج عن مبدأ أن الشخص مقتنع بصحة ما عنده و بطلان ما عند غيره، و في سبيل هذا يسوق له ما يظنه أدلة منطقية و عقلية مقنعة، و يفند ما يأتي به غيره باعتباره مجرد كلام ٍغير منطقي لا دليل عليه صادر ٍ عن شخص ٍ يتوهم أن لديه الحق بينما هو في الضلال و الزِّيف.

و عندما أتناول بالتأمل الأدلة التفنيدية لما يأتي به أصحاب الأديان لبعضهم أجد أن جميعهم على حق، فهم ماهرون و عقلانيون جدا ً و منطقيون في نقد الدين الآخر و إبراز أخطائه و عواره و بطلان معتقداته، لكنهم مكفوفو البصيرة عن إدارك ذات العيوب و الأخطاء و العوار في دينهم الذي يعتنقونه.

و عندما أشرع في تشخيص السبب أدرك أن عين الإيمان و القناعة هي مخدر لذيذ ٌ جدا ً يهب السلام و الطمأنينة و الراحة و يضع صاحب الدين في موقف "العارف" بالحقيقة، "المالك" لها، الذي لا يمكن أن يتصور في يوم ٍ من الأيام أنه ضحية ُ تصور ٍ ماض ٍ لبشر منقرضين عن العالم الذي كانوا يعيشون فيه.

إن هذا الاستسلام اللذيذ لمخدر "أنا أمتلك الحقيقة" يمنع صاحبه من تطبيق ذات المنهج الكشفي و التحليلي الذي استخدمه على دين غيره -ليكتشف عواره- على دينه هو، و هو ما أن يفعل حتى تتجلى الحقيقة واضحة ً أمام عينيه بأن كلا الدينين يشكوان من إنكار العقل و المنطق و الإنسانية لجوهر عقائدهما و لطقوسهما و ممارساتهما الدينية، و أن أي مفاضلة بين أحدهما ستكون فقط من باب الأخلاق التي يدعو لها ذاك الدين لا من باب العقائد دون أن تُعطي هذه المفاضلة لصاحبها حق الافتخار بدينه و تحقير الدين الآخر، فالمعيار الحقيقي للأفضلية يبقى في الالتزام السلوكي بالنهج الإنساني لا بالالتزام بأي دين، مُعترفين أن هذا الإلتزام يمنع بطبيعته السلوك الاستعلائي.

أتأمل ُ في الديانات الوثنية و لا أملك إلا أن أشعر َ بالاحترام و التقدير لتلك العقلية التي كانت تسمح بالتعدد و حرية الاختيار في العبادة و الممارسة، و تقبل حق الآخر في إلهه أو إلهته أو آلهته لا فرق و تضعهم جميعا ً في ذات الخانة و تتعامل معهم بنفس المستوى و على ذات القدر من المساواة، و بواسطتها يتخذ كل ٌ معبده و تتجاور المعابد و ينتقل الإنسان من عبادة هذا الإله إلى ذاك دون أن يفقد الأول حين انتقاله إلى الأخير. كما و أنبهر بقدرة الإمبراطوريات القديمة على استيعاب ديانات الشعوب التي غزتها و تقديرها و إدخال آلهتها إلى دائرة القبول الديني و المجتمعي و تشجيع عبادتها كما فعل الرومان بآلهة اليونان و الآلهة الشرقية التي جلبوها معهم من غزواتهم و حروبهم.

ثم لا ألبث ُ أن أشعر بالمرارة و أنا أنتقل نحو الأديان التوحيدية تلك التي أعلنت الحرب على كل الآلهة ما عدا واحدا ً رفعته فوقها ثم حطمت كل ما سواه، و ادعت أنه السيد الواحد الأوحد الحقيقي، المانح و المعطي للحياة و السعادة، الضارب بالموت جنس البشر و المتحكم بمصائرهم، ثم اضطهدت كل ما سواها من أديان ووصمتهم بالدونية و الوضاعة و الضلال، و أورثتنا ما نحن فيه من انغلاق ٍ فكري ٍ و تعصب عقائدي أجزم تمام الجزم أن بقاء الوثنية ما كان ليسبب مقدارا ً ضئيلا ً جدا ً مما نراه اليوم منهما.

نظلم ُ الوثنية َ كثيرا ً حينما نصفها بالوثنية و نربطها بالتمثال و الصنم، فقد كانت ترى في هذه التماثيل مجرد نحت و تصوير ثلاثي الأبعاد لآلهتها، و لم تكن تظن أن الإله(ة) هو حجر التمثال، و كان تعداد هذه التماثيل يُنبئ بإدراك العابد للصفات المتعدده للإله(ة) معبوده، فكان كل واحد فيها تمثيلا ً لوجه ٍ من أوجه الألوهة، و كان هذا العابد حرا ً في الاختيار لا يُجبر و لا يُقتل و لا يُحرق. و في ظل الوثنية ازدهرت العلوم الأولى في الرياضيات و الفلسفة و المنطق و سجل التاريخ لنا الملاحم الشعرية و الأدبية و وصلت البشرية إلى مستويات ٍ من الاستنارة نفتقدها الآن في عالمنا العربي.

مارست الديانات التوحيدية سرقات كبيرة من الوثنية، فلقد جردت كل آلهتها من جميع صفاتهم و ألصقتها بالإله الواحد، ثم أخذت مفهوم أنصاف الألهة و الكائنات الخارقة و جعلت منهم ملائكة و شياطين، و دمرت كتاباتهم و شوهت رموزهم و اضطهدت القائمين على سدانتها و ألقت بالمرأة إلى أسفل الهرم و قصرتها في دور الأم بعدما كانت الكاهنة و الشاعرة و التاجرة و القائد، ثم ألقت بصفات ذكورها على إلهها الأوحد فجعلت منه الراعي الرسمي و العلة الأولى لقمع المرأة و المُشجع عليه.

لم تستطع الديانات التوحيدية أن تقوم على أساسات جديدة فكان لا بد لها من الحديث بـ و ممارسة المحتوى القديم الموروث من الوثنية، فوجدت نشائد أخناتون طريقها إلى مزامير داود، و شعائر الحج الوثنية طريقها إلى الإسلام، و قصص البطاركة الكبار مثل إبراهيم و إسحق و إسماعيل و يعقوب و عيسو طريقها إلى كلهم، و قبلها شكلت قصص السومرين و البابلين عقول المؤمنين بآدم و حواء و نوح، بالتزامن مع الالتزام بالختان الفرعوني للذكور في اليهودية و الإسلام و أحيانا ً في المسيحية مع التحريم الفرعوني للحم الخنزير لأن هذا الحيوان البري الشرس هو أحد أشكال إله الشر سيت الذي اقتلع عين إلههم حورس، مُنتقلا ً إلى اليهودية مع القبائل العبرانية التي عاشت على تخوم سيناء ثم إلى الإسلام الذي لم يبدي سببا ً لهذا التحريم الغريب العجيب.

أرى أن الحديث عن الأديان يجب أن يترافق مع الحديث عن الأخلاق، و مع كشفنا للناس حقيقة تطور الدين و جذوره القديمة علينا بقدر أكبر أن نركز على أهمية الممارسات الأخلاقية في المجتمع، حتى إذا ما استنار الكثيرون انفلتوا من عبودية الأيدلوجيا ليمضوا نحو الارتقاء في السلوك البشري، لا نحو الإباحية، فالاستنارة في حد ذاتها قداسة و عداوة لوضاعة البوهيمية الغريزية، و هذا ما لا يفهمه أعداؤها فتراهم يقرنونها بخسة السلوك و وضاعته بينما هي أبعد ما تكون عن هذا.

كما لا بد و أن نعرض أمام الناس أهمية فصل الدين عن الدولة في التشريعات، و توضيح أن هذا الفصل يصب في مصلحة جميع المواطنين و يمنع الخصومات الدينية و المذهبية و بذلك يقضي على كل أشكال العنصرية و يعطي لكل إنسان حقه كمواطن بدون تفضيل لفئة أو ظلم لفئة أو اضطهاد لفئة، و يتوجب أن نُبرز أمامهم أن هذا الفصل هو في مصلحتهم أولا ً و أخيرا ً سواء ً آمنوا بدين ٍ أم لم يؤمنوا فحقهم في المُعتقد محفوظ كحق غيرهم، كي نستطيع أن نزرع فيهم فكر الإنتاج و المشاركة المجتمعية الفاعلة التي تبني الإنسان و الدولة و المجتمع معا ً.

إن منهجي يقوم على إبراز المشترك الإنساني و المساواة في الجوهر و الكرامة البشرية، مع التدليل على التشارك الجمعي في الحاجات الأساسية من حياة و بقاء انطلاقا ً نحو حاجات إثبات الذات و القبول، عارضا ً التفاعل التاريخي الجامع للبشر و الموضح و الدال على وحدانية أصلهم و حاجاتهم مع جمالية اختياراتهم المتعددة للتعبير عن هذه الوحدانية.

إن أهم عامل ٍ من عوامل الاستنارة يبقى أن نفتح أعيننا على حقيقة إنسانيتنا قبل أن تفرقنا أي أيدولوجيا!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن