القهر والزمن فى الزينى بركات

أماني فؤاد
d.amany-fouad@hotmail.com

2013 / 8 / 22


تظل بديعة ودرة "جمال الغيطانى" "الزينى بركات"(1) قادرة على تجسيد مثل أعلى من الفن الروائى فى أبهى وأعمق صوره الفنية والفكرية، رغم مرور ما يزيد على أربعة عقود على سنة نشرها عام 1971م.
لم تزل قادرة أن تهب فيضا من الإشعاعات والتأويلات التي تجسد القضايا الجوهرية في قصة الوجود البشري، داخل اللحظات الإنسانية ، و بعض النماذج البشرية في ديمومتها وتكرارها، يتخذ النص من التاريخ مقطعا، ومن خلاله يحكي شوق الإنسان الأزلي للحرية والعدل، من قلب دورة زمنية قديمة ومتجددة معا، في آن واحد، أبدع الغيطاني نصه، ومن إشراقاته أعيد القراءة.
(1) النموذج الروائي والأقنعة:
فى هذا النص يقدم الغيطانى نموذجاً إنسانياً قادرا على تجسيد صنف من البشر يملكون قدرات خاصة، قدرات متناقضة وحائرة، إنسان تتعدد أقنعته ووجوه حقيقته، ويحتار من يتلقاه أن يصنفه تحت توجه بعينه.
يقدم الروائى من خلال "الزينى بركات" نموذجاً للبطل، القائد الذى تحمل جيناته وأعماقه إزدواجية حائرة، القائد الذى يملك حلماً وبإمكانه أن يحققه على مستوى الواقع، متخذاً لإجراءات وتدابير ذكية، وخطوات علمية قائمة على دراسة مكثفة، تمكنه من تحويل بعض الأحلام إلى حقائق.
وهو فى ذات الوقت القادر على تصدير الوهم. والقدرة على تحويله إلى حقائق فى ذهن الجماهير، بل والهيمنة على الأقدر والأكثر إحاطة مع خبث وذكاء من الجموع العادية، مثل ما صنعه مع "زكريا الشهاب الأعظم"، عندما أوهمه أنه يمتلك جهازا أمنيا "بصاصين" خاصا به.
يقدم الروائى شخصية الديكتاتور في تناقضها وحيرتها، الحاكم الذى يستخدم كافة الوسائل المعلنة والخفية، الشريفة والظالمة، من أجل أن يحقق أهدافه، فالغاية تبرر الوسيلة، والتفكير ميكافيللى بامتياز.
يحتار المتلقى لهذا النموذج هل يعشقه؟ ويصبح لديه ممثلاً للقوة والنجاح والعدل متجسداً فى إنسان، أم أنه نموذج للظلم وإشاعة القهر، والرغبة في التحكم والسيطرة، وهكذا ينقسم الناس حوله، وتضيع معالمه الحقيقية بين إيجابياته وسلبياته.
يقدم الغيطانى نموذجاً بشرياً من لحم ودماء، لا تعرف هل تضعه فى أحد كتب التاريخ وتدون تحته أنه كان الظالم الأمثل، أو أنه كان العادل الحالم، أو أنه مثَّل العادل المستبد، فهو شأن بعض القادة والبشر الذين يمرون بالحياة والتاريخ من حولنا، نعيش معهم، ويطبعون بصماتهم على التاريخ، وتظل المقاييس القطعية معهم حائرة.
من هو الزينى بركات بن موسى؟.. شخصية محتسب ورد ذكره فى كتاب "بدائع الزهور فى وقائع الدهور"(2) للمؤرخ المصرى "محمد بن أحمد بن إياس الحنفى المصرى"، وبعض المصادر الأخرى، يقول عنه "الغيطانى" فى أحد حواراته: أنه كان فى بداية حياته مكلفاً بحراسة قوافل الحج إلى أن وصل إلى أعلى المراتب، وبغض النظر عن حجم الحقيقة أو المتخيل فى رواية "الزينى بركات"، يشعر القارئ أنه كل حاكم أو صاحب سلطة تشكّله ملكات وقدرات خاصة، تجعل منه هذا المزيج الذى يجعل ألد وأشد أعدائه، "زكريا" - على سبيل المثال - يريد أن ينال منه، لكنه يحترمه ويشعر بضرورة وجوده، وقيمته بالحياة وسبقه للزمان الذي يعيش فيه.
الزينى بركات بقناعيه هو كل حاكم يحوّل مجتمعه بكل فئاته وطبقاته إلى مجموعة من العملاء والجواسيس والبصاصين، يتلصص الجميع على الجميع، يحوّل الوطن إلى دولة تحكمها قبضة أمنية قامعة بامتياز، دولة البصاصين والجواسيس والمرشدين.
كما يوظف "ابن موسى" القابض على السلطة السياسية التنفيذية الدين ورجاله، ويتحايل من خلالهما، ليمرر أغراضه وأطماعه، فى درجة مبتذلة من خلط الدنيوى بالدينى أو المطلق، ويتجلى ذلك فى علاقته بالشيخ "أبو السعود"، واستغلال مكانته عند جميع الطوائف والطبقات عند الشعب، بداية من السلطان والأمراء حتى العوام من الفلاحين.
يجسد الزينى بركات كل مستبد يرتدى مسوح الكهنة، يعيش في زمن استشرى فيه الفساد وطغى أيام دولة المماليك بمصر، يتقرب من الشعب بخطاب عاطفى، وهو يضمر تنفيذ سياسات يقصد من ورائها مجده الشخصى، واستمراره قابضا على الحكم تحت أى متغير.
الزينى هو من يحوّل الفرد فى المجتمع إلى كيان مجوف خائف لا قيمة له، غير قادر على المواجهة أو التفكير أو الإبداع، هو الأب المطلق فى صورته المستبدة ذات المرجعية الوحيدة، هو من يفكر ويقرر وينفذ لاغياً لإرادة الآخرين بطوائفهم وتعدديتهم، فلا إرادة غير إرادته، مغامراً بفرديته، أو مستندا على كيانات طائفية أو قمعية.
من بيده السلطة المطلقة الذى يحول الجميع إلى أدوات مجوفة خائفة، خانعة مهزومة، شأن ما حدث مع شخصية "سعيد الجهينى" الذى مورس عليه فعل التجسس والتعذيب والقمع، أو حتى شخصية "عمرو بن العدوى" من مارس التلصص والتجسس على الآخرين، النموذجان طالهما التشويه، "سعيد" بالممارسات القمعية والتعذيب والإهانة، وزرع الخوف بداخله، وعمرو بتشويه قيمه وحياته، وجعله كائناً منبوذاً من الجميع، فاقداً لإنسانيته.
تخرج من تحت عباءة الزينى شخصيات تاريخية كثيرة قد يكون: "فرانكو" أو "هتلر" أو "موسولينى" أو "كاسترو" أو "الحجاج بن يوسف الثقفى"، أو "باتستا" أو "محمد على" أو بعض أقنعتهم المتعددة أو جميعهم.
شكَّل الغيطانى شخصية "الزينى" المحتسب الحاكم التنفيذى الذي عينه السلطان و"زكريا الشهاب الأعظم" كبير البصاصين بطريقة فنية مبدعة تجعل قارئها متحيراً، ففى بعض الفقرات من الرواية شعرت أنهما شخصاً واحداً، كل منهما يحتوى الآخر، وقد يتضمنا "على ابن أبى الجود" المحتسب السابق الذى حاكمه الزينى وأعدمه.
ينفر زكريا من الزينى ويكرهه، ويضمر له الحقد والرغبة فى الإيذاء بل والتخلص منه، وفى ذات الوقت يُكنَّان لبعضهما التقدير وتثمين مواهب كل منهما للآخر، ومعرفة مواضع قوته. كل منهما يكمل نقص الآخر ويدافع عن وجوده، رغم خطورتهما على بعضهما، لكنهما مكتمين كيان دولة ينخر فيها الفساد على أكمل وجه، وعلى كافة المستويات بدءا من السلطان أو الحاكم الأعلى، أياً كانت مسمياته، حتى أصغر موظف بالمنظومة الحاكمة.
فمنذ تولى الزينى الحكم أضمر زكريا القضاء عليه لكنه فى مونولوج داخلى يقول: "ما قدَّره منذ هذه الليلة، يزداد رسوخاً فى عقله، لكن الحقيقة، الزينى رجل لم يعرف له مثيل، أحياناً يفكر زكريا بضرورة مجيئه بعد هذا الزمان بسنوات، لا يدرى مقدارها تماماً، ولكن أليق به العيش فى زمان بعيد، يلقى فيه أدوات يحلم بوجودها، لا يدركها لعجزه، وعجز زمانه عن تجسيدها، هذا الزينى جاءه أيضاً من العصر الغامض النائى الذى يود العيش فيه، مثله لا يستهان به(3)".
يبدو الزينى بركات وزكريا قناعين لشخص واحد، كل قناع منهما ينطوى على توجس من الآخر والرغبة فى القضاء عليه، والآخر يثمن مواهب قرينه، ويتعايشا معاً ليشكلا هذا النموذج الإنسانى الفريد، رجل يمكنه أن يمتطى كل العصور وكل أنظمة الحكم، يجسد قدرات بشرية فائقة ومتناقضة.
أحاط الروائى "شخصية عمله بقناعيها الزينى بركات وزكريا" بقدر من الغموض الشفيف، حتى أن المتلقى يشعر أن الذى يُحكى له عنهما يختفى وراءه الكثير الذى لا ينبغى له أن يعرفه، أليس النص فى جوهره قائم على تصوير دولة أمنية من الطراز الأول، عالم من الخفاء والتعتيم، إن تم الظهور فيه لحقيقة فهى بقدر، الحقيقة تُقدم نتفاً، إشارات وعليك كمتلقٍ أن تكمل التصور من خيالك.
لا يظهر الزينى بركات ظهوراً متجسداً إلا نادراً، ولا يجرى حوارات بالعمل سوى فى مشاهد قصيرة للغاية، أبرزها مشهد محورى بالنص يدلل على طبيعة العلاقة الملتبسة والحتمية بين الزينى وزكريا(4). رغم أن هناك تكتم على عائلته وصفاته وتاريخه، والمرأة التى تدعو عليه، وكافة علاقاته مع الآخرين، وحجم ثروته(5).
خاطر طرأ لى وأنا اقرأ النص، لماذا لا تكون هذه المرأة وأم عمرو بن العدوى - طالب الأزهر البصاص أو المرشد - الذى تركها في قريته دون أن يعود إليها أو يسأل عنها،ورحلت تبحث عنه، كيان امرأة واحدة بصور متعددة؟ ما العلاقة بينهما؟ في ظني أن العلاقة الجوهرية تقع بين الزينى ذاته وبين عمرو، فجميع هذه النماذج فقدت جانبا إنسانيا ما، تصدع جزء مهم بداخل تكوينهم النفسى، قد يُلَمِّح الكاتب إلى أن عمرو بن العدوى هو النواة الصغيرة من الزينى.
تخير الروائى أيضاً أن يستنطق العمل كله عن طريق رؤية رحالة افتراضى إيطالى لا وجود له فى أرض الواقع، يدعى "فياسكونتى جانتى" يمر على مصر بين فترة وأخرى، ومن خلال مشاهداته يحكى عن تطورات الأمور فى فترة زمنية ثرية بالأحداث، وعصيبة فى التاريخ المصرى أثناء دولة المماليك، بكل ما اشتهر عنها بالدسائس والمكائد والأطماع والانهزامات التى حكمت العلاقات بين هذه المجموعات التى استولت على حكم مصر.
ولذا تبدو طرائق السرد بالرواية - فى بعض فقراتها - وكأنها خارجة من رحم كتابه التقارير التى تمتلئ بالملاحظات والقياسات، وتحليل بعض الظواهر والشخوص، تقارير أمنية ومخابراتية، وبيانات تهدف التأثير على العامة.
لكن كلما اختنق السرد بهذا القمع الوحشى، والأحكام العنيفة التى تتنافى مع إنسانية البشر، بل تتعامل معهم كأنهم حيوانات لا قيمة لهم، يقدم الروائى طاقة نور، إنفراجة أمل فى المطلق، فتأتى فقرات تعنون "بكوم الجارح" وهو مقتطع صوفى تحليقى لعوالم أكثر اتساعاً، يصور الروائى مثلاً فى أحد هذه المقاطع ما حدث فى مأساة الحلاج الصوفى، ثم يعلق متحدثاً بمكنون سعيد" .. ما الزمان هنا إلا امتداد هذه الأيام. الثقيلة النائية، ظل لزج لا يروح أبداً، الخير مسكوب والشر باغ والعهر طاغ.. سعيد أرجف قاع روحه، أصاغ لأصوات المدينة تتباعد، ما أحوجه إلى غيبة، إلى إحاطة بجدران الصمت.."(6).
أتصور أيضاً أن الفقرات المعنونة "بكوم الجارح" قصدها الروائى فى سردية نصه لتشير إلى وجه آخر من وجوه الحياة فى تلك الفترة الزمنية التى اتسمت بالعنف والقهر، هناك دائماً التناقضات التى تتعايش متجاورة بحياة البشر.
(2) التقنية السردية والموروث التراثى عند الغيطانى:
بحث الروائى عن شكل جديد فى الكتابة، أراد من خلاله التجريب وخوض مغامرة تتناسب وطقس نصه. فقسم الروائى عمله إلى سبع سرادقات وليس فصولا، ولاختيار المبدع لهذا التقسيم عدة أسباب فيما أتصور:
يمثل السرادق فى الموروث الشعبى المصرى المكان الذى يقام به الأفراح والمآتم أى أنه الحياة والموت، الخصوبة والعدم، وجود صور الحياة المتجاورة والمتعاقبة والمتعايشة معاً، نهضة الدول أو سقوطها، العزة أو الفشل، الأول والآخر، فلكل أول آخر ولكل بداية نهاية " كما نقرأ فى مفتتح الرواية".
السرادق أيضاً هو المكان الذى يُقرأ فيه القرآن، أو تشدو فيه الأغنيات، أو تتلى المدائح والأناشيد والمواويل، ويجمع المكونات الثقافية الموروثة والسردية فى الوجدان الشعبى والاجتماعى.
السرادق يتضمن أيضاً معنى الحشد، تجمع من البشر يتشاركون شأناً ما، وكأن الروائى يحشد الأحداث من التاريخ ليحكى عن فترة قلقة ومضطربة، ويحشد لأحداثه الناس ليشاركوه ما يحكى.
السرادق هو ما يتناسب مع لغة الرواية التى هى مزيجٌ من اللغة التراثية، المفردات الخارجة كالفراشات المحمومة الهائمة فى رحلة بعث من القرن السادس عشر، ومن لغة فنية وذهنية شديدة التكثيف والإيحاء تحمل بصمة الغيطانى ذاته، وطريقة تلقيه للعالم، والأفكار التى تشغله، القهر والنموذج البشرى الذى يتجسد فيه ومن خلاله هذا المعنى الذى يعبث بالوجود البشرى فى حقيقته الحرة ويسلبها منه.
ولذا يبتعد الغيطانى تماماً فيما أتصور عن الأساليب المسجوعة أو الموشاة بالمحسنات البديعية، التى وجدت بداياتها وظلالاً لها فى هذا العصر، لأنه معنى بتوصيل محتوى يملك عليه ذهنه ويتغيا تجسيده، فما من سبيل إلى تغييب نسبى قد تستهلكه لغة لها إيقاعا خاصا، قد ينطوى فى النهاية على فراغ لا يمثل مطمعاً للغيطانى، وبالرغم من ذلك يحشد الروائى لنصه الكثير من المفردات التى تنقل قارئه لهذا العنصر ألفاظ وتراكيب من قبيل: "مجعولاً، بالضبط عشرة دنانير أشرفية وقماش أطلس، وقميص زركشى لطفلة صغيرة"، جاءه وفصد دمه، مثل أسماء الأمراء المماليك: طغلق، سلامش، بشتاك، طشقند.
يتبدى أيضا طقس خاص بالنص يتجلى فيه عالم الجوارى والحرملك، عالم العاهرات المعلن، نظام اجتماعى وعادات محافظة تنقل القارئ لهذه الفترة الزمنية، مع تحديد أنواع المشروبات والمأكولات.
طبيعة العمل واتكاؤه على التاريخ جعلت شكل السرادق أكثر ملائمة مع هذا الحكى، ذلك لأنه يوفر مستوى ثانٍ من الارتفاع فوق الأحداث، كأن الروائى يراها من مسافة فوقية وفر لها وجود الرحالة الإيطالى المتخيل ليحكيها، فالسرادق نقل عن هذا العالم وتعليق عليه، لا انغماس فيه.
استطاع الروائى أيضاً أن ينمى أحداثه ويجعلها متلاحقة الإيقاع فى طيات واسعة، تنضوى سريعاً، تختصر من الزمن ما لا يريد الوقوف عنده، ذلك من خلال النداءات أو الرسائل الإعلامية التى تتلى على الجموع فى أرجاء مصر المحروسة، تلك النداءات كانت تجسد أحياناً قرارات تتخذ من قبل الحاكم أو المحتسب أو غيرهما، أو تحذيرات وتنبيهات ليلتزم بها الشعب المصرى، أو تقارير تُرفع للزينى أو زكريا، تترك هذه النداءات المتكررة والتقارير وطأة طقس أمنى وقهرى أبعد ما يكون عن قيمة الحرية وما تمثله فى حياة البشر. ويتمثل ذلك أيضاً فى مفرداتها وأساليبها اللغوية، التى تنحصر فى غلبة فعل الأمر بكل صوره، وأساليب التحذير والترويع، والتهديد بالتعذيب والقتل، مناخ من القهر المفروض بالقوة(7).
ما أود الإشارة إليه فى تقنيات تنمية الأحداث فنياً، ويعبر عن وعى الكاتب النفسى العميق بالتكوين الذهنى والنفسى عند البشر، طريقة سرده للوقائع أو المشاهد بداية من الحدث الواقعى، مايحدث فى لحظة الحكى، ما يقع بالفعل في زمن الحاضر المستمر، فى داخل المشهد بين شخوص العمل، ثم ينقطع سرد اللحظة ويستكمل الحدث أو المشهد والشخص يتذكر ما جرى بينه وبين ذاته مع الآخرين، بعد مرور فترة من الزمن، تذكّر الحدث على هذا النحو المؤجل نسبياً يحمَّل الحدث وقعه ذاته، زخم مكوناته، بالإضافة إلى رد الفعل أو الكيفية التى تقبلته بها الشخصيات بعد غربلته وفحص أبعاده، يحمَّل الروائى الأحداث ودلالاتها الصوت الثانى أو المستوى الأعمق فى تحليل الحدث ووقعه على الفرد الذي يستعيده، وهو غالباً التكنيك الذهنى الذى يطبع نماذج الشخوص الأمنية بهذا النص.
يقول زكريا للزينى بركات: ".. أنت يا زينى ستقتل.." أصغى الزينى، بعد يومين، عندما تجول زكريا فى حديقة بيته، تراءى له وجه الزينى، ثم قيامه المفاجئ، عناقه لزكريا، لمح فعلاً دموع التأثر فى ركنى عينيه، قال: "مثلى لا يمكنه العيش بدونك يا زكريا(8)". أتسق هذا التكنيك ـــــ فيما أرى ــــ مع الطقس العام للنص.
(3) التاريخ والإبداع الروائى:
تتجلى حالة الإبداع الحقيقى فى الرواية التاريخية عندما يتجاوز النص استخدام التاريخ أو التراث مورداً غنياً لتركيبات جاهزة، وطاقات سابقة التكوين، لتستقر حركة التخليق والجدل مع القديم، فيُنشأ الإبداع الذهنى الحديث صياغة جديدة للتاريخ: بوقائعه وأحداثه وشخوصه، مضفورة مع ما يحصله من معلومات أحدث، ومستجدات واقع أكثر تعمقاً فى العلوم التى تفصح عن التكوين العميق لهذا الكائن البشرى، وهنا تبرز إضافة الروائى باستخدامه للمعطيات الأحدث من علم النفس، والأدوات العصرية الأقدر على التحليل، والمعلومات المتدفقة من الفلسفة، ومن العلوم السياسية والنظريات الأمنية الاجتماعية، تحشد لحظة الإبداع كل هذه المستجدات رغم تحرى الالتزام بالخطوط العريضة للتاريخ لدى "الغيطانى"، والحرص على عدم الوقوع فى أى خطأ، يذكر أن دوره يتضح أكثر فى تفكيك المعلومات وإعادة تركيبها، وتخيل بعض الأحداث بما يملئ بعض الفجوات.
فبعيداً عن المعلومات الموثقة يبدع الغيطانى فى تخيله للمؤتمر العالمى الذى دعا إليه الزينى بركات والشهاب زكريا، وسماه "اجتماع كبار البصاصين فى أنحاء الأرض وأركان الدنيا الأربعة فى القاهرة، ويحتل السرادق الخامس(9). وفيه يستحضر الكاتب ويصوغ أحدث الوسائل المتبعة أمنياً، متخذاً من علم النفس والاجتماع، وعلوم الإعلام، وفلسفة الجريمة وكيفية مقاومتها مادة معرفية متسعة، استند عليها وهو يصوغ هذا الاجتماع، وما أسفر عنه من توصيات، رغم مخالفتها لجميع حقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً، وهو ما يؤكد وحشية هذه السلطة وأساليبها.
فلقد استطاع الروائى من خلال شخصية " سعيد وعلى ابن أبى الجود" تصوير ما مورس عليهما من تلصص وحبس وتعذيب، تضمن سرده وسائل التعذيب على مستوياتها المادية الخارجية، ومستوياتها المعنوية الداخلية، ذلك حين تعرض لوصف أدوات التعذيب وطرقه التى تتسلط على صب الأذى على الجسد الإنسانى،(10) والوسائل التحضيرية التى تعتمد علي الترهيب وتجعل السجين ينجو بنفسه من فداحة أوهامه، وما تضخمه من أخطار قد تفوق ما يمكن أن يحدث له(11).
وعلى المستوى المعنوى الإيذاء العاطفى والوجدانى للمسجون، ذلك حين أجبروا سعيد أن يرى معشوقته "سماح" وزوجها يمارس معها الجنس أمام عينيه، أو بعين خياله، يقول: ".. رأى بعين عقله سماح الرقيقة، التى تساءل يوماً، أحقاً تمضغ وتأكل ما يأتيه البشر؟ رآها عارية تماماً، يخور فوقها لوطى عارى المؤخرة يصول ويجول فى أرض كانت حراماً.."(12).
صوَّر الروائى قدرة البصاصين الفائقة على نشر الأذى وترسيخه فى نفوس الأفراد مستخدماً لأحدث ما توصلت إليه علوم النفس البشرية المعاصرة، لكنه زاوج بين هذا العلم الحديث والتاريخ فى جدل محكم وإبداعى.
يمثل هذا المنهج رؤية في كتابة الرواية التاريخية، بجانب رؤى أخري تري التحرر النسبي من المعلومات التاريخية الموثقة، وإفساح المجال أمام المبدع لتخيل بعض الأحداث والشخوص التي لم يثبت وجودها الفعلى في الحقيقة.(13) رؤية أخرى ترى أن من حق المبدع تغيير التاريخ، وتخيل تاريخ مخالف تماما للأحداث التى حدثت داخل الوعاء الزمنى لفترة ما، لكنهم يصرحون بذلك المنحى، فهم فى الحقيقة يوهمون بتاريخية النص الروائى دون التزامه بالموروث(14).
وربما يلجأ الروائى للتاريخ ـــــ مثل إبداعات الغيطاني ــــــ قاصدا إبراز ثقافة لها هويتها المتميزة، وخصوصيتها المتفردة، لكنه يضفره بالمستقبل، فالتاريخ لا يقدم بوصفه إعداماً للمستقبل، بل يثريه الحاضر كشفاً وتأويلاً وإبراز إمكانات ودلالات، أو أن التاريخ ذاته يقدم لنا شفرات قراءة الحاضر وفك طلاسمة، أن نعى لحظتنا قياسا على التجارب الإنسانية التي تركت بصماتها على هذا المثير الذى يُدعى الزمن، ومن شأن المبدع الذى له قدرة (الوعى الفائق) أن يَخلق جُماعا، أو حالة ضفر واع بين العقول التى أصبحناها مع تطور الزمن، والتاريخ الكامن فيها، حين تحولت موروثاته جينات تسهم فى تشكيل وجودنا، مع حاضر يتجادل مع هذا الموروث بالضرورة.
تتبدى علاقة الحاضر بالماضى، علاقة حاضر متاح بحاضر كامن، وليس علاقة القديم بالحديث بالمعنى الزمنى الطولى أو التتابعى، وأتصور أنه من هذا المنطلق يذكر الأستاذ جمال الغيطانى أنه لا يعترف إلا نسبياً بما يسمى رواية تاريخية، ويرى أن التاريخ بجانب أنه لحظة انقضت إلا أنه فعل ممتد، يشمل الماضى والحاضر والمستقبل فى عملية الإبداع، ويذكر أن سؤال الزمن كان من أهم أسئلته الخاصة، وهمه الفكرى الملح ولم يزل(15)، وهو ما دفعه طيلة مشروعه الروائى إلى البحث والمطالعة الواسعة للتاريخ، ولقد اهتم الغيطانى بتاريخ القاهرة الإسلامية، إذ يرى أن التاريخ المملوكى لم تزل له تجليات واسعة، وأشكال من التحقق الثقافى حتى لحظتنا الراهنة، ولقد كانت فترة كتابة الرواية فى عقد الستينيات فترة استدعاء قوية لكثير من المفردات والتفاصيل التى وردت عن الفترة المملوكية.
ويفسر الروائى جمال الغيطانى أنه ما من شئ يسمى تاريخ، فهناك لحظة انقضت لا يمكن استعادتها، إعادة السرد التاريخى يعتمد على انتقاءات الذاكرة وأيديولوجية المؤرخ ومن ثم الفنان المبدع، فليس هناك حقيقة مطلقة، لكن هناك حقائق بعدد من يبحثون عنها. ويفرق الغيطانى بين التاريخ والإبداع فيرى أن الإبداع هو ما يمكن أن نمسك به عندما يتوقف عند لحظة بعينها، وأتصور أن لحظة الإبداع الحقيقى لا يمكن أن يمسك بها، فهى تحمل فى طياتها إعادة تأويلاتها لمرات متعددة بعدد متلقيها.
وفى ظنى أن التاريخ والإبداع والفن بصورة مطلقة لحظات ولقطات ونصوص متخمة بمحمولاتها الثرية والمتعددة التى تحمل فى كل منها خصوصيتها وفرادتها من زاوية سردها أو إبداعها أو تلقيها.
(4) اللغة ما بين التراث والمعاصرة:
تتعدد مستويات اللغة بنص الزينى بركات، يبدأ السرد من خلال وصف الرحالة الإيطالى لمشاهداته، ولذا تتشكل لغته عارية من الموروث اللغوى بخصوصية جمالياته فى هذه الحقبة من التاريخ المملوكى فى مصر، فى المفردات والأساليب. بل يوهم الروائى قارئه فى بعض الفقرات بعدم تمكن هذا الرحالة عن فهم بعض الكلمات والأساليب، خاصة أساليب النداءات التى تنطلق بشوارع القاهرة إذا أُلقيت بطريقة متعجلة، وتنطلق لغة الرحالة وصفية ومتعجبة فى مجملها.
فى مستوى آخر تظلل روح لغة "ابن إياس" فى كتابه "بدائع الزهور فى وقائع الدهور" لغة النص، بل وتظهر فى النص بعض جمله وفقراته، وهو ما ينص عليه الروائى صراحة(16) لكن يبقى للروائى جمال الغيطانى تشكيل وإضافة بصمته الخاصة على لغة "بن إياس"، فلم تطغ أساليب الكتاب ومفرداتها على لغة النص إلا فيما ينقل روح العصر ومفرداته الخاصة.
احتفظ الغيطانى لنصه ولغته بخصوصيته رغم انغماسه فى هذه المرحلة وبلاغة أساليبها، يلتقط عبق تاريخية المفردات لكنه يحملها بما طور لديه من وعى وتحليل وإحاطة بالأشخاص وتكوينهم النفسى، و بأنظمة الحكم وطبيعتها.
فى مستوى أبعد تنطلق سردية النص من سارد فوقى مراقب "الرحالة"، يصف الأحداث ويعلق عليها، إلا أنها تشعر متلقيها وكأنها رواية أصوات، فلكل سرد خاص بأحد الشخوص بالعمل تتلون اللغة بما يتسق مع ثقافته وأيديولوجيته ومكانته بالنص: تبدو لغة سعيد بأول النص لغة رومانسية(17)، حائرة وقلقة نتيجة عشقه لسماح، وفى مستوى آخر من الصراع تبدو لغته متشككة، رافضة للقهر وللظلم والاحتكار(18)، ثم لغة منهزمة استسلمت لليأس، ورضخت للتعذيب(19).
تتبدى صوفية اللغة وفيوضاتها فى الفقرات المعنونة بكوم الجارح، وفيها تنطلق لغة مفعمة بأسئلة الوجود فى حركة لا نهائية، تستدعى سؤال المخلوق الإنسان لهذا الكون وللطبيعة، دلالة علي رحلة بحث عن المعنى وعن الحقيقة المطلقة، عن الحرية والعدل، تأتى هذه الفقرات جدولاً صافياً شفافاً يترقرق فى هذا العمل المغموس بالمكائد والدسائس وأنواع القهر والتعذيب، للتخفيف من قسوة هذا العالم، يصف السارد حال الشيخ بهاء الحق يقول: ".. كلما ظن نفسه تخفف من الأحمال والأثقال، يرى الوهم، كثيراً ما فكر فى اعتزال الكون، قضاء ما تبقى من عمره فى السرداب، لكنه يلوم روحه، كيف يحوم الأذى فى أرض هى أول ما لامست رأسه.اختارهم راضياً لقضاء وقت ما قبل الخلاص الأبدى. أن يرى البد آمناً، محال، ما يراه بسيطاً كالحروف، مشروعاً كالأنفاس، فى حقيقته محال، هز الشيخ بهاء الحق رأسه. "كلنا نحترق – أنت فى ثباتك، وأنا فى طوافى، لكن إن مالت الروح عما رماه بها الزمان فقل علينا السلام(20)".
يتحدث جمال الغيطانى عن بحثه الدءوب والمثابر، وعكوفه على الكتب التراثية التى توصف وترصد المستوى اللغوى الذى ساد فى تلك الفترة التاريخية، ويقول أن اللغة العربية فى العصر المملوكى كانت فى أنضج وأبهى صورها فى مصر، ذلك بعد أن استقرت لقرون، وتعلمتها الناس واستبدلوا اللغة القبطية بها، فاعتادتها الألسنة والأذواق وأبدعوا فيها وبها(21). استمر ذلك لفترة إلى أن كانت فترة الحكم العثمانى التى اضمحل فيه مستوى اللغة العربية، ووصلت إلى مستوى من الركاكة والسطحية وانعدام المحتوى الفكرى الصادق،لكنه كان معبرا عن الناطقين بها.
يستخدم الغيطانى مستوى مبدع من المجاز الذى لا يقصد لذاته أو لتوشية السرد وحذلقته، بل يسهم المجاز ودون أى تزيد فى أن يوصف الحالات الوجدانية والفكرية لشخوص العمل، يصف الروائى سعيد بعد الأحداث التى تعاقبت عليه وتجاربه التى خاضها، يقول: ".. من أعوام كان سعيد صفحة بيضاء، لم يجر فوقها المداد. لم يخدشها سن قلم، تمتلئ الدنيا أمامه بالحروف، الآن، علامات التعجب والاستفهام، ألف سؤال حائر بلا هداية، الدنيا كلها سؤال لا أول له ولا آخر، باق مخلد فى مخطوط عتيق تهرأت أوراقه، متآكل الحواف، كشطت حروفه(22)". يتضافر المجاز التصويرى مع الكنايات لشحن السرد بمحمولات فكرية ونفسية عميقة.
سعيد طالب الأزهر الذى يحيا قصة حب رومانسية مجهضة، ويملك حساً وطنياً غيوراً على البلد، تكتوى ذاته بالأسئلة والحيرة، ثم يمارس تجارب جنسية وخبرات مغايرة لما كان يحلم به، فتبدأ أسئلته عن العالم تزداد عمقاً وبؤساً خاصة بعد تعرضه للمراقبه وحبسه واعتقاله وتعذيبه، والتشوه النفسى الذى طاله.
كما يلحظ بالنص لغة خاصة تنحو إلى وصف الداخل الإنسانى الذى لا يظهر للآخرين، بجوار اللغة الوصفية التى يستخدمها البصاصون، وذلك لأن الرقابة تحت هذه القبضة الأمنية المحكمة لم تقتصر على الخارج فقط، بل تجاوزته لتراقب هواجس الشخوص، ما يتصورون أنه يجول بخاطر الشخص المراقب، ما يسره الإنسان بداخله، انطباعاته التى لا يتفوه بها ولا تخرج بها على طرف لسانه فهى لا تخرج عن ذاته وبالرغم من ذلك يدونوها، يتخيلون أحلام الشخص التى لم يحكيها، أو تفوه بها، يقولون عن الشيخ ريحان البيرونى فى أحد التقارير المرفوعة إلى زكريا: ".. أما دماغه هو فيعج بالأسرار وعندما يجلس بأحد الدكاكين، يشرب الحلبة أو السحلب المخلوط باللبن، يرى نفسه وقد قضى..(23)" وكأن البصاصين يرونه وهو يرى نفسه..، ولذا فهم إن أرادوا إدانته فلا رادع لهم، فالوجود فى هذا العالم كله تعسفى.
يبدو البديع فى الأمر أن الروائى يجعل سعيد يتقمص فلسفة معذبه ومراقبه، ويبرر لهم، يقول متحدثاً إلى نفسه: ".. يبذلون جهداً لتصحيح مساره وتقويمه، ألا يضرب الأب أولاده؟ ألا يقسو عليهم؟ يرقب الطرقات، الشتاء يورث القلب حسرة، دفقة دم، تعيد إليه وقع أقدام مقبلة فى طرقات طويلة لا نهاية لها، وجوه ترمقه بهدوء، ببرود. وعيون تنفذ إلى أحلامه، أرهقهم كثيراً، فأهتموا به طويلاً، أخبروه بألفاظه التائهة القليلة التى يطلقها عادة أثناء نومه فى الرواية(24)".
(5) الجغرافيا والرواية التاريخية:
كثيراً ما ذكر كُتاب الرواية التاريخية(25) أن أكثر ما يؤرقهم ويحتاج منهم إلى بحوث وقراءات واسعة ومتفحصة طبيعة الجغرافيا وشكلها فى الفترة الزمنية المحكى عنها، وشكل الشوارع والأماكن والطرز المعمارية، وللغيطانى بجانب "الزينى بركات" مؤلفه "خطط الغيطانى(26)" التى توجد تناصاً بالجدَل مع "تقى الدين المقريزى" فى "خطط المقريزى"(27) و"على مبارك" فى "الخطط التوفيقية"(28)، كما أن له مجموعة من القصص القصيرة التى تتميز بالتكثيف والتقنيات الفنية العالية، وفيها بعض القصص المقتبسة أيضاً عن هذه الفترة التاريخية من الموروث المصرى العربى فى مجموعته "أوراق شاب عاش منذ ألف عام(29)".
يحكى الغيطانى أن فى تحريكه لموكب يسير عبر شوارع القاهرة القديمة ليصل إلى قلعة الحكم فى القلعة أو إلى الغورية مثلاً، كان عليه أن يقرأ العديد من الكتب التراثية التاريخية التى تصف الأماكن وشكل الجغرافيا فى تلك المناطق، ومخطط المدن، وهو ما لا يتوافر فى مولفات مفصلة فى المكتبة العربية إلا نادراً(30).
ولقد أثار الغيطانى بالرواية "قضية الفوانيس"(31) التى أراد "الزينى" أن يعممها على كل شوارع المدينة، وبجانب كونها حقيقية أو متخيلة، حدثت فى هذه الآونة أم لا، إلا أنها تحمل مدلولات رمزية كثيرة، قضية التنوير، التحديث وما يجابهه دائماً فى أغلب المجتمعات، وكيف يواجه أولاً بالرفض.
تثير هذه القضية أيضاً تدخل رجال الدين وكهنوته فى قضايا حياتية مدنية لا تقتضى بالضرورة تدخلهم بمذاهبهم المختلفة فيها(32)، لكنها طبيعة ثقافية اجتماعية لم تتجاوزها البلاد العربية، وتعانى منها حتى هذه اللحظة البائسة التى نعيشها، تحت حكم الإخوان والسلفيين.
وهنا أود الإشارة إلى أن المكان لا يقدم بالنص الروائى غفلاً من زمانه، بل يقدم فى الأعمال الفنية المتميزة وهو يتجاوز كونه علاقة تبادلية بين الحيز المكانى والإنسان، إلى علاقة تلازمية حقيقية، ومن منفعة مادية إلى عاطفية وجدانية.
فى "الزينى بركات" ترتبط الظلمة والأماكن الضيقة والسراديب، وحجرات التعذيب وسلوك البشر فى الشوارع والحارات والمقاهى، بقضية القهر وعالم البصاصين الذى تدور حوله الرواية.
يرتبط المكان حتى وإن كان قصراً مشيداً متسعاً بعالم من الدسائس والانقلابات، من القيد والقهر، فتداخلت البيوت مع السراديب والسجون فى الأنفاق، مع الحجرات الضيقة التى لا تتسع حتى للإنفاس، لينقل الروائى عالم خانق تعانى الموجودات والكائنات فيه من التوجس والخوف من القهر والبطش.
تنطلق هذه المشاعر المحيطة بالإنسان من حيز المكان إلى داخل الذات البشرية، فيلحقها العطب والاختناق، يلحقها الاهتزازات والانكفاءات على انهزاماتها، لكن يستطيع الروائي أن يبث الأمل من بين كل هذه الغيوم الحالكة، يشير إلي هذا من خلال دورات زمنية جديدة تختلف فيها نظم الحكم ومسمياته، ويظل الأمل يراودنا بأن هذه الشخوص الإشكالية قادرة على فعل ما.
ما هى طبيعة هذا الفعل؟ هل سيعاودون نفس سيرهم وفلسفتهم في الحياة؟ سؤال قد يجيب عليه الزمان والبشر، الإنسان الذى يتجول في التاريخ والحاضر بكل ما يتجاور فيهما من تناقضات.
وبالرغم من أن نص الزينى بركات تدور أحداثه فى متوالية زمنية طبيعية تتقدم إلى الأمام، إلا أن حركة القص داخل النص لا تعتمد على التدرج الزمنى الطبيعى، بل تنحو إلى الحركة البندولية المتحررة، التى تتقافز بين مستويات الزمان، تبدأ من لحظة متقدمة لتعود إلى الوراء فتشير إلى حدث أو مشهد حدث بالماضى ولم تزل بصماته تنطبع على الشخوص، فتأتى المشاهد متداخلة.
يصور الروائى فى لفتة مبدعة من خلال تقنية تداخل الأزمنة بالمشاهد الخلل الذى حدث بشخصية "عمرو بن العدوى"، اضطرابه النفسى وشعوره بالنقص والخواء على عكس ما يبدو ظاهريا(33)، الضياع الإنسانى الذى يعانيه، تخليه عن أمه، علاقات جنسية غير إنسانية، فساد علاقاته بزملائه فى الأزهر، ويضفر الروائى كل ذلك من خلال مشاهد زمنية متداخلة، فى تكثيف زمنى سريع ولاقط، مشاهد كاشفة كإيقاع الرواية المتلاحق، الذى ساعد على خروجه على هذا النحو مجموعة متكاتفة من التقنيات التى سبق وقمت بوصفها.
سيبقى نص الزينى بركات من الأعمال الروائية التى تعالج فكرة الزمان برؤية خاصة، وهى النص الذي يمارس إبداعياً علي مستوي أفكاره، وتقنياته الفنية، فكرة قهر الزمن والفناء والتلاشى، وهو ما يُحسب لمؤلفها.

الهوامــش:
(1) – جمال الغيطانى: الزينى بركات، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004.
(2) محمد بن أحمد بن إياس الحنفى المصرى: بدائع الزهوف فى وقائع الدهور. تحقيق الدكتور محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(3) جمال الغيطانى: الزينى بركات، 135.
(4) السابق: 83.
(5) السابق: 83.
(6) السابق: 192.
(7) فقرات وصفحات كثيرة من الرواية مثل 68، 69، 79، 174 وغيرها.
(8) جمال الغيطانى: الزينى بركات، 173.
(9) – السابق: 195 : 212.
(10) – السابق: 203.
(11) – السابق: 127 وقائع تعذيب على بن أبى الجود.
(12) – السابق: 187.
(13) - يوسف زيدان: عزازيل، دار الشروق، ط6، القاهرة، 2009م.
- طارق إمام: الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس، دار العين للنشر، ط1، القاهرة، 2012.
(14) تمثل أعمال بورخس هذا المذهب فى الكتابة.
(15) – بعض ما ورد ذكره أثناء حوار أجريته معه فى ندوة بعنوان "أقنعة الرواية التاريخية" بالمجلس الأعلى للثقافة، أبريل، 2013.
(16) للاطلاع على المزيد هناك بعض المؤلفات التى تحدثت عن الرواية التاريخية ودرست لبعض النماذج مثل:
- حلمى محمد القاعود: الرواية التاريخية فى أدبنا الحديث، كتابات نقدية 139، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2003م.
- قاسم عبده قاسم وأحمد إبراهيم الهوارى. الرواية التاريخية فى الأدب العربى الحديث، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1، القاهرة، 210م.
- دراسة قمت بها بعنوان "التقنية" ثورة تحرر فى الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" لم تنشر كاملة بعد وفيها تعرضت لزوايا متجددة فى الكتابة الإبداعية عند تناول التاريخ.
(17) - جمال الغيطانى: الزينى بركات، 193.
(18) – السابق: 75.
(19) - السابق: 98.
(20) – السابق: 224.
(21) – السابق: 164.
(22) الحوار الذى أجراه فى ندوة أقنعة الرواية التاريخية بالمجلس الأعلى للثقافة.
(23) جمال الغيطانى: الزينى بركات، 104.
(24) السابق:154 .
(25) السابق: 224.
(26) كثيرٌ من كتاب الرواية التاريخية مثل: سلوى بكر، رضوى عاشور، يوسف زيدان، أمين معلوف.
(27) جمال الغيطانى: خطط الغيطانى.
(28) تقى الدين المقريزى: خطط المقريزى.
(29) على مبارك: الخطط التوفيقية.
(30) جمال الغيطانى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام.
(31) حوار ندوة المجلس الأعلى.
(32) جمال الغيطانى: الزينى بركات، 105 : 110.
(33) السابق: 142 : 148.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن