مصر تؤسس لمدرسة لها خصوصيتها

ضياء الشكرجي
dia.al-shakarchi@gmx.info

2013 / 7 / 29


هناك أحداث في العالم تبقى تمثل مدرسة لخصوصيتها، سواء كانت تلك الخصوصية بسبب تداعيات تلك الأحداث السلبية، أو بسبب انعكاساتها الإيجابية، أو بسبب طبيعة العقبات لعملية التحول، أو بسبب ما أحدثته من انعطافة تاريخية، أو بسبب تفاجؤ العالم بها، أو بسبب تأثيراها على محيطها الإقليمي المجاور والقريب والمتوسط، أو على عموم العالم.
مصر لم تكن كأي من بلدان ما سمي بالربيع العربي، بالرغم من أنها لم تكن البلد الأول، بل الثاني بعد تونس، التي انطلقت الشرارة الأولى منها. مصر لم تكن كتونس، ولا كليبيا، ولا كاليمن، وهي أبعد ما تقارن بسوريا، ولعل تجربة تونس ستكون الأقرب إليها. كما إنها ليست كالعراق، بل وحتى ليست كتركيا، ولا كإيران، والتي لا أستبعد أنها بعد التغيير ستفاجئ العالم كله بتحول راديكالي نحو الديمقراطية العلمانية الليبرالية الحداثوية اللادينية؛ اللادينية لا بمعنى المعاداة للدين، بل بمعنى حظر إقحامه في الشان السياسي بشكل حاسم، إلى درجة حظر تأسيس أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني.
لماذا ذكرت هذه البلدان بالذات، وقلت أن مصر ليست كواحد منها، على أقل تقدير حتى الآن، بل ترقى بتجربتها فوق التجارب لكل من تلك البلدان؟
المدرسة المصرية أسست لحاكمية الشعب بشكل مدهش، وتميزت بالصفات الآتية:
1. الحضور الجماهيري المكثف في الشارع.
2. الإصرار على تحقيق الأهداف.
3. عدم الاكتفاء بأنصاف الانتصارات.
4. المواصلة وطول النفس.
ومن شواهد ذلك:
1. لم تقبل الثورة بأي حل ترقيعي أو ترضوي من قبل النظام السابق، ولم ترض ببديل عن هدف إسقاطه.
2. لم تكتف الثورة بتنحي حسني مبارك وذهابه إلى شرم الشيخ، بل واصلت الحضور في ميدان التحرير، حتى اعتُقِل وولداه وقُدِّموا للقضاء.
3. لم تصبر الثورة على سلطة المجلس العسكري، بل عجلت بالتحول إلى الحكومة المدنية المنتخبة.
4. سرعان ما وعت الثورة أن الانتخابات لا تمثل كل شيء في النظام الديمقراطي، فتواصلت، وتجددت ضد اللاديمقراطيين المنتخبين ديمقراطيا من الإسلاميين.
وفي تقديري لن تنتهي مراحل وحلقات الثورة المصرية، حتى تمضي بمصر نحو صيرورتها دولة ديمقراطية علمانية، ذلك عبر مراحل متعاقبة، ومكملة كل لاحقة منها لسابقتها.
وهذه المدرسة المصرية ستنتقل، عاجلا أو آجلا، إلى كل دول الشعوب الناطقة بالعربية، بل وإلى كل دول الشعوب ذات الأكثرية المسلمة، وإن كنت لا أستبعد، بل أتوقع أن تؤسس إيران ما بعد دولة ولاية الفقيه هي الأخرى لمدرسة لها خصوصيتها، كما يمكن أن نشهد عودة تركيا للعلمانية، بعدما حاول إسلاميوها النأي بها عنها بالتدريج، وبشكل خفي وتخطيط ذكي، بل وأقول بقناعة، بتخطيط ذكي وخبيث، عبر تقليص تدريجي لدور كل من المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية كحارسين للعلمانية التركية التي أسسها أتاتُرك، ولكن هذه المرة لن تكون علمانية تركيا علمانية قومية، بل علمانية ليبرالية حداثوية، يتمتع فيها الكرد والأرمن والعلويون بحقوق كاملة غير منقوصة، متساوية من غير تمايز وتفاضل، بسبب القومية أو الدين أو المذهب، وأعني القومية (التركية)، والدين (الإسلامي)، والمذهب (الحنفي)، باعتبارها أركان الثالوث المشكل اليوم للهوية التركية بالنسبة للتُّركَوِيّين.
نرجع إلى الحدث المصري، وما أسميته بالتبلور التدريجي لمدرسة مصرية أخذت ملامحها تتشكل، كمدرسة لها خصوصيتها في إطار عمليات التحول الديمقراطي. ولنطرح على أنفسنا السؤال، هل كانت يا ترى ما سمي بالثورة الثانية، أي ثورة الثلاثين من يونيو المتوجة بعزل محمد مرسي في الثالث من يوليو، انقلابا على الديمقراطية، كونها انقلبت على خيار الشعب المصري بالتصويت لمحمد مرسي كأول رئيس منتخب لمصر؟ هل هي يا ترى عودة للانقلابات العسكرية، التي عهدناها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وعودة لتدخل الجيش في رسم المشهد السياسي؟ هل إن ما حصل هو انقلاب عسكري، وفعل متعارض مع مستلزمات الديمقراطية، التي منها الدولة المدنية بعدم تسيُّس العسكر أو تعسكُر السياسية، والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة؟ أم لم تكن الخطوة التي اتخذها الجيش إلا تعضيدا لإرادة عشرات الملايين من الشعب المصري التي خرجت لتطلق ثورتها الثانية لإسقاط تجربة الإسلام السياسي، مكملة لثورتها التي أسقطت ديكتاتورية حسني مبارك؟ شخصيا أرى الشق الثاني من التساؤل آنفا هو الذي يمثل الحقيقة، وهذا إما ما ستؤيد صحته الأشهر القادمة من سنة المرحلة الانتقالية، وهو الأرجح عندي بنسبة الـ90%، وإما ستؤيد التطورات القادمة صحة ما يطرحه البعض من مخاوف على الثورة، وعلى عملية التحول الديمقراطي، بعودة سلطة العسكر، وستثبت لي الأحداث خطأ توقعاتي، مما لا أرى فرصة حقيقية لتحققه.
وقد ذكرت في مطلع هذه المقالة خاصية الإصرار لجماهير الثورة المصرية، فهذه الجماهير، جماهير الثورة لن تسمح بمصادرة ثورتها، والمس بمبدأي الديمقراطية والدولة المدنية، أي غير المُديَّنة، وغير المُعسكَرة على حد سواء. صحيح إن الإخوان وعموم أنصار مرسي من الإسلاميين، هم الآخرون، ومنذ الثالث من يوليو ما زالوا حاضرين، ومُصِرّين على عودة ما يسمونه بـ(الشرعية). ولكن ألا نرى، وألا يرى الغرب المتحفظ على العملية، أن الجماهير الموالية لمرسي - صحيح - إنها بعشرات الآلاف، ولكن هذا الرقم يُعَدّ كبيرا في الحالات الطبيعية، بينما الذي نشهده في مصر إن عشرات الآلاف هذه لا تمثل إلا أرقاما متواضعة جدا قياسا بالملايين التي خرجت تؤيد الإجراء الذي قام به الجيش، بل بلغت بضع عشرات من الملايين، عشرين أو ما اقترب من الثلاثين مليونا، عندما خرجت هذه الجماهير تطالب بتنحية مرسي؟ فإذا كانت أصوات الأكثرية التي تعدت الـ50% بقليل قد منحت لرئاسة مرسي الشرعية في الانتخابات الرئاسية، فإن الشرعية الشعبية قررت سلب أصواتها التي منحتها له، وتنحيته، من أجل السير بمصر نحو دولة ديمقراطية حقيقية وعلمانية، كون العلمانية شرط الديمقراطية التي لا تتحقق حق تحققها إلا بها. ثم لا ننسَ أن فوز مرسي كان بسبب تشتت أصوات العلمانيين بين عدد من المرشحين، ثم بقاء الخيار بين اثنين، أحدهما الذي هو أحمد شفيق، والذي إنما خسر مقابل مرسي، لا لأن أكثرية الناخبين كانوا مع مرشح الإخوان الإسلامي، بل لأنهم كانوا ضد ما اعتبروه - محقين أو مخطئين - مرشح النظام السابق.
وقد يسأل بعض العراقيين، أو لعله الكثير منهم، لماذا كل هذا الاهتمام الذي يرونه ربما مبالغا به منا كعراقيين بمصر وأحداثها، كون العراق فيه الكثير مما يحتم علينا تركيز اهتمامنا بشؤونه. جوابي على هذا التحفظ أو على هذا التساؤل عن فرط اهتمامنا بالشأن المصري، يمكن تلخيصه بالنقاط الآتية:
1. كعلمانيين عموما، وكليبراليين خصوصا، لسنا قوميين، بل إن البعد الإنساني في ثقافة الحداثة، تجعلنا وبشكل عفوي نفرح لكل نجاح للديمقراطية، لأي شعب من شعوب العالم، لاسيما لشعب تتشابه ظروفه في كثير من جوانبها بظروفنا.
2. نجاح التجربة المصرية سينعكس بكل تأكيد إيجابا على عموم عملية التحول الديمقراطي، المقترنة بشرطها الذي لا ينفك عنها، ألا هي العلمانية، وبالتالي سينعكس فيما ينعكس إيجابا على العراق، وسقوط تجربة الإسلام السياسي المصري السني، يعني أن الحتمية التاريخية ستشمل، عاجلا أو آجلا، سقوط تجربة الإسلام السياسي العراقي الشيعي، كما كان لحدث الثورة الخمينية في إيران تأثيراتها وانعكاساتها - لكن - السلبية على عموم المنطقة.
3. شخصيا أعتبر سبق غيرنا من شعوب المنطقة في تحقيق نجاحات على طريق استكمال أشواط التحول الديمقراطي العلماني، ربما لا يخلو من فائدة، كونه يعيدنا إلى توازننا، بعدما أصابنا بعض الغرور، فتصورنا بعد التغيير عام 2003 أن العراق سيكون الواحة الديمقراطية الأولى وسط صحراء من الديكتاتوريات من حوله.
4. اهتمامنا بشؤون الشعوب الأخرى، وفرحنا بفرحها ونجاحاتها، وحزننا لحزنها وإخفاقاتها، يمنح وطنيتنا بُعدا إنسانيا أكثر، فالوطنية والمواطنة العراقية ما هي إلا الإنسانية والمواطنة الكونية المصغرة، والانتماء للإنسانية جمعاء أو المواطنة الكونية ما هي إلا الوطنية الموسعة. فنحن في العراق على سبيل المثال عندما نقول دعونا نكون عراقيين بالدرجة الأولى، ولا نتوزع أمما، أمة شيعية وأخرى سنية، وأمة مسلمة، وأمما من أديان أخرى، وأمة عربية وأخرى كردية، وثالثة تركمانية، وآشورية، مع عدم فهم هذا دعوة لتذويب الهويات الصغيرة، بل المطلوب احتضانها، وإقرار التعددية، لكن في إطار الوحدة الوطنية، وأولوية المواطنة العراقية؛ أقول هذا التوجه العراقي العابر للأديان والطوائف والأعراق، إنما هو تأكيد على إنسانية التوجه، وإنسانية (وطنيتنا). وهكذا هي الوطنية والمواطنة المصرية التي تجعل القبطي المسيحي مواطنا من الدرجة الأولى كالمصري المسلم على حد سواء. وبالعكس إذا لم يشتمل الحس الوطني بالبعد الإنساني، تتحول الوطنية إلى عصبية جديدة تضاف إلى عصبيات القومية والدين والمذهب والذكورة والعشيرة والمنطقة والحزب.
وحتى اكتمال ملامح المدرسة المصرية لعملية التحول الديمقراطي نحو تأسيس الدولة الحديثة الديمقراطية العلمانية الوطنية الإنسانية، أقول كل عام ومصر، والعراق، وسائر من يهمنا من البلدان، قد حققت خطوة نوعية متقدمة نحو الديمقراطية العلمانية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن