وجع الثقافة

حمودة إسماعيلي
bboyhamoud@hotmail.com

2013 / 8 / 14

العقل المفتوح يعني قلباً مفتوحا
¤ لاوتسو

رغم أن المجتمعات العربية بها الكثير من الغرائب والعجائب، إلا أن غريبي الأطوار الذين يخصهم الحديث (هنا) من المؤسف تجاهلهم أو التغاضي عنهم.. وكثيرا ما يصيح بعض الديّكة بأنه لا يجب نقد الثقافة العربية وترك ثقافات أخرى ! لا يجب نقد الأديان كالإسلام أو المسيحية وترك البوذية دون نقد ! . ولتجاوز مثل هذه السخافات نجيب بأن نقد مثقف مصري للمجتمع المصري أو السوري أو السعودي حتى، يُعتَبر أمرا مفيدا ـ لماذا ؟! لأن الثقافات متقاربة وتؤثر في بعضها البعض (رغم الحدود) مايعني أن تغيرات في مجتمع ما قد تؤثر في المجتمعات الآخرى القريبة. وهو ما أتبثته الثورات العربية المتلاحقة، ابتداءً من شرارة بتونس لتصل تلك الشرارة حتى شارع وول ستريت بنيويورك، وهو ما عرفته سابقا القارة الأروبية بنهضة إيطاليا ابتداءً من جحيم دانتي لترتفع موجة التنوير التي ستتكسر على شواطيء العالم معلنةً بداية النقد الماركسي الذي سيقلب أغلب الأنظمة العالمية وأقواها ! .. فلنتخيل لو أن فولتير كان ينتقذ المجتمع الكوبي، وإنجلز ينتقذ المكسيك ! ، فأي تأثير كان سيحدث في مجتمعاتهم ؟! . فحتى نرضي الملاعين يجب على السوري ترك مجتمعه غارق في الدماء والصراع، ويهتم بالتعليق على تقاليد مجتمع غرين لاند !! . فالإنسان إنما يسعى لتحسين الجو الذي يعيش به ليتحسن للآخرين كذلك، أما بالنسبة للمتشبتين بالأوضاع المزرية مع علمهم بأنها مزرية ! فينطبق عليهم قول دستيوفسكي "أحيانا لايريد الناس سماع الحقيقة لأنهم لايريدون رؤية أوهامهم تتحطم" ، فيتحطم العقل والمجتمع وتظل أوهامهم في آمان ! . وما لا يصدقه العقل هو رغبتهم في نشدان الحكمة !! رغم أن هذه الأخيرة لا تأتي إلا عن "طريق التحرر من الوهم" بتعبير جورج سانتايانا، ويضيف بتعبير جميل أن "أولئك الذين لا يتذكرون ماضيهم مكتوب عليهم أن يعيدوه"، ولكان تعبيرا أجمل لو أنه قال : أولئك الذين لا "ينتقدون" ماضيهم مكتوب عليهم أن يعيدوه. وبذلك يصبح مشابها لتعبير دانيال هاندلر : من لا يستطيعون فهرسة الماضي محكوم عليهم أن يكرروه ! .
وعندما نتحدث عن النقد نتحدث عن كشف الإشكالات ورفع التناقضات وتحطيم الأوهام، وليس السب والشتم كما يفهم ذلك "الناطقون بالعربية" (فالبعض يعتبر العرب هم فقط سكان شبه الجزيرة العربية !! العرب ثقافة وليس بالضرورة أصول عرقية) . فيشتمون ويظنون أنها ذلك هو النقد.

في المجتمع العربي (والمجتمعات المتخلفة بالأخص "أينما كانت") عندما تظهر موهبة ما ولا تجد فرصة لإظهارها، فإن غالبية الشعب تتعاطف معها، وتشتم الدولة والمسؤولين والنظام المتخلف الذي لا يساعد أبناءهم ولا يهتم بالمواهب التي ستضيع وما إلى ذلك من أسطوانات التأنيب. لكن ما إن تنجح الموهبة وتتألق كنجمة في سماء الشهرة، حتى تنهال عليها اللعنات والشتائم ! . وبما أن الواقع يعرف الكثير من النماذج، نكتفي بتوضيع دون ذكر أي منها .. عندما تمتلك انثى صوتا جميلا، يتعاطف الجميع معها إذا لم تجد فرصة للتعبير عن موهبتها ويلقى باللوم على أي من له دخل بالفن والثقافة (كمسؤول) بالمجتمع. لكن حينما تجد الفتاة فرصة (أو تصنعها حتى) وتتبث نفسها، فلا نعلم من أين يأتي الترانزفورمز (المتحولون) الذي يعتبرون ظهور مثل هذه الأمور فسق وفجور ولهو وعري وإباحية وضياع للمجتمع، وبأن مثل هذه النماذج تفسد البقية، وبأن المجتمع يلزمه التخلص من التخلف والجهل والبطالة قبل أن يلتفت للموسيقى والرقص والرياضة والحفلات.. المجتمع العربي في حروب وهؤلاء يغنون ويرقصون ! . والسؤال المطروح هنا هو : "لما لا يقوم هؤلاء الترونزفورمز(المتحولون) بالذهاب للحرب وتحرير المجتمع العربي ؟ لما لا يصنعون شيئا مفيدا بدل الثرثرة السهلة التي يُغطّون بها تفاهتم ؟!" . لكن مشكلة المجتمع العربي أن كل من صلى ركعتين يظن أنه قام بإنجاز ! كل من صلى شهر يريد أن يشتهر، كل من قرء الأربعين نووية (كتيب جد صغير) يظن نفسه أبو بكر الصديق. يرفع الإنسان رأسه ويخفضه في المسجد فيظن أن فهم كل شيء.
وبما أن الحديث أخدنا للدين فهناك من يدافع عن الدين وكأنه ابن تيمية ولا يصلي حتى !! رغم أنها عماد الدين، بل إن بعض الفقهاء كفروا تاركها ! . ولا نقول هذا معتمدين على روايات (شفهية متناقلة) بل عن معرفة شخصية بهاته النوعية، حتى أن منهم من أخبرنا بأنه يجب تطبيق القصاص والحد والحكم بالشريعة واتباع السنة والغريب أن الأمر لا يتوقف في تركهم للصلاة (بعضهم يصلي ركعتي الجُمعة فقط !) بل منهم من يظن البخاري صحابي ! و منهم من يعجز عن وضع الخلفاء الأربعة بالترتيب ! منهم من لايعرف عدد سور القرآن ومنهم من لم يكمل قرآته حتى !!! وقد يصدّقك إذا استشهدت بآية مكذوبة (من عندك)، والغرائب لا تنتهي ! . والأخطر أن الإنسان يريد تطبيق تعاليم كتاب ليس فقط لا يفهمه بل لم يقرأه حتى جيداً !! . وهو ما تساءل حوله غوستاف لوبون بقوله : "كم هو عدد الجماهير التي ضحت بأنفسها بنوع من البطولة من أجل عقائد وأفكار لا تفهمها إلا بالكاد ؟!" .

ولمتابعة ما سبق ذكره وهو عن تعاطف الناس مع المواهب المنبوذة (ما يحقق لها رِفعة لأنها تكشف عن دافع للمساعدة وتقديم العون لو أمكن !) الذي ينقلب لغضب وتحقير (كإخفاء لحسد لا شعوري وإيجاد فرصة لتفريغ معاناتها وفشلها بنفس الوقت) عندما يحلق أحد تلك المواهب في سماء الشهرة ولا يلتفت لأرض النبذ. ويكفي أن يضطلع الإنسان على التعليقات الموجودة بموقع اليوتوب (الفيديوهات العربية) حتى يتضح له ما نشير إليه.
وما يبرر نزعات الحقد هاته، هي أن الفنان أو الرياضي يمثل بلده (كمهمة أو واجب) ! . فحينما يقع في فضيحة أو خطأ فإن صورة أبناء بلده تتشوه ! . فلنتخيل .. "أن أسعى لإنجاز شيء وأجد الملايين ملتصقين بي، يجب أن أحفظ صورتهم فقط لأنهم يحملون نفس جنسيتي ! " .
كل شخص لا يمثل إلا نفسه ولا يحفظ إلا صورته ولا يشوه إلا اسمه. فأن يُغيّر رجل جسده إلى جسد امرأة فما دخل الآخرين أبناء بلده ؟ "فإذا كان رياضي حائز على مداليات يمثّلني فإن مجرما اغتصب عشرين طفلا (أينما كان) يمثلني كذلك فقط لأنه ولد بنفس الدولة التي ولدت فيها !" . أما بالنسبة للأشخاص الذين يمثلون دولهم في المسابقات فهذا لخدمة نظام المسابقة (فرز المشاركين بتحديد مناطقهم)، فكل من يفوز على ابناء منطقته يصبح ممثلا لها حتى يتبارى مع الأفضل من المناطق الأخرى (الدّوَل) ليتم فرز الأفضل على مستوى العالم، وبهذا يستحق جميع الناس (من كافة المناطق) المشاركة حتى يُلقّب الفائز بالأفضل على مستوى العالم بحق. وقد لا يمثل المتباري دولته بل حتى منطقة واسعة (أو قارّته) كما يحدث في بعض المسابقات العالمية.

بالنسبة للحدود التي تحدد دولة ما جغرافيا، فتجعل كل من يفكر في قيامه بشيء خارج تلك الحدود، يتردد ويضرب له الألف حساب أو يتنازل حتى لا يلحق العار بآلاف البشر الذين ولدوا داخل تلك الحدود (إن حدث وفشل) ! . لا نقول إلا كما قالت فاطمة المرنيسي بأن "الحدود خط وهمي في أذهان المحاربين" ! وتضيف أنه "من أجل خلق حدود، يكفي توافر جنود يرغمون الآخرين على الاقتناع بوجودها. أما المشهد بحد ذاته فلا يتغير شيء فيه، إذ لاتكون الحدود إلا في عقول أولائك الذين يحتازون السلطة"(1). والمغفلون يصدقون كل ما يقوله من يحتازون السلطة ! .

في كثير من المجتمعات وخصوصا المجتمع العربي، أنه حينما يفكر الإنسان بتحقيق حلم ما كاحتراف الفن أو الرياضة أو في أي مجال آخر، فإن الأسر المنوَّمة مغناطيسيا ترفض غالبا، وحتى إذا وافقت فالجملة المشهورة (كإجابة) هي "الدراسة أولا .. أنهي دراستك ثم قم بما تريد"! . ومن يسمع كل ثناءهم هذا على الدراسة وتأكيدهم على أهميتها سيقول أن المجتمع العربي هو من أرقى المجتمعات فكريا على كوكب الأرض ! على الرغم من أن المُدرِّسِين يحتاجون لإعادة تدريس ! زيادة على أن المؤسسات التعليمية (من الإبتدائية إلى الجامعة) يصعب التفريق بينها وبين مستشفيات الأمراض العقلية.. نصف ما يُدرّس غير مفهوم والنصف الآخر غير مفيد ! . وما نفع ذلك التعليم والمجتمع بأغلبيته يتصرف مثل قطيع من الحمير الوحشية ! . مع العلم بأنه هناك من يتربعون على قمة الهرم الاقتصادي بالمجتمع ومنهم من لا يعرف لا الكتابة ولا القراءة ! . ووبالمقابل هناك من يدرسون طوال حياتهم ولا يجدون حتى وظيفة ! . وغالبا ما يتم تفسير هذا الأمر بأنه يلزم على الإنسان حتى يحقق ما يريد بالمجتمع أن يكون "عاهرة" أو يوظف "عاهرة" (كإشارة لاستخدام الجنس لخدمة مصالح) أو يملك المال أو له مسؤول (ذو سلطة ونفوذ) من أقرابائه يساعده. وهذه الأمور تكشف عن عقلية غبية وعاجزة، فالإنسان ليحقق ما يريد يلزمه ذكاء وحس بالمسؤولية دون حاجة لتخاريف ومصابيح سحرية تُخْرِجُ عفاريت يحققون الأماني والطلبات.

الأمة العربية أمة متحدة وهذا ما يدرّسونه للناس منذ صغرهم، لكن يتحدون في ماذا ؟! . يجيب محمد الماغوط عن هذا السؤال بقوله "الوحدة الحقيقية القائمة بين العرب هي وحدة الألم والدموع"، فالأغلبية تجدها تبكي وتشتكي وتتوجع وتتذمر من الظروف والبقية تشارك في الحرب والصراع وتعاني من أجوائها !، مادفع نزار قباني ليتساءل "ما للعروبةِ تبدو مثلَ أرملةٍ؟ أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ ؟" . فتاريخ العرب تاريخ غزوات وحروب واستعمار !! ماجعل أحمد مطر يُعلّق على هذا الوضع بألم ساخر ويقول : "وضعنا يضحك منه البكاء.. يا أرضنا، يا مهبط الأنبياء، قد كان يكفي واحد لو لم نكن أغبياء"(2) ! .
حتى أننا سنجد أن وائل جسار يكشف الكثيرين وحالاتهم النفسية عندما يغني : "أنا ياحبيبي جرح الماضي بعدو عم يوجعني.. إذا شايفني مش عم بشكي فكرك يعني مش موجوع، فكرك يعني مش موجوع"(3)، فالوجع يأتي من جراح الماضي التي تشكلت كثقافة.. ثقافة المجتمع العربي.

وفي ظل ثقافة موجوعة ستجد الناس موجوعين ويوجعون بعضهم البعض كإعادة إنتاج للوجع، إعادة انتاجته كثقافة، والتي بدورها تنتج مجتمعا موجوعا. وعقل موجوع يعني قلباً موجوعاً !! .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :

1 : فاطمة المرنيسي - أحلام النساء الحريم، ترجمة ميساء سري ـ ص14
2 : أحمد مطر - قصيدة فصيحنا ببغاء ـ موقع أدب.. الموسوعة العالمية للشعر
3 : وائل جسار أغنية جرح الماضي [2011]



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن