القسوة والقسوة مسرحية هاملت3D

منصور عمايرة
buqasem_21@yahoo.com

2013 / 12 / 1

يبدو العنوان يتقصد المتلقي، ويمثل دعوة صريحة إلى التفكير، واللافت بالعنوان مختصر التقنية المرئية 3D " Three Dimensional " رؤية ثلاثية الأبعاد، ولكن العرض حي، ويتوافق مع رؤية العين واشتغال الدماغ. وهذا ما يستدعي المتلقي إلى التركيز لما يدور حوله، وتكون هذه التسمية على مستوى العنوان، كإحالة أولية للتفطن لما سيحدث، والتفكير فيما حدث بعد انتهاء العرض.
عرضت هاملت 3D المشاركة في مهرجان المسرح الأردني العشرين، الاثنين 18-11-2013 على خشبة المسرح الرئيسي، المركز الثقافي الملكي عمّان. النص عضيب عضيبات، إخراج عبد الصمد البصول، تمثيل إبراهيم قواقنة، إسحاق إلياس، خالد الطريفي، كريم يحيى، رفيق ضبان، منال عباد، وهناك التقنيون.

الحكاية: حكاية هاملت، ولكن المخرج يغيرها مهما ركبت الحكاية على الحكاية الأصل عند شكسبير، فهي كما أشير إلى أنها نص مؤلف، تتكئ قليلا على رؤية شكسبير، ولكن الرؤية الإخراجية تختلف، لتندرج هذه المسرحية على مستوى العرض في مسرح القسوة، إنها تنزاح لمسرح القسوة كصرامة وصورة وحركة جسدية، وحِدَّة في التعبير اللفظي والتعبير الجسدي، ولهذا فإننا لم نرَ مُدية على خشبة المسرح، ولم نرَ دما على خشبة المسرح، فالقسوة فكرية تماما، وندية لمعارضة قوى وفكر الشر.
الجسد في المسرحية وقد اصطبغ بألوان عدة، ولكن " شخصية سريع " دراكولا كمصاص للدماء، يشبع العرض بحالة إضافية من القسوة، مع أن مسرح القسوة ليس هدفه إسالة الدماء، بل كما يقول بيتر بروك " لم يقصد به إثارة نزعات سادية، بل كان يدعونا إلى مسرح أكثر صرامة، إلى مسرح لا يعرف مشاعر الرحمة إزاءنا جميعا" فهو مسرح يبين عن الحِدَّة ، حيث يحارب قوى الشر بالفكر، وهل هناك أكثر شرا لهاملت من عمه وأمه؟ ويتمثل مسرح القسوة بالجسد والحركة الجسدية، فهو كحالة تعبيرية جسدية تنسحب على البعد الفكري، فكلاهما ينسجمان، ليشكلا رؤية واحدة في إطار القسوة، فالجسد يندمغ مع القسوة.
ويبرز التعبير الجسدي عندما يطرد هاملت سريعا، وقد تكرر هذا المشهد الحركي، فقد كان يشير هاملت إلى سريع بظاهر اليد، وبلفظ تكراري " هيا هيا هيا " بلين وبعيدا عن السادية، ولكنه يعبر عن رفضه للآخر.


السينوغرافيا: بدت كرؤية إبداعية، واشتغلت في العرض المسرحي بشكل واضح، وقد حملت العرض المسرحي إلى جانب البعد التعبيري والجسدي، فالألوان انعكست على ستائر أو قطع بلاستيك شفافة تدلت من الأعلى، وقد جزئ بعضها، ليمثل صورة ما كما هو حال أوفيليا Ophilia معشوقة هاملت، وكان للسينوغرافيا البلاستيكية الشفافة دور كبير في رسم الأحداث والرؤية الإخراجية، وكانت حالة إبداعية تمثلت بقراءة متعددة كأن تشكل صورة امرأة أو أوفيليا معشوقة هاملت، الذي كان يخاطبها، وحتى يتمرغ عند قدميها لما يحس به من ألم وغبن، وكانت الصورة تمثل حالة نهائية لما آلت إليه أوفيليا حقيقة في هاملت شكسبير، فهي صورة ساكنة تماما، وأكثر من ذلك غير قادرة على الاستجابة كحالة بلاستيكية لا تحس ولا تدرك.
واستخدمت هذه السينوغرافيا البلاستيكية الشفافة كتعبير عن رؤية أنا "أراك" أو أنا "أعرفك"، وقد تمثلت بحالة دخول الشخصية سريع بين الفينة والأخرى على مخابئ الآخرين، فيكشف أمرة بسهولة ولكنه يكرر فعلته، وهي حالة إسقاطية لشخصية بليدة تتلصص على خصوصيات الآخر، وربما نقول تعيث في البلاد العربية فسادا، وهي منتشرة بشكلها الرتيب، ولكنها تتواجد في أماكن مختلفة ومتعددة من دون وجل. والسينوغرافيا البلاستيكية، كانت لوحة في لحظة ما عندما يرسم هاملت وجها آدميا بالرسم التخطيطي وباللون الأحمر، وهي حالة تماهي للعرض والفكر الذي يدور حوله العرض.
وبدت السينوغرافيا من خلال تشويه الوجوه بالأصباغ، لتعطي انزياحا يتوافق مع القسوة والصرامة، وكأن معالم الإنسانية انسحبت منها تماما، وانبعجت إلى جوانية تبين عن الكره والحقد وإيقاع الشر، فتبدو الوجوه حالة غرو تيسك تمثل كل الجسد.
فاللون الذي بدا بأصباغ عدة يؤكد ماهية العرض، وكذلك الإضاءة المنعكسة على الستائر البلاستيكية، إذ تصبغها بألوان تتماهى مع طبيعة النفس الإنسانية والرؤية الذهنية لهاملت، وقد تملثت خير تمثيل بصورة أوفيليا معشوقة هاملت.

وقد بدت هذه القسوة على مستوى اللباس بحِدَّة كما هي حالة هاملت، فبدا اللباس ضيقا ويجسد شخصية هاملت، وهذه حالة دالة على رفض تلك الهالة القيميّة التي كان عليها الملك من حيث اللباس الفضفاض، والذي يدل على العنجهية والقسوة من جانب، وعلى النقاء والطهارة من جانب آخر، وحالة هاملت تدل على رفض المنظومة القيميّة للملك والملكة، وهي أم هاملت كما الملك عمه، فاللباس الفضفاض مهما كان مزركشا وجميلا غير قادر بنظر هاملت على إخفاء الحقيقة، فحقيقة الملك والملكة معروفة تماما لدى هاملت 3D. انحشر جسد هاملت بلباس ضيق، فضيق لباسه يدل على القسوة، وليس حالة جمالية، وعدم الإيمان بالقيم أو محاولة الانفلات منها، فقيم الملك والملكة مرفوضة لدى هاملت، وهي تمثل حالة قسوة وقوى شر يجب أن تقابل بقسوة كرد فعل يساوية أو يتغلب عليه.
وبدت صورة أكثر قسوة تمثلت برؤية "دراكولا" على خشبة المسرح، وكان يمد فاهه إلى أعناق الآخرين فيتلون باللون الأحمر، وهو يشير إلى حالة القسوة التي تعتمل في باطن الشخصيات.
ولباس المهرج الذي استحضر في العرض، وبدا كأنه خارج العرض المسرحي، ليشي باللعبة المسرحية وهي إشارة دالة على التمثيل.

الصورة: الساكنة أوفيليا ، أعطاها المخرج بعدا كبيرا في العرض من خلال هاملت الذي يخاطبها بالتعبير والجسد، وقد جسدتها الألوان المنعكسة عليها من الإضاءة ، فهي صورة جامدة تبين عن فقدان هاملت لقيم الحب ، وانسحاب الحب في العرض ليبدو كشكل ميت تمثل بتجسيد أوفيليا، وهذه الرؤية الإخراجية تؤكد انزياح الرحمة والحب والعاطفة الجياشة؛ لتخلي الطريق أمام الصرامة والتحدي. إن صورة تشكيل أوفيليا يمثل قراءة متعددة تتمثل بالحضور على مستوى الشكل الجامد وبالغياب على مستوى العاطفة وتبادل الحوار، لم يعد الحوار مجديا بنظر هاملت حتى مع أوفيليا، وهنا تتوسع دائرة الشك لتشمل الحب أمام يقين القسوة.

شخصية المهرج: هناك شخصيتان للمهرج في العرض، وهما يقومان بحركات بهلوانية، وكأنهما خارج دائرة العرض، أو خارج دائرة القسوة والصرامة ، وكأنها إشارة خفية لحالة استغفال البعض، فالحياة إذا ما تشكلت بالهمجية والعنجهية والسطوة لدى البعض، فهي ستكون على حساب الآخر الذي يبدو " الأهبل " أو الشخص المستغفل، أو الذي يتحول إلى المهرج، فكلام المهرج من خلال الحركة رمزي وغير مفهوم، وهذا يكشف عن الغضب الذي يطغى على شخصيات العرض، فهو حالة انسحابية ولكنها قاسية، فتمثل بعد القسوة من خلال التهريج والانزياح من دائرة الحدث كبعد مؤثر ظاهر للعيان، فالمهرج بالواقع وفي العرض المسرحي هو نتيجة لسبب، وقد يكون طريقة تخفي القسوة، وبقي المهرج يدور في إطار الشخصية المسلوبة وفاقدة القيمة، ولكنه لا يخفف الحِدَّة بين الأطراف المتصارعة فكريا، بل يؤكدها.

التمثيل: ممثل شخصية هاملت كان مدهشا على مستويين، المستوى الأولى: التعبير اللفظي، من خلال اللغة الجميلة التي يتحدث فيها عن الحياة والآخر، وهو يخاطب أوفيليا ، وهذه اللغة التعبيرية تبين عن الحالة النفسية لهاملت، فهي لغة نفسية " سيكولوجية "، مونولوج، لغة جوانية حوارية مع الذات، يرتسم فيه كل أفكار وتأوهات وقسوة هاملت وحدته تجاه الآخر الذي سلبه كل شيء، وهذه اللغة " المونولوج " لغة ذهنية واعية شديدة التركيز تؤكد مقولة " أكون أو لا أكون ".
والمستوى الثاني: التعبير الجسدي، الذي تناغم مع مستوى التعبير اللفظي، وهو يدور ويعتمل ويتشكل كما تعكسه الحالة النفسية لهاملت. فبدا صورة تعبيرية عما يعتمل في جوانيته كحالة صارمة وقسوة ، ورؤية حادة على مستوى التعبير الجسدي.
وهاملت لم يبقَ أسيرا للخطاب الجواني " النفسي " ولكنه يدور بحوارات متعددة مع أمه وعمه وسريع الشخصية الموجودة في كل مكان، وتبدو مع الجميع ضد الجميع، وهذه الحوارات تؤكد صرامة هاملت وغير قابل للانزياح والتغيير، فكان الممثل هاملت متعدد الرؤية على مستوى التعبير، وهو خطاب مونولوج، وخطاب حواري، ويمثل الرؤية العامة للمجتمع عندما يتحدث عن الحديقة والربيع والملك.

إسقاطات: الرؤية الإخراجية أسقطت المسرحية على الربيع العربي، من خلال جمل قليلة من حيث الإشارة إلى الربيع، والملك لا يهتم بالحديقة، وكأن الربيع في هذا العام لن يأتي، وهناك إشارة أخرى إلى السلطة الحاكمة من خلال ظلم عم هاملت، إذ يردد هاملت كلمة " الملك " أكثر من مرة، ويعبر عن كرهه له بصوت عال. إنها حالة الحكم وحالة الربيع العربي الآن، الذي بدا الجميع يعاني منه مهما كان بعيدا عن أتون الحرب الدائرة في أكثر من بلد عربي.


المسرحية والمتلقي: قد تكون مسرحية هاملت 3D لمتلق خاص تتطلب معرفة بالمسرح، وكأنها لا تمثل كل فئات المتلقي، وقد تعتبر هذه الرؤية مثلبة على المسرحية، فغاية المسرح المتلقي والانتشار، ولا ينتشر المسرح إلا من خلال المتلقي، وربما نقول بشكل صارم من خلال المتلقي العادي، ولكن المتلقي المتخصص " الناقد " هو معني بالعرض المسرحي ، ومعني بإظهاره وتفكيكه وتعريف الآخر به ، وربما يكون هذا الآخر في الوطن أو خارجه ، والرؤية النقدية مهمة وضرورية جدا للمخرج المسرحي وللممثل والتقني. في هذا العرض قد يجد المتلقي صعوبة بمعرفة الانزياح في العرض، والذي ارتسم على كل الأبعاد التي مثلت العرض.

التقطيع: يلاحظ في العرض تكنيك التقطيع من خلال ظهور شخصية سريع، وكأن المخرج هنا يبدو كمن يكتب النص على الخشبة ، وهذه التقنية من تقنيات مسرح القسوة والتي قد لا تستند إلى نص متكامل قيمي مثل المسرح الكلاسيكي مثلا، والمسرحية تشير إلى شكسبير كمؤلف لهاملت وهو كلاسيكي، إذن فإن النص يتخلق أو يبدو كجمل درامية أو رؤية درامية لم تكتب كنص موازٍ لنص شكسبير، بل أسقطت مسرحية شكسبير على العرض من خلال الشخصيات مثلا، ولكنها ليست مسرحية هاملت الشكسبيرية ، ولم تكن هذه غاية المخرج بتاتا ، ولكن الغاية إسقاطات آنية من خلال رؤية القسوة، وكيفية اشتغالها على الخشبة، ليمتلك المتلقي رؤية ضدية أو ثقافة عامة حول الأحداث التي تدور حوله الآن.
وبدا التقطيع في العرض من خلال ظهور سريع المفاجئ للشخصيات، ومن دون استئذان، وهنا نلمح عدم الاعتماد على نص مسرحي كبير، بل إن المخرج كان يحاول جاهدا أن يخلق النص على الخشبة وقد نجح بهذا التكنيك.
والمسرحية كرؤية أخيرة تحسب للمخرج برؤية بصرية وتعبيرية وجسدية، استطاعت أن تمثل الرؤية العامة للمسرحية على كل المستويات، الإخراج والتمثيل والسينوغرافيا.
منصور عمايرة كاتب وناقد مسرحي أردني



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن