عندما يتحدث الشعر الكوري عن الواقع المصري!

محمود عبد الغفار غيضان
moodghidan@yahoo.com

2013 / 7 / 10

يسبق الفنُ الواقعَ بخطوات يمكن حسابها أحيانًا بآلاف الأميال في الزمن قبل المسافة. لا يبشر بما سيقع قبل وقوعه فحسب. بل يتمتع بخاصية الاحتفاظ بقدرته على التلميح أو التصريح بما يمكن أن يقع في أماكن وأزمنة متخلفين على سطح هذا الكوكب. وبطبيعته الانحيازية يكون وضوحه في غموضه أو لا مباشرته عبر منظومة إشارية غنية بتعدد الإحالات بحيث يكون للمسكوت عنه مثلاً حضور أبلغ من المذكور، ولهذا فهو في منطقة مختلفة عما عليه التاريخ لو وقفا معًا أمام الحدث نفسه. الفن يحلل ويشرح. يفتت ويركب من زوايا مختلفة، بينما التاريخ يصف مدعيًا الوقوف على الحياد.

لستُ هنا بصدد الحديث عن العلاقة بين الفن والتاريخ ولكني معنيٌّ الآن بالحديث عن موقف الفن من التاريخ. لقد شعرتُ بالحزن عندما قرأت عن بشاعة الحرب الكورية، لكنني بكيتُ مع سطور صادقة من قصيدة واحدة تناولت مشهدًا وحيدًا من مشاهدها. وجدتُ تشابهًا عجيبًا بين ما جرى في كوريا منذ تحررها من الاحتلال الياباني وما جرى في مصر. المدهش أن الواقع المصري الآن يبدو وكأنه يسير على قضبان قطار التاريخ الكوري حتى أنَّ مساهمة الكوريين في دعم اقتصاد بلدهم بوضع ما يملكونه من ذهب أو مال في يد الحكومة قد ظهر مثيلها في مصر خلال هذا الأسبوع من خلال برنامج دعم الاقتصاد الوطني الذي يتبرع فيه تلاميذ المدارس بجنيهات معدودة من مصروفهم البسيط الخاص. أما الأكثر إدهاشًا فهو أن الكوريين يتابعون ما يحدث في مصر وكأنهم يشاهدون ما وقع قبل عقود قليلة في بلدهم. فالتعليق الوحيد الذي سمعته من أصدقائي أو زملائي أو بعض تلاميذي هو "هذا مثلما حدث عندنا بالضبط".

في هذا السياق يكون دالاً الإشارة إلى أنَّ القصائد التي تناولت مرحلة الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية في كوريا تبدو لي وكأنها مكتوبة عن مصر خلال المرحلة الانتقالية؛ حيث تخلص الشعب من استبداد نظام ليقع في استبداد جديد بمنهجية ومرجعية مختلفتين. أحد الشعراء الكوريين، ومع أنه يفضل الأسلوب غير المباشر في الكتابة، له قصيدة كأنها كُتبتَ تعليقًا على أحداث العام الماضي في مصر. هو من المؤمنين بالثورات الطبيعية التي تحركها جموع الشعب لا بعض أشخاص بعينهم. ويرى أن دور الكتاب والأدباء هو ضرورة الكتابة وقول الحق مهما كلفهم ذلك دون أن يحملوا البنادق بأنفسهم. قال لي في الأسبوع الماضي على هامش لقائه احتفالاً بصدور الترجمة العربية لديوانه "رحلة إلى سيول": أنا قلق عليك عندما تعود إلى مصر. أرجوك لا تُعرض نفسك للخطر. لكن عليك أن تكتب لأني واثق من قدرتك على التأثير بقلمك. ودون أن أطيل عليكم بثرثرتي هذه. أترككم مع قصيدته بعنوانها المراوغ "انتصارهم":

كانُوا فِئةً قليلةً في الأسِاسِ،
لكنَّهُم رفضُوا أنْ يبقوا هادِئِين،
كانُوا يتحرَّكُون في جَمَاعَة
أفشوا الأخطاءَ، تناقشُوا ليلاً ونهارًا،
نَالوا وظائفَ مُربِحةً،
كانوا دائمًا على صَوابٍ،
بينما الآخرُون على خَطأ!
*********************
بلا حدودٍ، جَزموا، طلبُوا، تحدُّوا.
رَاهنوا على كلِّ شيءٍ
وهزُّوه وضخَّموه وبالغوا فيه.
لو سقطَ أحدٌ بينَ أيديهم،
لا يدعونَهُ يفلتُ مِنهم أبدًا
مهما حاولَ الفرارَ مِنهم،
حتى لو كانتْ قوَّتُهم غيرَ كافيةٍ
فلم يتراجعُوا أبدًا،
يُهاجمونَ مُتَفوِّهينَ بشتائمَ؛
يخدشونَ، يتلعثمونَ،
ويرمونَ الأحجارَ مِن الخلفِ.
**********************
بكلمةٍ واحدةٍ؛
لقد كانُوا غوغاء،
لا يُمكنك التعاونُ معهُم،
الكُلُّ تجَنَّبَهُم
حتى الأكثَرَيَّة لمْ تُحَاوِل أن تُواجِهَهُم
فمِن الأفضَلِ أنْ ترفَع يديكَ مُقَدَّمًا
على أنْ تُجَادِلَهم
لأنَّهم لم يقبَلُوا الاستسلام،
في النِّهايةِ،
وضعَ كلُّ شخصٍ غيرهم نِهَايَةً لحياتهِ،
لذا فقد بقُوا وحدَهُم فِي العَالَمِ.

هل يستطيع الأدب أن يتجاوز السياق الذي أنتجه لينفتح على سياقات أخرى بعيدة في الجغرافيا والتاريخ إلى هذا الحد؟ أترك لحضراتك الإجابة. لكني أضع فقط بين أيديكم خطوطًا سوداء عريضة تحت بعض العبارات مثل؛ ( أفشوا الأخطاء- لو سقط أحدٌ بين أيديهم لا يدعونه يفلت منهم) ولا أدري هل الذي كتبها كان يشير إلى إفشاء بعض سقطات أعضاء حزب النور كي يتستطيع فصيل واحد أن يسيطر على الساحة بمفرده؟! هل قرأ عن التشهير بالبرادعي كي يخسر حقه التاريخي كلمهم لثورة الخامس والعشرين من يناير؟! (كانوا دائمًا على صواب، بينما الآخرون على خطًا): هل يتحدث كيم جوانغ كيو عن تكفير المعارضين؟ عن أن الله ملكهم وحدهم لأنهم فقط من يعرفونه حق المعرفة؟! ( حتى لو كانت قوتهم غير كافية، فلم يتراجعوا أبدًا): هل يحلل الشاعر الكوري الجنوبي المشهد الراهن واستمرار الاعتصام في رابعة العدوية وميدان النهضة بعد أن بدأت أمريكا ترفع يديها عن دعم النظام السابق وبعد أن انحازت جموع الشعب لإرادة التمرد على ذلك النظام؟! (الكُلُّ تجَنَّبَهُم، حتى الأكثَرَيَّة لمْ تُحَاوِل أن تُواجِهَهُم، فمِن الأفضَلِ أنْ ترفَع يديكَ مُقَدَّمًا، على أنْ تُجَادِلَهم، لأنَّهم لم يقبَلُوا الاستسلام): هل يشير الشاعر هنا إلى الخسارة الفادحة التي خسرها حزب الرئيس السابق على الأرض؟ هل يشير إلى أنه لم تخرج فئة من الشعب لتهاجمهم رغم التفوق العددي الواضح كي تصلهم رسالة ربما لن تصلهم أبدًا؟! (في النِّهايةِ، وضعَ كلُّ شخصٍ غيرهم نِهَايَةً لحياتهِ، لذا فقد بقُوا وحدَهُم فِي العَالَمِ.) : هل هذه النهاية الرمزية هي نهاية الآخرين الأكثر عددًا أم نهايتهم؟!!! أترك لحضراتكم الإجابة عن هذا التساؤل أيضًا.

أخيرًا؛ رمضان كريم وكل عام وأنتم جميعًا وبلدنا الآمين بكل الخير والأمان والسلام.

محمود عبد الغفار غيضان
11 يوليو 2013م






https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن