قصة الموسيقى الغربية – فرانز شوبرت

محمد زكريا توفيق
zakariael@att.net

2014 / 1 / 14


يتميز كل ملحن موسيقي بموهبة خاصة. "فرانز شوبرت" لا يشز عنهم، وربما يفوقهم جميعا. لحسن الحظ، وجدت كلمات شيكسبير وجوته وريخت وهين، من يصوغها أغنيات عذبة، ويغلفها بألحان رقيقة، أمثال "شوبرت" و"شومان". ميزة "شوبرت" التي تفوق فيها على أقرانه، هي تلحين الأغنية. فقد لحن في حياته القصيرة، ما يزيد على 600 أغنية.

حياة "فرانز شوبرت" (1797-1828م)، ما هي إلا صراع ونضال، ممزوجان بالأمل والإلهام. لم ينتج عن هذه الحياة القصيرة البائسة، 31 سنة، سوى القليل من الشهرة أو الاعتراف بمكانة مرموقة في عالم الموسيقى، إلا بعد وفاته.

لم يتسن له العزف أو المثول بين يدي الملوك والأمراء العظام، ولم يتلق تكريما من الدول، أو إعجابا من الجماهير على أعماله. قصة حياته باهتة فاترة، خالية من كل الألوان والبريق واللمعان. لا تقارن بحياة عمالقة الموسيقى الذين ورد ذكرهم سابقا.

هو ابن ناظر مدرسة ابتدائية. كان يعيش في أحد ضواحي فيينا. ولد عام 1797م، أي قبل الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر بسنة واحدة.

التحق بمدرسة والده وعمره 5 سنوات. بعد ذلك بفترة قصيرة، اكتشف والده غرامه بالموسيقى. تولى أستاذ موسيقى تعليمه. كان يبدى تقدما ملحوظا.

كان يذهب، هو وصديق له، لمصنع آلات البيانو. يجلس على الكرسي، ورجلاه لا يكادان يلامسان الأرض، ليعزف ألحانه. صوته الجميل، وهو صبي، ساعده على الالتحاق بجوقة موسيقية، سمحت له بالعزف على الأورغن.

كان الأب يرغب في أن يلتحق ابنه "فرانز"، بجوقة الامبراطور. لذلك، عندما بلغ سن الحادية عشر، كان مستعدا لامتحان القبول بالجوقة. عندما ظهر أمام هيئة الممتحنين، ظل الصبية الآخرين يتهكمون علي ملابسه، ويسخرون من سمار بشرته وبريق عينيه وانتفاخ وجهه وقصر شعره.

كان "فرانز" يسمعهم يتهامسون، ولكن كل ذلك قد توقف بالكامل عندما بدأ يغني. التحق بالجوقة منذ ذلك الوقت، وبدأ يظهر مع الصبية الآخرين على المسرح، بملابس الجوقة القصيرة الرسمية المزينة بالحبال والأشرطة الدانتيل الذهبية.

سمح له بالالتحاق بمدرسة "ستادتكوفيكت". هناك، تيسر له دراسة كل أعمال عمالقة الموسيقى الكبار. وكان يبذل كل جهد للاستذكار والتمرين، إلى الدرجة التي جعلت أحد أساتذته يقول عنه: "لقد تعلم كل شئ عن الموسيقى، ويبدو أن الرب كان مدرسه". كان عقله، حتى في صغره، يفيض بالموسيقى.

لم يكن في مقدوره، شراء كراسات الموسيقى الخاصة بالكتابة الموسيقية. كان أحد الأصدقاء الأثرياء، يشتريها له. وكان، لكي يقتصد في الثمن، يشتري الورق الأبيض العادي، ثم يقوم بتسطيره بالقلم الرصاص، لكي يصلح للكتابة الموسيقية.

ظل "فرانز شوبرت" ملتحقا بالجوقة حتى سن السادسة عشر. في سن المراهقة هذه، تتغير نبرات الصوت. لذلك، فقد وظيفته في الجوقة، وعاد لكي يساعد والده في إدارة المدرسة الابتدائية.

قضى ثلاث سنوات، يعلم الأطفال. لم يتوقف خلالها عن التأليف الموسيقي. ألف ألحانا لموسيقى الحجرة والسيمفونيات والأوبرا وأكثر من مئة أغنية في تلك الفترة. من بينها، أشهر أعماله: "واندرر" وتعني الهائم، و"إيرل كنج". الأخيرة، قام بتأليفها في أقل من ساعة زمنية. لابد أنها كانت ساعة تجلي أو إلهام شديد.

الهائم، "واندرر"، ل "فرانز شوبرت".
http://www.youtube.com/watch?v=DHr4CPpde7o

"آفي ماريا"، أداء رائع ل "ميلوسيا لورسي"، لحن "شوبرت".
http://www.youtube.com/watch?v=sZoZwdesumY

في ساعة عصرية، بعد أن ترك العمل بالمدرسة مبكرا، أخذ قطعة شعرية ل"جوته"، وأخذ يقرأها مرارا وتكرارا. بينما كان يقرأ، كان يتخيل أمامه رعب الغابة، وأنين الرياح وصرير الهوام.

رأى أيضا الأب والطفل، على صهوة جواده، يركض في جنح الليل البهيم. يسوقهما الخوف والوجل. فقام بترجمة شعورة وخياله الجامح، إلى ميلودي وأنغام موسيقية.

عندما أنتهى "شوبرت" من تلحين "إيرل كنج"، عاد إلى المدرسة، وأخذ يغني ألحانها مع تلاميذه. سمعه ناظر المدرسة، فأعجب بها وأثنى على لحنها. لو لم يلحن "شوبرت" غيرها، لكان لحنها كفيلا بجعله مشهورا في عالم الموسيقى. هو الآن، سنوات عديدة قبل ان يعرف لحنها المغنون.

"إيرل كنج"، شعر جوته ولحن "شوبرت.
http://www.youtube.com/watch?v=C3nxyS8wf8E

كان ل"شوبرت" صديق ثري، "فرانز فون شوبر". كان يلح عيله ويرجوه بصفة دائمة لكي يترك التدريس المرهق، ويذهب للعيش معه في قصره.

أخيرا رضخ "شوبرت"، وذهب لكي يعيش كفرد من عائلة "شوبر". يؤلف الموسيقى في الصباح، ويستمتع بالتريض وقت العصاري. هنا، بقي "شوبرت" مدة سنتين.

في عام 1818م، قبل وظيفة في بلاط الكونت "إسترهازي"، الذي ينتمي إلى أسرة عريقة محبة للموسيقى. هناك، قضى صيفا في
مقاطعة الكونت في المجر.

كان خلاله منبهرا ومأخوذا بالميلودي المجرية الساحرة، التي يشوبها شئ من الغرابة والغموض. هذه الأنغام والميلودي الساحرة، أعطته الكثير من الأفكار والاقتراحات التي قام باستخدامها في ألحان أغانيه.

قام "شوبرت" أيضا، بتعليم الموسيقى لبنات الكونت. في وقت قصير، وقع "شوبرت" في غرام الكونتسة "كاثرين" الشابة. التي كانت في الواقع، منبهرة بعبقريته الموسيقية، وكانت تعامله بقدر إعجابها بفنه.

في أحد الأيام، قامت بلومه، لعدم تكريس أيا من مؤلفاته لها، فأجابها بقلب ملئ بالحب: "ما الفائدة، لقد أخذتي كل أعمالي". لكنه لم يكن يجرؤ على طلب يدها. بسبب حدوتة كل الأزمان وكل البلدان، السيدة العريقة صاحبة الثروة والجاه، والحسب والنسب والألقاب، و الموسيقي الشاب الفقير، اللي على باب الله.

لم يكن "شوبرت"، يعرف الكثير من النساء في حياته. قد نجد من الغرابة بما كان، أن ملحن أغاني الحب العذبة هذه، له حظ قليل من العلاقات النسائية. في الواقع، كان يسخر من أحاسيس أصدقائه العاطفية، ويدعي أمامهم أنه عدو المرأة.

لم يرقص أبدا، لكنه كان يرتجل وقت المرح، لمدة ساعات، موسيقى راقصة لكي يرقص علي أنغامها الآخرون. موسيقى "الفالس"، التي أتت من "تيروليز" شمال لإيطاليا، بدأت تنتشر في أوروبا، وتأخذ مكان موسيقى الرقصات الكلاسيكية (مينيوت).

موسيقى الفالس ل"شوبرت"، عازف البيانو "باولو بردوني".
http://www.youtube.com/watch?v=YXHGV-gbkKw

كان "شوبرت" من أوائل الموسيقيين الذين قاموا بتطوير موسيقى "الفالس". ثم يأتي "شتراوس" فيما بعد، لكي يبلغ بموسيقى الفالس حد الكمال.

فالس "الدانوب الأزرق" ل "جوهان شتراوس".
http://www.youtube.com/watch?v=PCge-suZLWw

كان "شوبرت" خجولا. لكن عندما كان يتجمع حوله المعجبون به، لكي يغنون ويعزفون موسيقاه، كان يندمج معهم، وينسى حكاية الخجل هذه. كان إلى حد ما كسولا. لا يعرف كيف يقدم نفسه للمجتمعات الراقية، ولا كيف يجعل موسيقاه تنال ما تستحق من الشهرة.

قضى "شوبرت" معظم حياته، حالما، هائما. حاول دائما الحصول على وظيفة ثابتة. لم تكن له مهارة "موزارت" أو "بيتهوفن" في العزف على الآلات الموسيقية. إنما كان يعزف على البيانو، مصاحبا لأغانيه، بجودة عالية إلى حد ما.

كانت تمر عليه فترات اكتئاب، وفترات بهجة. يتمتع بطبيعة خجولة رقيقة ودماثة خلق، لم يتعود الشكوى إلى أحد.

إلى جانب رفاقه الطيبين، كان له الكثير من الأصدقاء أصحاب النفوذ، الذين كانوا يتوقعون نجاحه. من بين هؤلاء، "فوجل" المطرب المشهور، الذي لم يدخر وسعا في غناء ألحانه على الدوام التي تبلغ 600 أغنية.

بعد رفض لحن "إيرل كنج"، لشوبرت، من إثنين من الناشرين، قام أصدقاؤه بشراء لحنها مساهمة فيما بينهم. منذ تلك اللحظة، بدأت تعرف أعماله. لكن، ما حصل عليه من ثمن بيعها، كان زهيدا للغاية.

الغريب أنه كان يجد سهولة بالغة في التلحين وسط الزحام والضوضاء، أو بين صخب الأصدقاء. لحنان ساحران من ألحانه، "سيرينادة" وأغنية من "سيمبلين"، كتبا بينما كان محاطا بالأصدقاء، يقضون جميعا وقتا ممتعا في أحد المقاهي.

لحن "سيرينادة" ل"شوبرت".
http://www.youtube.com/watch?v=NOcLX7bmtas

أحد الأصدقاء كان معه كتاب صغير ل"شيكسبير". سقط الكتاب على الأرض، فانحنى "شوبرت" والتقطه، وقرأ بعضا من شعر "شيكسبير". بينما كان يقرأ، كانت الكلمات تتحول في الحال إلى ألحان أغنية. أخذ يبحث عن ورقة لكي يكتب فيها اللحن.

أخذ يصرخ قائلا: "عندى لحن ميلودي جميل في رأسي يناسب هذا الشعر. لو كنت فقط أجد بعض الورق". أحد الأصدقاء لم يجد إلا فاتورة بيع معه، فأعطاها ل"شوبرت". الذي قام على الفور بكتابة اللحن على ظهرها.

الكثير من أغانيه، يمكن مقارنة ألحانها بلوحات الفنانين الهولنديين. لأن كلاهما، يصور مشاهدا من الحياة اليومية. هذا يعبر عنها في لوحته، وذاك يضعها في أنغامه.

"أغنية النائم"، الأم تهدهد طفلها لكي ينام. في مشاهد أخرى، الطفل يلعب بلعبته، والصبي صائد الأسماك يغني في قاربه، الذي يطفوا على سطح البحيرة وقت العصاري. الصبّية تجلس أمام بيتها تغزل بمغزالها. يتوهج شعرها الذهبي بضياء شمس الأصيل. صدي الأنغام يردد هذه اللحظات الأبدية، أبد الآبدين.

"أغنية النائم" ل"شوبرت".
http://www.youtube.com/watch?v=uMMQZYbONMg

أوبرات "شوبرت" مليئة بالجمل اللحنية الممتعة، لكنها ككل، ينقصها الوحدة الدرامية، لذلك يطويها عالم النسيان اليوم. لأن عبقرية "شوبرت" تتجلى في التعبير عن العواطف المتقلبة التي تظهر في الأغاني القصيرة، أكثر من الأعمال الطويلة الكبيرة. إلا أنه لحن الكثير منها أيضا. مثل: القداس والسوناتا والرباعية والسيمفونية.

السيمفونية التاسعة (C major)، المشهورة ب (The Great)، ألفها في أواخر أيامه. كانت تعتبر في وقتها، سيمفونية طويلة صعبة الفهم. لكن، بعد ذلك عندما سمعها الموسيقار "شومان"، تكلم عنها بحماس بالغ. ووصفها بأنها لحن سماوي لا يجب أن ينتهي.

السيمفونية التاسعة (The Great)، ل"شوبرت"، لحن سماوي لا يجب أن ينتهي.
http://www.youtube.com/watch?v=XAwEIC2FAtU

السيمفونية الثامنة ل"شوبرت" تسمى "السيمفونية الناقصة". لأنها تتكون من حركتين فقط، معظم السيمفونيات يتكون من ثلاثة أو أربع حركات أو أكثر.

بعض النوت الموسيقية التي تركها "شوبرت"، تدل على أنه كان عاقدا العزم والنية على إكمالها إلى أربع حركات. لكنه لم يفعل لمدة 6 سنوات قبل وفاته. وتركها حركتين كاملتين فقط.

السيمفونية الناقصة ل"شوبرت".
http://www.youtube.com/watch?v=GZeLYLCgfmw

كتب "شوبرت" السيمفونية الناقصة لجمعية "جراز" الموسيقية، وأعطى نوتتها الموسيقية إلى صديقه "أنسيلم هوتينبرنر". لكن "هوتينبرنر" لم يعرضها على الجمعية في ذلك الوقت، ولم يُعِلم أحدا بأنه يمتلك النوت الموسيقية، بعد وفاة "شوبرت" عام 1828م، ظل محتفظا بها مدة 37 سنة.

في عام 1865م، عندما بلغ من العمر 76 سنة، أظهر "هوتينبرينر" أخيرا النوت الموسيقية وعرضها على الماسترو "جوهان فون هيربك"، الذي قام بدوره بقيادة عزفها في نفس العام في فيينا، مضيفا إلى حركتيها اليتيمتين، الحركة الأخيرة من السيمفونية الثالثة ل"شوبرت".

يقول مؤرخي الموسيقى الكلاسيكية، أن السيمفونية الثامنة ل"شوبرت"، لا تحتاج إلى هذه الإضافة. فهي كاملة بحركتيها كما هي. في الواقع، هي في صيغتها هذه، أصبحت أشهر عمل موسيقي في القرن التاسع عشر. وظلت إلى يومنا هذا، أشهر أعمال "شوبرت".

مثل "شوبرت" الأعلى في الموسيقى ثلاثة أعلام. "هايدن"، "موزارت"، والعظيم "بيتهوفن". أسلوبه في التأليف لآلة البيانو، يتبع نمط "بيتهوفن".

بينما كان العظيم "بيتهوفن" يرقد على فراش الموت، كان يستمتع بقراءة النوت الموسيقية ل"شوبرت". يبدوا أن أغاني شوبرت، كانت قد أثرت في "بيتهوفن" جدا، لدرجة جعلته يقول: "شوبرت يمتلك روحي في التلحين".

"شوبرت" كان يقف إلى جواره عند وفاته، وكان أحد حاملي الشعل في جنازته. وعندما عاد إلى منزله، أحيا مع أصدقائه ذكراه. وكما هي العادة، شربوا نخب من سوف يقع عليه الدور لكي يموت بعد "بيتهوفن"، فوقع الدور على "شوبرت".

لقد كان "شوبرت" صغير السن. بسبب مرضه، ربما فيروس في الدم، أصيب جسمه بهزال، وكان يعلم أنه سيموت قريبا. توفي في العام التالي، سنة 1828م، عن عمر 31 سنة، قضى 15 سنة منها في التأليف الموسيقي.

طلب أن يدفن بجوار "بيتهوفن" في مقبرة "واهرنج". بذلك، يرقد ملك الأغنية ، "شوبرت"، إلى جوار ملك السيمفونية "بيتهوفن".

هنا، تنتهي قصة حياة قصيرة، مليئة بالسحر والإلهام. في البداية، لم يكن "شوبرت" معروفا، شهرته جاءت بالتدريج، إلى أن أصبحت كاملة بعد وفاته. اليوم، الكثيرون يحبون أغاني "شوبرت" أكثر من أي عمل موسيقي آخر.

أعمال أخرى رائعة وخالدة ل"شوبرت":

http://www.youtube.com/watch?v=WbOKlBFVHNM

http://www.youtube.com/watch?v=mI4cNWWt_Rg

http://www.youtube.com/watch?v=DjUTUyBG6to

http://www.youtube.com/watch?v=dtZgIKZ_jrw

http://www.youtube.com/watch?v=r8iuRigqipM

http://www.youtube.com/watch?v=g3k81__bwrM

http://www.youtube.com/watch?v=g2Q9HiiRtEc

ولقصة الموسيقى الغربية بقية، فإلى اللقاء إن شاء الله.
zakariael@att.net



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن