تنويم الشارع السوري يعرقل التغير

صالح بوزان

2005 / 5 / 2

لدى السلطة السورية قدرة متميزة لتنويم الشارع السياسي، وبالتالي تنويم الشعب. فرغم كل الأزمات الكبيرة التي تستفحل بالبلد، وما يعاني الشعب السوري على مختلف الأصعدة، هذه المعاناة التي باتت معروفة لأبسط إنسان سوري، فإن الرضوخ لهذا الواقع المزري هو السمة التي تهيمن على الشعب السوري. لا شك أن النظام استخدم وسائل متنوعة وبحرفية عالية حتى أوصل الشعب السوري إلى هذا المآل. فكانت الأحكام العرفية والقوة المفرطة والسجون والمعتقلات والنفي والتجريد السياسي والمدني، والأهم من ذلك كله تجويع الشعب لدرجة انحصر كل نشاطه الذهني في الركض وراء لقمة عيشه، ومن جهة أخرى استفحال الرشوة والفساد والبيروقراطية القاتلة ونهب الدولة والشعب من قبل شرائح أصبحت الدعامة الرئيسية للنظام واستقراره.
حسب التحليل الماركسي يكون التغير حتمياً عندما يعيش البلد في أزمة اقتصادية وسياسية حقيقية، ولا تستطيع الفئات الحاكمة أن تستمر في أسلوب حكمها بالطريقة السابقة، وفي الوقت نفسه غير قادرة على التغير ذاتياً، ويكون العامل الخارجي مساعداً على التغير. فحينئذ يحدث الانقلاب التاريخي للتخلص من القديم في سبيل ولادة الجديد. وإذا نظرنا إلى الواقع السوري نجد كل شيء مهيأ للتغير. ورغم ذلك فالسكون هو الحالة المسيطرة.
أن جميع الفعاليات السياسية والفكرية السورية لا تستطيع القيام بمظاهرة سلمية على نموذج مظاهرات لبنان بعد مقتل الحريري ومظاهرات القاهرة التي تطالب بعدم التجديد للرئيس وعدم التوريث. في الوقت الذي نجد أن العديد من شعارات وأطروحات المعارضة السورية، خصوصاً العلمانية منها والليبرالية، تنسجم مع مصلحة الشعب السوري وتطلعاته.
لا أدري كيف يمكن تفسير هذا الواقع السوري الاستثنائي الذي يصمد بكل جبروت أما التغيرات والنقد وهو جالس بكل طمأنينة على براكين من الأزمات.
من يستطيع أن يفسر هذا السر السوري الذي لا يدخل في مجال العلم البشري على ما يبدو؟.
لقد شذ عن هذا التقليد السوري الموروث حركة 12 آذار في المناطق الكردية من سورية عام 2004. فخرج الناس إلى الشارع بالآلاف وفتحوا صدورهم للرصاص، ووقعت ضحايا واعتقل المئات ومات بعضهم تحت التعذيب.
خلق هذا الحدث اضطراباً سياسياً وأمنياً لدى النظام الذي لم يتعود على هذه الحالة المارقة عن السكون السوري الراسخ، بل شمل الاضطراب السياسي والتنظيمي المعارضة السورية نفسها، التي اكتفت ببعض البيانات الخجولة مع الصراخ العالي حول المؤامرة الخارجية التي نفاها رئيس الجمهورية فيما بعد، باستثناء بعض المثقفين الذين سرعان ما هبوا للوقوف إلى جانب شعبهم الكردي باعتباره جزءاً من الشعب السوري، مثل الدكتور عبد الرزاق عيد وجهاد نصرة ومحمد غانم وغيرهم.
لم يدرس المثقفون السوريون ولا الساسة المعارضون للنظام هذه الظاهرة الكردية التي مزقت حاجز الخوف الموروث منذ أربعين عاماً، والتي أجبرت المسؤلين السوريين أن يغيروا من خطابهم الكلاسيكي بعدم وجود الأكراد في سوريا، لأنه ما عاد بالامكان إنكار واقع مادي يتحرك على الأرض.
لاشك أن جميع مقولات التغير والتطوير والتحديث ظهرت في سورية تحت تأثير التغيرات الكبيرة التي بدأت نهاية القرن الماضي في العالم والضغوط الخارجية المتزايدة. ومهما تنكر بعضهم لهذه الحقيقة فالوقائع الملموسة تدل على ذلك.
إلا أن حدث 12 آذار الكردي كان العامل الداخلي الوحيد الذي أظهر أن متطلبات الداخل هي أكثر إلحاحاً من الدوافع الخارجية، وأنه ما عاد بالامكان أن تكون الصفقات الخارجية عاملاً لاستقرار داخلي كما كان يحدث أيام الحرب الباردة.
لقد أدرك قسم من النظام قبل غيره أن أحداثاً مثل الحدث الآذاري قادم في أماكن أخرى من سوريا إذا لم يغير أسلوب تعامله مع الشعب. ولهذا جرى ويجري التعامل الخاص من قبل النظام مع الأكراد بهدف عزلهم عن الشارع العربي السوري، بل هناك جهات في النظام سعت وتسعى إلى تسعير خلافات وصدامات جانبية بين العرب والكرد خوفاً من أن يتحول الحدث الكردي إلى عامل تأثير لتحريك الشارع العربي السوري والتوحد في حركة جماهيرية عربية-كردية واحدة للضغط من أجل التغير.
للأسف تجاهلت المعارضة السورية دروس الحدث الآذاري بسرعة. بعضها من الخلفية القومية العربية التي مازالت تتنكر للوجود الكردي السوري، وبالتالي لا يريد هذا البعض التعامل معها كإحدى أجندة سوريا المستقبل، وبعضها الآخر لا يريد إغلاق باب التفاهم مع النظام توقاً للحصول على مكاسب الجبهة الوطنية التقدمية العتيدة، كما تجاهلها غيرهم انطلاقاً من زاوية حزبية ضيقة.
تقاطع موقف المعارضة هذا مع سعي النظام للالتفاف على الحدث الكردي بتصريحات لم ولن يجد طريقها للتنفيذ مادام حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع.
لكن المشكلة الكبرى هي سعي الأحزاب الكردية من حيث تدري ولا تدري إلى تخفيف وطأة الحدث الآذاري على النظام وعلى الشارع السوري العربي. فلم تبادر إلى توحيد خطابها القومي الوطني، كما صمدت تمزقاته الشللية أما التغير، ولم يجر توحيد الهيكلية التنظيمية للحركة الكردية السورية لكي تتحول إلى إحدى عوامل التغير في سوريا وبناء تحالفات مع قوى التغيير الفعلية على الواقع الذي استجد بعد الحدث الآذاري. وهذا ما يعرف في التاريخ بالفرص الضائعة.
لقد تحول المجتمع الكردي السوري بعد أحداث آذار إلى مجتمع ديناميكي على الصعيد السياسي والاجتماعي، فظل الأكراد الوحيد ون الذين استمروا في مظاهراتهم السلمية، ورسخوا تقاليد جديدة لعيد نيروز في هذا العام، كما أنهم الوحيد ون الذين أبّنوا شهداءهم بشكل سياسي وعلني تحت أنظار الأجهزة الأمنية التي يرتعب منها كل الشعب السوري.
لكن الخطر المحدق اليوم هو العودة إلى تنويم المجتمع الكردي المتحرك ودفعه إلى السبات الذي يعيشه الشعب العربي السوري، بعد الوعود التي أعلنها النظام والتي تذهب أدراج الرياح. باستثناء العفو الرئاسي الأخير والذي تبين أنه ليس كما أعلن، فما زال سبعة عشر كردياً ممن شملهم العفو قابعين في السجون حسب تصريح لجان حقوق الإنسان السورية.
كما سبق القول، يعيش النظام في أزمة حادة تستفحل يوماً بعد يوم نتيجة الأوضاع الداخلية التي هو سببها منذ أربعين عاماً، وكذلك نتيجة الضغوط الخارجية، لا سيما بعد مقتل حريري وتفاعل الضغط الأمريكي والفرنسي المشترك والخروج من لبنان. فثمة قوى داخل النظام تدرك حجم الضغط الدولي والبراكين الداخلية المضغوطة والقابلة للانفجار في أية لحظة، وتريد الذهاب لملاقاة كل ذلك بإحداث تغير ملموس يعيد للشعب السوري فاعليته السياسية والاقتصادية المجمدة. وللحقيقة أن محاولة الإصلاح والتطوير التي بشر بها رئيس الجمهورية في خطاب القسم هي التي كان لها الدور الكبير في خلق الصراع داخل النظام بين القديم والجديد.
يقف على رأس قوى التغير داخل النظام رئيس الجمهورية الذي يتميز بخاصية سياسية وثقافية ونفسية تختلف عن أقطاب الحزبيين الكلاسيكيين الذين استقووا على الوطن والشعب من خلال الدولة الأمنية والتفرد بكل شيء. فرئيس الجمهورية لم يتخرج من موروث حزب البعث رغم أنه أصبح الأمين العام له، كما أنه لم يتخرج من مدرسة الجيش العقائدي الذي بات القائد العام له. إلى جانب أنه عاش فترة من عمره في البلدان الأوروبية، وأدرك فاعلية الحياة الديمقراطية وحرية التفكير والرأي التي دفعت هذه البلدان إلى التقدم والازدهار.
لا بد الإقرار هنا أن رئيس الجمهورية بدأ عمله بتحرك شعبي ملموس، إلى جانب خطاب القسم الذي خلق حافزاً كبيراً لدى القوى الحية في المجتمع من أجل السير في مرحلة جديدة من تاريخ سوريا. فزار العديد من المدن السورية، وأزال بعضاً من الطقوس السابقة المتعلقة بالاحتفالات وبشخصية الرئيس نفسه، واحتك بالناس مباشرة واستمع إلى شكواهم ومطالبهم، ولاسيما إلى مطالب الأكراد المجردين من الجنسية السورية عندما زار محافظة الحسكة. خلق كل ذلك ارتياحاً واسعاً لدى الشعب عامة ولدى الأكراد خاصة.
أعتقد أن المعارضة السورية والحركة الكردية لم تقترب كثيراً عما يجري داخل النظام من صراع حول التغير منذ خمس سنوات. أو ربما لا تريد أن تكون طرفاً في هذا الصراع. وإذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، فتكون قد ارتكبت خطأً لا بد من تصحيحه فوراً. فالأفضل للمعارضة الوطنية، ومن ضمنها الحركة الكردية، أن تجند كل إمكانياتها المادية والمعنوية، خصوصاً خطابها السياسي وتحركها السلمي للوقوف إلى جانب قوى التغير داخل النظام.
من المؤكد أن الوقوف مع هذه الشريحة التي تسعى إلى التغير، ولو كانت خطواتها لا تتفق تماماً مع توجهات المعارضة تماماً، أفضل بكثير من انتظار التغير الخارجي؟ فما دامت تدرك أن الوطنية ليست فقط برامج وشعارات وجملاً تعلنها في مواجهة النظام و ضد أمريكا ليلاً نهار، بل لا بد النزول إلى الواقع الملموس وتحقيق الممكن. فالحقيقة الساطعة هي أن القوى الفعلية التي تعرقل التغير موجودة داخل النظام، كما أن القوى الفعلية القادرة على التغير هي الأخرى موجودة داخل النظام. ولا أعتقد أن هناك خيار آخر حتى الآن إلا خيار التغير من الخارج والذي لا يريده أي سوري مهما كان اتجاهه السياسي والفكري.
صحيح أن قوى التغير داخل النظام مترددة في الانفتاح على الشعب والاعتماد عليه في عملية التغير، كما أنها مازالت تنظر إلى المعارضة والحركة الكردية من خلال موروثها القديم. هذا الموروت الناتج من طبيعة حزب البعث وطريقة وصوله إلى الحكم وأسلوب الاحتفاظ به حتى الآن. فهي تخشى هذا الانفتاح تحت ذريعة أنه قد يطيح بالنظام كله، بما في ذلك قوى التغير في داخله. ومن جانبها تستغل القوى المعادية للتغير داخل النظام هذه الورقة لتخويف قوى التغير داخل النظام، وبالتالي للإجهاض على أية محاولة للتغير من داخله.
ولهذا بالذات يجري الصراع داخل النظام في سرية تامة، وبغياب صوت الشعب ودوره، هذه السرية التي ستؤدي حتماً إلى انتصار القوى التي تقف ضد التغير في المؤتمر القطري القادم، خصوصاً إذا بقيت جميع قوى التغير داخل النظام وخارجه على سلوكها الراهن والمراهنة على الزمن.
يبقى أن نقول أنه عندما يصبح التغير ضرورة تاريخية، لابد عندئذ أن تقوم القوى الوطنية المدركة لهذه الحقيقة أيضاً بدورها التاريخي، وخصوصاً القادة. وإلا سيأتي التغير جارفاً وقد يدخل البلد في نفق مظلم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن