نعيم عبد مهلهل يؤسطر في كتابه الجديد لذاكرة غابريل ماركيز في مدينة سامراء

مازن لطيف علي
mazin24@ymail.com

2013 / 6 / 16

في كتابه الجديد ( غابريل ماركيز يكتب عن مدينة سامراء ) والصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد يضع الروائي والشاعر العراقي نعيم عبد مهلهل تخيلات فصول كتابه في متنوعات عديدة ولكنها دائما تلتقي في الخصوصية السردية / الشاعرية لهذا الكاتب الجنوبي التي تميز ليس في ثراء منتجه وتنوعه فقط بل في اتقانه لجمالية الصنعة داخل المفردة ومعنى العبارة ، وبأختصار فهو يكتب نصا لصناعة دهشته الخاصة.
نعيم عبد مهلهل السارد والموثق الامين لأحلام الامكنة التي يعيش فيها يضعنا في مخطوطته المتعددة العناوين والفصول أمام فضاءات متعددة الافاق ليرينا في نصوصها تفاصيل سرد لحكايات اتية من مخادع الهته السومرية وبرودة ظلال مدن الطين الذي ولد فيها وليحسسنا بجمالية ماورث من الفقر والطفولة ومحطات هجراته المتباعدة وكأنه يمنحنا قرصا مضغوطا لعشرات المشاهد السينمائية الممتلأة بلحظاتها الانسانية الغامضة واللذيذة والمحملة بطاقة غريبة من لغة وصفية وتحاكي ما في الروح من عمق في عناوين الجمال والوطن والبوح والحرب والحكاية والاسطرة والسياسة والتأريخ والصوفية والغرام. ففي اكثر من ثلاثين مقال يمضي نعيم مهلهل بقارئه الى اقرب نقطة تحت الرمش والى ابعد نافذة في سماء الخيال ، انه من البارعين في صناعة السياحة الروحية الممتدة الى أعمق ما في الأنسان من بوح وتأمل وخيال وقراءة حدسية ونفسية وروحانية لموجودات العالم عبر ما يعتمد عليه الكاتب دوما في تصدير مشفراته الى قراءه ومتابعيه معتمدا على خزين هائل من ذكريات تصاوير المكان الذي ينتمي اليه ويحاول في كل كتبه ونتاجه أن يظل مرتبطاً بتلك السحريات البعيدة عبر ايمانه بما كان غاستون باشلار يدعو اليه من اجل صناعة النص الجميل قوله : المكان القادر الوحيد على جعل الماضي الحاضر أمامنا في كل لحظة ...وكما يكتبه نعيم عبد مهلهل في تدوين قديم له قوله :المكان الهاجس الأكثر تأثيرا في منحنا النبؤة والقناعة اننا قد نستطيع أن ننتج نصا جميلا ومقتدرا .
عبر عناوين تتعدد الوانها وافكارها ومادتها يرينا الكاتب قدرتهالخفية على انتاج النصوص وبمشاهدات لاتحصى حتى تتخيلهُ ماسكاً كاميرا سينمائية في يديه ويسجل للحظته متغيرات عصره في مقال أو تحقيق أو فصل رواية .
فهو يلزم قارئه في متابعة ما يسطرهُ لنا معتمدا على خلطة خاصة به تعتمد على شعرية العبارة وتوليفها مع الحدث والمعلومة ليأتي النص مشابها تماماً لغرائبية عنوانه وملتصقاً في محلية الامكنة التي أتت منها النصوص ، تلك القرى .وتلك المدينة .وذلك الشتاء السومري الذي ينزُ بالسعال وحنين حناجر مطربي الريف والشعراء السرياليين وكادحي المناجل والمطارق وضاربي طبول مواكب الرثاء العاشوري.
يبدأ الكتاب بفصلٍ حفلَ بغرائبية التناول والموضوعة والربط ، وهو الفصل الذي حمل عنوان الكتاب (( غابريل ماركيز يكتب عن مدينة سامراء )) مستفيداً من حكاية قرأها الكاتب مترجمة ومنسوبة الى ماركيز ، بالرغم من اسطوريتها وانتماءها الى عدة كتاب ومصادر حيث كُثرَ الاختلاف عليها وعنوانها ( الموت في بابل ) والكاتب ( مهلهل ) لايهمه هنا انتساب الحكاية الى أي أحد ولكنه يهمهُ انها التصقت بماركيز ليوثقها في جزيئتها الصغيرة ومعناها الشاسع مع متغيرات الحدث السياسي والتأريخي في بلاده ، لأن سامراء هو المكان المسمى في حكاية ماركيز لهذا يعيد الكاتب نسج الحكاية الماركيزية ويؤسطرها في دهشة وقائعها التاريخية والميتافيزيقية وحسب ما تحمله متغيرات عولمة الرؤى الحديثة التي سكنت وعي ( مهلهل ) وطورت من نتاجهِ في مختلف اساليبه الكتابية في الشعر والقصة والنقد والرواية والعمود الصحفي.
نترك للقارئ فهم مغزى ربط اخيلة ماركيز بسامراء ووقائع ما يحدث فيها اليوم وربطه بالحدث اليومي والتاريخي لوجود وطن ومدينة صنعها هاجس الاباطرة العباسيين ، ويؤرخها اليوم وجود اخر يرتبط بأساطير قصورها ولمعان ذهب قباب اائمتها وصخب تظاهراتها.
على مدى العناوين يصطدم القارئ بأشياء من بهجة العيش في نسيج من حرير الكلمات التي تحمل سياحة التخيل والفتنة . انها جماليات اللغة والافكار والتواريخ والامكنة ، وربما ( مهلهل ) من البارعين تماما في جعل محلية المكان الذي ينتمي اليه ( عالمياً ) من خلال ربطه بالحدث والمُشابه الابعد وبلغة تتميز بألفة شاعريتها وفطنتها وموسيقاها التي لاتبثُ الملل الى من يستمتعُ بتلك الاساطير الانسانية التي يُعيد تذكرها في مسامعنا ويعطيها ما تستحقهُ بعد أن يكادُأن يذهبَ بها النسيان بعيدا . ولكنه وكجزء من ايمانه بأن الأدب الحقيقي يأتي ويُنتج أولا من محليته وبدائيته وأحلامه الفطرية يرينا ( مهلهل ) في الكتاب نصوصا موغلة في المحلية ولكنها في الوقت نفسه موغلة ايضا بالعالمية والجمال والأسطرة والقرين الغير متوقع كما في واحد من عناوين الكتاب والمُسمى ( مديح الى عبد الزهرة مناتي وشارل ازنافور ) . صورة مضحكة ومبكية ولكنها عميقة المعنى وبررَ لنا جمالية سردَ المقارن بين مطرب شعبي عراقي ( عبد الزهرة مناتي ) ومطرب فرنسي وعالمي ( شارل أزنافور ) نقرأ الأهمية التي يدرُكها الكاتب في صوت ( عبد الزهرة مناتي ) وعلاقتها بذائقة الاجيال والاحلام التي صنعت وجود هذه البلاد بالرغم ان صوت ( مناتي ) ظل حبيس مسجلات الكاسيت البدائية وصوت شارل ايزنافور يسمعه ملايين البشر كل يوم في اقراص ليزرية وقنوات فضائية.
فصول الكتاب الاخرى متعددة العناوين وتشكل وعيا تلوينيا لثقافة ( نعيم عبد مهلهل ) ومنها ( مديح الى عوض دوخي وصوت السهارى ، النوم تحت أجفان هند رستم ، صوفية المكان السومري ، قبر الزعيم عبد الكريم قاسم ، طارق بن زياد وصديقة الملاية ، الأحتفاء بالشعر على الطريقة البوذية ، خواطر مارلين مورنو ، خواطر رامسفيلد ، العزير نبي اليهود ، الشفاه تحرق الفلفل الأحمر ) وعناوين اخرى فيها يثرينا الكتاب في جدلياتٍ لبوح لم نألفهُ كثيرا في الكتابة النثرية العراقية .فهو يضعنا في توصيفات تتشابك فيها العديد من المذاهب الابداعية بين السرد والقصيدة والمقالة السياسية والبحث الاكاديمي ، ومع اتساع العناوين في مفاهيمها وكثرة عناويها يشعرنا الكاتب والكتاب بقدرة على عدم تشابه النصوص وأن كل واحد يشتغل في منطقته الخاصة والبعض يرتقي ليكون قصيدة يوثق فيها الكتاب هاجس ثقافة المؤلف واحلامه.
هذا الجمع بين السياسة والبوح الغرامي والرؤية الصوفية واشتغالات المكان والتأمل الديني والهاجس الوطني والنقد الثقافي والاهتمام بعالمية الحدث ومتغيراته يشعرك بقدرة جيدة لدى الكاتب حيث يتضح لنا انه في جهده هذا أنما هو حقا وريث تلك الاشياء الفاتنة التي صنعتها اخيلة الملوك وكهنة سومر وشعراؤها وفقراؤها ومعلمو مدارسها الأبتدائية .ففي كل بوح يرينا الكاتب بأن الكتاب يحاول أن يشكل أساطيره بتنوع مافي روحه من مرايا وحدائق وليس للزمن وصلة الاحداث ببعضها أي صلة انما هو مثل رحالةيذهب الى امكنة العالم كُله ويعود اليكَ في ذات النقطة من المكان الذي سحره في صباه وطفولته وجنديته ( التلول الاثرية في مدينة أور ).
فيشعركَ أنه رحالة وجندي وعالم آثار وصانع لحظة الغرام مع المرأة والباحث في تواريخ قبور الانبياء والاولياء والموثق لتاريخ ثقافة البلاد وفنونها ليتسع مشغله الأبداعي في اصدار شهري أو موسومي وثقهُ في كتبه ( 28 ) بين رواية ومجموعة قصصية وديوان شعر وبحوث في الديانة المندائية او تلك التي تحدث فيها عن عالم الاهوار ومدنه او تلك التي جمع فيها اعمدته الصحفية وكتب آخرى عن الصوفية والسينما والتأريخ .
نعيم عبد مهلهل المقيم اليوم في المانيا يحسسنا في كتابه الجديد ( ماركيز يكتب عن مدينة سامراء ) انه القريب جداً الى بلاده ، وأنه في كتابه الجديد أنما يُعيد أنتاج ذاكرته وجعلها نافذة لتأمل الحدث اليومي للبلاد التي يحبها كثيرا ويحزن بأسى اليتامى حين يمزق جسدها الارهابيون وسياراتهم المفخخة أو يعبث بهدؤها وخيال مبدعيها لثام كاتم الصوت والخطاب الطائفي.
لهذا سيرى القارئ لكتاب نعيم عبد مهلهل مرورا على كل جهات وطنه ومدنه وشوارعه ورموزه وتفاصيل يومه وعواصفه الترابية وطوفاناته . انه يوثق تاريخ بلاده بالصورة والحدس.بالواقع وبالاسطورة .لهذا فأن سياحة الكتاب حتما ستكون سياحة روحية ممتعة وذات فائدة وكسبا جديدا للثقافة العراقية ومكتبتها...!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن