عندما تقع الحرب

بدر الدين شنن
abohamid@hetnet.nl

2013 / 9 / 3

بالمطلق كل الحروب هي مذبحة .. تسمى كبيرة أوصغيرة .. حسب أعداد ضحاياها ، ونسب الدمار التي تحدثه . وتسمى عظمى وغير عظمى ، حسب عدد الدول المشاركة فيها ، وحجم ونوعية النتائج المحققة ، ميدانياً ، وسياسياً ، واقتصادياً ، بالنسبة للمتحاربين ، ومدى انعكاساتها على المحيط بها .. وعلى العالم كله ..

كل الحروب ، عند العقلاء ، والأسوياء حضارياً وأخلاقياً مكروهة ، لأن مخططاتها وآلياتها وعملياتها مكرسة ، لزيادة سطوة وثروات الطغاة ، وهي أداة انقراض الحرث والنسل والعمران . فقط الحرب ضد العدوان الخارجي مقبولة على مضض . وبقية الحروب والغزوات مرفوضة ، سواء كانت فتحاً ، طمعاً في بلدان عمرتها شعوب أخرى ، أو كانت احتلالاً عدوانياً سافراً على شعوب مستضعفة ، أو كانت استكشافاً للتوسع في مناطق مجهولة من قبل كيانات اليابسة المأهولة . فأي فتح أو احتلال أو استكشاف توسعي من قبل القوي للبلدان الأخرى ، وأي كسب بالقوة من أرض وثروات الآخر ، هو عدوان لصوصي ، وحكم بالإفقار ، والانقراض لذاك الآخر . ورغماً عن كل مؤرخي الفاتحين وجبابرة الحروب المنتصرين ، الذين يزينون الحروب والفتوحات ، بالرسالات الدينية ، والعبقريات العسكرية الفذة ، والدفاع عن المقدسات ، ونشر التمدن ، والدفاع عن القيم ، فإن الحرب ، بكل أشكالها ومسمياتها ، هي لعنة موروثة ، من عهود توحش الغاب ، وعهود سيطرة الغرائز البدائية ، ينبغي أن يلقيها الإنسان نهائياً في قاع مهملات التاريخ ، ليبرهن أنه صادق في انتقاله لعالم الإنسانية .

ووفقاً للمعيار الإنساني الحضاري الرافض لحروب الغزو والفتح والاحتلال والاستكشاف ، بدوافع غرائز التوحش البدائية ، والجري لنهب الشعوب واستعبادها ، وأحياناً إبادتها ، فإن هذا المعيار يرفض وبشدة أكثر الأنظمة المستبدة .. الديكتاتورية .. مهما كانت تسمياتها ، وخلفياتها ، وأيديولوجياتها ، وتلاوينها . فأي حكم يحتكر السلطة بالقوة ويمارسها تعسفياً إزاء الآخر ، سواء كان عائلي قبلي ، أو عسكري ، أو مذهبي ، أو حزبي أحادي ، أوعرقي ، أو طبقي استغلالي ، هو مرفوض . فجميع أنظمة الاستبداد تستعبد الشعوب ، وتدمر روح الإبداع فيها ، وتحكم عليها بحرمانات لاتحصى من الحقوق ، وخاصة من حق الحرية والكرامة والاعتبار الإنساني والعدالة الاجتماعية والمعيشية ، وتفرض عليها البقاء عند مستويات التهميش في كل ما تعنيه المواطنة .. وعند خط الفقر ومادونه في أغلب البلدان والأحيان .

ورغم أن الحرب والاستبداد وجهان متلازمان للقهر والتخلف ، إلاّ أن مواجهتهما من قبل الشعوب ، لاتكون مطلوبة في وقت واحد في البلد الواحد . فأحياناً تكون المواجهة مقتصرة على مقاومة تدخل أو عدوان خارجي . وعندما تقع الحرب ، تتوقف الشعوب الحية عن الصراعات الداخلية بين القوى الاجتماعية والسياسية . لأن المنسوب الوطني يكون هو الأعلى ، وهو الواجب الأول في الاهتمام . وأحياناً ، عندما لايكون المنسوب الوطني هو الغالب ، تكون المواجهة مقتصرة على الشأن الداخلي . من أجل إصلاح أو إسقاط حكومة ، أو إسقاط قانون ، أو تغيير دستور جزئياً أكلياً . هنا يكون المنسوب الداخلي هو الأساس والأعلى والواجب الاهتمام به ، ومتابعته حتى يتحقق ما هو مطروح من أهداف اجتماعية وسياسية . وأحياناً ، كما حدث في الصين والفيتنام وأوربا إبان الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي ، حيث حولت الثورة ، والمعارضة ، بنادقها ، وقواها ، ضمن تحالف وطني عريض ، ضد الغزو الأجنبي وعملائه ، دون أن تتخلى عن أهداف الثورة ، والمعارضة ، التي عادت إلى النضال من أجلها بعد الانتصار على العدو الخارجي .

* * *

إن ما يحدث في البلدان العربية الآن .. في زمن المتغيرات الدولية المتصاعدة ، التي عبر عنها بشكل سافر ما سمي " بالربيع العربي " الذي تقوده الدول الاستعمارية ودول عربية رجعية معادية تاريخياً لحرية الشعوب ، هو الأخطر على المصير العربي الإنساني منذ الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي . إذ أن القوى الغربية الاستعمارية والرجعية العربية ، عملت وتعمل على توظيف صراعات الداخل العربي ، لتحقيق مخططاتها ومطامها . وتتعمد خداع واستغباء القوى السياسية والشعبية الطامحة للتغيير الداخلي بتعاطفها الزائف معها . وذلك بمحاولة دمج مصالحها الاستعمارية والرجعية بمطالب الحرية والتخلص من عدد من الأنظمة القائمة . وقد نسقت قوى وشخصيات معارضة حراكها مع الدول الغربية والرجعية العربية ، على أمل واهم بتحقيق ثنائية المصالح ، كما ’خدعت قوى وشخصيات معارضة أخرى ، لاسيما القادمة من أوساط ثقافية مرتزقة ويسارية مرتدة ، بأنه يمكن للخارج الاستعماري ، أن يحقق عبر هيمنته السياسية والستراتيجية على بلدانها ما تصبو إليه من متغيرات داخلية " متقدمة " . ما أدى إلى أن تتشكل حواضن محلية من المهمشين اجتماعياً وسياسياً للمشروع الأجنبي . وحدث أن أصبح هذا التوجه قناعة لدى عدد لايستهان به من المحرومين من احتياجات الحياة الأساسية ومن الحرية تجاوزت المصالح الوطنية . وتطورت هذه القناعة مع توالي المواجهات الدامية إلى تعصب ، شكل حاجزاً خطيراً أمام التفكير السياسي ، عند استحقاقات البحث عن حل وطني مستقل . وإلى أن تشكل المواجهات الشعبية العربية الراهنة ، نموذجاً متميزاً ، حيث تندمج استحقاقات المواجهة الداخلية ، من أجل إقامة أنظمة ديمقراطية تسود فيها الكرامة والعدالة الاجتماعية ، بديلة لأنظمة فاسدة فاقدة لصلاحياتها الدستورية والأخلاقية ، مع المواجهة الخارجية الاستعمارية من أجل حماية الاستقلال الوطني ، ومقاومة مخططات الحلف الغربي العربي الرجعي الإسرائيلي ، لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ، واستدامة الهيمنة عليه وعلى ثرواته .

بيد أن هذا الاندماج في المهام الديمقراطية والاجتماعية والوطنية ، قد جرى الالتفاف عليه .. وتحويله في الاتجاه المعاكس . حيث جرى العمل على برمجة الحصول على الديمقراطية بواسطة المفاعيل الخارجية الاستعمارية والرجعية عدوة الديمقراطية ، وضمن إطار مصالح القوى الخارجية المسلحة بمخططات الانقضاض على البلدان العربية وتدمير مقوماتها ، وإقامة أنظمة مطاوعة لها مقابل نشر ديمقراطية عاهرة فاقدة للكرامة الوطنية . وقد تجلى ذلك في اختطاف قوى التحالف الغربي العربي الرجعي للانتفاضات الشعبية ، في تونس وليبيا ومصر وسوريا ، وتجلى ذلك بوضوح أكثر في برنامج وعمليات استدعاء الخارج للتدخل العسكري لتدمير الدولة الليبية ، ومحاولة تكراره في مصر بعد الإطاحة بمحمد مرسي ، والتأكيد عليه وتدعيمه ليتحقق في سوريا ، بمختلف الذرائع ، بما فيها المذابح الكيماوية ، والطائفية ، والعرقية ، والمذهبية .

* * *

وفي هذا المشهد المأساوي المضطرب ، تجاوزت الحالة السورية السقوف والمعايير في التعامل مع الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية الأخرى ، التي مرت في فضائها رياح " الربيع العربي " المزعوم . فلم تنجح فيها سيناريوهات التغيير وإسقاط النظام المجربة في تونس وليبيا ومصر . وفرضت الخصوصية السورية نفسها . وهذه الخصوصية تتمثل في عوامل عدة أهمها :
1 - بنية مؤسسات الدولة ، لاسيما الجيش والأجهزة الأمنية ، التي بناها ويقودها منذ عقود حزب البعث الحاكم ، ترفده في ذلك أحزاب متحالفة معه ضمن " الجبهة الوطنية التقدمية " . وهذا القول ليس مجرد وجهة نظر ، بل إنه مكرس في الدستور السابق ، الذي كان ينص ، على أن حزب البعث " يقود الدولة والمجتمع .. ويقود جبهة وطنية تقدمية " . وقد اثبتت هذه البنية فعاليتها في تماسك مؤسسات الدولة إلى حد كبير . وذلك خلافاً لتقديرات المعارضة ، التي كانت تراهن على انهيار هذه المؤسسات عند انطلاق حراك الشارع النخبوي .
2 - لقد ترسخ وتوسع إبان المراحل الماضية ، العلاج الطبي المجاني في جميع المراكز الصحية والمستشفايات . وتم تطبيق التعليم المجاني أيضاً في مختلف مراحل التعليم بما في ذلك الدراسات العليا . إضافة إلى ذلك ، تدعم الدولة عدداً من السلع الغذائية والمحروقات . وقد تم بناء القوات المسلحة للمحافظة على استقلالية القرار الوطني ، ولمواجهة حالات الحروب المتواصلة مع إسرائيل .
3 - في كل المراحل التي مرت فيها سوريا ، منذ الاستقلال حتى الآن ، المنسوب الوطني فيها عال ، وفي حالات كثيرة يكون هذا المنسوب طاغياً على ما عداه من شؤون مدنية عامة . فمنذ الاستقلال وسوريا في حالة حرب مع الكيان الصهيوني ، ومع الأحلاف الاستعمارية في الشرق الأوسط ، التي تتزعمه أمريكا وبريطانيا وفرنسا . ولهذا فإن الجيش السوري يتمتع ويتحصن بعقيدة عسكرية ثابتة واضحة يتحدد فيها العدو وعملائه وحلفائه . ما أدى إلى أن يتجاوز البعد الحزبي الروتيني ، وتكبر لدى قيادته ، لاسيما في الظروف الاستثنائية .. مثل .. عندما تقع الحرب .. ضرورة أن يمارس دوره كمؤسسة مسؤولة عن أمن الوطن قبل وفوق أي اعتبار آخر

* * *

وعلى ذلك ، عندما تصدت قوى المعارضة لمهمة إسقاط النظام ، وقعت بأخطاء عدة ، أهمها ، عدم أخذ هذه العوامل الهامة شعبياً ووطنياً بعين الاعتبار . وعدم طرح برنامج سياسي متكامل بديل للبرنامج الحكومي ، وأكثرها سوءاً .. أنها تحالفت مع قوى دولية مثل بريطنيا وفرنسا وأمريكا العدوة التقليدية للشعب السوري ، وتعاونت مع أسوأ الأنظمة العربية الرجعية الفاقدة لأبسط مباديء الديمقراطية ، ما أدى إلى عزلتها القاتلة عن الشعب ، وكشفت أن طريقها إلى السلطة ليس هو صندوق الاقتراع وإنما هو الصراع المسلح المدعوم علناً من الإرهاب الدولي ومن دول تتآمر على المكشوف على المصالح الوطنية . وبذلك زاد المنسوب الوطني في الحالة السورية أكثر من أي وقت مضى .

وهذا ما أدى إلى تجاوز الصراع حول الشأن الداخلي ، وإلى تجاوز مأساة الضحايا ، الذين قتلوا كيماوياً في لعبة استدعاء التدخل الخارجي ليكونوا ذريعة مفجرة للعدوان الخارجي ، وأدى إلى تحديد فرز حقيقي يتناسب وارتفاع المنسوب الوطني إلى الذروة ..
- من مع التحالف الاستعماري في توجيه ضربات حربية تدميرية للقوات السورية المسلحة ، والبنى التحتية للدولة ، والمراكز القيادية في مؤسسات الدولة ، المأمول منها في مخطط المعتدين أن تضع الكيان السوري برسم التدمير والتمزيق وتحت هيمنة الإرهاب الدولي . بذريعة التعاطف مع ضحايا مذبحة ريف دمشق الكيماوية قبل اتمام التحقيق بملابساتها وقبل تحديد المجرم المسؤول عنها .
- ومن مع الدفاع عن الوطن ضد ضربات عسكرية أجنبية .. ومع حماية الوطن وانتصاره ، من إجل إعادة بنائه قوياً ديمقراطياً تسوده الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية .

من أسف شديد هناك من يتعامل مع هذا الفرز ، على خلفية موقف نهائي محسوم من النظام القائم ، الذي تقع عليه مسؤولية الدفاع عن الوطن ، ويعدد ما يسميه جرائم النظام في الماضي والحاضر ، وكأنه يريد معاقبة النظام بأية وسيلة على كل ما رآه ويرفضه في الصراع الداخلي .. فلتقع الحرب .. مستخفاً بالدمار وبالثمن البشري لانتقامه اللامسؤول واللاوطني . وهناك من يتعامل مع الحشد السياسي والإعلامي والعسكري الغربي العربي الرجعي ، لتوجيه ضربة حربية لسوريا ، على خلفية أن من يدعو ويتهيأ لتوجيه الضربة يتمتع بحق قانوني وأخلاقي في القيام بهذه الضربة أو الحرب ، مانحاً إياه براءة ذمة وحسن سلوك سياسي وأخلاقي .. متناسياً أو متعمداً استغباء الشعوب وخداعها ، أن الذين يستعرضون القوة العسكرية الآن باسم نصرة ضحايا الأسلحة الكيماوية ووقف المذابح .. هم أول من استخدم السلاح النووي في اليابان .. واستخدموا السلاح الكيماوي في الفيتنام وكمبوديا ، واليورانيوم النضب في أفغانستان والعراق وغزة .. وهم أحفاد من قتلوا أكثر من مئة مليون من الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية وأوستراليا .. وهم الذين استخدموا البدو في صحراء الجزائر في تجارب السلاح النووي الفرنسي .. وهم من ذبحوا مئات آلاف الأرمن .. وفي رقبتهم حق دماء مليون جزائري ، ومليون عراقي ، قتلوا بصواريخهم وقنابلهم .

مع الحزن العميق على ضحايا مذبحة ريف دمشق وغيرها .. ومع التصميم الحقوقي والقيمي على محاسبة المجرمين ، الذين قاموا بها ، ومع رفض تكرارها مرة أخرى في أي مكان داخل سوريا وخارجها ، فإنها لاتبرر .. ولاينبغي أن تكون ذريعة وتغطية لارتكاب مجزرة دولية على مستوى الوطن ، يكون ضحاياها وخسائرها أكبر .. وأكبر آلاف المرات من حجم وخسارة مذبحة ريف دمشق أو غيرها . ومن هو صادق حقاً في رفضها ومصر على محاسبة المسؤولين عنها .. عليه أن يرفض المذبحة الأكبر التي تدبر باسمها ضد شعب بأسره .. وأن يعي أن الحرب عندما تقع لن يتحقق إنصاف ضحاياها .. وإنما مصالح القوى الاستعمارية والصهيونية وعملائها في سوريا وفي الشرق الأوسط .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن