الماركسية وافق البديل الاشتراكي - كارل ماركس

منير العبيدي

2005 / 6 / 1

لنترك المداخل المألوفة والكتابات التقليدية ، وبشئ من الخيال و بشئ من الخروج عن المألوف نطرح السؤال التالي : لو قدّر لكارل ماركس أن يُبعث الى الحياة ثانية ويقرأ ويرى ويسمع ما حدث في هذه الفترة التي تنوف على القرن منذ وفاته وخصوصا ما قام به أنصاره أو المدعين من مريديه من إنجازات نظرية ونتائج ملموسة ليس أقلها المنظومة الاشتراكية ، ماذا تراه سيفعل أو يقول ؟.
ولأنه مولع بالبحث والتقصي سيقوم بادئ ذي بدء بدراسة الملامح الجديدة لمجتمع رأس المال وسيسأل عن طبقة العمال الصناعيين ( البروليتاريا ) التي سوف يرى ، و بدون إندهاش وهو الجدلي الذي لا يؤمن بثبات الظواهر ، أنها لم تعد موجودة . وسيلاحظ بشئ من الارتياح أن الفوارق بين العمل اليدوي والفكري قد تقلصت أو زالت في بعض المجالات ولكن يجد أنها تحققت في ظل الرأسمالية وليس في ظل الاشتراكية . كما وسيرى بشئ من الاستغراب أن منظومة كاملة من الدول كانت تسيطر على مساحات شاسعة من الأرض ويسكنها بضعة مليارات كانت تهتدي ، كما تدعي ، بهدي أفكاره قد نشأت وانهارت بسرعة تناسب سرعة العصر رغم امتلاكها القوة والجبروت وغزوها الفضاء ، ذلك انها تجاهلت نداءات التحديث والتغيير التي تفرضها الحياة . أي انه باختصار سيكون ازاء المئات وربما الآلاف من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها حتى الآن ، وإزاء ذلك لن يختلف ماركس الى مكتبة لندن الشهيرة كما كان يفعل في القرن قبل الماضي ، القرن التاسع عشر ، وإنما سيطلب جهاز كومبيوتر يكون مرتبطا بشبكة الانترنت العالمية مُطرياً ما توصل اليه العصر من تقدم هائل في المجالات كافة ، مستغربا تمسك أتباعه بشعار المنجل والمطرقة في عصر الكومبيوتر.
سيرى إن هذه المنظومة من الدول التي تنسب نفسها لأفكاره والتي رفعت صوره في احتفالاتها الكبرى والتي درّست كتبه كما لو كانت كتابا مقدسا لا علاقة لها بما كتبه وتوقع حدوثه أو حلم بتحققه ، فهو الباحث عن حرية الكائن البشري الذي رأى أنه سينتقل من عالم الضرورة الى عالم الحرية ، حين يحقق أعلى درجات تحقيق الذات في ملكوت الحرية حيث الإنسان وكرامته هما المعيار وليس النظرية والكتب والمجتمع المعبأ ، حيث جرى تعليب المجتمع وتقليم الانسان لأجل عيون النظرية ولأجل أن يكونا على قياسها ، ومن أجل أن يتطابقا معها وليس العكس بأن تكون النظرية مستمدة من مصالح المجتمع وحركته . وسيرى أيضا أن اسمه ونظريته قد استخدمتا لتكريس عبادة الفرد ، وكيف أن الوطن قد حُوّل الى معبد خرافي يُحشد فيه كل أفراد الشعب طوعا أو كرها للتسبيح بحمد القائد الذي أذل الانسان وأهانه وسخر كل شئ للبقاء في السلطة ربع قرن أو أكثر لا يزيحه إلا الموت أو انهيار الوطن ، بدعوى أنه المناضل الصلب والذي لابديل له ضد الإمبريالية وطغيان رأس المال وسيخاطب آخر الرموز الفردية للسلطة الاشتراكية ( فيدل كاسترو ) : حسنا هل أنت حقا من أتباعي ؟ ألا تستحي أن تبقى في قيادة السلطة والحزب أربعين عاما ؟ الا يوجد في الحزب أو في الشعب الكوبي غيرك أيعقل أن تكون المؤهل الوحيد لدى شعب وحزب بهذه التجربة الثرة .
سيرى أن العولمة التي نُحسن شتمها في كل مناسبة ، هي مسار موضوعي لا مرد له ، لن ترده الشتائم ، وسيردد : إنها ستتحقق على كل حال حتى في ظل الإشتراكية إرتباطا بتطور القوى المنتجة بغض النظر عن شكل النظام الاجتماعي ولكن وظائفها ستكون مختلفة فيما لو تحققت في ظروف سيادة الملكية العامة لوسائل الانتاج ، وان ثمارها ، في هذه الحالة ، ستكون لصالح القوى العاملة والشغيلة وليس لصالح مالكي وسائل الانتاج ، وسيدرك إنطلاقا من مقولته عن علاقة الحرية بالضرورة أهمية دراسة هذه الظاهرة وسبل التعامل معها كأمر واقع ، وليس كفاجأة غير سارة لم يحسب لها حساب ، مهتديا بالمادية التاريخية التي هو مؤسسها ، وسيحدد ، على ضوء ذلك القوى الإجتماعية التي تهتم بعولمة إنسانية والتي تسعى الى إزاحة الحدود وتسهيل الاتصالات و حرية المعلومات ولكنها تسعى ، في الوقت نفسه الى المحافظة على الخصوصية وتنوع مصادر الالهام .
سيرى ولكن بشئ من عدم اليقين ، لانه لا يؤمن بالتنجيم ، أن النظرية الجدلية في النقيض ونقض النقيض ، والتي تستلزم فلسفيا ومنطقيا أن تكون الظاهرة الناشئة مكوّنة من عناصر الشئ ونقيضه ، ان التشكيلة الاقتصا ـ اجتماعية القادمة ستكون مزيجا من المزايا التي حققها رأس المال زائدا شكل من إعادة التوزيع يبقي على الحوافز الفردية . أما عدم اليقين فإنه ناشئ من منهجه الذي لا يجيز الحسابات الرياضية والمنطقية في العلاقات الاجتماعية .
سيقرأ كتب من كتبوا من بعده وسيستنكر تصنيف مفكرين إشتراكيين وإنسانيين كبار مثل بليخانوف ، تروتسكي ، كاوتسكي ، غارودي وعشرات غيرهم في عداد التحريفيين كما سيستنكر منع تداول كتبهم مشددا على حرية التعبير لمن نختلف أو نتفق معهم مشددا ان لا أحد يمتلك تفويضا يجعله حكما على الحقيقة وان الخطأ يكشف عن طريق الحوار والاختيار الواعي وسيرفض إملاء التابوات في مجال المعرفة. بل أنه سيستنكر بشدة اكبر جعل الاختلاف في الرأي مبررا للإبادة والتصفية الجسدية وبشكل وحشي أحيانا كما حصل لتروتسكي ومن ثم لزينوفيف وكامينيف وبوخارين وعشرات والوف غيرهم وسيقول : أنا ربما لا أتفق مع هؤلاء المفكرين في الكثير من الامور ولكن لايحق لي أن أدعي بانني العارف الوحيد للحقيقة ، فليس بمستطاع فرد أو مجموعة أفراد مهما عظم شأنهم ان يتوصلوا الى الحقيقة والصواب لوحدهم وأنما هذه مهمة النشاط البشري بشقية النظري والتطبيقي أي ان المعرفة إجتماعية وليست فردية و أن طابعها الاجتماعي سيزداد اكثر فأكثر وطابع المعرفة الفردي تقلص كثيرا عما كان في زمني حيث أن كمية المعلومات الآن تتسارع بشكل منقطع النظير مما يجعل المعرفة فعلا إجتماعيا ، كما انه سيعنّف أتباعه طالبا منهم رد الاعتبار لهؤلاء المفكرين ، عندها يتملل الاتباع مستائين مشككين بكونه فعلا كارل ماركس ، الا أن قسما آخر سيتهم ماركس بـ ( اللاماركسية ) وسيرى أن ماركس مرتد عن الماركسية بل وسيطلب بعضهم منه ان يبرز اوراق ثبوتية تثبت انه حقا كارل ماركس .
سيرى ماركس أن الموقف من الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية غير صحيح بالمرة ، ويجد أن النهج الستاليني المدمر والضار كان ماهرا في صناعة الاعداء بقدر مهارته في القمع ، كما سيجد أن الصراع الذي استهلك الكثير من القوى والموارد والذي شق الحركة الشيوعية العالمية بين الاتحاد السوفييتي والصين لا معنى له خصوصا وان كل طرف قد أتهم الطرف الآخر بتحريف الافكار الماركسية وأن ما جرى ليس سوى صراع طفولي أناني من أجل الزعامة والنفوذ . سيجد أن محاولات الاصلاح والتحديث التي قامت بها أحزاب شيوعية واشتراكية في أوربا الشرقية والتي قبرت في المهد وخصوصا في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا هي مساعٍ مشروعة من أجل فهم متنوع وضروري لطرق الوصول الى مجتمع عادل التوزيع مع مراعاة الخصوصيات الوطنية والارث التاريخي .
سيلاحظ بمرارة أن ما سمي حينها بالمنظومة الاشتراكية قد دعمت أنظمة دكتاتورية قمعية وحشية لم ينج من إرهابها حتى الشيوعيون أنفسهم .
سيلاحظ بمرارة انه غير محبوب من قبل المعادين للسامية لأنه يهودي ، وأنه ليس محبوبا من قبل اليهود لأنه لم يكن يهوديا بما يكفي ، أو ربما ليس يهوديا على الإطلاق ذلك إنه رفض إقامة وطن قومي لليهود كطريق للخلاص ودعاهم للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها والنضال من أجل مجتمع أفضل ، وسيجد أنه ممقوت من قبل الرأسماليين و مالكي وسائل الإنتاج لأنه دعى الى نزع الملكية الخاصة وتشريكها ، وانه ليس محبوبا من قبل أتباعه بعد أن اتهموه باللاماركسية والتحريفية ، والذين يعتقدون انهم أكثر ماركسية منه .
سيجد أن 99% من انصاره ومن أعدائه والذين قسموا العالم الى قسمين متناحرين لم يقرءوا كتبه ولا يعرفون عنه شيئا .

* * * *

الواقع الخيال
جزء من دراسة غير منشورة

في كتابه الشهير, وربما الاكثر شهرة " رأس المال " يشرح ماركس كيف أن رأس المال هو علاقة اجتماعية . لم افهم , في حينها , بما يكفي من العمق المقصود من ذلك , بالرغم من أن ماركس قد افاض بالشرح لاحقا في فصل التراكم البدائي , كيف ان عامة الناس يفصلون , بالحديد والنار والقوانين الصارمة التي سُنّت آنذاك في انكلترا ضد ( التشرد) , عن مصادر العمل المشاعة حينذاك وخصوصا بواسطة سياسة التسييج التي قلصت المراعي العامة , بحيث لم يتبق لدى الآلاف من الناس أي مصدر للرزق غير بيع قوة العمل وبالشروط التي يفرضها رأس المال , ان هذا التقسيم الاجتماعي القسري للعمل في شكله المبكر , أي وجود جمهور واسع من الناس محرومين من امتلاك وسائل الانتاج ووسائل المعيشة ومضطرين لبيع قوة العمل من جهة , وامتلاك أقلية من المالكين لوسائل الانتاج واستعدادها لشراء قوة العمل من جهة اخرى , هو الشرط الضروري والحتمي لتحول المال الى رأس مال . فلا يمكن للمال , الا ضمن شروط خاصة , أن يكون رأس مال.
ولتقريب الصورة , يشرح ماركس كيف ان رأسماليا أوربيا ضاق ذرعا بالمنافسة من قبل المشاريع الكثيرة الموجودة في أوربا , فقرر ترحيل رأسماله وعمالة وادوات عمله الى شمال أفريقيا . ولما كان العمال غير مجبرين على العمل الشاق حيث لاتوجد , هناك , قوانين تلزمهم بذلك , كما ماهو عليه الحال في بريطانيا مثلا , فقد هرب جميع العمال وبضمنهم خادمه الشخصي . وقد علق ماركس على ما فعله هذا الرأسمالي بسخريته المعروفة قائلا : " لقد نسي أن ينقل معه علاقات الانتاج".
بعد ذلك باكثر من قرن انتجت هوليود فلما غاية في الاهمية اسمه " رجل يدعى جمعة " يمثل رؤية جديدة لرواية روبنسون كروزو المشهورة التي أعيد انتاجها مرارا بسيناريوهات ورؤى مختلفة من تمثيل الممثل الشهير " بيتر اوتول " . ان الكثيرين يعرفون هذه القصة الشهيرة عن طريق القراءة أو عن طريق مشاهدة الافلام , اما الذين لم يطلعوا عليها فأننا نرويها لهم باختصار : انها تروي قصة رجل أوربي يضطر للعيش في جزيرة معزولة تماما بعد أن تغرق السفينة التي كان يستقلها , و كان هو الناجي الوحيد من بين ركابها , فيضطر بذلك الى تنظيم حياته وتوفير مستلزمات معيشته ببناء بيت بدائي ويقوم بتدجين شاة برية لكي يحصل منها على الحليب ويصاحبه كلبه الذي نجا هو الآخر من الغرق , ويوفر لبيته حماية جيدة عن طريق الأسلحة التي حصل عليها من بقايا السفينة الغارقة ويبقى وحيدا لسنوات طويلة بانتظار الانقاذ من سفينة قد تمر بهذه الجزيرة الى ان يتعرّف على شخص بدائي جدا , بعد أن ينقذه من أقوام بدائية تسكن جزيرة مجاورة كانوا يحاولون قتله , وأطلق عليه اسم " جمعة " ذلك لانه أنقذه وتعرف علية في يوم الجمعة , ويقوم بتعليمه اللغة الانكليزية لكي يستطيع التحاور معه.
الآن الصورة كالاتي : على الجزيرة المعزولة يعيش رجل أوربي معزولا عن مجتمعه الصناعي البضاعي , ولكنه لايزال حاملا الذهنية الاوربية , ذهنية المجتمع الصناعي وهيمنة نمط الانتاج البضاعي وبصحبته رجل من مجتمع بدائي تماما, لم يعرف الملكية الخاصة ولا النقود أو العمل الاجير, ولا البضاعة أو البيع والشراء , وكل شئ تعود ملكيته الى القبيلة , التي تمارس الصيد الجماعي وتجمع الثمار من البرية بصورة جماعية , وتمارس طقوسها الجماعية وتأكل طعامها بالتساوى في حلقة واحدة واسعة تتسع لكل أفراد القبيلة برجالها ونسائها وأطفالها . وحين يقدم روبنسون كروزو الى جمعة هدية مشيرا الى ان هذه الهدية ستكون ملكا خالصا له , لم يفهم جمعة معنى ( لك ) أو ( له ) فضمير التملك غير موجود في لغته البدائية , وقال متسائلا : " لي ؟ ما معنى هذه الكلمة ؟ " . فليس يكن ثمة في مجتمعه شئ تعود ملكيته لشخص واحد فكل شئ ملك للجميع .
ويبلغ الحوار ذروته الدرامية حين يطلب كروزو من (جمعة) ان يعمل في خدمته مقابل اعطائه نقودا , كان كروزو قد جلبها بصناديقها من السفينة الغارقة , ولكن جمعة لم يفهم مغزى وجود المال أو وظيفته في جزيرة معزولة لابيع فيها ولاشراء . هنا يلجأ كروزو الى إنهاء الحوار باللجوء الى البندقية , وبواسطتها يجبر جمعة على القيام بخدمته , ولكنه مع ذلك يستمر في إعطائه المال عن كل يوم عمل الى أن ينتقل المال جميعه الى جيب جمعة الذي يطلب من كروزو هذه المرة ان يعمل له , ولكن كروزو يرفض بكل عنفوان التفوق الاوربي , مذكرا جمعة أن البندقية ما تزال لديه ! .
أن الخيال الذي أنتج قصة روبنسون كروزو والمدعوم برؤية جديدة قد شرح لي , وربما لغيري , ما لم تستطع الكثير من الشروح أن تفعله و كيف أن المال هو ظاهرة تاريخية متأخرة في حياة الجنس البشري وان المال لا يكون راسمالا الا ضمن شروط اجتماعية خاصة والاكثر ان المال يمكن أن يكون , ضمن شروط اخرى كتلك التي مر بها كروزو, عديم القيمة.
لقد تسلل فكر ماركس الى ضمير البشرية , وعملت آلياته الفكرية بوعي وبدون وعي حتى لدى اولئك الذين رفضوه سياسيا .
وفي نهاية الالفية الماضية فاز ماركس في استطلاع للرأي في العالم الرأسمالي نفسه بالموقع الاول باعتباره المفكر الاكثر تأثيرا خلال الالف عام الماضية. ولكن السؤال الذين يطرح نفسه كم من انصار ماركس أو خصومه قد فهم ماركس حقا ؟ بل كم منهم قد قرأ كتبه؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن