أسوأ ما أنتجته البشرية هو الاستغلال الاقتصادي والاستلاب الديني- حوار

فارس كمال نظمي
fariskonadhmi@hotmail.com

2013 / 2 / 11

حاوره في بغداد الصحفي سعدون هليل

إذا كان التغيير الدراماتيكي الذي شهده العراق في العام 2003م قد أدخل البلاد في دوامة صراع سياسي دموي لا توجد مؤشرات على انتهائه قريباًُ، فإن الحراك الثقافي العقلاني المقموع منذ عقود لم ينجرف إلى ساحة هذا الصراع بل قال كلمته بإنتاجه لأنماط من مفكرين نخبويين باتوا يمارسون الفكر التحريضي التنويري كتابةً وشفاهاً في ميدان خصبٍ تتركز فيه كل معضلات العراق مجتمعاً ودولة، هو ميدان التقاء السياسة بالعلوم الاجتماعية.

ويمكن القول أن الكاتب والأكاديمي العراقي د. فارس كمال نظمي هو واحد من هؤلاء الكتّاب الذي نضجوا بصمت وسرية وعزلة في عهد البعث الدكتاتوري، ليجترح اليوم منهجاً تجديدياً في النظرة إلى الشخصية العراقية بوصفها نقطة التقاء السيكولوجيا بالتأريخ السياسي للعراق. فهو آخر الأحفاد المحترفين للعمل الثقافي-السياسي في أسرة عمر نظمي السياسية العريقة، إذ يصف الباحث "حيدر علي طوبان" مؤلف كتاب "أسرة عمر نظمي" المُنجزَ الفكري للدكتور فارس بالقول: ((تتسم أعماله الفكرية بالنزعة النقدية لكل من السلطة والدولة والمجتمع، وبمحاولة تقديم تصورات سيكوسياسية عن مجمل الـتأريخ الاجتماعي للفرد العراقي المعاصر، عبر اقتراح تنميطات مفاهيمية لتحديد المسارات التطورية للشخصية العراقية في تفاعلها مع الحدث السياسي والموروث المجتمعي، خصوصاً في حقبة ما بعد نيسان 2003م)) (1).

أما السياسي والروائي "حمودي عبد محسن" فيرى أن فارس كمال نظمي ينتمي إلى مدرسة بحثية يسارية عقلانية جدلية عدالوية تجديدية ذات نظرة "واقعية جديدة" تبلورت أولاً في أوربا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية أواخر ثمانينات القرن الماضي، ثم وجدت صدى لها في بعض البلدان العربية ومنها العراق بعد الاحتلال الأمريكي 2003م، إذ يكتب الأستاذ محسن عن هذه المدرسة قائلاً: ((يعدّ الاستاذ فارس كمال نظمي أحد مفكريها إذ جاءت لتنقذ الفكر الانساني التقدمي من تلك الصياغات الجامدة التي صدئت مقولاتها في قوالبها المتكسرة المتكلسة المتحجرة في ظل الأحداث العاصفة السريعة التي تهدم وتجرف))(2).

ويصف الكاتب والأديب العراقي "سعد محمد رحيم" في سلسلة مقالات نشرها مؤخراً لتقييم آخر الكتب الصادرة للدكتور نظمي بالقول: ((إنه يعتمد على الكشوفات النظرية والمنهجية الحديثة مستخدماً إياها في إضاءة مناطق بكر "ملغومة" غير مفكر بها كثيراً. وكان الراحل الدكتور علي الوردي قد افتتح مثل هذه الدراسات منذ عقود، غير أن الدكتور نظمي يمضي خطوات أبعد ويتجاوز بعض الخطوط الحمر ""الخطيرة" التي تردد الوردي في اقتحامها يومئذ)) (3) .

وقد نُشرتْ ثلاثة كتب مهمة للدكتور نظمي خلال السنوات الأربعة الماضية، لعلها تمثل تحليلاً نادراً للحدث السياسي العراقي بوصفه بنية نفسية قبل كل شيء. هذه الكتب هي: "مقالات ودراسات في الشخصية العراقية"، و"المحرمون في العراق: دراسة في سيكولوجية الظلم"، و"الأسلمة السياسية في العراق: رؤية نفسية".
في حوارنا هذا معه، أردنا أن نستطلع رؤيته عن كيفية تداخل العامل السياسي بالثقافي بالطائفي بالسيكولوجي في الواقع العراقي الحالي، مع تسليط الضوء على النتائج الحضارية الناجمة عن صعود أحزاب الإسلام السياسي إلى السلطة في العراق وبلدان الربيع العربي مؤخراً:

س/ بحسب مواكبتك التفصيلية للمشهد العراقي، ما القضايا الأساسية التي تشغل الخطاب الثقافي العراقي الراهن؟
ج/ أود التمييز أولاً بين المفهوم النمطي للثقافة وبين مفهومها الجدلي. فالثقافة نمطياً هي منتجات أدبية وفنية وعلمية وفلسفية، يمكن تحديدها بعناوين ونصوص وأسماء مؤلفين. أما الثقافة جدلياً فهي أنساق للتفكير الاجتماعي وتيارات فكرية رسالية تعيد إنتاج الحراك المجتمعي اليومي بصيغ أشد تجريداً وجمالية.
المشهد العراقي الثقافي اليوم لا يخرج عن الإطار النمطي التقليدي، أي إنه منتج للنصوص والكتب والمهرجانات السطحية فحسب، دون أي ملمح جدلي لجوهر الثقافة بوصفها أعلى مراحل الوجود البشري الإيجابي. وبتعبير أكثر تحديداً، العراق اليوم مليء بالمثقفين، لكنه خال على نحو مفجع من التيارات الثقافية-الاجتماعية. العراق اليوم ما يزال يلد شعراء وروائيين ونقاد وفنانين وكتّاب وأكاديميين، لكنه عاجز عن ولادة حركات ثقافية واضحة الهوية تمارس فاعليتها في توجيه السياسة وإصلاح المجتمع.

س/ كيف تشخص سبب هذه الإشكالية؟ وهل تعزوها إلى عوامل بنيوية دائمة أم مؤقتة في شخصية المثقف العراقي؟
ج/ هذه الإشكالية جوهرها سيكوسياسي، إذ ينجح المثقف العراقي في أن يمارس إنتاجه الفكري فردانياً، لكنه يفشل في أن يمدّ ذاته خارجه لينتج ثقافة جمعانية بالتوحد مع الآخرين. ويعزى هذا الفشل إلى جملة من الأسباب الذاتية والموضوعية المتفاعلة فيما بينها، منها إن الطابع النرجسي الانعزالي لشخصية المثقف العراقي قد تلاقح بعجزه الجمعي المُتَعَلَّم جراء استبداد السلطة وتغريبها له، ما أنتج مثقفاً "لفظياً" أكثر منه مثقفاً "سلوكياً".
هذا الفشل في إنتاج ثقافة اجتماعوية ليس قديماً جداً إذ ابتدأ تحديداً مع حقبة صعود الاستبداد البعثي إلى السلطة أوائل سبعينات القرن الماضي، واستمر حتى اليوم بالتزامن مع انبثاق عصر الاستبداد الإسلاموي السياسي. أما قبل هاتين الحقبتين فكان المشهد الثقافي واضحاً في رساليته التحويلية للحياة الاجتماعية عبر إنتاجه لأنماط متنوعة من الخطاب الفكري الجمعاني، كان أبرزها الخطاب اليساري الذي نجح مرحلياً ونسبياً بمزج فكرتي الجمال والثورة في معادلةٍ واحدة ألهمت جيلاً كاملاً من المثقفين والمتعلمين والكادحين.

س/ فلنتركْ الشأن الثقافي النخبوي، ونسأل عن طبيعة العلاقة السائدة في عموم المجتمع العراقي اليوم بين مبدأ المواطنة ومبدأ الديمقراطية؟ ومتى تصبح المواَطنة هويةً حقوقيةً تضمنها الدولة بالفعل في ظرف كظرف العراق؟
ج/ المواطَنة هي أعلى مراحل وعي الفرد بكونه إنساناً ذا حقوق طبيعية ومكتسبة لا تتعارض مع حقوق الآخرين المساوين له ضمن إطار العقد الاجتماعي القائم أي الدولة. وبمعنى أدق، إن روح المواطنة تتحقق فعلاً لدى الفرد حين يصبح مدنياً في جوهره وسلوكه أي تنتفي لديه فكرة التعصب أو التحامل حيال الاخر المختلف عنه فكرياً أو دينياً أو عِرقياً أو طبقياً.
كل الدساتير الحديثة اليوم تقوم على ركيزة مبدأ المواطنة، إذ لا يوجد محك أو معيار يحدد علاقة الفرد بالدولة والمجتمع سوى كونه "مواطناً" ذا حقوق ومسؤوليات ضمن إطار الحرية والعدالة الاجتماعية. أما معايير الجنس أو العِرق أو الدين أو العقيدة فهي هويات فرعية مشروعة لكنها لا تصلح لاعتمادها معياراً موحداً للقيمة البشرية العليا.
ومن المؤكد أن تحقيق مبدأ "المواطنة" يتطلب وعياً تراكمياً لدى الفرد من جهة، ونضجاً مؤسساتياً لدى الدولة من جهة أخرى. إلا أن العراق يشهد اليوم نكوصاً إلى هويات ما قبل المواطنة، تغذيه النزعة الثيولوجية المتفاقمة لدولةٍ لا ترى في الوجود الاجتماعي إلا شكلاً من أشكال "التجسيد الإلهي" على الأرض. هذه الأسطرة الطائفانية التي جاء بها الإسلام السياسي بمسميات وممارسات "ديمقراطانية" شكلية، قد مسخت إلى حد كبير وعي الفرد العراقي بأهمية دوره المدني المواطني، وحشرته في أتون صراعات مصطنعة، دون أن يعني ذلك بالضرورة إزالة دوافعه المتأصلة لإعادة إنتاج هويته الوطنية التي لها دينامياتها الموضوعية الكامنة.

س/ تقودنا هذه الرؤية إلى السؤال عن مثلث رؤوسه الثلاثة: المواطنة، والهوية الوطنية، والإسلام السياسي. هل من صلة توليدية أو إجهاضية بين هذه المفاهيم؟
ج/ قيم المواطنة تبرز وتسود كلما اشتدت النزعة الوطنية الهوياتية في البلدان الخارجة لتوها من الدكتاتورية، والعكس صحيح أيضاً، أي كلما تراجعت الهوية الوطنية انحسر معها الكبرياء الوطني مفتتاً قيم المواطنة فردياً ومجتمعياً ودولتياً. وهذا ما يحدث اليوم في العراق وبلدان "الربيع العربي".
ولأن التديين السياسي يقوم على عقيدة الاستئثار بالحقيقة والزمن والمصير، ولا يرى في الهوية الوطنية إلا عائقاً أمام مشروعه الأساطيري الباحث عن تماثلات معتقدية "زائفة، فلا فرصة أبداً لازدهار مبدأ المواطنة في ظل أسلمة الدولة مهما كان نوع وحجم الآليات "الديمقراطية" التي تمارسها السلطة. فلا معنى أبداً لصندوق انتخابي ينتجُ ساسةً يسيل من عقلهم الباطن قيحُ الاستبداد وإقصاء المغاير. ولذلك سيظل العراق يدور في ثقب سياسي أسود ريثما يتآكل ما تبقى من "شرعية" السلطة الطائفية الحالية بفعل فسادها وانهدامها الذاتي المريع، ليستعيد التطور الاجتماعي بعدها عافيته العقلانية من جديد.
حينما يطل كل يوم عبر الفضائيات بعض المستسيسين العراقيون ممن جاءت بهم صناديق الانتخاب "الديمقراطية"، لينطقوا متجهمين أو حانقين أو ساخرين بعبارات إقصائية قيلت على ألسن سياسيي ما قبل عصر الدولة المدنية أي منذ مئات السنين، أعلم عندها حجم الهدر الزمني الهائل الذي اقتُطِع من حياة أجيال كاملة في العراق المعاصر.

س/ إن حديثك عن الدين السياسي يقودني إلى سؤالك عن جوهر الموضوعة المركزية التي يدور حولها كتابك "الأسلمة السياسية في العراق- رؤية نفسية" الذي صدر مؤخراً في بغداد؟
ج/ هذا الكتاب استهدف غرضين أساسيين: الأول فك الالتباس الفكري بين مفاهيم "الإسلام" و"الأسلمة" و"التأسلم" و"الإسلاموية"، وقبلها بين مفاهيم "الدين" و"التدين" و"التديين"، سعياً لافتتاح مبحث أكاديمي عراقي جديد يوظف المعلومة العلمية النفسية في عملية التصدي الثقافي العقلاني لمأساة ابتزاز الناس سياسياً بأدوات "إلهية".
والغرض الثاني كان تشريح البنية السيكوسوسيولوجية للأسلمة السياسية في وظيفتها التقويضية للبنيتين الإدارية والأخلاقية للدولة والمجتمع في العراق، عبر تناول تنويعة من الظواهر الاجتماعية الناخرة في الكينونة العراقية بدأت بالبروز تباعاً بعد نيسان 2003م، دون إغفال ما لتلك الظواهر وأنماط الشخصية من صلات نشوئية بعموم تأريخ العراق المعاصر الذي سبق تلك الحقبة. كما يحتوي الكتاب ملحقاً عن "الربيع العربي" والإسلام السياسي.

س/ هل من فرضيات أو استنتاجات خلص إليها الكتاب؟
ج/ تتلخص الأطروحة المركزية للكتاب بالقول: ((إن محاولة فرض الأسلمة السياسية على المجتمع العراقي، هي خيار يقع بالضد من النزعة "العلمانية الاجتماعية" الراسخة لهذا المجتمع. لذلك فإن أحد الأسباب الرئيسة المفسرة لاستمرار مسلسل الصراع السياسي الدموي في العراق هو نزعة الأحزاب الدينية الحاكمة فيه لتشكيل المجتمع على شاكلتها، أي محاولة تطييفه قسراً عبر إخراجه من هويته المسلمة المسالمة بمذهبيها المتعايشينِ وإدخاله في هويةٍ تأسلمية متعصبة بمذهبيها المتصارعين)).
يريد هذا الكتاب أن يقول أن موضوعة "الأسلمة" تحيلنا من جديد إلى مسألتي "الحرية الفردية" و"الكرامة البشرية"، ذلك إن جذر مشكلة الأسلمة السياسية (أو التديين السياسي عموماً) يتحدد ببُعدها النفسي الضاغط، إذ تغدو أداةً لاستلاب الفرد وتغريبه عن ذاته وعالمه ووضعه في موقف التضاد الحتمي مع حقيقة "التنوع" الفكري والسلوكي الذي تنطوي عليه الحياة البشرية، خانقةً فيه أي نزعة عقلانية لإصلاح واقعه الاجتماعي واستعادة حقوقه على أسس التمدن والعدل والحداثة.

س/ بصفتك كاتب بارز في ميدان علم النفس الاجتماعي والسياسي، كيف ترى أو تقوّم مفهوم "صراع الحضارات"؟
ج/ "صراع الحضارات" مقولة سياسية ايديولوجية أكثر منها مقولة علمية تحليلية. وهي نتاج مبسّط لعقلية أحادية تريد اختزال الوجود البشري بظاهره المباشر عبر فرض تصور متسرع ومجتزأ لماهية التفاعل الاجتماعي بين الحضارات.
المسألة لا تتعلق بصراع الحضارات بل بصراع المصالح، وهو صراع قائم حتى في الحضارة الواحدة أو المجتمع الواحد، فضلاً عن عدم وجود مستوى واحد أو جوهر واحد لأي حضارة، بل مستويات متباينة ولكنها متفاعلة جدلياً لإنتاج وظائف فرعية ووظيفة كلية شاملة لتلك الحضارة. المسألة تتعلق بطبيعة البنية الإنسانوية لتلك الوظيفة الكلية أو الفرعية.
وهنا أود التمييز بين مفهومي "الصراع" Conflict و"التناقض" Contradiction. فالأول إقصائي عدائي استئثاري تغالبي حتى بين عناصر متشابهة، بينما الثاني تنافسي تفاعلي استيعابي توليدي حتى بين عناصر متباينة. وبهذا المعنى فإن التناقض لا الصراع هو السمة الغالبة للعلاقة بين الحضارات دون أن يلغي ذلك حقيقة وجود صراعات بينها في مجالات فرعية محددة.
فالحضارة الأمريكية الحالية تنتج التعصب والتسامح، التعاون والهيمنة، السمو والبربرية، في آن معاً بحسب خطوط تماسها المَصالحية مع الحضارات الأخرى. ولذلك لا معنى للقول بوجود صراع "مطلق" أو "نقي" بين حضارة شرقية وأخرى غربية، أو بين حضارة إسلامية وأخرى مسيحية، بل يتعلق الأمر بصراعات فرعية بين نظم سياسية أو قيم اجتماعية أو أنماط تفكير شرقية وأخرى غربية مثلاً، تصاحبها احتياجات وتكاملات متبادلة بينهما علمياً واقتصادياً وثقافياً.

س/ قصدتُ من سؤالي عن صراع الحضارات أن أناقش معك النظرية السياسية (النخبوية والشعبوية) القائلة بوجود "مؤامرة" غربية دائمية على الإسلام والمسلمين؛ بمعنى أن الصراع السياسي أصله حضاري قبل كل شيء. ما موقفك من هذا المنظور؟
ج/ كما ذكرتُ في مقطع سابق، فإن "صراع الحضارات" مقولة سياسية أيديولوجية مبسطة يتبناها في العادة المتطرفون من الجانبين أي "المتآمِر" و"المتآمَر عليه"، إذ توفر هذه المقولة حججاً كافياً لتمرير المصالح الفئوية غير الإنسانية.
وهنا أود التركيز على المشروعين السياسيينِ العربيين "القوموي" السابق و"الإسلاموي" الحالي، وأسألهما: إذا كان ثمة "تآمر" بالفعل على مصالح العرب والمسلمين، فلا شك إنكما من بين منفذي هذا التآمر، ولا يقتصر الأمر على الغرب وحده. فكسر شوكة الإنسان العربي وهدر كرامته وانتهاك حقوقه السياسية والاقتصادية وتغريبه عن ذاته وعالمه وتقويض إنسانيته، كانت من بين أهم "إنجازاتكما" السياسية التي تحققت تحت رايات مشاريعَ أقل ما يقال عنها إنها كانت شعارات وهمية صادرة عن عقل رغبي ميتافيزيقي أحرقَ زمناً غالياً لأجيال كاملة عاشت في ذل وبؤس ورعب.
الغرب له تأريخه التوسعي والهيمني المعروف، وهو يبحث عن تحقيق مصالحه بأي أدوات متاحة، سواء كانت صراعية أو تعاونية، بما فيها الإتيان بحكومات مستبدة أو دعمها. ولذلك فالقول بوجود "مؤامرة" غربية دائمية على العرب أو المسلمين، ليس أكثر من الاستعانة بمبالغة لفظية غايتها الإشارة لفكرة وجود "مصالح" دائمية ليس إلا. غير إن المسألة هنا تتعلق بالأثر السيكولوجي الذي تتركه مفردة "المؤامرة" في العقل الجمعي الشرقي، إذ يبدو هذا الأثر "مهيناً" أو "خطيراً" أو مجحفاً" أكثر ما تتركه مفردة "مصالح" ذات النبرة "المقبولة" والتي يمكن عدّها مرادفاً مضمونياً في جوهره لمفردة "المؤامرة".

س/ يحتار الكثيرون بتحديد هويتك الفكرية: البعض يراك يسارياً ماركسياً، والبعض يسميك فرويدياً اجتماعياً، فيما آخرون يجدون فيك ليبرالياً أو حداثوياً متطرفاً حد العداء للدين السياسي. كيف ترى أنت نفسك؟
ج/ لا أجد أي تناقض أو التباس إذا ما أقمتُ جسوراً بين الماركسية والفرويدية والليبرالية. لعل التفكير الأكاديمي المستمر قد أرشدني إلى هذه التوليفة التي أراها متسقةً على مستوى البنية والوظيفة معاً. فرويد نفسه قال في أواخر حياته: لو كنتُ قد قرأتُ الماركسية في وقت مبكر من حياتي لغيرتُ العديد من أفكاري؛ وماركس وصف نفسه: "لستُ ماركسياً"، في إشارة إلى ليبراليته الفكرية الرافضة للقولبة؛ وعتاة الليبرالية في الغرب لا يملكون اليوم إلا الانحناء أمام تفسيرات ماركس وفرويد في أوقات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة.
ودعني أضيف لك مكوناً رابعاً في أسلوب تفكيري إلى جانب المكونات الفلسفية الثلاثة السابقة الذكر، أسميه "المعرفة النفسية العامة بالطبيعة البشرية". هناك حقائق نفسية جرت البرهنة على كونها جزءً من الطبيعة البشرية العابرة للحضارات والمجتمعات، عبر أكثر من قرن من التراكم العلمي المنهجي، وهذه الحقائق لا يستطيع أن ينكرها اليوم لا الرأسمالي الجشع ولا رجل الدين التسلطي. هناك نزوع بشري متأصل نحو اللذة والجمال والأمان والإنصاف والمعرفة والحرية، وهذا النزوع سيتشوه في العقل الباطن الفردي والجمعي إذا ما جرى كبته بواسطة المؤسسة الدينية المتشددة ليتحول إلى تطرف وتكفير وكراهية على مستوى السلوك؛ وسيتحول هذا النزوع إلى اغتراب ويأس وذل وعنف ولا عقلانية إذا ما جرى قمعه بأدوات الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي.
جوهر الوجود البشري يتمثل في فهم العلاقة بين العقلين الباطن والظاهر للإنسان عبر جدلية العلاقة بين الحرية والعدالة. ولذلك أرى أن أسوأ ما أنتجته البشرية عبر تأريخها الطويل هو الاستغلال الاقتصادي والاستلاب الديني. فالأول يُفقر باسم "الضرورات" الدنيوية والثاني يسوّغ الآلام باسم "الضرورات" الغيبية. وليس أمامنا إلا أن نسعى لتفتيت هذين الوهمين بالركون المثابر إلى الأدلة المعرفية العلمية المتراكمة في ثباتها ويقينيتها، وعبر الإيمان الصبور بأن الضرورات الموضوعية للتطور الاجتماعي لا بد أن تجترح على الدوام وجوداً أسمى للوضع البشري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر:
(1) حيدر علي طوبان (2012). أسرة عمر نظمي: دورها السياسي واتجاهاتها الفكرية في العراق المعاصر. مكتبة عدنان: بغداد. ص 27.
(2) حمودي عبد محسن (2012). المفكر والباحث فارس كمال نظمي. موقع الحوار المتمدن: العدد 3885. http://www.ahewar.org
(3) سعد محمد رحيم (2012). الأسلمة السياسية في العراق. موقع الحوار المتمدن: العدد 3908. http://www.ahewar.org



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن