فؤاد التكرلي .. فن ( الوجه الآخر )

بتول قاسم ناصر
batol.kassim@gmail.com

2013 / 5 / 12

تسعى دراستنا لما كتبه الأديب الكبير فؤاد التكرلي من روايات الى تحديد القواعد الباطنية للعمل الأدبي وعلاقتها بمظاهرها المتجسمة فيها. ونحن ننطلق من أن البنية الكلية للعمل الأدبي تتكون من الترابط المنتظم للمستويات البنيوية التي تؤلفه، ونعيّن مستويين من هذه المستويات: مستوى البنية المعرفية الكامنة، ومستوى البنية الظاهرة، وسنحاول أن نرصد العلاقات التي تنشأ بين البنية النظرية للنص والبنية المتحققة المجسِمة، ونكتنه علاقات التجسيد المتبادلة بين رؤية الأديب التي يصدر عنها العمل القصصي ويجلوها، والبنية القصصية التي تتجلى عبر هذه الرؤية، وتعيين مظاهر التجسيد هذه.. تجسيد النص القصصي أو البنية التركيبية له لرؤيتها الجوهرية على مستوى الظاهر من خلال الاتجاهات الموضوعية التي تجلت في القصة أو الرواية، ومن خلال أشكال البناء الفني لها. إن دراستنا هذه تسعى الى أن تحل شفرة العمل الأدبي لدى التكرلي وصولاً الى جوهره المعرفي .

(الوجه الآخر) لفن التكرلي :
ذكر فؤاد التكرلي في حديث له عن تجربته القصصية بأن له هدفاً من الكتابة هو التعبير عن الإنسان مدفوعاً بشعور المسؤولية تجاه هذا الإنسان بما يجعل من الأدب رسالة إنسانية رفيعة. وأكد (أن القصصي.. لا يمكن أن يسكت على الظلم والاعوجاج والجريمة. وهو ـ بواسطة فنه الذي يحمل ضمناً متعة ما ـ يحاول أن يجعل مواطنيه يهتمون بذواتهم وبالآخرين(1).) فهو ملتزم مسؤول إزاء مجتمعه وإزاء فنه وهذا ما تعبر عنه عبارته: (فنه الذي يحمل متعة ما). وبين أنه يختار من أجل التعبير عن أهدافه الواقع المحلي والشخصية المحلية، ومن أسباب ذلك أنه يعرفهما جيداً (2)، فهو يتحدث من خلال ما يعرف عما هو عام وإنساني أو يشبه ذلك العام والإنساني، لأن القضايا الإنسانية واحدة، وهذا ما سعت اليه القصة العراقية على يد أوائل الكتاب الذين عاصرهم ممن كان لهم أسلوب فني في كتابة القصة فتميزت لديهم (بصبغتها الاجتماعية وباهتمامها الدائم بمشاكل البشر اليومية(3).).
والتكرلي من القسم الأعظم من الأدباء والفنانين العراقيين في الخمسينيات الذين وجدوا أنفسهم يتنفسون هواءاً مسموماً مليئاً بالقبح والتخلف والقهر في ظل الاستعمار والحكومات التابعة له، لذا حاولوا التمرد على هذا الواقع والتطلع نحو هموم التغيير والثورة. وكان أغلب كتاب القصة في الخمسينيات يعطي القيمة الاجتماعية للفن أهمية كبرى بسبب انتمائهم فكرياً الى قوى الحركة الوطنية، وكان التكرلي مثلهم يتحسس الواقع الاجتماعي والسياسي آنذاك وينطلق من موقف اجتماعي وسياسي في تقويم ذلك الواقع وإن لم ينغمس في نشاط سياسي واجتماعي مباشر(4).
وقد شاء بعض من كتاب القصة هؤلاء ومنهم التكرلي، الاّ يعبروا عن موقفهم تعبيراً مباشراً، والاّ ينازلوا منكشفين، بل يلتجئون الى الرمز يطرحون من خلاله قضايا عصرهم ومجتمعاتهم معبرين عن مناهضتهم للسلطات المرتبطة بالاستعمار، التي تفرض أوضاع التخلف والظلم، وتتصدى لمحاولات النهوض. وهكذا دعت الظروف الاجتماعية والسياسية الى إشاعة الرمز في الأدب لدى الأدباء الذين ألزموا أنفسهم بأداء رسالة في مجتمعاتهم. وليس هذا ظاهرة تخص أدباً دون غيره، فهو ظاهرة عرفها الأدب العالمي في أوقات الضرورة الملحة، والأمثلة كثيرة ومعروفة في عالم الأدب.
وإضافة الى الدوافع الموضوعية التي تستدعي عدم التصريح في الأدب، فإن التعبير بالرمز في الأدب يأتي من مراعاة الطبيعة الخاصة للأدب وهو من الفن الذي يتجاوز كونه تناولاً مباشراً للحقائق الموضوعية أو تاريخاً أو شرحاً أو تقارير او توجيهات تملى على الناس. لذا يعمد الى الرمز الذي هو إيحاء وإيماء الى تلك الحقائق يوسع من مدى الخيال. والرمز لدى الأديب الفنان لا يعني تعمداً مكشوفاً لاستخدامه فلا يطفو على السطح، ولا يفرضه فرضاً او يتصنعه ويتكلفه. وهذا كله يتوفر فيما نسميه (الرمزية الفنية الناضجة)، وينعدم في المستوى السطحي والمباشر والسافر منها وهو ما تعكسه بعض قصص كتابنا الأوائل كذي النون أيوب، لذا تسميها بعض الدراسات (الرمزية الساذجة(5)) لأن ما وراء الأحداث يتلقاه القارئ جاهزاً لا يستوحي قدراته على الكشف والنفاذ في أعماق النص، في حين أن الرمزية الناضجة عمق يتجاوز السطحية والسذاجة. والرمزية بهذا المستوى نتعرف عليها في أدب فؤاد التكرلي. وهو يعمد الى الرمز دائماً حتى نستطيع أن نصفه كما وصفه هو أيضاً بأنه (الوجه الآخر) لفنه الذي يسيطر عليه ويوجه جوانبه الموضوعية وبناءه الظاهر. فهو القيمة المهيمنة على أدبه. وقد سمى الناقد فاضل ثامر هذه القيمة المهيمنة على أدبه (بنية الإخفاق) التي تتجسد على المستوى الخاص بثيمة الإخفاق في هذه السياقات الفاجعة المحبطة لمصائر الشخصيات القصصية(6). وهو يراعي البنية الموضوعية الظاهرة في تسميته لـ(بنية الإخفاق)، ونحن نراعي البنية الموضوعية الكامنة وراء الظاهر في تسمية (بنية الوجه الآخر) او (فن الوجه الآخر). ويذهب الناقد فاضل ثامر الى أن بنية الإخفاق هذه ذات طابع شخصي وفردي تركز على الأزمات الفردية، ويلحظ غياب البعد الآيديولوجي الواضح والتحليل الاجتماعي في أغلب قصصه لأنه ينطلق من موقف فردي هو الذي يتحكم في رؤيته القصصية كما يقول(7). ورأي الناقد يرجع الى أنه يأخذ أدب التكرلي على ظاهره فلا يستكنه المعاني الرمزية التي تستتر خلفه. ولأن الرمز بيد فنان متمكن، ولأنه ليس مباشرة تكشف عن نفسها بسهولة، لذلك يخفى هذا الوجه فلا يبصره حتى القارئ المتعمق، ولهذا يكتفي الدكتور عبد الإله احمد ـ الذي أخذ أدبه على ظاهره أيضاً ـ بتفسير بعض أدبه تفسيراً رمزياً وينص على ذكر بعض العلامات الرمزية في قصصه وهي (البغي) في قصة (بصقة في وجه الحياة)، وهي في تصوره رمز للواقع العراقي(8). وكذلك المرأة العراقية في قصة (الغراب) وهي (إفصاح عن موقف فكري معين للتكرلي لم يجرؤ على طرحه بشكل مباشر يمكن ربطه بأحداث سياسية كانت تجري في العراق عند كتابة القاص قصته عام 1962(9)) وكذلك في قصة (الصمت واللصوص) في العام 1968، إذ (استخدم في كتابتها إسلوباً رمزياً على نحو يمكن اعتباره معه نمطاً جديداً في فنه القصصي(10)) كما يقول. وقد بدا الرمز في هذه القصة شاحباً باهتاً لدى الناقد فاضل ثامر، ولم يتوقف الدكتور محسن الموسوي أمام الرمز السياسي فيها وعالجها ضمن علاقاتها الحسية المباشرة(11). والحق ان الأسلوب الرمزي الذي اتبعه القاص في هذه القصة ليس نمطاً جديداً لديه، بل سلوك قديم رافق فنه القصصي منذ أطل على الحياة الأدبية، وما على الباحث الا أن ينعم النظر ويتعمق في قراءته إن أراد اكتشاف ما وراءه. ولابد لمن يريد اكتشاف فنه أن يواكبه ثقافة وهماً وتاريخاً، وعندها يفوز بمعرفة أسراره. ولأن الدكتور عبد الإله أحمد لا يفترض ما نفترضه من اختباء (وجه آخر) يطلبه القاص خلف قناع ظاهر يخدع عما وراءه بسبب مقدرته القصصية، يلوح له أن منطلقات (التكرلي وقيمه الفنية ظلت واحدة منذ أطل على الحياة الأدبية قاصاً متميزاً في أوائل الخمسينيات. ولم تؤثر الأحداث العنيفة الضاجة الدامية التي عصفت بالعراق منذ الحرب العالمية الثانية كثيراً على طبيعة اهتماماته ومضامينه ومنطلقاته الفكرية… حتى ليبدو كأنه يعيش في عالم داخلي ينأى به بعيداً عن هذا الصراع السياسي الملتهب في العهد الملكي، وهذه التمزقات التي أصابت الحركة الوطنية والتي هزت العراق عميقاً بعد ذلك، وظلت اللمحات التي تومئ الى بعض هذه الأحداث في قصصه لمحات شاحبة لا تتفق مع ضخامة هذه الأحداث وأثرها العميق في الحياة العامة(12).) ونحن لا نتفق معه في أن القاص كان في عالمه الداخلي بعيداً عن الأحداث العامة وعن الصراع السياسي الملتهب. فقد كان في عالمه الداخلي يفكر على صفحات قصصه بما يصطرع في هذا الواقع ويعبر عنه، ولم يبتعد عنه الا ظاهراً، ذلك أنه لجأ الى الرمز يعبر به عنه ويفسره ويقف منه موقفه، فقد شاء الا يكون تفسيره وموقفه واضحين مباشرين بسبب الاعتبارات التي ذكرناها. وقد اتخذ هذا منهجاً منذ شاء أن يكتب في القصة، وإن كان الباحث في أدبه لا يرى في قصصه مما يشير الى الأحداث ما يتفق مع ضخامتها وأثرها العميق في الحياة العامة. وهذا يرجع ـ كما ذكرنا ـ الى تمكن القاص في فنه، فهو لا يصدم القارئ بهذا الرمز الذي يشير صراحة الى ما وراءه، بل يعرض علينا أحداثاً واقعية لها من واقعيتها وصدقها ما لا يدع القارئ يفكر أن وراءها أفكاراً ذهنية مجردة. فهو يسحرنا بأجوائه الواقعية ولا نشعر تحت تأثير سحرها بأن لها وجهاً آخر عميقاً لا نتطلع إليه ونحن ننتشي بروعة سحر ظاهره. وهو يصرح بأنه يجهد في سبيل إكساء أفكاره ثياباً واقعية، فينجح جهده، فلا تطغى أفكاره على فنه. وقد أشار الدكتور علي جواد الطاهر الى إيغاله في إخفاء نفسه مما يستدعي إيغال القارئ في استنباطه(13).
ومع أن قصد (الوجه الآخر) في أدبه هو الجامع الذي يوحد أعماله القصصية ويطبعها بهذا الطابع المتميز (14) إلا أن اختباءه يجعل القارئ ـ وهو مأخوذ بصدق الأحداث الواقعية ـ لا يشعر أن وراءها ما يوحد بينها، ويدفعه الى الاعتقاد بأن كل واحدة منها تقدم عالماً جديداً لا يمت الى غيره بصلة، وهو ما يستدعي من الناقد معالجة جديدة لكل قصة من قصصه. وإذا لاحظ جامعاً يجمعها فهو مما يتصل بالأفكار المباشرة التي تطرحها(15). فالشيء الذي يجمع بين قصصه لدى الدكتور عبد الإله احمد يتصل بالموضوع الاجتماعي والإنساني الذي تعالجه قصصه، وأنه أراد أن ينبه الى خطورة أو أثر هذه النواحي التي يعرضها في الحياة العامة، وقد لا ينتبه الى ما يكمن وراءها من رؤية سياسية وفلسفية تعبر عن موقف القاص وتفسيره للأحداث التي مرت على المجتمع. وهو يرى أنه اتجه الى الاهتمام (بالقضايا السياسية العامة بعد نكبة حزيران 1967، فكتب قصة وثلاث مسرحيات تعالج هذه القضايا، ولا يعني ذلك أنه تخلى عن موقفه الفكري وطبيعة اهتماماته التي كتبها منذ بدء حياته الأدبية(16)) والموقف الفكري للقاص وطبيعة اهتماماته هي كما يرى، ما عبرت عنه قصصه بصورة مباشرة. ويرى الناقد فاضل ثامر أن رؤية القاص وموقفه تنكشف من خلال سياق الأحداث أو انحيازه الى موقف الشخصية، وهي رؤية وموقف يتصلان بعالم الشخصية الفردية إذ يجد لديه حرصاً وولعا بها(17). ويفوت الدارسين الأفاضل أنه يصرح بنفسه بأنه لا يتفق مع مواقف بعض أبطاله وأنه يرفضها ويصطدم بها. فهو يصف موقف محمد جعفر بطل (الوجه الآخر) بأنه جبان ولا أخلاقي(18)، وهذا يبطل تفسير من ذهب الى أنه يقلب أفكار البطل كثيراً ليقنع نفسه والقارئ بها(19). كما أنه يستنكر التصرفات الجنسية الشاذة التي اهتم أدبه بتناولها، والتي تفهم بأنها تناول جريء يريد القاص أن يتحدى به الأعراف الأخلاقية كما يتصور الدكتور عبد الإله احمد، حتى أن كان على هذا النحو الشنيع الذي يسوغ أن يفكر أب في ابنته، مع أن مثل هذا الحكم لا يستقيم لصاحبه إن لم تسنده معرفة شخصية بالكاتب تتيح له أن يذكر عنه هذا، وهو الذي يقول إنه يفتقد (المعلومات تماماً عن حياته الخاصة التي يحرص على أن لا يكشفها. كما أنه رغم حرصه في الفترة الأخيرة على توضيح نواح في أدبه تعين الدارس على فهمه، لم يتطرق الى هذه الناحية قط. وذلك يعود كما هو واضح الى ما في طرح مواضيع من مثل هذا التنوع على نحو مباشر من خطورة قد تؤدي الى زجه في مشاكل هو في غنى عنها. ومعروف عن فؤاد التكرلي الحذر، وقصصه ذاتها لا تكشف عن هذا التعاطف والتبرير على نحو يدهم القارئ، وإنما هو أمر يمكن تحسسه تحسسا، والتعرف عليه يقتضي تأملاً في هذه القصص… وعمله القصصي ـ مما وقفنا عليه ـ الذي تناول هذه العلاقات على نحو فيه الكثير من المباشرة والوضوح وهو نصه (بصقة في وجه الحياة) لم ينشره20)).
إن تناوله لهذه العلاقات الشاذة في أدبه يفسره هو عندما سئل عن اهتمامه بها بأنه لا يقصدها بنفسها، وإنما جاءت على سبيل الرمز، وأوضح أنه استغلها رمزاً في قصته التي قال إنه يفكر في نشرها وهي (بصقة في وجه الحياة). ثم بين أن غايته من طرح هذه المواضيع إثارة القارئ ليفكر فيما وراءها(21). لقد كان القاص يستغل هذه العلاقات رمزاً للتعبير عما يريد وهو يحتذي في ذلك التقاليد الفنية التي يحتذيها غيره، وقد تأثر بطرائقهم الفنية، ونذكر لنجيب محفوظ ـ مفسراً إحدى إشارات قصصه الاجتماعية تفسيراً إيحائياً ـ قوله: (لقد كنت استغل الشذوذ الجنسي في ذلك العهد كعلامة من علامات الفساد السياسي في العهد البائد… في السياسة مثلا… كان الشذوذ يصاحب الانحلال خطة خطوة… وكانت مهمتي هي الإحاطة الشاملة بهذا الانحلال وتسجيله(22).) فلم يكن تناول هذه المواضيع في أدبه اهتماماً من القاص بها، ولم يكن يضرب على وتر الجنس ليستغل السذج والمحرومين والمراهقين، كما يدفع عنه الدكتور علي جواد الطاهر(23)، الذي وجد في إلحاحه على الجنس ما يثير الانتباه ويدفع الى الاعتقاد بأنه خيال لا واقع، وقد أثار انتباهه كذلك تناوله للغريب والنادر من الأحداث والموضوعات. وانه يعرضها ليحملها فلسفته وتفكيره، فهي فلسفة أكثر منها قصة، يختار لها الحالات الحادة في الإنسان(24). ويقوده هذا التشابه في أجواء قصصه وفي شخوصها، والأفكار التي تحملها الشخصيات الى أن للمؤلف في شخوصه حكمة وفي قصصه غاية، وقد تكون أدواته رموزا لا يستطيع حتى القارئ غير الاعتيادي تبينها. ويؤكد أن المؤلف يبين في أحاديثه الخاصة أنه يقصد شيئاً ولكنه لا يتضح حتى للقارئ المتعمق. فالكاتب يبالغ في الإخفاء فيخفى وإن بالغ القارئ في محاولته كشف الخفايا.
لقد ارتضى التكرلي لأدبه ان يعبر عن المعاني العميقة الكامنة وراءه، ولم يفارق هذا المنهج منذ أول عمل ناجح نشره (العيون الخضر)، ومنذ أول عمل ناجح لم ينشره (بصقة في وجه الحياة) وهو سبب الغرابة التي اتصفت بها قصصه، والجواب عن التساؤل الذي أثير حول طبيعتها الخاصة. والتفسير للحيرة التي تلف القارئ بعد انتهائه منها: (لذلك نرى القارئ يقف عند انتهاء قراءته لهذه القصص يتساءل، وماذا بعد ذلك؟ دون أن يجد جواباً لهذا السؤال المعلق سوى هذا الصدى الحزين الذي يضج في أعماقه وهو يرقب نهاية الأبطال الفاجعة التي ينتهون إليها في الأكثر(25).) وينتبه الى أن وراء قصصه ما تقوله لكنه لا يمكنه التعرف إليه بسهولة: (كما أن القارئ لا يستطيع أن يجيب بسهولة عن سؤال ماذا أراد أن يقول فيها(26)؟..).
وقد أعلن التكرلي عن منهجه هذا لمن يريد أن يعرف سر فنه منذ (الوجه الآخر)، فقد صاغ بهاتين الكلمتين القاعدة التي يستند إليها فنه القصصي، ففي هذا الاسم (إلماح الى الفلسفة الكامنة وراء الفن، المنسابة خلاله(27).) فهو يختار الحدث الصغير وربما التافه ظاهراً ويديره ضمن فكرة شاغلة شاملة لما هو أبعد من الحياة في ظاهرها. وتطالعنا الأحداث عراقية، وعراقية صرف، مما شهده الكاتب أو عاناه أو عرض له في سوق أو شارع أو محكمة، ولكن أبعادها تنفذ الى ما وراء الواقع(28). لقد تمكنت من الكاتب أفكاره، وهي شاغله، وعليها يدير فنه ويتصرف بمادته، ولا يستفز صاحبها من الأحداث الا ما يشي بها. وقد سوغ هذا وصف قصصه بأنها فلسفية، ولك أن تطرح لفظة الفلسفة لضخامتها التي قد تجور على مفهوم الإبداع الأدبي وتستعيض عنها بالفكر، الفكر الذي نفذ الى السر خلال الركام واكتشف الدائم وراء المتغير، ورصد الخالد في اليومي. وهو يترك للقارئ أن يفهم القصة بالقصة نفسها، ويحيل عليها راضياً بما تقول، ولا يريد أن يكون صريحاً ويقول مباشرة ما عنده. إنه كتب وفكر وعلى القارئ أن ينفذ الى الفكرة خلال البناء المحكم، فإن بلغها على وجه من الوجوه فيسره ذلك. ولكن قد يخفى المغزى على القارئ وقد يزداد خفاء لحذر في المؤلف يبعد به عن الإعراب الصريح حتى يقال إن القاص يريد أن يحتفظ بسر أعماله لنفسه وانه قد يقول لمعلق: نعم مجاملة للظروف وهو يريد لا، وقد يقول لا، وهو يريد نعم(29).
إن الرمز هو الظاهرة البارزة في فن التكرلي، ونستطيع أن نحمل عليه ما يبدو في ظاهره خارج نطاقه. بعد أن أصبح بيدنا مفتاح أدبه وهو أنه لا يمكن أن يكتب إلا ما يعبر به عن أفكار تستوعب الأحداث الظاهرة، وتفسرها وترمز إليها هذه الأحداث وقد ذكر أنه وجد الرواية أنسب من القصة القصيرة لعرض أفكاره إذ تتيح له فرصة كبيرة للتأمل والتفكير لأنها تعبر عن عالم أوسع من المألوف في الأقاصيص. وفيها من الشخصيات والحوادث المعقدة ما يشد القارئ مدة غير قصيرة. وهي تؤثر في فكر القارئ أكثر من تأثير الأقاصيص لأن هذه ذات تأثير سريع غالباً ما يكون وقتياً. لهذا وجد نفسه محتاجاً الى هذا الشكل القصصي أكثر من غيره ليعبر عن أفكاره ووجهات نظره في الحياة وهذه لديه كثيرة واسعة لما عرف عنه من انغلاقه على ذاته وإطالته التأمل في مناحي الحياة المتشعبة(30).
وقد كتب ثلاث روايات عن مراحل في التاريخ السياسي الحديث، وقد عبر الرمز عن أحداثها. ونود أن نقف هنا وقفة سريعة عند الرمز في روايته الأولى والثانية قبل أن نتحدث عن الرمز في روايته الثالثة (خاتم الرمل) التي نخصها بوقفة طويلة . إن هذه الروايات الثلاث امتداد زمني متصل، كل منها تمثل مرحلة تسبق التي قبلها. والقوى السياسية التي مثلتها شخصيات الرواية الأخيرة تتصل بالقوى أو الشخصيات التي حركت الأحداث في الروايتين السابقتين. وتمثل شخصية المرأة ـ وهي أداة رمزية تقليدية في الأدب ـ في هذه الروايات رمزاً سياسياً بارزاً(31). ودلالتها الرمزية لديه كما لدى بعض من كتاب القصة العراقيين والعرب وغيرهم. فقد جاءت المرأة لديه كما جاءت (سها) مثلاً في (الرسائل المنسية) لذي النون أيوب رمزاً للبلاد والعقيدة السياسية. فهي في روايته الأولى (الوجه الآخر) رمز لبلاده ولقضيتها الوطنية التي كانت تتعرض لمحنة قاسية في عهد الاستعمار، تمثلها زوجة البطل (محمد جعفر) التي فقدت بصرها في أثناء الولادة، ولكن زوجها بدلاً من أن يأخذ بيدها ويبقى معها في محنتها وعماها ـ وعماها يشير الى حاجتها الى الهداية ـ خذلها بالتخلي عنها وطلاقها. والقاص يشير الى ترك مصير البلاد ـ وهي في حاجة الى من يقودها ويأخذ بيدها ـ ضد المستعمر الأجنبي. وهو تخل عن المنهج الصحيح الشريف وتفكير في الانغمار في مسالك غير شريفة (تفكيره بإقامة علاقة مع سليمة زوجة المرابي هاشم) مع أن النصرة كانت متوقعة منه قبل غيره لأنه أقرب إليها من غيره. والقاص يشير الى أن فئة المتنورين الذين يمثلهم في الرواية محمد جعفر، والذين يرجون لإنقاذ البلاد، لم يفكروا في أن يهبوا النور لبلادهم في ظلمتها الحالكة. وهكذا كان البطل مع زوجته. وقد بيّن لنا القاص من خلال بعض أحداث أخرى في الرواية أنانيته وعدم نصرته لمن يحتاج الى هذه النصرة، وهو يقارن بينه وبين إسماعيل عامل المقهى الذي لم يقره على تصرفه حيال زوجته، والذي كان سينجد المريض الذي خذله البطل لو كان قد التقاه، ليقول إن الطبقات الشعبية غير المتنورة كانت أكثر استعداداً لنجدة البلاد والأخذ بيدها. وأرى أن هذا المعنى يكمن وراء قصته (العيون الخضر) لأنها تؤرخ للمرحلة نفسها. والمرأة المستباحة (البغي) صاحبة العيون الخضر، تمثل الرمز نفسه الذي مثلته زوجة محمد جعفر. فهي رمز للبلاد التي استباحها المستعمرون الطامعون (بعيونها) وكنوزها. وكانت تكره هؤلاء الذين ينتهكون جسدها وحياتها، لكنها أحبت واحداً ممن يرتادونها، وكان يبدو لها من أحاديثه معها أنه يعطف عليها أو لعله يحبها ويفكر بإخلاص في مصلحتها ولا يرضى لها الحال التي هي فيه، ولم يفكر باستغلالها وإذلالها. وعندما أرادته (ولم تكن تهوى سواه) ليتزوجها ويخلصها من واقعها، وهو الذي يعرف داءها ودواءها، لم يأتها وما حصل اللقاء. فهو يمثل الفئة المثقفة التي كانت تفهم الحال وتحسن تشخيص العلة وبيدها الدواء الناجع ولكنها لا تقدم على الفعل. وهذا التصرف ومثله لدى شخصيات التكرلي دفع الدكتور علي جواد الظاهر الى أن يتساءل عن غرابة هذا التصرف، ففي حين يمكنها أن تتصرف تصرفاً معيناً تفعل غيره، فهي شخصيات غير اعتيادية، والقاص ينتقي مواطن الغرابة في الحوادث والشخصيات أبداً(32). وينبه الى أن وراء (الوجه الآخر) أفكارا وفلسفة، وأنها (تدخل في القصة الفلسفية أكثر مما تدخل في القصة النفسية. وإن كان المؤلف من القدرة بحيث جعل للفلسفة نفساً وللفكر ارتعاشاً(33)) وهو يترك للقارئ اكتشاف ما وراءها من فكر وفلسفة. ويذكر أنها تعبر عن مرحلة تسبق ثورة تموز 1958، ويصف التكرلي بأنه فنان مفكر(34).
وأرى استكمالاً للتفسير الرمزي لقصة (العيون الخضر) أن القاص يشير بأصل البطلة (من إيران) الى العلاقة والارتباط التاريخي بين العراق وإيران.
أما الرواية الثانية (الرجع البعيد) التي تصف مرحلة أخرى هي مرحلة الحكم الجمهوري بعد ثورة 14 تموز ، 1958(35) ، وفيها تتعدد المواقف تجاه البلاد والقضية الوطنية التي مثلتها (منيرة) في الرواية.
فمدحت يمثل شخصية عبد الكريم قاسم أو القوى الوطنية التي استطاعت أن تصل الى حكم البلاد (زواجه من منيرة) وأن يحقق أحلاماً طالما صبا إليها. ولكنه قسا عليها ، قسا على القوى الوطنية ولم يبد استعداداً لتفهمها ومحاورتها وهي التي آمنت به وعولت على ثقتها فيه ومحبته لها ، خصوصاً أن سبب صده عنها أو موطن خلافه معها هو من حيث الأذية التي لحقتها من القوى المعادية التي مثلها في الرواية (عدنان) ، وهو من بقايا طبقة الإقطاعيين الذين حاربهم الحكم الوطني وهم أذناب الاستعمار المرتبطين به الذين أضمروا للحكم الوطني العداء وبيتوا له أمراً ودبروا للقضاء عليه. ويمثل عدنان هذه القوى التي ارتكبت جريمة بشعة في حق البلاد والقوى الوطنية. ولانرى في اعتدائه على خالته (منيرة) ميلاً من القاص الى الكتابة عن هذه العلاقات الشاذة التي لاحظها من كتب عن أدبه ، فقد كانت رمزاً في فنه القصصي يستغلها كما استغلها غيره ليدل على همجية هذه القوى وجرأتها على انتهاك الحرمات وبشاعتها. ولعل للاسم (عدنان) دلالة على الهوية السياسية التي تمثلها هذه القوى ، إذا كانت تدعو الى القومية العربية.
ومن القوى التي كانت تتمنى زوال الحكم الوطني (إذ الرواية تربط الأحداث بهذا الزمن) قوى الرجعية التي يمثلها حسين الذي كان في سكر دائم ، ولم يكن له أي دور في الحياة حتى تجاه أقرب الناس إليه – زوجته وأولاده – والذي كان يعيش في حياة أقرب الى الحيوانية. ولكن هذا الشخص أو هذه القوى انتعشت بعد سباتها بالقضاء على الحكم الوطني وقررت أن تصحو بعد سكرها وانسلاخها عن الحياة لتزج بنفسها في الأحداث بعد أن كانت عاجزة عن المواجهة ، وكانت تلتقي مع عدنان – القوى المدبرة – في أوكار الظلام (حانات الليل).
لم يتفهم مدحت المثالي المتمكن المتنور فتاة أحلامه التي نالها والتي وجدته أنسب الجميع لها من بين كل من هفت نفوسهم إليها فجفاها وابتعد عنها. ولكنه في خلوته الى نفسه – وقد أدرك تقصيره تجاهها – يقرر العودة إليها والاعتذار منها على عدم تفهمه لها وصده عنها. وهذا يعبر عن تفسيرات تشير الى أنه كان هناك تفكير من الحكم الوطني آنذاك بالتقارب مع القوى الوطنية التي اختلف معها بعد اتفاق ، ورغبة في نبذ الخلاف وتجاوز ما كان. ولكن انتباه القوى الأخرى لعلائم هذا التقارب ولبوادر هذه الرغبة ، وخوفها من هذا التقارب حتى لو لم تر بوادره لأنها هي التي عملت على بذر أسباب الخلاف والفرقة عجل في سعيها الى الإطاحة بهذا الحكم وكان أن انتهى مدحت في يوم 14 رمضان وهو يقطع الطريق الى حبيبته وزوجته منيرة. وكانت هنالك عبارات تدور على ألسنة بعض شخصيات الرواية تشير الى دأب أعداء الحكم القائم – داخليين وخارجيين – على العمل للإطاحة به في أسرع وقت ممكن فنسمع من أحدهم أن ساعاته محسوبة عليه. وقد أراد التكرلي من ربط الرواية بهذا الزمن التنبيه الى أنها لاتؤرخ له بهذه الأحداث الواقعية اليومية المباشرة إنما بالأحداث السياسية التي تشير إليها رموز الرواية.
ويبقى بعد هذه النهاية المحزنة لمدحت بطل الرواية أخوه (عبد الكريم) ممثلاً للقوى الوطنية بعده التي يمثلها بطل رواية (خاتم الرمل) فهو امتداد له. ويلاحظ دلالة الاسم على القوى الوطنية ، ثم قرابته من مدحت وكونه أخاه ومحبته مثله لمنيرة وتمنيه للزواج منها ولكنه شخصية سلبية لا يمتلك إرادة (مدحت) بطل الرواية وقدرته على الفعل ، لهذا لم يفز مثله بمنيرة التي طعنت في آمالها وخربت حياتها وغام مستقبلها ولم يبق معها خاطباً ودها بعد موت مدحت إلا عبد الكريم ، وهي لا تؤمن بقوته وتلمس ضعفه وتردده ومن هنا كان حزنها ويأسها. وهكذا تنتهي المرحلة الثانية من مراحل التاريخ السياسي للعراق وتبدأ المرحلة الثالثة التي تؤرخ لها أو تتحدث عنها روايته (خاتم الرمل) وهي محاولته الثالثة في عالم الرواية وقد صدرت عن دار الآداب في العام 1995. وظاهر الرواية يحكي قصة المهندس الشاب هاشم الذي يعيش مع أبيه وعمته، وقد فقد أمه وهو في سن العاشرة تقريباً بسبب عراك مع أبيه لذا حمله المسؤولية عن وفاة أمه. وقد أثرت هذه الحادثة في حياته وسلوكه، ولهذا نجده متحفظاً في التعامل معه ومتوتراً في علاقته به ولا يستجيب لتحسين هذه العلاقة. وهناك خاله (رؤوف) المسن الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني والذي ينوي الدخول الى دار العجزة لأنه ليس له من يخدمه. والرواية تركز على حادثتين في حياة البطل، الأولى في الطفولة وهي حادثة وفاة أمه. والثانية بعد أن أصبح شاباً يحمل شهادة في الهندسة كما أرادت له أمه، وهي حادثة زواجه، إذ يغيب عن حفل الزواج بعد حضور أقارب العروسين وأصدقائهما، فكانت صدمة للجميع لاسيما العروس وأهلها. ومع هذا لم يحاول تقديم تبرير معقول لما فعله، ولم يعمد الى إنهاء علاقته بها، كما لم يصلح الموقف فيبادر الى الاعتذار وإتمام الزواج، فبقيت الفتاة معلقة. ولذا تحاول ابنة عمها أن تقنعه بطلاقها لأن هناك من يطلبها، وهذا قادر على إيذائه إن لم يفعل. ويتحقق كلامها إذ كان هناك من يلاحقه وينوي إزاحته. وتنتهي الرواية وأحدهم يصوب مسدساً إليه ويهم بقتله.
ظاهر أحداث الرواية لا يقنعنا بأنها رواية (أحداث) تهتم بأن تقدم أحداثاً مشوقة، تتشابك وتتعقد فتشد القارئ، فماذا في مشروع زواج لا يتم، وموت امرأة في عراك مع زوجها؟… وإذا قلنا إنها رواية نفسية تهتم بتحليل سلوك الشخصيات، وهذه تستطيع أن تؤدي ذلك ليس من خلال تقديم ما يثير ويشد القارئ من الحوادث، وإنما من خلال التركيز على الدوافع النفسية حتى لو جاءت من خلال أحداث بسيطة، فإن الرواية تعجز القارئ ـ بغرابة تصرف شخصياتها وأحداثها ـ عن التحليل النفسي الذي يستند الى تفسير صحيح. وهي تعمد الى إشعاره بهذه الغرابة، وتعمد الى سد باب التفسير النفسي لكي تصرف القارئ الى التفسير الرمزي وتنبهه الى (الوجه الآخر) لما يلوح من ظاهر الأحداث، الى المعاني المقصودة، الكامنة وراء ظاهرها. وهي علة ما تتصف به من غرابة وشذوذ إذ وجهت البنية الموضوعية والفنية توجيهاً خاصاً وطبعتهما بطابعها.
في هذه الرواية تستخدم كل عناصرها استخداماً رمزياً. ومن خلالها يطرح القاص رؤيته السياسية للأحداث المعاصرة، وفيها يستعرض القوى السياسية التي تواجه هذه الأحداث. فبطل الرواية (هاشم السليم) يمثل بعض أجنحة القوى الوطنية، ولعل في تمثيل هذه القوى ببطل الرواية إشارة الى أنها القوى الرئيسة في ساحة الأحداث. وهو يحمل صفات (عبد الكريم) في (الرجع البعيد) وأنه امتداد له كما قلنا. وهو يمت بصلة الى بطل (العيون الخضر) ويمت بشيء منها الى (محمد جعفر) بطل (الوجه الآخر). ومن صفاته التي تذكرها الرواية: التردد والضعف، فهو لا يتخذ قراراً وينفذه، لا يرغب في الحركة والعمل، ساكن عاجز متكاسل، يضعف عن المواجهة. يعرف أن التفوق الذاتي لا يبرهن عليه سوى العمل لكنه لا يسعى الى المبادرة. إيمانه ثابت لكن بدون أن ينعكس في التصرف. يرى صعوبة في التنفيذ، يخطط لآماله لكنه لا ينفذ. أفكاره جيدة لكنها غير قابلة للتنفيذ، لا تلائم الظروف. يعتقد أن لديه أفكاراً للتغيير وقدرة على العمل الا أن اعتقاده لا يتجلى على مستوى العمل. كل الناس تصل الى غاياتها إلا هو لانفصال بين إيمانه وتصرفه. وإن تناقض الاسم الذي منحه له القاص يحمل تناقضه في الفكر والعمل. يعتريه الشك ولا ينسجم مع العالم، وانه يرغب في الوحدة. شاعري يشغف بالشعر والفلسفة. غير واقعي لا يحس بالمحنة وبالخطر، لا يمتلك الحنكة التي تقتضي الاحتياط. مثالي لا يندمج بالحياة، قليل الخبرة بها. له فكر سام ومشدود الى آراء عالية نقية، لكنه لا يقدر الظروف تقديراً صحيحاً. يعيش في فكره لا في واقعه. مثالي لا يعد للصراع عدته. يهمه اكتماله في الفكر. لا يبالي بالخطر. لا يتكلم بمنطق من يبرر الهزيمة، يردد أفكاراً مثالية: لا طريق وسطاً.. طريق صعود او هبوط. يتحدث عن الأمل. يخطئ في اختيار الطريقة ويخطئ في اختيار الناس. يعيش قلقه وأسئلته. له حماسته وقدرته الذهنية. يفكر بعمق بأفكار فلسفية، يقلب الأمور. يحس بالتفوق ويدرك إمكاناته الذهنية. التجربة التي مر بها والتي اغتسل بمياهها ترسم فيه ملامح إنسان جديد. أفكاره ليست لزمانها. مأخوذ بالهم لا يحس بالراحة. يحس بالإرهاق وبالقلق، لا ينام. سوداوي وقد يكون غامضاً في رأي الآخرين. سمته الحزن والسكون وقد يحس بالعبث وبالضياع فيتمنى الموت أحياناً.
إن البطل بهذه الأوصاف يمثل القوى الوطنية التي ليس لها القدرة على الفعل بسبب طبيعة تكوينها الذي يسهم فيه انتماؤها الاجتماعي، وعقدة فشل تاريخية تعزز شعورها بالعجز، تشير إليها حادثة وفاة أمه بسبب ضعفها المتأصل في طبيعتها.
أما ما تدور حوله الأفكار التي تشغل بال هذه القوى الوطنية، فتمثله في الرواية (آمال). ويدل اسمها على أنها آمال وأحلام هذه القوى، وأنها تسعى للارتباط بآمالها، أي تحقيق تلك الآمال الى واقع. ولكن هذه القوى وبسبب ضعفها وترددها وعدم انسجام تفكيرها مع الواقع وعدم تقديرها الحسن للظروف، وعدم مواتاة الظروف لها، تخذل آمالها في الوقت الذي كان مقدراً لها فيه أن تتوج الأمل باللقاء والاقتران الذي لا ينفصل. فقد هيأ البطل لهذا الحلم، وبنى له ولآمال بيتاً (الرواية، ص100ـ101). ولكنه يخيب ظن (آماله) وينسحب متوارياً عن العيون، ويستحيل خاتم الزواج الى خاتم من رمل.
ونلاحظ أن آمال لا تظهر في الرواية الا بنحو محدود، ومن خلال تفكير البطل عندما يستذكر بداية تعرفه عليها(ص15)، لأنها لا تعيش الا في فكره، وإن التقت به فحينما كان غائباً عن الوعي في المستشفى (ص144). فلا علاقة للبطل بها الا من بعيد. وهذا يفيد بعدها عنه وعدم لقائه بها، فقد ظلت غائبة عن الأحداث، ولا يتعامل معها الا من خلال سلمى قريبتها (ابنة عمها) التي تتصل به لتحديد علاقته بها او لإنهاء علاقته بها. فسلمى تمثل آمال، نائبة عنها، أي ان البطل لا علاقة له بآمال الا من خلال (القطيعة) بها التي تسعى اليها سلمى. وهي تسعى للقائه لمصلحته ومصلحة آمال (ص61)، تسأله: لم تجشم من العناء في الوقت والجهد والمال من أجل الزواج بآمال. وما سر خذلانه لها وتنكره في اللحظة التي كان يتمناها (ص67). وتخبره أن هناك شخصاً يمتلك نفوذاً واسعاً يريد آمال (كناية عن القوى التي تسعى الى إزاحته ومنعه من تحقيق آماله الى واقع) لكنه هو العقبة. وهذا الشخص قادر على إيذائه إن لم يتخل عنها. ثم إن سلمى تقدر قوة هذا الشخص، تعرف قدرة القوى البديلة، وتشفق عليه منها لأنها لا تريد إيذاءه، بل تريد مصلحته وتجنيبه الأذى(ص73)، وهو يشير الى موقف سلمى المتعاطف معه، فهي (صريحة، مستقيمة، وتحترمه.)(ص125) لكنها تخبره بأن الواقع والأساس التاريخي يهم بتجاوزه (ص72).
ونلاحظ كذلك عدم ظهور آمال مع سلمى، فحين تم الاتفاق على أن تلتقيه هي وآمال، لم تأت آمال في موعد اللقاء (ص115)، لأن سلمى هي الوجه الآخر لآمال، هي آمال نفسها، ولكنها وهي تروم انهاء العلاقة والتفاوض معه، فهي لا تلتقي به الا لغرض فك ارتباطها به. وهو يصف سلمى بأن لها قدرة على النفاذ الى داخل الأشياء (ص119). وهي تريد نقطة التقاء أو اختلاف وفراق(ص120). وكانت أكثر منه استجابة للحوار، ولكنه يرفض ذلك ولا يحدد موقفه(ص132). وأنها تتوقع أو تنتظر منه مبادرة تغفر لتهاونه القديم (ص124)، ولكنها لا تؤمل فيه خيراً وإن كانت تأنس إليه (ص74). وأخيراً صممت على إتمام الطلاق إذ لم تجد فائدة منه (ص126ـ 127)، لأنه يتذرع بالصبر (ص129).
أما أم البطل (سناء) فهي رمز له دلالته. ولعل قرن اسم أمه بها كلما ذكرها يريد منه القاص أن ينبه القارئ على أنها رمز لا حقيقة، فهو يستعمل طريقة كطريقة (التغريب) في (المسرح الملحمي) التي ينبه بها المشاهد على أنه لا يرى واقعاً، وأن عليه أن يعمل ذهنه ويفكر فيما وراء الحقيقة المعروضة أمامه. فالبطل يذكر اسم أمه حين يذكرها لخاله(ص15)، يقول له: أمي سناء. وكأن خاله لا يعرف أن أمه سناء. وحين يكلم نفسه (ص103،153). وهو يذكرها باسمها حتى حين يكلمها (ص27). فهي رمز له دلالته ـ كما قلنا ـ ويفصح بهذه الدلالة اسمها، فهي تمثل المثل العليا التي منها يستقي. وهو يصفها بأنها الصراط المستقيم الذي لا ينحرف (ص6). وهي النقاء المطلق (ص103) يتجلى في (وجهها الرائع الصفاء) (ص22). ويذكرها بأنها السماوية (ص34). وأنها (بالغة الرقة واللطف والضعف والاستكانة والتعاطف والانهيار.)(ص20). هي رمز للأفكار التي تسيطر عليه ولا تريد أن تتركه لغيرها (ص59). أرادت أن يكون مثل أبيها، وقد خططت لتنشئته مثلما تريد (ص60). وهي ميتة (أي ماضية) لكنها تعيش في داخله وهو امتداد لها، فهي تمثل الأفكار التي يمثلها ولكن في مرحلة ماضية. هو امتدادها الحاضر، وهي جذوره الماضية التي قضى عليها ضعفها، كما سيقضي عليه ضعفه في عمرها نفسه ومصيرها نفسه. وهو في نظر خاله وسلمى كذلك امتداد لأمه (ص92)، فإنها قد تملكته(ص136). وهي في نظر خاله ضعيفة الإرادة لا قدرة لها على التحمل (ص87، 91) وقد عانى هو (أي خاله) ووالدها من ضعفها، ولولا استمرارها في من يمثلها في الحاضر (في البطل) لما عاشت (ص88). ولم تكن منسجمة مع أبيه، لا تلتقي به، ثم أنه قضى عليها في نظره، ولذلك هو يكره أباه لأنه سبب موتها (ص30،34) ويعتقد أن أباه يكرهه كما يكره أمه (ص49،87).
أما خاله رؤوف ، فهو الجانب الآخر للأفكار المثالية التي تمثلها أمه، فهو أخوها، وهو مثلها، لكن فيه اختلافاً عنها. إنه يمثل نموذجاً آخر للقوى الوطنية التي تواجه الأحداث التي يعرضها القاص. يصفه بأنه جاوز الثمانين سنة 1976. والعمر له دلالة هنا، إذ يشير الى عمر هذه القوى الناهضة التي أرادت الخروج بالأوضاع عما كانت عليه في عهود الظلمة والتخلف والركود. هو ضابط في الجيش العثماني – إشارة الى الفعل العسكري - يكتب أشعاراً حماسية تناهض السلطان حتى أخاف السلطان. وكان شعلة لا تنطفئ (ص14،18). عضو في جمعية سرية، سجن وتعرض للقتل، لكنه منتبه واع لا يغفل فأنقذ نفسه (ص15)، إشارة الى أن هذه القوى لم يطح بها الحكم القائم وإنما هي التي أطاحت به ، لكن دوره الآن انتهى ويريد الدخول الى دار العجزة، إشعارا بانتهاء مرحلته وتأثير الأفكار والأفعال التي يمثلها (ص17)، إذ أن العالم لم يعد يطيقه (ص47). كانت أمه تعرض عليه أموالاً يرفضها. كانت أمه غنية وهو ليس كذلك، إشارة الى انتسابه الى القوى والأفكار الشعبية. أما البطل وأمه فجذورهما بورجوازية، وبقي ممثلاً لهذه البرجوازية بالثروة التي تركتها له والتي مكنته من أن يشتري بها حصصاً من أسهم الشركة التي يعمل فيها. ويمثلها بمهنته (مهندس)، ويمثلها من خلال مهنة أبيه. أما خاله فهو جانب آخر لهذه الأفكار المثالية والقوى الوطنية التي تمت الى الطبقات الشعبية (ص24،131)، محترم، يحبه الجميع، والمارة يحيونه باحترام(ص50). لا يعيش من معونة أحد (ص47). تسخر منه الدنيا فيجيبها على سخريتها بسخرية (ص56)، لكنه قد يبدو للبطل غامضاً (ص50).
ولأنه يمثل الأفكار المستقيمة المرتبطة بالطبقات الشعبية، لذا فهو يختلف عنه وعن أمه وقد يدينهما من خلال نظرته الصائبة ولا يرضى عنهما. وله موقف منهما كموقف إسماعيل عامل المقهى من محمد جعفر في (الوجه الآخر). ولذلك قد نجده يتبرم بخاله، وهذا يشير الى عدم انسجامهما وعدم رضى أحدهما عن الآخر (ص89)، إذ أن خاله يذكر أمه بما لا يرضيه(ص91). وهو لا يدين زوجها (أباه) بموت أمه لأن ضعفها هو سبب موتها في نظره، لذلك لا يرضى على ما يبدر منه من عدم احترام لأبيه ويعاتبه على موقفه منه (ص17،48،49) ويرى أن فيه من أمه، من ضعفها ورقتها وبعدها عن الواقع (ص92) أو عن المسار الدنيوي. لذلك يترك البطل خاله ويراه متحجراً (ص112). ويقرر فراقه (ص106،152). وهو ينظر الى ابن أخته بأنه يخطئ في الطريقة واختيار الأشخاص. ويقومه بدقة ويعرف نواقصه (ص57). ونلاحظ اقتران سلمى بخاله، فنظرتهما إليه واحدة، وهي تستند الى معلومات خاله عنه، ونرى أن خاله يفهمه أكثر الجميع (ص118،121) لأنه ضمير الناس البسطاء. ويصدر خاله في رأيه فيه وموقفه منه من نظرته العامة الى الناس، فهو لا يحب الضعفاء، وهؤلاء هم القائمون في نهاية الطرف الأقصى للضعف والقوة: المستكين والطاغية، فهذا الأخير ضعيف عنده إنسانياً لأنه يخاف باستمرار فيتحول الى طاغية. وهناك المخاتلون في ضعفهم، ضعفاء يخفون ضعفهم بطريقة او بأخرى، يستعملون طرقاً ملتوية للظهور بمظاهر أخرى (ص85). وأخيراً نعرف عن خاله أنه في المستشفى وهذا يشير الى قرب انتهاء ما يمثله من أفكار وأفعال .
أما الأب وهو لدى غير التكرلي رمز لمن يتولى الأمر والمسؤولية(36) فهو كذلك لديه. كان البطل وأمه في خصام معه لأنهما يختلفان معه. كان يكره أباه وكلماته لأنه سبب وفاة أمه (ص30،34،49). وهو تفسير لم يرض خاله الذي يرى ـ كما قلنا ـ أن ضعف أمه هو السبب في ما حدث. كان أبوه في رأيه يمثل الوحشية في حين كانت أمه تمثل (السماوية). وهو يصف أباه بأنه مجمع سفالات بشرية لا تجتمع في أحد (ص34). ويحس أبوه أنه يكرهه ويستعجل موته (ص28) ويقول إنه ألحق الأذى باسمه وسمعته(ص48) فقد ألحق به فضيحة وأن الناس تحاكمه هو بها (ص27) في حين أنه لم يرض عن تصرف ابنه.
هناك ترميز للأشياء: المطر والظلام إشارة الى ظلمة الأوضاع والأجواء. والسيارة وحديثه الذهني فيها إشارة الى معايشته للأحداث في خلال تلك الأجواء المظلمة. وترميز للمكان والزمان وإشارته الى عمره وعمر أمه وخاله (ص53) يريد منها التأكيد أن الأحداث التي يعبر عنها بالرمز تنتمي الى تلك المرحلة. وتحديده الزمن في الرواية يريد منه التنبيه الى أنه يتحدث عن أحداث هذا الزمان. أما نهاية الرواية ومحاولة تصفيته من قبل هذه القوى (السيارة السوداء التي كانت تتبعه في الظلام) التي حذرته سلمى منها فهو إشارة الى انتهاء دوره وتجاوزه على يد هذه القوى التي تسلمت مقاليد الأمور وهذا ما نستطيع الحديث عنه من المعاني الرمزية للرواية التي تعبر عن رؤيته السياسية.

البنية الموضوعية:
الاتجاهات الموضوعية للرواية:
(1) الواقعية
قلنا إن المعاني الرمزية في أعمال التكرلي هي (الوجه الآخر) الذي يستره وجهها الظاهر، وهي التي توجه فن التكرلي بمستوييه: الموضوعي والفني البنائي. ويتجلى المستوى الموضوعي في الرواية في اتجاهات أخرى غير الاتجاه الرمزي أهمها الاتجاه الواقعي الذي يغلب على الاتجاهات الأخرى التي تلوح في أدبه. فالواقعية هي الاتجاه البارز أو الظاهر في أدب التكرلي، وقد اختاره ليعبر به عن موضوعاته التي تفصح عن رؤيته العامة وهي ما طبع كل أدبه، ومنه رواياته الثلاث ، فلقد حدد لأدبه أن يعبر من خلال الواقع المحلي والبيئة المحلية والشخصيات والأحداث الواقعية. وقد تأثر الاتجاه الواقعي في الرواية بمفتاح فنه، (الوجه الآخر) لفنه الذي يرسم كل خطواته، والذي قلقل كل شيء في قصصه ولم يدعه يركن الى طبيعته. ثم قلقل القارئ ـ إذ لم يستطع أن يركن الى الطبيعة الظاهرة ـ وأثاره ليدفعه الى التساؤل، وليهتدي الى السر وهو ما يقبع خلف الظاهر.
لقد قلنا إن القاص شاء ألا يكون صريحاً في التعبير عن آرائه وموقفه، وشاء أن يعبر من خلال البيئة المحلية والأحداث الواقعية. ولابد ان تتأثر واقعيته بهذا النهج الذي ارتضاه لأدبه، فقد وجهها هذا النهج الى أن لا تكون نقلاً حرفياً للواقع بل واقعية تختار ما يناسب الأفكار التي يريد الدعوة إليها. وقد دعا في كتابته الى هذه الواقعية التي وجدها تناسب الفن الذي لا يكتفي بالنقل الصادق للواقع .
وإذا أردنا أن نعود الى تاريخ القصة الواقعية في الأدب العراقي، فإن من كتب في تاريخها يحدد قيام الحرب العالمية الثانية ونهايتها ـ وهي المرحلة التي أطل فيها التكرلي على عالم القصة ـ تأريخاً لازدهارها(37). ولم تكن القصة العراقية تخلو من جذور الواقعية قبل الحرب الثانية، ولكن هذا الاتجاه أصبح أكثر ظهوراً فيها، وأصبحت هي أكثر وعياً بالطبيعة الفنية للقصة، فاهتمت بإبراز الشخصية العراقية وتصوير البيئة العراقية، وعبرت عن مشاكل الناس وتطلعاتهم كما اهتمت بتصوير آثار الاستعمار في فساد الحكم واستغلال النفوذ وسوء التوزيع(38). ومضت تستقي مادتها وموضوعها من حياة الشعب العامة وتتناول قضايا المجتمع العراقي ومظاهر البؤس والفاقة التي ترزح تحتها طبقات الشعب الفقيرة(39). وقد جاءت القصة الواقعية (من نتاج مكافحين سياسيين اعتبروها مجرد أداة من أدوات الكفاح السياسي(40)).
وكان دعاة الواقعية يلتقون في الاعتقاد بأن الأدب (الذي لا يستهدف بكل ألوانه إنهاض المجتمع ودفعه صعدا في مدارج الرقي هو قشور وزخارف لا طائل تحتها، بل هو عرض فان لا يقاوي الزمن(41).) ومن هنا جاء مفهوم الالتزام في الأدب لديهم فالأدب ميدان للنضال الاجتماعي والسياسي. والكاتب يعمل ليس للكتابة نفسها وإنما يجعل منها وسيلة لغاية نضالية يرى أن مراعاتها هي ما يهم الكاتب، وليس عليه بعدها أن يراعي الأساليب الفنية التي استوعبها(42). وكان هذا الكلام ومثله يردده بعض الكتاب الواقعيين ممن كان يخضع لمفاهيم سياسية وحزبية استعبدته وحددت وجهة نظره ووسمت فنه بسمات معينة. وهو ما نجده لدى بعض رواد القصة الواقعية كذي النون أيوب، وهذا ما دعا الى تسمية واقعيته بالواقعية السياسية الساذجة(43). لكن آخرين كانوا يدعون الى واقعية أدبية فنية غير متزمتة (تهتم بالشكل الأدبي على قدر اهتمامها بمحتواه وموضوعه، ذلك لأنها ترى أن الشكل لا ينفصل عن المحتوى، فكل منهما مؤثر في الآخر ومتأثر به. وأنه لا يكتمل جمال الفن الأدبي ولا تؤدى رسالته الاجتماعية إلا إذا تناسب جمال الشكل وقيمة المحتوى والموضوع تناسباً طردياً إيجابياً(44).).
وقد حدد التكرلي موقفه من كل ما كان يطرح من آراء تتعلق بالأدب وبالقصة ومهمة الأديب فيما يتصل بفنه وما يؤديه من رسالة اجتماعية وإنسانية منطلقاً من وجهة نظره الخاصة في الأدب والحياة والتي حددت نهجه في القصة. وقد أخذ على نفسه أن لا ينهض بأعباء ما تمليه عليه مسؤوليته الاجتماعية فقط ، ثم ينسى أنه يباشر هذه المسؤولية من خلال الأدب، وهو من الفن، والفنان غير السياسي والواعظ، ومن هنا وجدناه يؤكد أن للقصة وسائلها الفنية، ولا يمكن أن تنسب الى الفن بالتزامها بموضوعات هادفة، وبحل المشاكل التاريخية فقط، والفن هو الجانب المهم في الأدب وإلا تحول الأديب إلى داعية ومرشد، وأخذ على كتاب القصة أنهم يبخسونه حقه لصالح الدعوة للأفكار(45). فمهمة الفنان تختلف عن مهمة الفيلسوف أو المؤرخ، وليس هو مطالباً بأن يؤدي وظيفة هؤلاء. فالتكرلي يرفض هذه (العقائدية) المتزمتة التي تضيق نظرة الأديب. وقد جمد العقائديون أنفسهم في نطاق النماذج الواقعية التي رأوها تحمل المواصفات الفكرية التي ارتسمت في أذهانهم، وراحوا يقلدونها دون الحرص على السمات الفنية العالية التي تطبعها، وهذا نهج سار عليه كثير من كتاب القصة في العراق، يراه التكرلي ليس صحيحاً. وسبب ذلك أن الكتابة عن الواقع لا تعني عنده نقل الواقع إنما عرضه فنياً، وهذا يلزم الكاتب بأن لا تكون كل الحوادث الواقعية عنده صالحة لأن يصنع منها أعمالاً فنية(46). فلم يكن الواقع في أدب التكرلي ينقل كما هو، بل كان يختار منه، وقد يتجاوز الواقع، وهذا يعرضه للوم بعض النقاد وهم (هؤلاء الموغلون في الواقعية، والذين يريدون من القصة أن تكون سجلاً لما يقع في الأغلب وليس في البعض والندري)(47).
ونفهم من هذا أن الواقعية عند التكرلي تميزت من واقعية غيره بسبب مراعاته الطبيعة الخاصة للأدب التي تحتم على الأديب أن لا ينقل الحياة كما هي لكي لا يكتب تاريخا. كذلك بسبب النهج الذي ارتضاه لأدبه وهو التعبير بالرمز وهذا يقتضي أن يختار من الواقع ما يعبر عن معانيه الرمزية، لهذا كان من مذهبه أن لا يأخذ الأحداث التي تجري معقولة طبيعية، وإلا فالمعقول لمن يريد أن يتحدث عن تاريخ بلاده، أن يسجل ما يجري في الأعم والأغلب. ولكن هذا المعقول لا يناسب من يريدها قصة تتضمن فلسفة وأفكاراً، ففي ذهن القاص أفكار وفلسفة يريد أن يختار لها شكلا قصصياً مناسباً، وحادثة مناسبة، وقد تأتي هذه شاذة، لأن فكرته تقتضي ذلك. وهكذا يبدو كل شيء في قصصه كأنه من خلقه وتجميعه وليس من الحقيقة ولا من الواقع، وقد لا يمت إليهما بصلة. فنجد بعض أحداث قصصه مما لا يمكن أن ينسجم معها قارئ عراقي، لأنها مما لا يمكن أن يقع في العراق، وليس أبطالها أناساً عراقيين، فهو يخضع كل شيء في قصصه الى مفهومه في القصة والحياة: الأحداث، الشخصيات، البيئة، حتى يجور على واقعيتها، وهذا التجاوز على الواقع ينبه القارئ على ما وراءها(48). وقد يقصد القاص تنبيهه على ذلك فلا يريد أن يندمج القارئ بأحداثها الواقعية ناسياً ما وراءها من أفكار، بل يقصد أن يثير تساؤل القارئ.
واقعية التكرلي إذن لا تنقل الواقع نقلاً حرفياً، بل تختار من الواقع، وهي حرة في ما تختاره، ولكنها محددة في اختيارها ما يناسب الأفكار التي يريد التعبير عنها. فالتكرلي يختار من الواقع ما يناسب أفكاره الباطنية ، وهكذا يحدد (الوجه الآخر) الباطن، واقعيته الظاهرة. ليست الواقعية لديه تقديم صورة منسوخة عن الواقع. إن الفنان لا يرسم الواقع كما هو مستقلاً عنه بل من خلال تفسيره. وقد قدم التكرلي لنا الواقع من خلال تفسيره له، ولم يكن تفسيراً مباشراً، بل متوارٍ بأحداث قصصه الواقعية وبشخصياتها، لأنه يكره المباشرة ويراها تجافي الفن.
وإذا ما حاولنا أن نلمس في رواياته صدى تأثر واقعيته بالنهج الخاص الذي وضعه لفنه وهو التعبير بالرمز، وأن الواقع كان لديه رموزاً يختارها لأفكاره، وهذا ما قد يجعله يشذ عن الواقع، نقول: إنه قدم لنا قصصا واقعية عراقية ببيئتها وشخصياتها، وكان حريصاً على أن يمنحها هذه الهوية حتى من خلال بعض التفصيلات الدقيقة فيها كتلك التي تتعلق باسم محلة أو شارع أو مطعم، ولكن وبسبب ما ذكرناه عن طبيعة فنه، وأن قصصه تفسر أفكاره، نجد أنها قد تبعد عن طابعها الواقعي، فلا تبدو أحداثها واقعية وكذلك تصرف شخصياتها وأبطالها، مما ينبه على كونها أفكاراً لا واقعاً تتجسم فيه . ونجده في رواية(خاتم الرمل) يخالف نهجه الذي التزمه باستعمال العامية لغة الواقع في حوار قصصه وهو الذي يقول إنه لا يترك التعبير بها إلا عندما لا يريد أن يتحدث عن البيئة العراقية(49).

(2) الرومانتيكية
مع انتماء أعمال التكرلي الى الواقعية ومن خلفها الرمزية، إلا أن العمل الأدبي لديه لا يسد أبوابه أمام عناصر من اتجاهات أخرى، بل يفتح هذه الأبواب أمام محاولات اجتيازها فتلتقي لديه الاتجاهات الأدبية ويسترفد أحدها من الآخر برغم الفروق التي بينها. والذي يسمح لها بذلك طبيعة الفن القصصي، فليس هنالك فن يتسع لكل الاتجاهات والأفكار والأنماط الفنية قدر الفن القصصي. وقد نبه الباحثون الى ما يشوب الأدب الواقعي لدى بعض القصصيين من اتجاهات أخرى(50). وأشاروا الى ما يشوب أدب التكرلي من رومانسية أو وجودية او سريالية أو غيرها، حتى قالوا إنه لا ينتمي الى مدرسة أو تيار أو حركة معينة. ويضيره أن يصنف ضمنها خشية أن يضيع مع الآخرين وخوفاً من الجور على تميزه. فهو لم يرتح حين وصف واصف قصته بالكلاسيكية. وهو لا يرتاح حين يوصف بالوجودية. وقد يجد القارئ في قصته المدارس كلها والتيارات كلها. وليست البراعة أن تجتمع في الرواية المدارس كلها والاتجاهات كلها، وإنما البراعة أن تجيء على ذلك الوجه من الجمع المزجي الكائن فعلاً في الحياة وفي الإنسان(51). وقد أكد هو نفسه أنه يحلي أدبه الواقعي بشيء من الرومانتيكية(52)، وهي اتجاه آخر يلاحظ في قصصه تعكسه أفكار الشخصيات وتصرفاتها. فقد يخيل إلينا أن بعض شخصياتها غير واقعية، فكأن العاشق في قصة (العيون الخضر) ليس من الواقع. ولكنه لم يخلقه كذلك من العدم، ففي الواقع من لهم مثل هذه الرومانتيكية وإن كانوا قليلين، وكان عددهم آخذاً بالتناقص في حضارتنا القائمة(53). ومثله (مديحة) في (المجرى) امرأة غير اعتيادية تثير التساؤل إن كان مثلها موجوداً بيننا، فهي غريبة عجيبة لا تمثل المرأة كما هي ولا كما يجب أن تكون، إنما تمثل امرأة واحدة هي مديحة(54). ومثلهما بطل روايته (خاتم الرمل) الذي تتجسد فيه سمات أبطال الرومانتيكية، فهو غير واقعي، مشدود الى أفكار مثالية سامية متعالية، بعيد عن الواقع: (وأنت يا أستاذ هاشم، كأنك في عالم آخر، لا تتصور وضعنا كما يبدو، ولا يهمك أن تعرف حقيقة ما نواجه) (خاتم الرمل ـ ص68ـ) فهو مثالي يعيش في فكره لا في واقعه، لا يعد للصراع عدته: (أنت تعلم بأنهم هناك، يترصدون لك، ويريدون التخلص منك بأي ثمن، يقتلونك، يمحونك من وجه الأرض… وأنت غير مهتم.. أنت غير مهتم.) ـ ص131ـ وهو لا يفهم عصره، مغترب عنه، ليس له منطقه: (إني لا أفهم عصري ولا الدنيا التي انحشرت فيها ولا حتى البشر. إن موقفي الآتي لا يمكن أن يستقيم طويلاً. فهو كيفما قلبته بقعة دكناء في اللوحة الزاهية لهذا المجتمع) ـ ص78ـ فكأنه في عزلة فكرية لا يفهم أحداً ولا يفهمه أحد: (لا أحد منكم يفهم، ومن هنا مصدر الشرور كلها… دون أن يخطر لك وللبلداء من حولك… إن الشخص ذا النزوع، الشخص الذي تكون بعد اتحاده بالمتعالي، الشخص الذي نودي فلبى النداء. ذلك الشخص هو ذو طبيعة مختلفة، طبيعة ثانية، لأنه مرتبط روحاً وجسداً بحقائق أخرى. وهو أولاً وآخراً لا علاقة له بمنطقك ونتائجك ومعادلاتك. إنه ينبني ويعلو كياناً فريداً لا وصف له..) ـ ص129 ـ 130ـ فلغة الحوار مقطوعة بينه وبين العالم: (ثم أحسست كأن أمراً ما في داخلي انقلب على جهته المشرقة، وفتح الكوى على التسامي والفهم. أنا… أنا لست عاجزاً عن التسامي، لا ولا عن الفهم. لقد تلقيت اليوم كل شيء بصبر وإدراك. سوى أني لا أريد التواصل المطلق مع البشر. إن نفسي بطبيعتها موزعة متنافرة الأجزاء. ولقد صعب علي ولا يزال كما يبدو أن ألم بكل الأفكار وأن أستوعب كل شيء. إن طبيعة الأمور في هذا العالم لا تلائمني. وحقيقة ذاتي لا تمتزج تماماً بما هو حولي.) ـ 34ـ وقد يكون سبب عدم قدرته على الاندماج بما حوله، شعوره بالتفوق وبقدراته الذهنية وبمدى حماسته واندفاعه: (إلا أني لم أعجب إلا بجزء يسير منه، أعجبني بالدرجة الأولى اندفاعي وحماستي وسهولة التخطيط عندي وتنوع الأفكار.) ـ ص76ـ ويستشعر إمكاناته الذاتية وتفوقه على المجموع: (شعرت بأني أملك تفرداً نادراً، وأني إنسان متفوق. هنالك طاقاتي الإبداعية في الهندسة، وقابلياتي الذهنية واستقلالي الحقيقي… المادي والنفسي. ماذا يملك الإنسان المتفوق غير هذا؟ وتملكني إحساس وأنا أقف منحنياً على المكتب بأن لدي ما أصنعه بحياتي، وبأني لا أشبه هذا الذباب البشري المحيط بي. إن في داخلي ينبوعاً لأمور فذة غامضة تبعث على الريبة، ولكنها ترسم خطوط إنسان جديد. أيمكن هذا؟ أعني أن أكون إنساناً لا مثيل له، لأني اغتسلت بمياه تجربة غريبة وعظيمة هزت كياني وبدلتني بالكامل.) ـ ص83ـ وقد يحس بالمحاربة وهذا يعني أهميته: (وأنا.. الآن.. مهدد ومطارد ووحيد ومطلوب لعمل شيء. ولأني بهذه الصفات الفريدة حقاً، فأنا لست قشة إذن فلا أحد يزعج نفسه هذه الأيام على الأخص بتوجيه تهديد الى قشة.) ـ ص78ـ ويعرف غيره فيه اعتقاده بقوته وتفرده، يقول له خاله: (أنت تخال نفسك يا بني إنساناً قوياً يستطيع أن يقاوم حتى النهاية، لكن البشر إذا لم تكن تعلم ضعفاء عادة، فأنت… لماذا لا تكون منهم؟ لماذا لا تتصور نفسك بشراً ضعيفاً؟ والوقت يمر عليك وأنت لا تدري..) ـ ص145ـ ويرى غيره كذلك أن أفكاره ليست لزمانها، فهو يخطط لمشاريع لم يحن أوانها: (لأن العرض الذي كان في الأصل شبه اتفاق بين شركتنا وذلك الصديق قد الغي فجأة، وان علي أن أرتاح وألا أشغل ذهني بتلك البيوت ذات المسحة الشاعرية لأن زمنها لم يحن بعد.) ـ ص110ـ وقد تولدت لديه تلك الأفكار من ميله الى الفلسفة والشعر وإقباله عليهما بالرغم من دراسته للهندسة. ـ ص40ـ.
لكن هذا الإحساس بالتفوق والاعتداد بالنفس قد تواجهه ظروف تكسره في الرومانتيكية فتجعل البطل مقهوراً محبطاً. وبطل الرواية تقهره عوامل في داخله أضعفته وتركته مسلوب الإرادة، سببها فشل متكرر في تحقيق الأفكار: (كنت مأخوذاً مستملكاً مشلولاً. هناك تراكم من أعمال ناقصة وأفكار مكسورة ومشاريع مجهضة تسد علي منافذ الحياة.) ـ ص33ـ ويجد أن كل الناس تصل الى غاياتها إلا هو: (كل البشر يصلون الى غايات، تلك التي اختاروها بأنفسهم أحياناً، وتلك التي تسقط عليهم كاللعنة أغلب الأحيان.) ـ ص73ـ والسبب أن أفكاره جيدة لكنها غير قابلة للتنفيذ: (إنها رسوم جيدة، غير قابلة للتنفيذ) ـ ص107ـ وقد لا تكون كذلك، فيراجع نفسه مدفوعاً بفشله، وتراوده فكرة أنه العلة لا ظروفه: (لا يبدو بأني كنت على حق في بعض ما قاله. وأنا خلال سريان تلك الحوادث لا يبدو بأني كنت أنظر الى العالم بمنظار مستقيم. بل يبدو أني كمن زلت به قدمه وهو في طريقه الى هذه الدنيا فانقلب عاليه سافله واستقر على هذه الحال. يرى الى الكون بمنظار مقلوب يظنه أصيلا لأنه يكشف بحكم وضعه الشاذ بعض العورات.) ـ ص28ـ وراح يحس انفصالاً بينه وبين نفسه: (صرت أرى نفسي من الخارج مبتعداً عن نفسي ولا تعلق لي بها. أعمل ما أعمل دون صلة حارة بيني وبين ما أريد أن أعمل. كنت مراقباً محايداً.) ـ ص98ـ فهو قد لا يفهم سر عجزه عن التنفيذ: (والغرابة في الموضوع أني ظللت غير فاهم لماذا لن أذهب لهذا الموعد. ولماذا وافقت أصلاً أن أرتبط به.) ـ ص45ـ وقد يجد نفسه لا يستطيع المواجهة، فهو يشعر أنه أعزل في مواجهة أبيه ـ ص81ـ وقد ينتهي به التفكير الى أنه لا يعرف ما يريد: (وأنا بين مغلوب على أمري وبين مسلوب الإرادة، أحس بأني أفتش عن أمر ما لا أعرف كنهه بالضبط.) ـ ص100ـ ويحس بأنه (سكران أو هائج عاطفياً أو يائس من الدنيا) ـ ص71ـ وضائع لا يملك القدرة على التحديد: (مشدوداً الى المكان، مقيداً بزمن غير محدود، بقيت أمام المرآة، أتنهد ولا يخطر لي شيء… لا فكرة ولا صورة ولا ذكرى ولا تدبير… غير دار عما أبحث… وكنت صامتاً منزوياً في أغوار الصمت العميقة لا أريد أمراً معيناً وأشعر بغموض، إن أمراً معيناً سيحدث لي.) ـ ص101ـ ويشعر بالفراغ والاختناق: (لا شيء قبلي ولا شيء بعدي، الفراغ فقط. الشوارع مختنقة بالمطر والناس والسيارات.) ـ ص120ـ ويحس بحاجة الى الغياب عن العالم: (وبي حاجة ليس للنوم بل للغياب عن العالم.) ـ ص76ـ بل إنه يمر بلحظات الغياب هذه: (مازلت في سورة ذلك الذهول المستطيل والغياب عن الحاضر، ماذا يجري لي مرة أخرى.) ـ ص98ـ ويتيقن من الفناء والتلاشي وأنه نتيجة كل وجود: (إني أرى الآن بأن الحقيقة هي أن ليس في الحياة ديمومة من أي نوع كان. إن فيها تشكيلاً للمواقف فقط. تشكيلاً يتم بأبعاد وأطراف معلومة حتى يصل الى نقطة ما. ثم.. يبدأ تشكيل لمواقف أخرى. ليس في الأمر استمرار. بل تكون وتجمع لتشكيل المواقف.. هذا هو كل شيء. إذ لا ديمومة في الكون وأنا أحب ذلك أحببت ذلك النحات الذي كان يدمر في الصباح تماثيله التي عانى في نحتها طوال الليل، كلها، كلها. ذلك أن التشكيل بحد ذاته هو الجوهر، وهو المهم، وما تبقى فاني..) ـ ص60ـ ويرغب كذلك في العزلة والانغمار في زمانه الشخصي، زمان الشخص الذي لا يناله الزمان: (اشتدت بي رغبة دافئة للعزلة والانغمار بدثار الموسيقى والضباب الدخاني الكثيف، فهناك زماني الشخصي، وهناك الشخص الذي لا يناله الزمان.) ـ ص113ـ ويستشعر الوحدة والتفرد وعدم الراحة: (بمن يستغيث الإنسان المنفرد؟.. من يمكن أن يعين الإنسان الوحيد، يمنحه النجدة بكل طيبة قلب ومحبة؟..) ـ 33ـ وينتابه تعب نفسي واستنزاف عقلي مريع: (غير أني لا أتتبع خطاً مستقيماً واضحاً في التفكير، وهذا ما يزعجني، فلقد صممت يوما ألا أفكر بفوضى، كما يفعل أغلب الناس، ليس بسبب كرهي للفوضى أو محبتي للنظام. ولكن بسبب خشيتي من الدخول في حلقة مفرغة إن لم نقل حلقات مفرغات. أمر مخيف هذه الحلقات المفرغة. إنها استنزاف عقلي مريع. كنت.. فزعاً من هذه الحلقات المفرغة، منها ومن نوبات الهذيان، الحلقات هي التي كانت تمتص أفكاري وتبتلعها وتتركني حيواناً مذهولاً، والهذيان تعب شديد لا يطاق افترسني أياماً وهدني روحاً وجسداً.) ص108. فيحس بالضيق حتى من نفسه: (لم يخطر لي أن التفت الى هذا الجسم الضخم الذي تحمله روحي معها أينما انتقلت… غذاؤه؟ راحته؟ حاجاته؟…) ـ ص21ـ وتخيم عليه سوداوية ينتبه إليها غيره ـ ص49ـ ويجثم عليه حزن يتضاعف ـ ص52ـ وهو حزن هادئ صامت: (كنت حزيناً بهدوء، صامتاً في داخلي، لا أريد أن أهزأ بأحد.) ـ ص58ـ وكان الحزن والإحساس بالتعب وبالخواء أموراً داخلية تعززها أمور خارجية من المطر وخلو الشوارع وفراغ الحياة ـ ص73،80ـ ويدفعه كل هذا الى اليأس من الحياة وتمني الموت: (أردت ألا أسمع أية تعزية، أردت ألا أحيا. وكنت غير عارف بالضبط أي أمر خفي عميق يسبب لي هذا الوضع اللامألوف.) ـ ص90ـ وقد يدفعه الى التفكير بالانتحار: (لعلي متعب تعباً من نوع خاص، يجب أن أحذر منه. تعب الروح الغامض. ذلك التعب الذي لا يعترف به أحد والذي يسوق البعض الى القضاء على حياتهم، إنه تعب يتأتى من مجموع كل أتعاب الحياة، بل هو في الحقيقة عصارة هذه الأتعاب.) ـ ص97ـ98.
وتسيطر هذه الأجواء الحزينة والأفكار السوداوية على أجواء قصصه مما يشكل ظاهرة بارزة أشار اليها الباحثون، ووجدها بعضهم القيمة المهيمنة على البنية القصصية لديه. ويسميها بنية الإخفاق(55). وذهبوا الى أن نظرة التكرلي الى الحياة نظرة متشائمة، ليست النظرة المتفائلة التي جسدها غيره من الكتاب كهمنجواي مثلاً في (الشيخ والبحر). ويعزون سبب ذلك الى الظروف المحيطة بالقاص حين كان يرى كل شيء في بلاده يجري دون أن يكون لشيء اسمه الإرادة الإنسانية من دور في رسم مساره. وربما كان فيما يراه آنذاك من فشل الإنسان في العراق في تحقيق ما يريد من نضاله الوطني وهو يواجه قوى عاتية متمثلة بالاستعمار الانكليزي وبالحكم العميل المرتبط به ما رسخ اعتقاده هذا، فجسده في عمله القصصي. ويؤكدون أن اعتقاده هذا يتفق مع مواقفه الفكرية الأخرى(56) والتي يرونها تسيطر على جميع أعماله ويستنكرون منه هذا: (فلقد بقي التكرلي في الجو الأسود الذي يحيط به شخوصه والأفكار السود التي تحملها هذه الشخوص عن الدنيا، ويكفي أنهم لا يحبون أحداً وأنهم يسعون للضياع في أعماق نفوسهم، والعالم لديهم سخيف فارغ، فكأن القارئ إذ ينتقل من (العيون) الى (المجرى) ينتقل من أمر مؤلم مزعج الى آخر مؤلم مزعج (57).) وهكذا يتفقون على هيمنة ما سمي ببنية الإخفاق او التشاؤم على أعماله أخذاً بظاهر قصصه: (إن المضمون هو هو في التشاؤم والقلق النفسي والأفكار السود والأوهام التي تكاد تكون إفيونية. يملي كل ذلك ثقل الحياة وغرورها وقصور الإنسان عن تحقيق أهدافه وعجزه عن السيطرة على قيودها وعلى فهم أشد هذه القيود وهو الموت. المضمون هو هو وإن غيّره قليلاً في تحول وقتي هنا وفي مظهر طارئ هناك. وتحس جيداً بأن المؤلف مقتنع به، فلقد ملأت هذه الآراء نفسه وسدت عليها آفاقها، فهي شغله الشاغل في اليقظة والمنام، وفي العمل وساعات الفراغ… يناقشها فلا يرى إلا الأمثلة التي تؤيدها… حتى يخيل إليك أن الرجل قد أصيب بخيبة أمل ضخمة وهو في أول الطريق من حياته، فظلت الخيوط السود من هذه التجربة القاسية تمتد الى كل تجربة والى كل مجلى في كل مكان وأنى توجه. صحيح انه في كثير من مظاهرها يتلمذ لكتاب من الغرب اعتنقوا هذه الفلسفة وارتضوا هذا المظهر. صحيح ولا ينكر، ولكن ليس من المعقول أن يكون ذلك مجرد اختيار ومجرد هوى (فنطازي) يتخذه صاحبه ضرباً من اللهو والتسلية ليحقق لنفسه جانباً جديداً من ألوان العيش بعد أن شبع من اللون الدافئ الهادئ الرخي الرضي.. المتفائل، يصعب تصديق هذا لأنك تشعر وأنت تقرأ القصص أن المؤلف منسجم والأفكار المعروضة وأنك قلما تحس بتلكؤ وتكلف وافتعال. إن المضمون هو هو من حيث سواد الحياة وشدة قيودها.. ومن حيث تحمل الآلام و(السعي) على أي حال… تقرأ القصص… فتحس بأنها ذات جو واحد من حيث السواد والكآبة، بل من حيث الحيرة والإبهام والقلق النفسي.. والتألم. إن الأبطال أناس معذبون في الحياة لا يلقون إلا ما يؤذي وما يعاكس الرغبات والآداب ولا تلتفت إليهم الحياة بعين. ولا تكاد تشعر بوجودهم ولا تشعر بأن لهم حقاً في العناية والرعاية. إنهم ضائعون وإنهم لشاعرون بهذا الضياع. ويبدو عليهم أنهم يبحثون عن سر ما يلقون. وإن توسعت قلت إنهم يبحثون عن حقيقة بهذا الصدد. وكثيرا ما ساءلوا أنفسهم وكثيراً ما لجوا في السؤال، ولا يزيدهم السؤال إلا جهلاً وقلقاً.. ولكنهم مع ذلك مواضبون، مواصلون ما هم عليه من خلق وما هم عليه من ضياع وقلق حتى ليبدو عليهم شيء من الرضى والهدوء… ويكاد المرء منهم يبلغ الحقيقة.. ولكن ما أسرع ما يرجع القهقرى ويفضل ما كان عليه كأنه يخشى التغير، كأنه يخاف الحقيقة فيعود يدور حول نفسه داخل شرنقته المحببة.. حتى ليخيل إليك أن الشخوص لا تبحث عن الحقيقة إنما تبحث عن مهرب وليكن هذا المهرب في أي شيء… ولو لدى نجم في السماء. وتتابعهم في مهربهم وتتفحصهم فيبدو لك أنهم لا يبحثون عن شيء… لأن من صفات من يبحث عن شيء أن يتشبث بكل سبب يمكن أن يوصله وليس من المعقول أن يقطع كل الأسباب قبيل الغاية حرصاً على الاستمرار في تعذيب النفس. حقاً أنهم ليبذلون جهداً ويبذلون صبراً ويبذلون كثيراً من ذات أنفسهم وراحتهم وأنهم ليصمدون أحياناً لنكبات يصعب على غيرهم الصمود لها، وإن صمودهم ليذكرك بأولئك الزهاد والمتصوفة الذين ابتكروا مبدأ ترويض النفس.. وإنهم بهؤلاء أشبه منهم بالوجوديين والسرياليين.. وحتى الحشاشين.. وهم على أي حال ليسوا أناساً طبيعيين اعتياديين(58).) وهكذا يحس الباحثون أن هناك أمراً يريده القاص يوجهها هذا التوجيه، وهو أمر يخفى على القارئ: (ويقول لك قائل إن للمؤلف في شخوصه حكمة وفي قصصه غاية.. فتقول طبعاً.. ما دام الجو واحداً والشخوص متشابهين والأفكار مستوحاة متقاربة.. ملتزمة. أجل قد يكون المؤلف قد قصد الى ذلك، وانه ليؤكده في أحاديثه الخاصة، ولكن ذلك شيء وعدم ظهوره للقارئ شيء آخر. أي نعم.. إن القارئ حتى المتعمق لا يرى غير السواد والقلق والجبن عند المخرج.. والصبر دون يأس، ولكن ما قيمة كل هذا إذا ظهر أن هؤلاء الشخوص لا يبحثون عن مخرج وإنما عن البقاء في الأزمة.. بدليل أنهم لا يخرجون. وبدليل أنهم يقطعون الأسباب عندما يقتربون من الغاية، فيبدون سلبيين أكثر منهم إيجابيين، وأين هي الإيجابية‍! أما أنك تريد أن تستدل بذلك على أنهم أكثر صموداً من غيرهم وأدأب وأنهم يمثلون عالماً صلباً من عالمنا، فذلك شيء آخر، بل كان الأولى أن لا يقتربوا من المخرج لأن النكوص عن الغاية عند تحقيقها أقرب الى الغباء منه الى الصمود والصلابة(59).) هناك شيء إذن يكمن وراء غرابة تصرف الأبطال وتعلقهم بالألم والتشاؤم وفرض المصير الأسود على حياتهم، فليس هو من صمود الأبطال وقوتهم، وليس هو من نظرة الكاتب المتشائمة التي تمليها الظروف الموضوعية، والدليل على ذلك أنا وجدنا الكاتب يلوم غيره على سيطرة ظاهرة الحزن والتشاؤم على أدبه حتى وإن كانت تعبر عن واقعنا الحزين: (هذه الكآبة والقتامة التي تصبغ الأقصوصة العراقية بصبغة سوداء لا رجاء بعدها لنور مشرق، وهي وإن تكن معبرة بلونها هذا عن بعض واقعنا الحزين أو جله، الا أن الصورة لا تكمل ولن تكمل بغير عراقيين يضحكون ويستبشرون بالحياة وبالمرح(60)) ويبين له أن هذه الأجواء (تبعث في القارئ مللاً لا خلاص منه. فهو ما ينفك يخرج من ليل أقصوصة حتى يدخل في ظلام أخرى وهكذا حتى النهاية. والأمر المتوقع هو أن أغلب القراء لن يكملوا المجموعة، وهذا شيء يؤسف له ويجب أن نفكر فيه جدياً(61)) فهو إذن أمر يحترس منه ويفكر فيه جدياً، الا أن ما يجعله يأخذ به في أدبه، ويسبق فيه هذا القاص الذي ينتقده إنه أمر قد يفترضه الفن، وهذا ما نعرفه مما يستدرك به على كلامه السابق: (إني أعتقد بأني قد أخذت بعجلة لا داعي لها في كلامي عن السوداوية… إذ إن أهم فكرة لدي عن هذه المجموعة وعن كل مجموعة هي نجاح المؤلف الفني أو فشله(62).).
وقد تفترضه الفكرة التي وراء القصة والتي لا يجدها خلف هذه المجموعة القصصية، ولهذا يؤاخذ صاحبها على ما أشاعه في أجوائها: (وسوداوية الأقاصيص هذه التي قد لا تعني شيئاً في نهاية الأمر(63).).
إن ما ساد أدب التكرلي من حزن وهم ثقيل وسوداوية وتشاؤم أمور تنكرها تقاليد الأدب الرومانتيكي ويبدو غريباً بهذه النسبة الثقيلة، فهو إذن ليس حزناً رومانسياً. إنه حزن تفترضه المعاني التي يريد الإشارة اليها والتي تختبئ وراء قصصه، والتي توجه الرومانتيكية في الرواية توجيهاً يمنعها من أن تخلص لعناصر الرومانتيكية في الأدب. ثم إن هذه الأحزان تجعل البطل عاجزاً مسلوب الإرادة لا يمتلك تصميم الرومانسي وإرادته القوية التي تملك قدرة تغيير الأشياء. صحيح أن هذه الإرادة قد تقهر، وهذا هو سر أحزان الرومانسية، الا أنها موجودة لدى الرومانسي وغير موجودة لدى البطل، وفقدانها هو الذي يقهره وليس الظروف والأقدار. وهكذا يكسر التكرلي مبادئ الرومانتيكية، فلا يقدم لنا شخصية رومانسية. إنه لا يقدم من مبادئها إلا ما يتصل بالمعنى المرموز إليه، فإذا كان هذا يفترض أن تخترق هذه المبادئ نجده يخترقها من خلال ذلك الرمز. وبهذا لا نخرج من قصة التكرلي بقصة رومانسية، فهناك أشياء تزعزع كيان التفسير الرومانسي لها، وتجعلنا نمد أعيننا الى التفسيرات الأخرى.
ونعود من حديثنا عما ساد أدب التكرلي من أحزان رومانسية الى ما تدفع إليه هذه الأحزان في الأدب الرومانتيكي .. إن ما يستشعره الرومانسي من أحزان تدفعه الى الانكفاء على نفسه وأحزانه، أو الانشداد الى الماضي الذي يمثل أمجاداً او ذكريات سعيدة يتعلق بها ليهرب اليها من حاضره . وفي رواية (خاتم الرمل) كانت( سناء ) أم البطل الذي تثقله الهموم ، تمثل الماضي الجميل المشرق السعيد الذي يشده إليه ويمنعه من الاندماج بالحاضر، حتى أن ذهابه الى قبرها منعه من الحضور الى حفل زواجه ـ ص125ـ وفي جوار قبرها يستشعر قدسيتها ويسربله ارتياح عميق تحيطه ألغاز إلهية لا تحل كما يقول، وينسلخ عن الواقع وهو الى جوارها: (ولم تخطر لي علاقاتي مع البشر أو العالم، ولا ساورتني أسئلة عما أعمل. كنت في قلب بوتقة صيغت لي ومن أجل هذا الزمن الذي أنا فيه الآن، إني إذن في مظهر ذي وجهين يكمن الثاني منهما خلف وجه الأول. ففيما وراء هذه الظلمات العاصفة والطين الأسود والمطر والبرد والارتعاد، يتخافى ويتبدى في الوقت نفسه، وجه أمي سناء المنور، وجه النقاء المطلق، وجه العطاء، وجه الحب المصفى، وجه اللانهائي، وكان علي أن أتماسك وأتصابر لأنال أخيراً مباركة هذه الساكنة قربي.) ـ ص103ـ.
ويحس باتحاد روحي بها وينسيه اتحاده بها الكون والناس ويشغله عن نفسه وعن أهم مناسبة في حياته: (ثم كان أن أحسست بعد هنيهات براحة إلهية لا تنال تسربل جسمي كله، وتنشر فيه استرخاء لذيذاً، أعقبتها لمسات تلك الأصابع الرقيقة الناعمة الدافئة التي احتضنت يدي اليمنى بغاية الحنان، وصارت تضغط عليها. كنت سعيداً مشوشاً فاقد القدرة على الحركة أو على فتح عيني لرؤية من كان بجانبي. ثم استنشقت رائحتها العطرة التي أعرفها منذ صغري… منذ الأزل، كانت تضع الدورق المميز أمامها حين تجلس تتزين. وتمر لحظات وينتشر في الجو عبق تلك الرائحة.. (لحن الزمان) نينا ريجي.
امتلأت روحي وفاضت سروراً ومحبة وعرفاناً بالجميل. هي ذي إذن قد اجتازت العقبات ووفت بعهدها. وها هي من وراء الأحجار والمطر والريح تمسك بيدي وتؤكد لي بأن حبها هو الحياة والخلق واللانهائي، وإني أنا الكون وما سيكون وما لا ينتهي) ـ ص104ـ105ـ.
وكان استشعاره البالغ والدائم بفقدانها ينبه اليه الآخرين: (هل لا تزال تفتقد والدتك المرحومة؟ لا تبق شاعراً بفقدانها غير قادر على الاندماج في الحياة.. حياتك. أتفهم ما أقول؟ عندنا يقولون إنه ابن أمه..) ـ ص86ـ ولكن تمسكه بها لا يهتز الى النهاية. ولهذا لم يرض من خاله ما كان ينبهه إليه: (لم يكن خالي رؤوف محقاً في سعيه بعناد لتحطيم صورة أمي سناء في نفسي.) ـ ص153ـ.
وقد يفسر تعلق البطل بأمه وانشداده الغريب إليها من خلال التحليل النفسي بأنه (عقدة أوديب) فقد يوحي ظاهرها بذلك، ولكن ما معنى تصرف أمه معه، وقد امتلك حياتها، وقد وهبته حياتها كلها، وانصرفت عن علاقتها الزوجية بأبيه.؟ ولا نحسب أن التحليل النفسي الذي أشاعه فرويد وغيره من مدرسة التحليل النفسي ينص على مثل هذا التصرف من الأم. وهو ليس جاهلاً بما يقرره التحليل النفسي من تفسير (64). فلو كان القاص يريد أن يدير أحداث قصته على تفسير هذه العقدة لدى البطل لاكتفى بتصرفه وعاطفته نحوها، هذا إذا نظرنا الى عاطفته تجاهها بريبة، لكنها تنفي هذه الريبة وتحكي لنا عن علاقة حميمة لا يعرفها الجميع بهذا العمق وبهذا الانشداد. إن القاص لا يريد إذن تناول عقدة نفسية عند البطل، وإن كان يوهم بوجود عقدة، فكل شيء في الظاهر يوهم القارئ ولا يدعه يستقر على تفسير.
وقد يتمثل الانسحاب من الحياة العامة لدى الرومانسي بالعودة الى الطبيعة والإرتماء في أحضانها ومحاولة الاندماج بها أو التوحد معها. ويتجلى ذلك لدى البطل بالإحساس الروحي بالأشياء والاتحاد النفسي بها: (يتكرر اللحن عشرات المرات، يتكرر.. يتكرر. حتى لتظنه يدخل الجسد ويسري في الدماء. ثم يتوجب بعدئذ خلال اندفاع بغير وجهة أن نتدبر أمر إسكات تلك الموجات الصوتية التي ما تزال تخدش جدار النفس.) ـ ص5ـ.
وتنعكس الأشياء على نفسه وأعصابه: (إذ يحصل أحياناً أن تنعكس موسيقى الكلمات على النفس وعلى الأعصاب فتثيرها تلقائياً.) ـ ص10ـ ويستشعر المطر بأعصابه: (فترة من الزمن أسمع فيها المطر ينقر بإلحاح على السقف والزجاج والأعصاب.) ـ ص100ـ وهذا من الفلسفة العاطفية التي تصدر عنها الرومانتيكية والتي تجعل العاطفة لا العقل مصدر المعرفة. ويحس بأن الأشياء تتحاور معه: (أحسست كأن هنالك من يخاطبني من وراء النغمات. وكأني لست وحيداً أو منفرداً في هذا الكون الأخرس.) ص33ـ34. ونجد لدى البطل إحساساً مفرطاً بالطبيعة والتقاطاً دقيقاً لصور الأشياء ـ ص147ـ وقد تثير فيه مظاهر الطبيعة مشاعر أو أفكاراً محددة، معبراً عن استجابة الروح لما في الخارج: (تتمازج أحياناً أسئلة من هذا النوع مع هبة غبار أو صورة شجرة أو نبرة كلمة أو همس غير مفهوم، ما جدوى أن أذهب، وما جدوى ألا أذهب، وما جدوى الاثنين في تقابلهما.) ـ ص149ـ. ويختلف لديه وصف مناظر الطبيعة باختلاف حالته النفسية، كأن الطبيعة تتجلى من خلاله، وكأنه هو الطبيعة: (شعرت بإرهاق يفاجئني فسعيت ببطء أجلس وراء المقود وأغلق باب السيارة خلفي. كانت الأنوار قليلة على الجهة البعيدة الأخرى من النهر. وكتلة السواد الثقيلة تجثم فوق المياه الجارية بتراخ.) ـ ص20 ـ وهذا يعبر عن إحساسه بالاندماج بالأشياء ورؤية ما بداخله من خلال الأشياء، فيرسم الأشياء من خلال إسقاط ما في نفسه عليها: (تبدى لي مظهره من الخلف مرتبطاً بالاختلاط الذي أحسه في داخلي. كان المعطف رثاً تلوث الأتربة بعض جوانبه ويتكاثر الشعر الأبيض المتساقط فوق كتفيه. كنت مثله رثا في أعماقي مهتزاً كارهاً لكل شيء.) ـ ص16ـ ويرى امتداد وجوده في الأشياء: (كان ذلك المنزل منزلي، كان أنا، وهو إذ يبقى قائما ليمكنني أن أراه، فمن أجل أن يستمر وجودي أنا الآخر.) ـ ص52ـ وهو ينغمر في الأشياء فتستقر فيه ولا تنفك عنه ويتوحدان: (أرجعت (ليليات) شوبان الى الحاكي وشغلته. هكذا أفهم الموسيقى روحياً، أجعلها تستقر في دمي بتكرارها وبالانغماس الطويل المستقر فيها.) ـ ص37ـ.
ولا يستشعر التوحد بينه وبين الأشياء فقط، وإنما يحس هذا الاتحاد ما بين الأشياء أنفسها. فهي تندمج وتتحاسس وتتعاطف فيما بينها، وهكذا يرى الوجود كله منغمراً في علاقات حميمة لا تنفصم: (كانت طبقات الدخان كثيفة حقاً، بيضاء في سمرة خفيفة. تبدو وكأنها متداخلة كالغيوم الممطرة، ولكنها في الحقيقة تتلامس وتتحاسس وتتشاعر إن أمكن القول. فإذا جعلنا حيطان البيوت على هذه الشاكلة، استطعنا أن ننجز عملاً هندسياً لا سابقة له.. البيت الذي يحنو على ساكنيه، يبادلهم ويشاركهم العواطف.. أردت أن تتحد الجدران فيما بينها، أن تتحاضن وتتماسك بالأيدي لا أن تتخشب واحداً جنب الآخر.) ـ ص107ـ.
ويرى أن الصفة الإنسانية قد تتجلى من خلال الأشياء، وهذا فيما يفكر به أو يحس من وحدة الأشياء: (أحب أن أغرق في هذه الألحان، أن أحس بها تغمرني بقوة. رغم شفافيتها الخارقة وأنوثتها أحياناً. ولم لا؟ ليست الأنوثة لدى النساء فقط. إنها اجتماع صفات الرقة واللطف البالغتين والانعطاف والدلال المتوازن والاستضعاف والعطاء والجمال المهيمن والانسجام في التواجد وكل ما يجعلك، ما يمنحك الشعور بالرضا اللامحدود.. كانت بمجملها تلك الليلة تمثيل الأنوثة أجلى تمثيل.. هكذا نرى الأنوثة تنبثق أمامنا أحياناً. ونسمعها في أحيان أخرى لا فرق كبيراً، إلا في النفس التي تتقبل هذه التأثيرات أو لا تتقبلها، إذ يبدو أغلب الأوقات أن المسألة مسألة معادلة ذات طرفين. فليس هناك أنوثة مطلقة قائمة بذاتها لا تحتاج لمن يتقبلها أو يكون طرفاً ثانياً مكملاً، بدوني مثلاً ماذا كان يعني هذا التكوين الجسدي المغطى بقطعة قماش بيضاء.. لا شيء بالضبط.) ـ ص35ـ 36ـ فلولا هذا الاندماج أو هذه العلاقة بين الأشياء لما كان لها معنى. فلولاه، لما كان لأنوثة سلمى أي معنى ولابد من طرفين: الأنوثة ومن يحس بها، لكي يكون لها وجود، أي لابد لها من عين تراها وأذن تسمعها وإلا لما كانت. لابد لها من نفس تندمج بها وإلا لما كانت..
بعد هذا، هل نطمئن الى أننا نقرأ رواية رومانسية؟ الذي وجدناه أن الرومانسية تخترق فيها، وأن هنالك أشياء تزعزع كيان التفسير الرومانتيكي لها وتجعلنا نتطلع الى التفسيرات الأخرى.

(3) الوجودية
وقد نتلمس اتجاهات أخرى في روايات التكرلي. فبعض ما ذكرناه من مظاهر الرومانتيكية قد يرى فيه بعض الباحثين ما يتصل بالوجودية التي يذهب الى أن القاص يفكر بها من خلال أبطاله، فيرى في هذا التردد والقلق والضياع والشعور بالعبث ما ينسب أبطال التكرلي الى الوجودية(65)، مع أنه يذكر عنه أنه لا يرتاح لوصفهم بذلك(66). ولا نرى أن ما يرددونه من أفكار أو ما يلوح من تصرفاتهم مما يتصل بالوجودية، لأن الوجودية فلسفة تستند الى مبادئ متعددة وليس صحيحاً أن نستند الى بعض مبادئها مما يمت الى تفكير البطل بصلة لكي ننسبه اليها، لأن أفكاراً أخرى لديه تتعارض مع الوجودية. ثم إن هذه الأفكار وما يصاحبها من حالات النفس الإنسانية مظهر من مظاهر التفكير الإنساني ومن حالات النفس الإنسانية حتى لدى الناس البسطاء. فليس صحيحاً أن نصف أي إنسان تخامره وتعتمل في نفسه بأنه وجودي حتى وإن كان امرأة بسيطة ولكنها مثلاً مترددة قلقة لا تمتلك قدرة اتخاذ القرار(67). فلكي نصف إنساناً بأنه وجودي ينبغي أن يكون إنسانا ًيفكر ويتفلسف، إنساناً مثقفاً متنوراً، له موقف من الحياة ورؤية ، وليس أي إنسان حتى إن كان بسيطاً ساذجاً. وإذا قيل إن البطل لم يكن هكذا، فقد كان متنوراً وأنه من الممكن أن تكون له فلسفة عن الحياة تنسب الى الوجودية، بل إنه كان يتصل بها بهذا التردد والقلق الذي كان يعاني منه.. نقول إن التردد والقلق الذي كان البطل يعاني منه ليس هو القلق الوجودي، لأنه كان يصاحبه لديه تخل عن القيام بمسؤولياته، وسكون وخمول وليس القلق في الوجودية (مما يؤدي الى السكون والخمول، بل هو قلق بسيط يختبره كل الذين تحملوا مسؤوليات(68).) وألزموا أنفسهم بمسؤولية تجاه الآخرين إذ (إن هذا القلق الذي تصفه الوجودية يفسر بمسؤولية مباشرة تجاه بقية الناس الذين يلزمهم القلق ذاته. إنه ليس بحاجز يفصلنا عن العمل، بل هو جزء منه(69).) وعلى هذا فليس (القلق بالواقع سوى انعدام كلي للتبرير ومسؤولية تجاه الجميع في آن واحد(70).) وهذا يعني أن (الوجودية فلسفة التزام(71).) ولما لم يقم البطل بالتزاماته، فهو ليس وجودياً، إذ قعد عنها وأصابه اليأس. واليأس في الوجودية ليس قعوداً عن العمل بل هو عدم رجاء الآخرين والاعتماد عليهم. لأنها ترى أن على الإنسان أن يعمل ولكن بدون رجاء الآخرين، فهي لا ترى وجوب استسلام الإنسان الى فلسفة التأمل الهادئ السعيد، فيتطلع الإنسان الى غيره بل يجب عليه قبل كل شيء أن يلتزم بذاته ويعمل حسب القول القديم: (لا حاجة للأمل في شرعة العمل) فهي تنكر فلسفة التأمل السكوني وتصرح أن لا واقع خارج العمل(72). ولا وجود للإنسان إلا بمقدار ما يحقق ذاته. إنه إذن مجموع أفعاله ليس إلا. وإذا كان هو أفعاله فإن الوجودية عندما تتكلم على أناس ضعفاء لا إرادة لهم، فإنها لا ترجع ذلك الى تأثير البيئة والمجتمع أو الى سبب وراثي نفسي أو بيولوجي، وهو ما عللت به الرواية ضعف البطل، وأنه مما ورثه من أمه، بل تؤكد أنه ناتج عن سلسلة أفعال قام بها فكونته كذلك.. إن الجبان يصنع نفسه، وكذلك البطل(73).
إن وجودية البطل أو ما يلوح من مظاهرها لا يشبه الوجودية. والقاص يعرف هذا. وهو لا يريدها وجودية ولا يريد للقارئ أن يستقر على ما يلوح من الظاهر، لأنه لا يريد هذا الظاهر… إنه يقلقه لكي يفتش عن الكامن…

بنية الشكل الروائي:
إذا كان بناء الرواية، هو الوسيلة التي يختارها الكاتب وطريقته في تنسيق الحوادث وتقديم الشخصيات واختيار الكلمات وترتيب الجمل، وأنه طريقتها في احتواء المضمون والتعبير عنه(74)، فإن هذه الطريقة تتصل بطبيعة المضمون لدى التكرلي فهو ينطلق من فلسفة ترى أن المضمون يبحث عن طريقته أو شكله الخاص(75)، وأن المغزى الفكري للعمل الأدبي يحدد بنيته العامة من حيث خلق الموضوع ورسم وانتقاء الأبطال واختيار التفصيلات الشكلية لمهمة كشف أوضح عنه. ومن أجل الكشف الأوضح للفكرة تصبح كل جزئية من جزئيات العمل مساعدة على كشف هذا المغزى الفكري. وان كل عمل الفنان في البناء الهيكلي يتحدد بالمضمون الفكري للعمل(76)، وهذا يعني أن هذا البناء الهيكلي ليس مجرداً من المضمون وليست البنية القصصية مجموعة من التقنيات والأساليب الشكلية، وإنما هي محصلة رؤيوية تكشف عن موقف القاص تجاه الإنسان والكون والواقع وهي تتشكل بهذه الرؤية التي هي (القيمة المهيمنة) أو العنصر البؤري في الأثر الأدبي الذي يحكم ويحدد ويغير العناصر الأخرى، ويكسب الأثر نوعية، فيهيمن على الأثر في مجموعه، وهو يعمل بشكل قسري لا راد له ممارساً تأثيره في العناصر الأخرى بصورة مباشرة(77). وقد قلنا إن بعض النقاد وجد أن هناك قيمة مهيمنة تحدد البنية القصصية لدى التكرلي وسماها (بنية الإخفاق) نتيجة لعملية استقراء شاملة لنصوص التكرلي، وقد ميزها من بين مجموعة من البنيات المهيمنة على الكتابة القصصية في مرحلة الخمسينيات ومنها (بنية التفاؤل او الانتصار) و(بنية الكتابة القصصية البيضاء أو البريئة). ويذكر من ملامح بنية الإخفاق: اهتزاز الرؤية الاجتماعية ورفض المصالحة مع العالم أو عدم جدوى هذه المصالحة، أو عدم محاولة تغيير الواقع الخارجي تغييراً ثورياً وهذا يؤدي الى هيمنة حالة محبطة ومغلقة أسهمت في صعود ما يسمى ببنية الإخفاق لديه. وقد تجلت على مستوى البنية الألسنية (اللغوية) في إشاعة معجم قصصي من مفردات وصور ورموز الإخفاق والخيبة واليأس والقلق التي يمكن دراستها وتصنيفها بتوفير مجموعة من الحقول الدلالية الخاصة بذلك. كما تمثلت في انتقاء نوع معين من الحوادث والشخصيات وكان لها سبيل مخصوص جداً في التعبير عن حياة الإنسان(78).
إن تسمية البنية القصصية لدى التكرلي ببنية الإخفاق أو التشاؤم إنما هو من باب الأخذ بالظاهر او بالمضامين المباشرة التي تعالجها قصصه وهذا قلناه وقلنا أيضا إن البنية القصصية لدى التكرلي لا تحددها معاني الإخفاق الظاهرة التي تدور عليها أحداث قصصه بل ما يختبئ خلفها من مغزى فكري يرومه القاص في جميع أعماله. ومن هذا رأينا أن نسمي هذه البنية ببنية (الوجه الآخر) أو فن (الوجه الآخر) الكامن وراء وجهها الظاهر. وقد رأينا كيف أثر في البنية الموضوعية الظاهرة للرواية ويؤثر في بنيتها الظاهرة أو شكلها الفني. ويؤكد التكرلي أنه يختار بوعي وانتباه هذا الشكل الذي يناسب وجهها الكامن. وهو يهتم بهذا حتى أنه يوجه غيره من كتاب القصة بأن (عليه أن يقرر ما يكتب وأي شكل يختار ليصب فيه أفكاره(79 ) . ولا ينفك يذكر أن على القاص أن يختار الشكل القصصي الذي يقدم به حقائقه(80). ويوجب عليه أن (يراقب نفسه وقلمه باستمرار لئلا يشطحا ويشذا عن الطريق المرسوم(81).) ويقول إن هذه اللحظة من حياة الكاتب هي التي تهمه، لأنها في اعتقاده (القمة لجميع ملاحظاته وخواطره وأحاسيسه، وهي الحد الفاصل لكل جهوده ومحاولاته اللاغائية السابقة… إن الفنان الممتاز يعمل عن إدراك عميق لقاعدة عمله وللسبل التي ستوصل بين هذه القاعدة وقمة إنتاجه. وهذا الإدراك والفهم الصحيح لما يعمل هو أول أسس نجاحه(82).) ويبين أن الكتّاب العالميين يعون هذا في أعمالهم، ويذكر منهم موبوسان خاصة فهو يعي قاعدة عمله (وشكل هذا العمل والخطوات التي يروم تحقيقها ليصل الى النتيجة التي في ذهنه، كذلك تشيخوف وجويس وكاثرين مانسفيلد وهمنجواي(83).) ومن إدراكه هو لهذه القاعدة تميز بطريقة خاصة في بناء قصصه، وساعده في ذلك تمثله لطرائق القصة الحديثة واستيعابها والخروج من ذلك بنهج خاص به يدل على شخصية واضحة(84).
ويحدد عناصر الشكل او الأسلوب الذي يناسب حقائقه، التي يختارها لتناسب حقائقه أو تختارها هذه الحقائق للتعبير عنها: (والأسلوب القصصي ليس هو اللغة فقط. إنه مع اللغة اختيار الحوادث وطريقة التعبير عنها والشخصيات وتقديمها(85).) فعناصر الأسلوب ثلاثة، أولها اللغة التي هي وسيلة القصصي الوحيدة التي إذا أساء استعمالها ضاع منه جل جهده وتفكيره وتقنيته كما يقول . فهي من وجهة نظر قصصية من أدق الأمور. وليس غريباً أن الشاعر أو كاتب المقالة أو مدرس اللغة يفشل أغلب الأحيان في تدبير لغة قصصية مناسبة. ويذهب الى أن اللغة بوصفها وسيلة تتحدد صفاتها بالغاية التي يريدها الكاتب، ولذلك يريدها بليغة تصل الى القارئ وتؤثر فيه. وقد تكون هذه اللغة من وجهة نظر علماء اللغة ضعيفة ركيكة لا تحوي من محسنات الألفاظ ما يرفع مستواها إلا أنه يعدها بليغة مع ذلك لأنها هي اللغة الملائمة. والملائمة هنا تعني الإيصال ببساطة وقوة. والتأثير في مخيلة القارئ هو رأسمال الكاتب وهو مجبر على استغلاله(86). فهو يريد اللغة التي تثير مخيلة القارئ، والتي تقيم التواصل معه لأنه يريد أن يوصل إليه شيئاً، ولذلك يرى أن تأثيره في القارئ وتحقيق اتصاله هو رأسماله. ومن مواصفات اللغة التي تهيئ له التأثير في القارئ وإيصال المعنى إليه والتي تجلت في لغة (خاتم الرمل) بصورة خاصة ، البساطة والمباشرة والدقة: (اللغة المباشرة هي اللغة المعبرة. لغة ترفض المرادفات التي لا داعي لها. ولا تحشد الأوصاف التي تغرق الصورة، ولا تبرز في الأقصوصة كهدف جمالي مقصود. ولذلك فليس عندي لغة شعرية، إنما أخلق أجواء شعرية بعض الأحيان وأحاول التعبير عن نفسية الشخصيات بأكثر الكلمات بساطة ودقة، ولم يخطر لي يوماً أن أضع جملة في أقاصيصي كما توضع الزهرة في عروة الرداء(87).) ومن هذه الفكرة ولأن اللغة ليست بحد ذاتها شيئاً مقدساً كما يقول لا يجد ما يمنع من التعبير بالعامية، فالقوة التعبيرية (التي تكمن في عبارة تقال بالعامية في ظرف ومكان معينين لا يمكن أن نجد لها مثيلاً في جملة فصيحة مهما بذلنا من جهد. إن الفصاحة هنا تتخذ مفهوماً عكسياً(88).) وبهذا يحدد صفتين للغته القصصية: أولهما البساطة والمباشرة والدقة، فليست اللغة القصصية لغة شعرية يحرص عليها هدفاً جمالياً مقصوداً، لكنها توفر أجواء شاعرية كما يقول. وثانيهما بلاغتها وفصاحتها التي تحقق لها التأثير في القارئ. وهو في سبيل ذلك يعبر بالعامية، لأن اللغة الفصيحة قد لا تمتلك القوة التعبيرية التي تؤديها العامية. لذلك استحالت ترجمة لغته العامية في ( الرجع البعيد ) إلى غيرها، لما تملكه من شحنات تفقدها أية لغة أخرى(89).
إن اختياره للغته القصصية بهذه الصفات توجهه إرادته في صرف النظر الى (الوجه الآخر)، الى الأسرار التي يقفل عليها فنه، الى ما يكمن وراءه فلا يدع القارئ يسحر بجمال اللغة عما وراءها، ولذلك يصنعها شفافة يخترقها القارئ كالزجاج: (اللغة يجب أن تكون غير منظورة في الكتابة القصصية او الروائية. لا أريد جمالاً في اللغة بحيث ينصرف القارئ عما وراءها. أريده أن يخترقها مثل الزجاج، يرى العوالم التي تجري بعد اللغة. أنا أكتب بلغة بسيطة ومنسابة عن قصد. ولا أريد لغة جميلة لكي أنقل القارئ الى أجواء جميلة أو شعرية. فبواسطة اللغة وهي وسيلتي في الوصول الى القارئ وهي شفافة في الوقت نفسه وتخلق عوالم يمكن تسميتها بحثاً عن لغة ثانية، فبواسطتها يصل القارئ الى عوالم تتحرك. أنا اخلق عوالم شعرية بعد اللغة أو ما وراء اللغة. إما اللغة ذاتها فتظل شفافة دائماً(90)).
ويذكر أن أسلوبه في اللغة اعتمده غيره من كتاب القصة لأنهم يتوخون فيها غايات ليست أسلوبية أو شكلية فقط. فهي تتوخى (البساطة في تعبيرها والتعمق في الموضوع. ولم يحاول أحد من كتاب القصة العراقية أن يزوق لغته أو أن يكتب فقط لأجل أن يبدع في أسلوبه اللغوي. وهذه ناحية مهمة في أدب الأقاصيص عندنا(91).) وهكذا نجد أن صفات اللغة القصصية تتحدد بالغاية التي توجه فنه وهي التعبير عن المعاني الكامنة وراءه.
أما الحوادث وهي ثاني مواد بناء القصة عنده، فإنه يختار للتعبير عنها تداعي الأفكار على ذهن البطل أسلوباً في عرضها. ويتبنى هذا الأسلوب وجهة نظر الشخصية في عرض الحوادث(92). وقد أعجب بأسلوب التداعي في السرد القصصي وتبناه منهجاً حتى لتبدو قصصه سلسلة من الخواطر وسيباً من المنلوج الداخلي(93). واستخدامه له من أبرز سمات أسلوبه التي تدل عليه. وقد استعان به في روايته الأخيرة، وهو يستخدم فيه طريقة الوصف الخارجي (المستقصي) التي يبرز فيها دور السرد المباشر واضحاً، إذ أنه استعان به باستمرار لتوضيح أبعاد الحدث ورسم أجواء القصة، وهو ما برع فيه الى حد كبير. كما استعان به أحياناً لرسم المحفزات التي تحرك ذهن البطل نحو ذكريات معينة متباعدة، لها أهميتها في مسار الحدث وتطويره الى نهايته المرسومة. وتتصل هذه الذكريات بماضي البطل وحياته الخاصة، والتجارب التي خاضها والتي أدت الى تحديد الكثير من آرائه(94). وهذه الطريقة قد تكون أحياناً من أسباب عيوب قصصه ومما يضعف من بنائها، ونقصد بذلك سيطرة هذه الذهنية الواعية عليها والتي لا يحسن القاص إخفاءها دائماً(95) فقد تصرفه عن مراعاة الشروط الفنية للقصة حتى نجده في بعض قصصه لا يفكر في تتبع الحدث وتناميه بمقدار ما كان يحرص على أن يعرض أفكاره ويعمقها، فنجد البطل يطيل التأمل بكل ما يصادفه من أمور بشكل بدا معه أن هذه التأملات إنما كانت تملى عليه إملاء(96). وهذه الملاحظة قد تتصل بعض الشيء بخاتم الرمل أيضاً، فقد اتخمت بأفكار البطل وتأملاته على حساب الأحداث التي يحس القارئ بأنها مفتعلة ولا أهمية لها إلا بما ساعدت على عرض تلك الأفكار والتأملات.
إن ما وراء أفكار الشخصية وموقفها وهو ما ترتبط به من رموز وهو الذي يعني القاص، هو الذي وجه بناء الرواية والقصة عنده فيما يتصل باستخدام التداعي أو المنلوج. فلأنها قصص فلسفة وأفكار استخدم أسلوباً يهتم بالأفكار، وهو أسلوب تداعي الأفكار. فالبطل يفكر، والقارئ عليه أن يفكر كذلك، لأنه يقرأ أفكاراً. ولأن قصصه لا تخرج عن هذا التوجيه لذا يلتزم هذا الأسلوب فيها كلها، حتى آخرها، والتزام أسلوب التداعي في كل قصة ولدى كل شخص يبدو أمراً غير طبيعي ويلوح على شيء من الغرابة وأنه يثير التساؤل فنحن نجده عنده صفة لازمة لكل عراقي، وهو يجور على الحوار الذي هو أنسب للاستخدام لدى بعض الشخصيات(97).
فهو يلتزم هذا الأسلوب حتى عندما لا تستدعيه شروط الفن بأن يجعله ملازماً لكل شخصية وفي كل موقف. وليس هو من لا يعرف شروط استخدام هذا الأسلوب لأنه يفرق بين الحوار والمنلوج ومجرى الشعور والتذكر الصرف(98) فكان مناسباً أن لا يقتصر عليه. ونجده أيضاً يوصي بأن تناسب الأفكار التي تتداعى الى الذهن الحادثة أو الموقف الذي تمر به الشخصية والحالة النفسية للبطل ومستواه في التفكير. وأن تكون وجهة نظره ذات مدى عميق إن كان عمره وشخصيته تستدعي هذا وبالعكس، وإلا فإن القاص يقع في خطأ فني.
إن التزام التكرلي لأسلوب التداعي يوجهه (الوجه الآخر) لفنه. وقد مر معنا ذكر أنه يختار الشكل أو الأسلوب الذي يستدعيه موضوع قصته أو الأفكار التي توجهها. ولذلك يختار أن يعرض الحدث من خلال تفكير الشخصية. ولذلك أيضاً ينهي الحدث هذه النهاية التي يلتزمها التزام أسلوب التداعي، والتي يراها مناسبة لموضوعاته وأحداثه وشخصياته، ولما يوجه قصته. وهي ترشد القارئ الى ما يوجهها وتستثير فكره ليتأمل فيها كما يريد له، ولهذا اختار أن (ينهي القصة والحدث في ذروته دون أن يتيح للقارئ ان يعود الى حالته الطبيعية لحرصه على أن يحشد كل تأثيرات القصة في نهايتها كي يمكن أن تترك أكبر الأثر وأشده في قارئها) وقد برر التكرلي سبب إنهاء قصته على هذا النحو بقوله: (ورغم أن الذروة ليست بالضرورة نوعاً من النهاية غير المتوقعة أو إنهاء العقدة كما يجب، فقد كانت بالنسبة لي كانفجار عناصر الأقصوصة بعد تجميعها في نقطة واحدة. وبالطبع كانت مواضيع أقاصيصي ونوعية شخصياتها والمواقف التي تواجهها هذه الشخصيات تتلاءم مع هذه الذروات الانفجارية او الانفجار في الذروة، بل أعتقد أنها كانت ضرورية لها. لذلك نرى القارئ يقف عند انتهاء قراءته لهذه القصص يتساءل، وماذا بعد ذلك؟..)(99).
إن التكرلي يخضع الأحداث الى فنه، او الى مفهومه في القصة والحياة، ولذلك هو يختار أحداثاً معينة. وقد تبدو أحداثاً غريبة مما لا يمكن أن تكون قد حدثت في بيئة عراقية ومما لا يعرفها الناس في العراق(100). ويبني هذه الأحداث بناء خاصاً، وينهيها نهاية خاصة يجدها ملائمة لمفهومه الخاص. في (خاتم الرمل) تنتهي الرواية في لحظة الحدث الحاسمة. ولعل ما يملأ القارئ اندهاشاً أن البطل قد يقتل فيها وهو راويتها، يروي حتى لحظة مقتله، وهذا لا يمكن أن يحدث في قصة حقيقية. وقد اختار هذه النهاية في غير هذه القصة، وهي تؤكد رغبة القاص في تنبيه القارئ ـ لحظة يصدمه بغرابة النهاية ـ الى أنه لا يقرأ قصة. (ولقد كان من نتيجة محاولة التكرلي التعبير عن مضمون قصصه من خلال الشخصية في وقت يبلغ الحدث فيه ذروة تأزمه الدرامي أن أصبحت حركة أبطاله محدودة. فهم في الأكثر يجلسون في مكان محدد لا يبرحونه، وان كان فإن حركتهم تتم في مسافة صغيرة. وهي حركة اذا وجدت في القصة فهدفها أن تساعد القاص على تطوير حدثه. مما يفسر لنا ضيق العالم الذي جرت فيه أحداث قصصه، إذ لم يتجاوز حدود مدينة بعقوبة الصغيرة أو بعض شوارع بغداد أو بيوتها(101).) وفي روايته الأخيرة لا تعدو حركة البطل المحدودة بيئة بغداد وتتصل ببعقوبة. وهذا يدعو للاستغراب، ويؤكد أنه لا يأبه بأن تبدو قصصه غريبة، بل يؤكد رغبته في التنبيه على أن هذا الاقتصار على بيئة محددة ليس طبيعياً، ولحظة الانتباه هذه قد تدعو القارئ الى التفكير بأنها رموز لها دلالتها الثابتة لديه.
أما البداية فهي محسوبة لديه ضمن خطته العامة يريدها أن تساعد في الكشف عن الحقائق التي يريد أن يقولها أو التمهيد لها: (وما لم تبدأ وقائع الحادثة بشكل سليم وتسير حسب منطق البداية حتى تنتهي النهاية المقنعة، فلن تكون هناك حادثة قصصية. وكل هذا دون أن نتطرق الى كيفية التقديم التي هي شرارة الحياة في الأقصوصة. ويخيل الي أن من المستحسن أن يسأل الكاتب نفسه قبل أن يبدأ: كيف يمكن أن أقدم هذه السلسلة من الحوادث؟ او بأي شكل ومن خلال أية وجهة نظر يمكنني أن أكشف عن هذا النوع من الحقائق. فإذا وضع خطة ونفذها بحذافيرها ثم وقف أمام إنتاجه ونقده بإخلاص فسيدرك ماذا تعني الحادثة وماذا يعني تقديمها(102).) وهو يمتدح أحد كتاب القصة بأنه كان يعرف كيف يبدأ فهو (يبدأ كأنه يعلم خطته وحدود فنه وإمكانية وسائله، فنجد افتتاحيات أقاصيصه مشوقة جذابة تصل نفس القارئ بسرعة.. ولا يعيب هذه البداية أنها غامضة لا صور فيها، ولا معنى محدد، لأن من صفات البداية أن تكون هكذا(103).) وسر هذا الغموض الذي يتحدث عنه هو من غموض المضمون أو من خفاء المعاني التي تدعو إليها. وقد يكون سره رغبته في التأثير في القارئ الذي يريد أن ينبهه الى غاياته: (إن التأثير على القارئ أو محاولة ذلك هو أول أعمال الكاتب. والسطور الأولى او الصفحات الأولى في الأقصوصة لها أهمية كبيرة في هذا المجال. ولذلك فإن الكاتب برسم صورة أو تقديم حادثة أو شخصية يمكنه أن يتلمس السبيل الى مخيلة القارئ)(104).
ونجد انطلاقاً من هذا التصور لدور البداية ولارتباطها بالخطة المحددة التي توجه فنه أن بداية روايته الأخيرة مكتوبة بدقة وهي تضع الخطوط العامة لها، بل إنها تترسم الطريق الى نهايتها. ولذا ننتهي من الرواية بالعبارات الأولى التي ابتدأنا بها: (كنت بمفردي).. و(أنا بمفردي). بل إنها بما أراده لها من التأثير وتنبيه القارئ تعلن عما وراءها وتوجه نظر القارئ إليه. فهي تقول له ولكن على نحو غير مباشر إنه لا يقرأ أحداثاً حدثت، إنها حوادث لم تحدث إلا في ذهن البطل أو القاص، وكما أكدت نهايتها الغريبة أنها لا يمكن أن تحدث. وبهذا تلتقي البداية والنهاية في الإعلان نفسه، فهما تنتهيان الى نتيجة واحدة، هي عدم واقعية الأحداث، وأنها أحداث لا وجود لها إلا في ذهن الكاتب. وحاول في أثناء السرد أن يفهمنا ذلك بسبب غرابة أحداثها، وعدم أهميتها لتكون موضوع رواية. لقد حرص على أن ينبه القارئ من خلال كل شيء على ما يكمن وراءها.. الى التفكير فيما ترمز إليه.. بل إنه سلمه مفتاحها منذ البداية التي نصحته بألا يأخذها على ظاهرها، وأن يوقظ فكره ويفكر فيها، لأن ما يجري في ذهن البطل وما يرويه أحداث لم تحدث: (وأنا بمفردي وراء المقود أسوق لا تشغلني الوجهة التي أقصدها، بل احتمال نفاذ الوقود وتوقف السيارة على حين غرة. ولم ينفد الوقود مرة ، ولا انقطعت عن التفكير في احتمال ذلك، وهكذا يصير حدثاً ما لم يحدث.) ـ ص5ـ
أما الزمن في الرواية فهو يقصد من ذكر بعض التواريخ تحديد المعاني المرموز إليها بتلك التواريخ أو الأزمان التي يذكرها. وفي الرواية تتداخل الأزمنة وهذا غالب على قصصه بسبب طبيعتها الخاصة. وقد صرح بأنه يعتمد على القارئ في ربط الأزمنة التي قد تكون مضطربة وإعادة صياغتها من جديد، ويقول إنه نجح في حمل القارئ على هذا(105). ولقد مر معنا أنه يحرص على التفاعل بينه وبين القارئ، والتأثير في القارئ، وأنه يحرص على هذا التأثير منذ السطور الأولى، إنه يريد القارئ المستثار، الواعي، الفاعل، القادر مثله على بناء الرواية وتنظيمها، والتفكير بما تقول ـ من وراء حجبها ـ ثم محاورته..
أما شخصيات الرواية وطريقة تقديمها، وهي ثالث عناصر الأسلوب القصصي عنده، فهي شخصيات رمزية وإن كان يحرص على جعلها واقعية، إذ إنها شخصيات محلية ذكر أنه يحرص عليها لأنها لا شيء يمنحها الحياة غير لغتها الخاصة(106). وقد مر معنا أنه ذكر أنه لا يترك ما اشترطه على نفسه من التعبير بالعامية إلا عندما تحدث أحداثه في بيئة غير عراقية، وفي خاتم الرمل ترك التعبير بها!.. ويحاول التكرلي أن يرسم الخطوط الخارجية للشخصية حتى تبرز ملامحها، وهذا يحتاج الى دقة ملاحظة لكي تتجسم الشخصية في مخيلة القارئ. وهو يستغل حتى اسم الشخصية لتوضيح أبعادها النفسية لكي تكون مناسبة تماماً لما تعبر عنه من أفكار. وقد قلنا إن تناقض اسم البطل (هاشم السليم) يعبر عن تناقضه في الفكر والعمل. وهو ينتقل من وصف الهيئة الخارجية للشخصية إلى تعمق باطن هذه الشخصية، يتغلغل فيها ويعرض علينا ما تهمس به، وما يعتمل في صدرها ويدور في عقلها، صراعها الذهني، وهو ما ميزه من غيره، إذ اتجه القصص الواقعي لدى غيره الى معالجة القضايا العامة بحيث لا نكاد نجد تصويراً لعالم الأبطال الداخلي وهمومهم الصغيرة، وهو من مظاهر ضعف الأدب القصصي البارزة في العراق. وليس ذلك ما تجده في قصص التكرلي الواقعية، فنحن فيها نواجه عوالم داخلية زاخرة بشتى الانفعالات والهموم. وهذه العوالم هي ميدانه الذي يجول فيه ولا يريد أن يبرحه. وهو عالم حزين متشائم يسعى فيه الى تصوير شخصياته في موقف معين أو خلال أزمة ما، مما أعطى لمضامينه طابعاً متوتراً بسبب من طبيعة الصراع الذي تخوضه الشخصيات وهي تغالب ما يواجهها من أزمات ومشاكل(107). ولقد عد أثقال قصصه بهذه الصراعات الفكرية من أبرز عيوبها الفنية أن لم يكن عيبها الرئيس الذي أدى الى عيوبها الثانوية الأخرى. فأدبه يزخر بهذه الأفكار والتأملات، ولذلك كان أبطاله في الأكثر أبطالاً منعزلين عن الناس في عالمهم الداخلي الزاخر بالانفعالات والهموم والأفكار. وهو يجعلهم يتطرفون في أفكارهم ومواقفهم ويتجاوزون الحدود في تطرفهم مما يسبغ على قصصه أجواء مظلمة متشائمة. وقد تساءل الباحثون عن سر هذه المواقف المتطرفة واللاأخلاقية لشخصياته. ومر معنا أنهم فسروها بأنها تعبير عن تجربة شخصية مريرة مر بها الكاتب ظلت خيوطها السود تمتد الى كل تجربة ويراها أنى توجه. أو إنها الصورة الحقيقية للواقع تلك التي استطاع بحسه المرهف أن ينفذ إليها. وقد يكون تعرفه على صورة الواقع في حياتنا والقوانين المتحكمة بها، قد ولد لديه رد فعل عنيف تجاهها قاده الى هذا التطرف في الفكر والمواقف والى التمرد على هذا الواقع ورفض الكثير من القيم والاعتبارات الأخلاقية التي يسلم بها الناس عادة على ألسنة أبطاله(108). وقد قلنا إنها لا تعبر عنه لأنه يدينها أخلاقياً. فما هو إذن سر هذه الغرابة؟ .. لقد ظن بعض الباحثين أن ما يبدو من تصرف الشخصية إنما هو من طغيان شخصية القاص. فهو يسرب إليها أفكاره التي قد توصف بالوجودية وبغيرها، والتي قد تملك على امرأة بسيطة فكرها وتصرفها(109). وهو الذي يدرك، لا بل يوصي غيره ـ إن وجده لا يراعي مناسبة الأفكار للشخصية التي تحملها ـ بضرورة مراعاة هذه المناسبة. فما هو إذن سر هذا الخرق، ولماذا يعلّم غيره ولا يتعلم؟ لماذا يجعل شخصياته تتجاوز مألوف التصرف الذي يفترض أن تقوم به على وفق ما تمليه عليه طبيعة الأفكار التي تحملها وعمرها ودورها في القصة وموقفها من الأحداث..؟ وهو تجاوز ينبه القارئ ويدفعه الى التساؤل، وهو أمر لا يبدر إلا ممن لا يحسن توجيه عناصر القصة وأدواتها، وهذا لا يمكن أن يكونه كاتبنا القدير بأي حال من الأحوال. ما هو السر إذن؟ لابد من أنها ليست شخصيات طبيعية حية، لأنه لا يرضى لها ما تبدو عليه(110). لابد لها إذن من أن تكون رموزاً أو أفكاراً. وهذا وحده يجيب على كل تساؤل واستغراب، وهو التفسير الذي يدفعنا إليه ويجعلنا لا نطمئن الى أي تفسير آخر. بل إنه يزرع ما يثير الشك حول أي تفسير آخر قد يطرأ على الذهن لتأويل موقف الشخصية..

الهوامش:
(1) تجربتي القصصية/ مجلة الكلمة، العدد3/ السنة الأولى، كانون الثاني، 1969، ص91.
(2) ينظر المصدر السابق.
(3) نفسه، ص91ـ92.
(4) ينظر: القصة الخمسينية وعالم فؤاد التكرلي. ملامح بنية الإخفاق وبنية السرد/ فاضل ثامر/ مجلة الأقلام ـ العدد الرابع، 1986، ص67.
(5) الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية/ الدكتور عبد الإله احمد/ دار الحرية للطباعة، بغداد، 1977، جـ1، ص235.
(6) ينظر:القصة الخمسينية وعالم فؤاد التكرلي…ص74.
(7) ينظر: المصدر السابق، ص70.
(8) ينظر: الأدب القصصي في العراق… جـ2،ص312.
(9) المصدر السابق، جـ2،ص333.
(10) نفسه، جـ2،ص362.
(11) ينظر: القصة الخمسينية وعالم فؤاد التكرلي…ص76.
(12) الأدب القصصي في العراق.. جـ2، ص289.
(13) ينظر: الوجه الآخر، مجلة الأديب العراقي، العدد الأول، السنة الأولى، 1961.
(14) وصفه الدكتور علي جواد الطاهر بأنه في فنه (واحد) وأن هناك خطاً رابطاً بين أعماله. ينظر: الرجع البعيد/ مجلة الأقلام/ العدد الرابع، 1986، ص57.
(15) ينظر: الأدب القصصي في العراق…جـ2،ص290.
(16) المصدر السابق، جـ2، ص289.
(17) ينظر: القصة الخمسينية وعالم فؤاد التكرلي…ص82.
(18) ينظر: فؤاد التكرلي: لا يمكن أن أحيا بدون كتابة/ مجلة الأقلام، العدد الرابع، ص104.
(19) ينظر: الأدب القصصي في العراق… جـ2،ص384.
(20) المصدر: السابق، جـ2، ص298.
(21) ينظر: فؤاد التكرلي: لا يمكن أن أحيا بدون كتابة….ص106.
(22) الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ، سليمان الشطي، الطبعة الاولى، 1976، ص11.
(23) ينظر: (الرجع البعيد)، للدكتور علي جواد الطاهر.. ص57.
(24) ينظر: (الوجه الآخر) للدكتور علي جواد الطاهر.. ص109ـ111.
(25) الأدب القصصي في العراق.. جـ2، ص296.
(26) المصدر السابق، جـ2،ص223..
(27) الرجع البعيد/ للدكتور علي جواد الطاهر ـ ص57.
(28) ينظر المصدر السابق.
(29) نفسه، ص58ـ 60.
(30) ينظر: الأدب القصصي في العراق… جـ2،ص365.
(31) وإن كان هناك من يخالفنا تماماً، فترى الدكتورة فريدة أبو حيدر أنه من الفئة القليلة من الكتاب الذين نجحوا او اقتربوا كثيراً من تصوير النساء أفراداً أو أشخاصاً بدل تصويرهن رموزاً. وسمح للمرأة أن تكون إنساناً لا رمزاً. ينظر: إنسان لا رمز، المرأة في أدب فؤاد التكرلي، د.فريدة أبو حيدر/ مجلة الأقلام/ العدد الرابع، 1986، ص65.
(32) ينظر: (الوجه الآخر) للدكتور علي جواد الطاهر، ص109ـ110.
(33) المصدر السابق، ص114.
(34) نفسه، ص115.
(35) كنت قد تجاوزت التفسير الرمزي لأحداث رواية (الرجع البعيد) على أمل أن أقف عند هذا التفسير في المستقبل وذلك لأني كتبت هذا البحث في زمن النظام السابق والتفسير يشير الى دور النظام السابق ورموزه في الإطاحة بالحكم الوطني في 14 رمضان ، 8 شباط الأسود 1963. وكنت قد أطلعت الدكتور عبد الإله أحمد الذي على هذا التفسير في مسودة البحث التي احتفظ بها في حينه. ولقد أكد القاص فؤاد التكرلي في آخر لقاء تلفزيوني معه قبيل وفاته بثته قناة الحرة من خلال برنامج (سيرة مبدع) صحة هذا التفسير الرمزي لأحداث هذه الرواية فذكر أنها رمز يشير الى شناعة فعل البعثيين الذين اعتدوا على شرف وكرامة العراق ومجد تاريخه ، وخربوا انجازاته الكبرى وقتلوا قواه الوطنية.
(36) الحبكة المنغمة/ عبد الجبار عباس/ إعداد/د.علي جواد الطاهر وعائد خصباك/ طبع دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1994،189.
(37) ينظر: الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية، الدكتور عمر الطالب، ص6.
(38) المصدر السابق، ص7.
(39) نفسه، ص5.
(40) نفسه، ص77.
(41) مختارات (ذو النون ايوب) عني بنشره عبد المنان أيوب/ بغداد/ مطبعة اللواء/ ص67.
(42) ينظر: المصدر السابق، ص72.
(43) ينظر: الأدب القصصي في العراق.. جـ1،ص202.
(44) الاتجاه الواقعي في الرواية العراقية.. ص95.
(45) ينظر: دماء خضر، وخواطر أخرى في الأقصوصة العراقية/ مجلة الأديب العراقي/ العدد الرابع/ 1961، ص68ـ70.
(46) ينظر: المصدر السابق، ..ص72ـ73.
(47) الوجه الآخر، للدكتور علي جواد الطاهر، ص105.
(48) ينظر: المصدر السابق، ص107.
(49) ينظر: فؤاد التكرلي: لا يمكن أن أحيا بدون كتابة… ص105.
(50) ينظر: الأدب القصصي في العراق… جـ1، ص232ـ 235.
(51) ينظر: الرجع البعيد/ للدكتور علي جواد الطاهر… ص58ـ59.
(52) ينظر: تجربتي القصصية…ص89.
(53) ينظر: الوجه الآخر/ للدكتور علي جواد الطاهر.. ص104.
(54) المصدر السابق.. ص105.
(55) القصة الخمسينية وعالم فؤاد التكرلي.. ص71.
(56) ينظر: الأدب القصصي في العراق.. جـ2، ص357ـ358.
(57) الوجه الآخر/ للدكتور علي جواد الطاهر. 106.
(58) الوجه الآخر/ للدكتور علي جواد الطاهر.. ص112ـ 113.
(59) المصدر السابق، ص113ـ114.
(60) دماء خضر وخواطر أخرى في الأقصوصة العراقية.. ص68.
(61) المصدر السابق ص69.
(62) نفسه، ص69.
(63) نفسه،…ص69.
(64) ينظر: الرجع البعيد للدكتور علي جواد الطاهر، ص57.
(65) ينظر: الوجه الآخر للدكتور علي جواد الطاهر، ص108ـ109.
(66) ينظر: الرجع البعيد للدكتور علي جواد الطاهر…ص58.
(67) ينظر: الوجه الآخر للدكتور علي جواد الطاهر… ص108.
(68) ينظر: الوجودية فلسفة إنسانية، جان بول سارتر/ ترجمة حنا دميان/ مطبعة كرم ـ بيروت، ص22.
(69) المصدر السابق.. ص23.
(70) نفسه، ص63.
(71) نفسه، ص64.
(72) نفسه، ص35.
(73) نفسه، ص38ـ 39.
(74) ينظر: فن القصة، محمد يوسف نجم/ بيروت/ دار الثقافة/ 1966، ص108ـ110.
(75) ينظر: موسوعة نظرية الأدب. إضاءة تاريخية على قضايا الشكل. القسم الأول..يا. أي ايسبورغ وآخرون/ ترجمة الدكتور جميل نصيف التكريتي/ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد، 1986، ص8.
(76) ينظر: مشكلات المضمون والشكل في العمل الأدبي/ أي. فينوغرادوف. ترجمة هشام الدجاني/ ص121.
(77) ينظر: القصة الخمسينية وعالم فؤاد التكرلي…ص70.
(78) المصدر السابق، ص70ـ71.
(79) دماء خضر… ص67.
(80) ينظر: دماء خضر … ص69،73.
(81) المصدر السابق، ص72.
(82) نفسه، ص67.
(83) نفسه، ص68.
(84) ينظر: الأدب القصصي في العراق.. جـ2، ص293.
(85) ينظر: تجربتي القصصية… ص89ـ90.
(86) المصدر السابق… ص70ـ72.
(87) تجربتي القصصية، ص90.
(88) المصدر السابق، ص91.
(89) ينظر: الرجع البعيد: .. ص59.
(90) فؤاد التكرلي: لا يمكن أن أحيا بدون كتابة.. ص106.
(91) تجربتي القصصية… ص92.
(92) ينظر: الأدب القصصي في العراق.. جـ2، ص294.
(93) ينظر: الوجه الآخر/ للدكتور علي جواد الطاهر.. ص117.
(94) ينظر: الأدب القصصي في العراق… جـ2، ص295، 380.
(95) نفسه، جـ2، ص383.
(96) نفسه، جـ2، ص384.
(97) ينظر: الوجه الآخر/ للدكتور علي جواد الطاهر، ص117.
(98) ينظر: دماء خضر وخواطر أخرى في الأقصوصة العراقية،.. ص74ـ 75.
(99) الأدب القصصي في العراق… جـ2، ص295ـ296.
(100) ينظر: الوجه الآخر/ للدكتور علي جواد الطاهر .. ص110.
(101) الأدب القصصي في العراق .. جـ2، ص296.
(102) دماء خضر … ص73ـ 74.
(103) المصدر السابق، ص70.
(104) نفسه.. ص71.
(105) ينظر: فؤاد التكرلي: لا يمكن أن أحيا بدون كتابة… ص104.
(106) ينظر: تجربتي القصصية… ص90.
(107) ينظر: الأدب القصصي في العراق… جـ2، ص292.
(108) ينظر: الأدب القصصي في العراق، ص385، 387.
(109) ينظر: الوجه الآخر… للدكتور علي جواد الطاهر، ص108.
(110) ينظر: الرجع البعيد.. للدكتور علي جواد الطاهر، ص58،60.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. بتول قاسم ناصر



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن